أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
تنبيه : [ نقلي لهذا الموضوع لا يعني موافقتي لكل ما جاء فيه ، بل إني أرى أن كاتبه قد وقع في أخطاء بعضها مزلة قدم . وقد نقلت هذا البحث ليعرف من خلاله منهج الدكتور أحمد نوفل ؛ لأنه قد استضيف في قناة المجد في أحد البرامج وقرر بعض الأمور التي تحتاج إلى تحرير وإيضاح حول موضوع الإسرائليات ]
يقول الدكتور أحمد نوفل في هذا المقال :
( الموضوع هو منهجية التعامل مع القرآن الكريم. والموضوع مهم، ويحتاج إلى من يكون في مستواه، وحسبنا أن نحاول أن نقبس اقباساً لعلها تكون مفيدة. وسنشير ابتداءً الى معوقات الفهم الصحيح للتعامل مع كتاب الله.
1 ـ عدم الانطلاق من فهم شامل للإسلام: توضع في إطاره الآيات، فالأصل أن يكون هناك، إطار كبير تأتي آيات الله عز وجل فتوضع ضمن هذا الإطار الكبير من الفهم لروح الإسلام، وطبيعته، فإذا غاب الفهم الشامل للإسلام، غاب بالتالي الفهم الصحيح لآيات الكتاب العزيز.
2 ـ القدوم الى ساحة القرآن مع استصحاب مفاهيم سلبية كالجبر والإرجاء وما الى ذلك: فنحن نقدم على ساحة القرآن محمّلين بأفكار ليست من الإسلام ولا من القرآن، ثم نقرأ النصوص وننزل النصوص وفق ما في عقولنا من مقولات ومقررات، وذكرت لها مثالاً وهو موضوع الجبر (فعّال لما يريد) إذن الإنسان ليس له أي فعالية، إنّ الله لم يقل ذلك، (يضل من يشاء ويهدي من يشاء)، إذن الإنسان ليس له كسب، إن ربنا لم يقل ذلك، وما ذلك إلا مقولات جئنا بها الى ساحة القرآن الكريم.
3 ـ ربط النص بسبب نزول غير صحيح: كثير من أسباب النزول تشوش الفهم، من علمائنا من قال إن أسباب النزول تعين على فهم النص، وهذا كلام صحيح، لكن عندما يكون سبب النزول ملفّقاً تلفيقاً يصبح معيقاً ولا يكون معيناً على فهم النص.
4 ـ الآثار الموضوعة والضعيفة المنسوبة للنبي أو الصحابة والتابعين: هناك أحاديث ضعيفة وتفسيرات تُنسب لابن عباس، وابن مسعود. وقراءات قسم كبير منه غير صحيح، من شأن هذا أن يقف بيننا وبين النص.
5 ـ الإسرائيليات: ونشير إليها فقط، لأن هذا الموضوع وحده يحتاج الى تفصيل كثير.
6 ـ قطع النص عن السياق وأخذه مبتسراً بمعزل عن سياقه: نأتي بالنص ونقطع الآية قطعاً عمّا قبلها وما بعدها من سياق الآيات.
7 ـ الجزئية في الفهم والتفسير، أو تفسير النص بوجه واحد أو بصورة من الصور:
(وبشّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً) بشّر المؤمنين بأن لهم من الله نصراً في الدنيا والآخرة هكذا نفهم، طالما أنّ النص يحتمل عموم المعنى، نفسّر بالعموم، ولا نفسّر بجزئية المعنى. هذه قاعدة: إذا كان النص يحتمل الدنيا والآخرة لا نفسره بالدنيا ولا نفسره بالآخرة، وهكذا نجعل النص على شموله.
كثيراً ما يأتي العلماء بمثال فنظن أنّ المثال تفسير، وهذا غير صحيح بل يلزم أن نفرق بين المثال والتفسير، ومثال ذلك قوله عز وجل (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال بعض العلماء هو الغناء، وهذا غير صحيح إذا قلنا هذا هو التفسير، وهو صحيح إذا كان مثلاً، فلننتبه إلى الفرق.
8 ـ التكلّف في الفهم: إن ديننا يرفض التكلّف. العلماء كثيراً ما يقعون فيما فيه تكلف، وقرآننا علّمنا فقال: (وما أنا من المتكلّفين). سنأخذ دراسة معاً ونرى: أسباب النزول ضعيفة، وإسرائيليات، والمقولات المختلفة. إن التفسير ينبغي أن يكون في مستوى عظمة القرآن، وإلا فاكسر قلمك ومزّق ورقك خير لك من أن تنزل لساحة كتاب عظيم بفكر سقيم.
9 ـ ربط الآية بحديث قد يصح، لكنه ليس بالضرورة تفسيراً لهذه الآية: فالحديث صحيح، لكن أهو تفسير لهذه الآية؟ حديث قد يصح وقد لا يصح، لكن لا علاقة له بالآية، هذا الربط أشكل فهم الآية، مثل قوله تعالى (يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون). لقد كتبت حول هذه الآية حوالى 50 صفحة أناقش فيها روايات بعض الأحاديث، أرى أن الحديث الوارد في تفسيرها غير صحيح، ولئن صح فلا يصح تفسيراً للآية، فالحديث ليس له علاقة بالآية. والحديث «يكشف ربنا عن ساقه...»، نتحدث عن الأمة أولاً فنقول خذ نقطة نقد واحدة لتفسير الحديث لها. هي مكّي مبكّر، الناس وقتها لا يعرفون فهل آتي وأقول لهم سيكشف ربنا يا أهل مكة عن ساقه وهم يكفرون بربنا؟!!، إن ديننا دين منطق، فهل أقول للناس تعرفون ربنا من ساقه عندما يكشف عنها؟؟! هذا كلام غير مناسب، فكما قلنا الحديث في واد ـ ان صح ـ والآية في مكان آخر لا علاقة لها به.
لقد ربط البخاري هذه الآية بالحديث، ولكن يحق لنا التساؤل هل البخاري معصوم؟ البخاري نِعْمَ العالم، لكنه إذا أخطأ في حديث فإنه لا يسقط من أعيننا، البخاري إمامنا ولكنه أخطأ في هذه المسألة، وذلك لا يخدش منزلته، نحن تعودنا أن نأخذ علماءنا بالتقديس لا بالتقدير، وحينها نخشى على أنفسنا من قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، وهم شبكوا الآية مع الحديث وأنا في ظنّي أنه لا يوجد ارتباط، الآية تخاطب العرب بلسانهم وبلغتهم، (يوم يكشف عن ساق) ومعناها جدّ الجد، وما ثمّ ساق ولا قدم، وإنما هي كفاية كما في قولهم حزمت الأمور، «شمّرت الحرب عن ساقها) وهل للحرب ساق؟. وهكذا...
القرآن مهيمن على السُنة، هل قال ربنا إن جهنم ستسكت؟، بل استأنف بقوله: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت) وتظل تقول (هل من مزيد) يأتي الحديث ويقول لي لا، جهنم ستسكت، القرآن يقول (وتقول) أي باستمرار، فهنا مَن يُهيمن على مَن؟ القرآن يهيمن على السُنة، أولاً: لماذا لا تبقى جهنم تقول هل من مزيد ؟ لماذ تسكت؟ حتى يبقى الكفار في رعب وتبقى تتلظى وتخرج صوتاً (سمعوا لها شهيقاً وهي تفور)، ربنا يقول (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون).
10 ـ عدم الاطلاع على المعارف الإنسانية والتاريخ الإنساني والاجتماع الإنساني: لظن البعض أن العقل المسلم مكتف بذاته، وهذا غير صحيح، إذ العقل يحتاج الى المعارف الإنسانية وهي مترابطة متشابكة يأخذ بعضها من بعض ـ فالمسلم غير معزول عن العالم ولا منبت ولا منقطع ـ نستفيد من معارف العالم الكونية والاجتماعية والإنسانية... الخ. وبالتالي إذا جئنا ساحة القرآن الكريم بعقل مجرد لم نستـفد، قد يقال: أنت قلت يأتي نقي!، أقول بعقل نقي ليس بمقررات سابقة، ولنضرب مثالاً على ذلك أن شخصاً لا يعرف كيف تُساس الأمم وما حقوق الشعوب ولا يفهم شيئاً من ذلك، هل يستطيع أن يعرف معنى الشورى. وهو ما زال على عقل البداوة، لا يعرف ما يفعل، ويفعل ما يريد، وهو الآمر الناهي المتنفذ; فيُظن الإسلام هذا الواقع، إذن كلما أطلعنا على تجارب الشعوب، كنا لإسلامنا أفهم.
11 ـ التقليد في الفهم: إن أقوال العلماء في القرآن مفيدة، ولكنا لا نأخذ بها بالضرورة لأنهم قالوها، بل لأنها صحيحة ومنسجمة مع القرآن، وإذا كانت هناك مشكلة في هذه الأقوال فلا بأس بردها، ليس من باب الرد لذات الرد، أو لنبدو متعالمين، ولكن بما أن الحق يسير منسجماً مع القرآن، فلا مانع من اتباع هذا الأمر المنسجم، مع عدم تقليده.
12 ـ عدم بذل الجهد والكدح الذهني في محاولة الفهم: نحن لدينا اعتقاد أن القرآن ميسّر، (ولقد يسرنا القرآن للذكر)، فلماذا نجهد أنفسنا؟ إن القرآن الكريم كلام واضح، ولكن، العمق شيء واليسر شيء آخر، القرآن ميسر; ولكنه في منتهى العمق، يحتاج الى غوص الغواصين، نحن نسطّح الامور، فنظن ان اليسر يعني التسطيح ـ ومعاذ الله ـ أن يكون القرآن مقصده من اليسر التسطيح الفكري.
13 ـ عدم البحث عن احسن الفهم، والاكتفاء بأي فهم.
14 ـ الربط المتكلف بين الآي: يحاول أن يستقرئ، ولكنه استقراء غير موفق مثال ذلك قوله تعالى، (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) طبعاً همّ بها غير وارد. ولن أناقش الموضوع الآن، ولكن انظر كيف ربط بعض المفسرين فقالوا هَمّ بها ليضربها، من قوله تعالى: (وهمت كل أمة برسولهم)، انظروا الى الربط غير الموفق، الظاهر أنه ربط مناسب لكنه في الحقيقة ربط فاسد، إذاً أحياناً نربط بين الآيات لمجرد وجود تشابه في الألفاظ مثل بعضها، ولكن المعنى مختلف، لذلك همت كل أمة برسولها من باب القتل، هنا الهم هم الفاحشة، فهل همّ يوسف ؟ لا، أمتـنع الهم بوجود البرهان.
معالم منهج التعامل مع القرآن
بيّنّا فيما سبق معيقات المنهج السليم للتعامل مع القرآن الكريم وأوردنا أمثلة عابرة على صور من التعامل التي لا بد من النظر فيها ومراجعتها وتصويبها، وسنحاول فيما يلي رسم معالم منهج التعامل مع القرآن:
1 ـ القرآن كلام الله:
هو الرسالة الخاتمة، وهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. عندما نتعامل مع القرآن بهذه المثابة وهذه الحيثية، فهذا يعني شيئاً كثيراً، كونه كلام الله معناه أنه هو المصدر، في النحو هو القاعدة، في البلاغة هو القاعدة، وفي الصدق، لا يترك شيئاً إلا هو مهيمنٌ عليه، وعندما يقول طه حسين: (نحن قرأنا التاريخ ولم نجد فيه عاداً)، إذاً لا يوجد عاد، نقول له القرآن مهيمن على التاريخ، والكتب السماوية، والبلاغة، والنحو، والقواعد، وعلى الدنيا جميعها; لأنه كلام الله، هذا الكلام ينبني عليه شيء كثير، ففي القاعدة النحوية، القرآن هو
القاعدة، وليست قواعد النحو هي من يحاكم القرآن، وقواعد البلاغة مصدرها القرآن فتقاس النصوص الأخرى على بلاغة القرآن وليس العكس; لأن القرآن كلام الله، وهو المصدر والنموذج الذي نقيس عليه باقي الكلام، فإذا قال القرآن: إنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبَشَّر به في الكتب السابقة، ولم نجد في الكتب السابقة عن بشارة محمد، يكون العيب في هذه الكتب وليس في كتابنا; لأنه يقيناً كلام الله، وتلك الكتب ليست بيقين كلام الله، إنما فيها من كلام الله أشياء باقية وأغلبها ليس من كلام الله، وإنما وضع الشر.
2 ـ اتحاد المعجزة والرسالة في القرآن:
كان رسلُ الله السابقون يأتون بأمرين: الرسالة والمعجزة، الكتاب والآية، مفصولين عن بعضهما، التوراة والعصا واليد مثلاً، الإنجيل وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى والطير... الخ، الرسالة شيء والمعجزة والآية شيء مختلف; لأن البشرية كانت في مرحلة الطفولة العقلية، ليس لأنها كانت ناقصة في الخلقة، ولكن البشرية من يوم خُلقت وقدراتها العقلية سليمة، إنما الناقص هو المعارف، والمعلومات والتجارب، بدأت البشرية تكوّن معارف وتجارب وخبرات، وتراكم ثقافة وعلم وحضارة، فالحضارة تراكم، والثقافة تراكم، والمعرفة تراكم وقدرات، والذي صنع السيارة التي تسير بسرعة 300 كم في الساعة، استفاد من العربة القديمة وتعلم منها وطوّرها، وجاء من بعده وطوّر، فالبشرية تتقدم، وعقلها ينضج شيئاً فشيئاً بالخبرات، الى أن جاءت بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانت البشرية قد بلغت في التجربة سن النضج والرشد، فجاء القرآن أنضج من كل ما سبق، وجاء القرآن معتدلاً متوازناً، وليس متطرفاً لا لجهة الروحانيات ولا جهة الماديات. بينما إذا لاحظنا الإنجيل، فهو متطرف، إن جاز التعبير، أي موغل في الروحانية لماذا؟ شخص عنده نسبة السكر في الدم مرتفعة نقول له ممنوع عنك الخبز، النشويات وكل ما يمت للسكر. فنحن بهذه الحالة عالجناه علاجاً متطرفاً لأن وضعه متطرف، ولكن إذا رجع السكر الى نسبة قليلة قلنا له حلي الشاي. فالآن البشرية رجعت الى رشدها والى توازنها، فجاء الكتاب في مستوى رشد البشرية، فاتحدت الرسالة والمعجزة، فصارت شيئاً واحداً، ويحصل هذا لأول مرة في تاريخ الرسالات. والله سبحانه قد فطم البشرية كما يفطم الطفل عندما يكبر (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية) افعل، تريد آية اذهب ابحث في الارض أو في السماء واحضر آية أنزل آية ايها النبي، لا تتطلعوا الى السماء لن أنزل آية، مع أني قادر أن أسوق لهم آيات بلا عدد، والشمس أليست آية، والقمر أليست آية، والسماء أليست آية، وعيونهم أليست آية، والذي لا يكتفي بهذه الآيات لن يكفيه شيء. فيقولون يا رب كنت تأتي بآيات، لكن العقل البشري كان في طور الطفولة وعدم الرشد، ولكن الآن بلغ الرشد، ولذلك اتحدت المعجزة والرسالة في شيء واحد، وما أصدق قول شوقي:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت***وجئتـنا بكتاب غير منصرم
لذلك اين عصا موسى عليهم السلام الآن ؟ ماتت، الموتى الذين أحياهم عيسى عليهم السلام، ماتوا مرة ثانية، لكن معجزة محمد، الآن كل آن، ستظل معجزته شاهدة على الإنسان في الزمان والمكان. المعجزة لمن ولماذا؟ فكرة المعجزة لتشهد أن الرسول حق، هل نستطيع أن نثبت من القرآن أن محمداً عليه الصلاة والسلام حق وأن القرآن حق، من نص القرآن، نعم نستطيع; إذاً اكتفينا. يقول: الأستاذ مناع القطان: «الإعجاز: اثبات المعجز. والعجز فى المتعارف: اسم للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة. وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المعجز». لقد تحدى الرسول العرب بالقرآن على ثلاث مراحل: القرآن كله، بعشر سور، بسورة واحدة، (أقول بل وبحديث من مثله آية تحمل معنى مفيداً تامة).
أما أوجه الإعجاز فهو أنه معجز في ألفاظه وأسلوبه والحرف الواحد منه في موضعه من الاعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية... وهو معجز في بيانه ونظمه.. وعلومه ومعارفه وتشريعه وصيانته لحقوق الانسان... الخ.
وإعجازه العلمي ليس في اشتماله على النظريات العلمية التي تتجرد وتكون ثمرة للجهد البشري وإنما في حثه على التفكير . [ القطان، مناع. مباحث في علوم القرآن، بيروت، مؤسسة الرسالة: 1986 م ـ 1407 هـ، ص 258 ـ 280 بإيجاز.]
3 ـ القرآن كتاب هداية وفرقان وذكر وتبصرة:
هذا هو مقصده الأسمى، (اهدنا الصراط المستقيم)، (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)، ليس من المفروض أن يكون القرآن كتاب معرفة تفصيلية، ولا يطلب منه أن يصنع المعجزات وأن يحل فوراً المشكلات، لن يفعل، العقل البشري يجب أن يبدع في الاجتماع والاقتصاد والسياسية والإنسانيات والفلك والطب.. الخ، القرآن ليس من مهمته أن يأتي بمعلومات تفصيلية في الطب والفلك والفيزياء والمعارف، لا، لكنه كتاب هدى لما لا يستطيع العقل أن يعرفه من عالم الغيب. وكذلك ليس من شأن القرآن ولا فلسفة القرآن أن يجترح المعجزات، ولو كان ثمة كتاب على الأرض يصنع المعجزات، لكن هذا القرآن اولى كتاب بذلك. نحن دائماً نبحث عن أحسن الفهم، ولنضرب لذلك مثلاً بضيوف من علية القوم هل نحضر فواكه عادية من أي مكان ؟ بل نسأل هل هناك أحسن من هذه الفاكهة; لأن عندنا ضيوف من العلية.
نود أن نصل الى أحسنية الفهم، والمسافة واسعة بين الفهم وأحسن الفهم. إن القرآن ليس كتاب معرفة تفصيلية في المعارف الإنسانية، العقل يمكنه أن يأتي بها وحده، لكن هناك عالم ملائكة، وآخرة وميزان، وصراط وحساب، هل يمكن للعقل أن يأتي بها؟ أو الصفات، أو العرش، هذه أمور لا تُعرف بالعقل، ولكن خبّرنا القرآن عن كل ما يلزمنا عن عالم الغيب، عن كل ما يلزم من عالم المثل والقيم، والتشريع والعدل المطلق. إذاً كل ما كان للعقل فيه مدخل للعمل والإبداع ترك العقل يعمل فيه ويبدع، حتى وإن وصل بعد ألف سنة، والحياة مستمرة بالكمبيوتر وبغيره ولكن بغير هدى هل تستمر الحياة؟ لا، (فإن له معيشة ضنكا)، وعند ذاك سنصبح أقرب الى الحيوانات، أو عالم الشياطين، الإنسان بلا هدى بلا قرآن، واحد من اثنين إما الى عالم الشيطان او الحيوان، وهذه ليست حياة، بلا وسائل مادية، هل تستمر الحياة ؟ نعم.
إذن الكتاب يصنع المعجزات، ولكن بمقدار تفاعل الإنسان معه، في القرآن النصر معه، ولكن ليس على طريقة، (فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)، لا، بل (فقاتلا إنا معكم مقاتلون)، نعم نصنع حينها المعجزات، وهكذا، القرآن يفعل في الكون وفي الحياة وفي المجتمع، بمقدار ما ينفعل الناس به ومعه فيعطي، ولو زدنا إيماننا بالقرآن نزيد، يزداد خيرنا نزيد، وزدنا أيضاً يزيد، وإن زدتم يزيد القرآن، (ولدينا مزيد) فاذا زدت يزداد عليك الخير، وهكذا الى مالا نهاية، يزداد العطاء الرباني من القرآن. قال الأستاذ سيد قطب في «هذا الدين»: «إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر عندها; حينما يتسلم مقاليدهم ويسير بهم الى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبمقدار ما يبذلون من هذه الطاقة.
وقد شاء الله أن يتم تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) وشاء الله أن يبلغ الإنسان هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد،وما ينفق من الطاقة، وما يصبر على الابتلاء، في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم، وفي دفع الفساد عن نفسه وعن الحياة من حوله: (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون).
هذا المنهج الإلهي.. لا يتحقق في الأرض وفي دنيا الناس بمجرد تنزله من عند الله، لا يتحقق بكلمة كن الالهية مباشرة لخطة تنزله، ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، ولا يتحقق بالقهر الإلهي، على نحو ما يمضي ناموسه في دورة الفلك، وسير الكواكب،إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر تؤمن به إيماناً كاملاً وتستقيم عليه ـ بقدر طاقتها ـ وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك.
فإرادة الله هي الفاعلة في النهاية وبدونها لا يبلغ الإنسان بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها ويستمد منها ويجاهد في الله ليبلغ رضاه...» [ سيد قطب. هذا الدين. بإيجاز، بيروت، دار القرآن، الاتحاد الإسلامى العالمي للمنظمات الطلابية، 1389 هـ / 1978 م، ص 4 ـ 13.].
4 ـ النقل والعقل صنوان لا ينفكان ورفيقا درب لا يفترقان:
النقل والعقل، وإن شئت القرآن والعقل، هما صنوان، وهل يمكن أن يكونا غير ذلك؟ إن فك الارتباط بينهما غير ممكن، فالقرآن لا يكتفي بنفسه دون عقل، والعقل لا يقوم وحده بدون نص، لابد من الاثنين الروح والجسد، ما مقدار حاجة كل لكل، مئة بالمئة، حاجة الفناء أو البقاء، لا روح بلا جسد ولا جسد بلا روح، فالنقل ينزل على العقل فيتفاعل العقل معه ويبدع الفهم، ولولا هذا الفهم لما جاء النقل أصلاً، إذاً من يجلّي كنوز النقل إنه العقل، إياك أن تظن أن العقل عدو النقل، كما يظن بعض الناس من دهماء المسلمين، إذا ذكر العقل العقل إشمأز واستعاذ بالله وظن أننا فلاسفة، وظننا معتزلة أو مبتدعين أو أن الغزو الثقافي أثر علينا، إن إعلاء شأن العقل لب ديننا، وإن شئت نسرد بعض الآيات، وقد جمع العقل والنقل في آيات. (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)، (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) يبدأ بالنقل وينتهي بالعقل (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) ابتدأ بالكتاب وانتهى بالألباب، هكذا منهج مضطرد (أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) ختمت الآية (وما يتذكر إلا أولو الألباب)، ولذلك بدأ بالكتاب وانتهى بالألباب للمرة العشرين، نفس الظاهرة (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) النقل والعقل، (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون)، (ويريكم آياته لعلكم تعقلون)، (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)، من عدة سور: الأنعام والزخرف والعنكبوت والروم آيات مختلفات، لكن كأنها سبحان الله آية واحدة، صيغة يعقلون فقط (22) مرة، وصيغة تعقلون (49) مرة في ثلاثين سورة، يعني يعقلون بالغيبة، أقل من نصف تعقلون بالخطاب، حتى مجرد الاحصاء له دلالات، تعقلون بالخطاب (49) في ثلاثين سورة، أما في الغائب (22) إذاً تضاعفت السور بصيغة يعقلون عن تعقلون ثلاثة أضعاف عشرة الى ثلاثين سورة، بالخطاب مرتين ونصف تقريباً، ولكن عدد السور ثلاثة أضعاف، لماذا صيغة تعقلون أكثر؟ خطاب مباشر، (أفلا تعقلون)، (لعلكم تعقلون)، أكثر أهمية، إذاً الحقيقة في مناطق لا يكشف عن مخبوئها الا العقل، فلابد أن يبدع العقل ويطلع معاني الآيات، لأن القرآن أمرنا بالتدبر، إذا العقل معطل ليس له دور (كتاب أنزلناه مبارك ليدبّرَوا آياته)و (وليتذكر أولو الألباب) لماذا؟ وهو ما معنى تدبر: هو إعمال العقل، هذا الموضوع قديم، فلماذا نبحثه، حيث إن هذه الأمور البديهية ؟ لأن المسلمين في تخلف ومحتاجون أن نؤسس في عقولهم البدهيات، يعني قوله تعالى في قصة يوسف أو في قصة آدم، أو في أي موضوع من الموضوعات، في قصة آدم مثلاً، قوله تعالى (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)كيف عرف الملائكة أن آدم أو ذريته سيخرج منه هذا، هل القرآن أعطانا تفسيراً؟ ما الدليل إن كان هناك مخلوقات سابقة ؟ لا يوجد دليل، هذا خبط في البيداء على العمى، إذاً لن نفهم النقل إلا إذا أعملنا العقل، قوله تعالى (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) إذا من أين علموا أن آدم سيفسد فيها؟ الله أخبرهم ولكن القرآن لم يخبرنا، القرآن قال (إني جاعل في الأرض خليفة)، فالقرآن عندما خبرنا اقتصر فيما أخبر على خليفة، والقرآن عندما أخبرهم رب العالمين، كلمهم عن مسألتين: (إني جاعل في الارض خليفة) و (من يفسد)، لذلك إكراماً لنا غض الطرف عن ومن يفسد، فلما استفسر الملائكة غضوا الطرف عن خليفة، وركزوا على من يفسد.
هما خبران وليس واحداً، القرآن أخبرنا خبراً والله تعالى أخبر ملائكته، لما روي لنا الخبر إكراماً لنا قال (إني جاعل في الارض خليفة) فقط، لكن الخبر لما صدر من الله الى الملائكة أخبرهم أمرين، من أين جئنا بهذا الكلام؟ من الآيات التي تلي (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) مثل آخر، إبليس أكان مأموراً بالسجود أم لا؟ يا ملائكة اسجدوا لآدم، يقول أنا لست من الملائكة، (أو كما تقول بعض التفاسير أن إبليس من الملائكة) انظر للآية مرة أخرى (وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم) (قال يا إبليس ما منعك)، الصحيح أن القرآن قال إنه كان من الجن ففسق عن امر ربه، لكن هل كان مأموراً بالسجود؟ نعم مئة بالمئة، نصاً لا ضمناً، إذاً لما صدر الأمر (وإذ قال ربك للملائكة ولإبليس اسجدوا) ولكن احتقاراً لإبليس، حين يتدبر العقل في النقل يكتشف المتشابه، نريد أن نقتنع بالبديهية، فهل البديهية أصبحت بديهية؟
قال الأستاذ العقاد في (التفكير فريضة إسلامية): «العقل الذي يخاطبه الاسلام هو الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر، ويحسن الإدكار والروية، وإن هو العقل الذي يقابله الجمود والفوت والضلال، وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون. وأكبر الموانع في سبيل العقل: عبادة السلف التي تسمى بالعرف، والاقتداء الأعمى باصحاب السلطة الدينية والخوف المهيمن لأصحاب السلطة الدنيوية.
والعلم في الإسلام يتناول كل موجود، وكل ما يوجد، فمن الواجب أن يعلم، فهو علم أعم من العلم الذي يراد لأداء الفرائض والشعائر. كل ما نراه (في الكون) ونكرر رؤيته فهو معجزة تدعو الى العجب.. ولكنها المعجزة التي يعمل العقل لفهمها وليست هي المعجزة التي تبطل عمل العقل... والإسلام دين المعجزات التي يراها العقل حيثما نظر، وليس بدين المعجزات التي تكف العقل عن الرؤية وتضطره بالإفحام القاهر الى التسليم. فالمعجزة التي تتجه الى العقل موجودة يلتقي بها من يريدها حيثما التفت اليها، ولكنها غير المعجزة التي تقنع من لا يقتنع بتفكيره... ومن لم يقتنع بتفكيره فلن تهديه المعجزة من ضلال. والإسلام دين المعجزة التي تفحم العقل ولا تقنعه، لأن دين العقل والتفكير فريضة فيه.. والإسلام يضع المعجزة في موضعها من التفكير، ومن الاعتقاد، فهي ممكنة لا استحالة فيها على الخالق المبدع لكل شيء، ولكنها لا تهدي من لم تكن له هداية من بصيرته واستقامة تفكيره...»[ العقاد، عباس محمود. التفكير فريضة إسلامية، بيروت، دار الكتاب العربي، ط 2، 1969، ص 20 ـ 107 بإيجاز.]
5 ـ القرآن والمعرفة الإنسانية مرتبطان:
كلما اتسعت دائرة المعارف الإنسانية، اتسعت دائرة فهم القرآن، ولذلك لا يكفي فهم المعاني اللغوية من القواميس، بمعزل عن المعاني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية، (وأمرهم شورى بينهم) هل استفادت الإنسانية من هذا الحكم؟ والتجاوزات فيها، فقنعت وشرعت وطورت، لا أدري، فالأمة اتسعت دائرة المعارف فيها، وكلما اطلعنا على الحضارات والثقافات زاد فهمنا في القرآن الكريم، فسيد قطب ـ رحمه الله ـ صاحب الظلال، قال: أخذت من عمري (40) وأنا أقرأ الجاهلية، ولست نادماً، بالنسبة له الاطلاع على الجاهلية مفيد، وليس سلبياً من السلبيات، ومحمد قطب قرأ عن التربية عند الغربيين، ثم وظف ما قرأ في تفسير القرآن، فلو لم يكن قد قرأ التربية عند الآخرين لربما لم ينفتح له من آفاق المعنى القرآني ما انفتح، لا نريد أن نتقوقع ونقفل علينا النوافذ والأبواب، لقد شرّع القرآن هذه النوافذ لكنه وضع عليها شبكاً، يحميها من كل فساد، ليس كل ما عند الآخرين فاسد، الحضارة الغربية فاسدة، لكن هل كل شيء فاسد، إن في الحضارة الغربية علماً لا يمكن أن نصل اليه.
القرآن والكون كتابان متضافران، وآيات القرآن أرشدت الى آيات الأكوان، فهي آيات ترشد الى آيات، مثل فاتحة الجاثية، فيها آيات ترشد الى آيات، فمثلاً في سورة الجاثية (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين)، بدأ بالكتاب ثم انتقل للكتاب، أي كتاب؟ الكتاب المنظور أي الكون، وسمّاه آيات، ثم (وفي خلقكم وما يبث فيها من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون، ويل لكل أفّاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم، وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين، من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم، هذا هدى والذين كفروا بأيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم، الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) هل تلاحظون دمج الآيات دمجاً بلا فك ارتباط، وكل آية آيات، آيات القرآن وآيات الكون، ولذلك (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
قال صاحب كتاب «نظرات في القرآن» القرآن جعل النظر في الكون مصدراً من مصادر الإيمان، وأعطى النظر حرية واسعة في البحث والنظر والتأمل...[ حسن البنا. نظرات في القرآن، جمع أحمد عيسى عاشور، القاهرة، دار الاعتصام 1399 هـ / 1979 م، ص 27.
]
6 ـ القرآن قائم على التناسق:
إذ التناسق أحد دلائل الربانية أخذاً من قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، والتناسق ألوان وفنون، هذا العنوان فقط يريد كتابين الى ثلاثة، فالتناسق كما قلنا لا يقل عن عشرين لوناً من الألوان وعشرين فناً من الفنون، تأخذ بعضها برقاب بعض، خذوا ما قاله سيد قطب (التناسق بين المعنى المراد التعبير عنه واللفظ المؤدي لهذا المعنى) أنا إن أردت أن أوصل معنى فإنني أعبر بلفظ يوصل هذا المعنى (وإن منكم لمن ليبطئن) الكلمة مربوطة، وكذلك (اثّاقلتم الى الأرض)(ويسكن الريّح فيظللن)، فهذا أسميناه تناسقاً بين المعنى المُراد واللفظ المؤدي لهذا المعنى، خذوا مثلاً هذا اللون والذي نسميه التناسق في الإيقاع الموسيقي وهذا اللون هو موضوع كتاب قائم بذاته، وهناك كتب عديدة، منها «الإعجاز الموسيقي في القرآن» للدكتور رمضان عبد التواب، (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) كلّها حروف مد، فكل الكلمات كان بها مد حتى تتناسق، (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى...)(والضحى، والليل إذا سجى، ما ودّعك ربك وما قلى) (كهيعص، ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداءً خفياً قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً)... الخ، كلها إيقاع رخي ندي، (طسم، تلك آيات الكتاب المبين، لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين)، (فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث) هنا اختلف الجرس لماذا؟ لأن طبيعة الكلام اختلفت، الأول كله امتنان، فالآيات السابقة كلها نِعَمْ وهذه الآية أوامر، فأصبح لدينا الآن .........[ سقط من المقال بقية الكلام عن هذا العنصر ]
7 ـ القرآن دعوة مفتوحة للتدبر وليس عدو القرآن إعمال الفكر:
إنما عدوه الجهل، القرآن أكثر من مرة دعانا الى التدبر، أي اعمال الفكر، لقد قلنا مراراً: إن بعض الأصحاب وبعض التابعين كان يقوم الليل يردد آية، ما الذي يفعله بها؟ كان يقلب النظر في هذه الآية، (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) فكما قلنا من قبل ان التدبر حيث ورد في القرآن ورد بصيغة الجمع، التدبر جماعي والتلاوة فردية (ورتل القرآن ترتيلا). (وآن أتلو القرآن) (إقرأ) ...الخ، فلاذا التلاوة فردية والتدبر جماعي؟ التدبر عمل مؤسسي; الجانب النفسي والعملي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعلمي، فتتكامل الرؤى فيكون هناك تدبر للقرآن الكريم، ولذلك لأمر ما جاء أمر التدبر بصيغة الجمع وهكذا... الخ.
8 ـ القرآن كتاب الحكمة:
القرآن كتاب حكيم نزل من رب حكيم في ليلة فيها يُفرق كل أمر حكيم على رسول حكيم لينشئ أمة حكيمة، فالسورة كما ترون محاطة بالحكمة من كل جوانبها، والله تعالى امتن على المؤمنين بانه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين، (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)، وحتى يضيّع البعض بركة الفهم قالوا: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والسنة، بهذه الطريقة نكون قد قضينا على طريقة الفهم تماماً، وقطعنا دابره نهائياً.هل المراد بالحكمة في الآية في سورة الأحزاب السنة؟ قولاً واحداً لا، نحن قلنا في الفهم: نريد أن نرجع للغة العربية، فهل في اللغة العربية أن الحكمة هي السنة، قالها واحد وقلّده البقية، لا بد ان نرجع الى القاموس أو لا أن نقول: قال فلان أو قال علاّن، (ولقد آتينا داود الحكمة)أهذه سنة أيضاً، انما الحكمة أحسنية الفهم. إذن الكتاب والحكمة (ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب)، الحكمة الفهم والفهم المناسب للنص الذي يضع الأمور في نصابها ومعاييرها... الخ.
فكنوز هذا الكتاب لن تتجلى إلا إذا ارتقى العقل المسلم الى مرتبة الحكمة، التي هي مرتبة الإحسان أن نصل بالشيء الى ذروته، لكن كتاب عظيم وأمة متخلفة كيف يصير ذلك ؟ كانت النصوص توضع بين أيدي أناس عقلاء. أصبحت النصوص الآن توضع بين أيدي اناس حمقى، فإسلامنا مظلوم منا وبيدنا أشد والله من ظلمه على يد الغربيين والمستشرقين واليهود والنصارى، ويمكن بحسن نية (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)، عندنا نص مستقيم ولكن عقل أعوج ما الفائدة؟ فمثل ذلك مثل العود عندما نضعه في الماء ينكسر، والنص المستقيم عندما تضعه في العقل الأعوج ينكسر النص ويخرج هذا النص أعوجاً، وأحياناً يخرج نقيض مراده بالضبط، إذن لا بد أن يُقرأ الكتاب بالحكمة، يرتقي العقل المسلم الى مرتبة الحكمة التي هي قمة الارتقاء العقلي، وقمة التطور الفكري التي هي مرتبة الحكمة وأحسنية الفهم، وللارتقاء بالعقل المسلم يحتاج الى جهد منظم ومبرمج، نحن حتى الآن لا نفهم عمل الفريق في الجهد العقلي، فهرسة السنة لم يشتغل بها المسلمون بل اشتغل بها الكفار والمستشرقون، المسلمون لا يعرفون عمل الفريق، أما الكفار فيعرفون كيف يعمل العقل!! إذن لا يوجد عندنا العقل الجماعي ولا العمل الجماعي ولا التفكير الكلي ولا التفكير التركيبي، عندنا التفكير الذرّي، طبعاً لا يعني ذلك أن الله خلق العقل العربي متخلفاً، لكن البيئة لها دور في تشكيل العقل; فالإنسان ابن بيئته، ويتنفس المفاهيم منها، فلما كانت بيئتنا متخلفة عقلياً وفكرياً كنا كلنا كذلك، فتجد أن المتدينيين والشيوعيين والليبراليين والوطنيين متخلفون، المسلم والشيوعي والحكومي والليبرالي كلهم متعصبون، المسلم والشيوعي والحاكم كلهم فرديون، حتى المسلمون عندما يعملون عملاً كل يقول أنا، مع أن ديننا قائم على غير هذا، ديننا شوري، لكن أين العمل الإسلامي الشوري ؟ لا بد أن نرتقي، ولن نرتقي بالبيئة ما لم نرتق بالعقل، ولن نغير البيئة إلا إذا تغير العقل والعكس صحيح.
قال في المنار: فسروا الكتاب بالقرآن والحكمة بالسنة، والثاني غير مسلّم على عمومه، أما الأول فله وجه، وعليه يكون المراد بالآيات دلائل العقائد وبراهينها، وفيه وجه ثان وهو أن المراد بالكتاب مصدر كتب يقال كتب كتاباً وكتابة، وإنما الدعاء لأمة أمّية لابد في اصلاحها وتهذيبها من تعليمها الكتابة، أما الحكمة فهي في كل شيء مفرقة سره وفائدته والمراد بها: اسرار الاحكام الدينية والشرائع ومقاصدها، وقد بين رسول الله ذلك بسيرته في المسلمين; فان أرادوا من السنة هذا المعنى في تفسير الحكمة فهو مسلّم، وهو الذي كان يفهم من اسمها في الصدر الأول، وان ارادوا بالسنة ما يفسرها به أهل الاصول والمحدثون فلا تصح على اطلاقها. فالحكمة له هذا المعنى، ولكن الذي يتفقه في الدين ويفهم اسراره ومقاصده يصح ان يقال: إنه أوتي الحكمة التي قال الله فيها (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً). ولن يكون أحد داخلاً في دعوة إبراهيم حتى يقبل تعليم الحكمة من هذا النبي الكريم. علم ابراهيم واسماعيل عليه السلام ان تعليم الكتاب والحكمة لا يكون في اصلاح الامم واسعادها بل لابد أن يقرن التعليم بالتربية على الفضائل، والحمل على الاعمال الصالحة بحسن الاسوة والسياسة فقالا: (ويزكيهم) أي يطهر أنفسهم من الأخلاق الذميمة [ تفسير المنار، بيروت، دار المعرفة، ج 1، ص 472 ـ 473.].
وأقول أن الحكمة وردت في عشرين موضعاً في القرآن في (11) سورة (11) موضعاً منها في قصص أنبياء سابقين أو الحكمة مطلقة، كما في حكمة بالغة فما تغن النذر. وورد وصف (حكيم) في (81) مرة في (40) سورة [ المعجم المفهرس مادة حكم.].
وقد نقل الشيخ سعيد حوى في تفسيره بعض معاني الحكمة: «ويشهد على أن الحكمة: العلم بكتاب الله وصف الله عز وجل كتابه، بأنه حكيم (والقرآن الحكيم)، وقال ابراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. وقال مالك: وانينفع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله. وقال مجاهد: الحكمة: الاصابة في القول. وقال ابو العالية: الحكمة: خشية الله فان خشية الله رأس كل كلمة، قال ابن كثير: «والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، ولكن لاتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع...» [ سعيد حوى. الاساس في التفسير، القاهرة، دار السلام، 1405 هـ / 1985 م،ج 1، ص 625.].
كيف نغير الحال وكيف نبدأ ونكسر الجدلية هذه؟ وذلك بمبادرات من أشخاص قياديين، يستطيعون أن يطرحوا طروحات على العقل والبيئة فتبدأ البيئة تتفاعل مع طروحاته العقلية فمن هنا نبدأ، من قيادة فكرية نبدأ، نحن نحلم بأن يأتي خليفة، ها هو سيدنا موسى وهل أحسن منه خليفة ؟ لم يَنْتُج معه أي شيء وقال بعد نهاية المطاف (رب إني لا أملك الا نفسي وأخي) هذا بعد أربعين أو خمسين سنة في ميدان الدعوة والاصلاح، بعد كل هذا الجهد المتطاول بماذا خرج ؟ لا شيء، فبذلك نرد على إخواننا الذين يظنون ان حل المشكلة في شخص اسمه خليفة، الخليفة مهم لكن أيضاً بيئة تتفاعل مع الخليفة، نحن الآن من أين نبدأ ؟ واذا لم يأتِ خليفة نبدأ من طرح فكري، هذا الطرح الفكري يبدأ يتفاعل معه الناس فيغيرون البيئة من غير التعصب، نريد أن نغير الفردية والتعسف والهجوم على الأمور بلا انضاج ولا روية، نريد أن نغير اللاعقلانية الى العقلانية، وما لم نغير نحن الدعاة بأنفسنا فلا نحلم بأن يغير عامة الناس إذا كنا نحن طليعة الشعب كما نقول فنبدأ نحن التغيير. فاقرأوا القرآن وسترون أنه دائماً (الكتاب والحكمة) مع الانبياء، مثل داود محمد وهكذا دائماً مقترنين مع بعض، مشكلة المسلمين اليوم أنهم يقرأون الكتاب بلا حكمة فنقع في وقعات مميتة قاتلة.
9 ـ الكتاب وحال الأمة:
الأمم في حالة المد تفهم شيئاً وفي حالة الجزر تفهم غيره; ربما نقيض الفهم الصحيح، نصوص الكتاب كما قلنا محايدة، يأتي العقل هو الذي يحدد مسار الفهم، النص في محله. تتذكرون جميعاً كيف فهم المسلمون قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة) الصحابة فهموا الآية; لان الأمة كانت في حالة مد لكن أمة في حالة الجزر، فإذن لا يوجد فك ارتباط بين فهم العلماء وبين حال الأمة، لكن لاحظوا العلماء كيف أنزلوا النصوص على الواقع، تنزيل مريض مشوّه; لأن الأمة في حالة الجزر، فالحكّام إن أرادوا السّلم فنقوم بتفصيل الآيات وإن أرادوا الحرب فنغيّر الآيات حسب مرادهم، إذا أرادوا السلام (وإن جنحوا للسّلم...) إذا أرادوا أن يحاربوا (انفروا...) ان النص لا علاقة له بهذا، ولكن واقعنا مريض.
نريد أن نحلّق فوق هذا الواقع المتخلّف، لأن نصّنا عال وواقعنا رديء فلا بد لنا من أن نخرج من جاذبية الواقع الرديء للأمة الى أفق النص القرآني العالي والرحب.
10 ـ النبي لم يفسّر إلا النزر اليسير; ليظل المعنى متسعاً لكل تطورات العصور:
ما الذي فسّره النبي من القرآن ؟ أنا أزعم أنه لم يتجاوز العشرات، ولذلك قال أحمد بن حنبل: ثلاثة لا أصل لها: التفسير والمغازي والسّيَر، أليس باستطاعة النبي أن يفسر (استوى) وأن يفسر كلمة (الميزان) بلى إنه قادر على ذلك، فهل فعلها النبي؟ لا، لماذا؟ إن معنى أن يفسّر النبي النص أن العقل توقف، ونحن لا نريد أن يتوقف العقل نريد أن يبقى العقل في حالة تطور محمد رشيد رضا قال كلاماً في التفسير جميلاً جداً، هل انتهى التفسير؟ بالطبع لا، ولذلك يجب أن يكون تفسير لكل عصر، والتفسير مرآة العصر، تقرأ به قضايا العصر، ابن كثير فسّر، لزمانه، الطبري فسّر، لزمانه، الزمخشري فسّر لزمانه، لا يوجد عقل خارق للقرون.
النبي فسّر القرآن عملياً، لكنه لم يفسّر القرآن لغوياً، وإذا أردنا أن ندقق ونحقق قد نجد عشرة أحاديث في التفسير وقد لا نجد، فأقول: إن كتاب التفسير في البخاري يحتاج الى مراجعة، وهذا ليس تعالياً على البخاري; لكن الحق أحق وأحبّ علينا من كل واحد. فلحكمة بالغة لم يفسّر النبي كل القرآن; وذلك ليبدع العقل على مر العصور، ويبقى في حالة مد وإبداع.
11 ـ الوحدة الموضوعية:
يجب أن تعرف أن كل سورة لها موضوع وبلا تكلّف، كيف يقبل العقل المسلم أن يُقفل باب الاجتهاد؟! أكان حجتهم بذلك حتى لا يدخل من ليس بأهل للاجتهاد فقفله أفضل، فوالله لأن يدخل أناس باب الاجتهاد ويخطئوا خير من أن يقفل. نعني بالوحدة الموضوعية أن كل سورة لها وحدة موضوع، من أول آية الى آخر آية، واقرأ في الظلال وغير الظلال، محمد قطب أعطى نماذج على ذلك في كتابه «دراسات قرآنية» فقال على سبيل المثال سورة البقرة موضوعها تربية أمة لا إله إلا الله، سورة آل عمران موضوعها معركة أمة لا إله إلا الله، فمن أول آية الى آخر آية الكلام صحيح باتساق، المعركة الفكرية.
والمعركة المادية، المعركة مع اليهود والمشركين والمنافقين والنصارى، إذن معركة أمة لا إله إلا الله معركة ضد كل أعداء لا إله إلا الله، وعلى الصعيدين المادي والفكري، هذه سورة آل عمران، معركة نفسية ثقافية فكرية دينية عقدية اجتماعية ومادية ميدانية ومع اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، موضوع واحد، لن تخرج السورة عن هذا الإطار ننشأ.
نأتي الى سورة النساء لماذا فيها جهاد؟ نحن نعلم أن السورة تتكلم عن أحكام النساء، ولكن لماذا يوجد الجهاد؟ نحن عندنا نظام اجتماعي أو لا يحتاج هذا النظام الى نظام عسكري يحميه، إذن النظام في سورة النساء نظام اجتماعي وهذا النظام لن يستقر ما لم نحميه بجهاد، ان آيات الجهاد منسجمة تماماً، ولذلك لاحظ كيفية ورود آيات الجهاد (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء). إذن لكل سورة موضوع، ولو سألنا ما هو موضوع سورة القلم على سبيل المثال؟ موضوع هذه السورة هو النبي ونفي تهمة الجنون، (ن) النبي (ما انت بنعمة ربك بمجنون) النبي وبالذات نفي تهمة الجنون، تعالوا معي الى نهاية السورة (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون انه لمجنون) هناك قاعدة في السور القرآنية: دائماً عطف البدء على الختام، حتى يؤكد لك ان كل سورة فيها موضوع، فمثلاً سورة الاسراء بدأت بالتسبيح وانتهت بالتسبيح، سورة الاحزاب (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) وفي منتصف السورة تقريباً (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) وأول السورة (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً)نفس النص، إذن هناك وحدة موضوع، وعندنا شيء نسمّيه عطف البدء على الختام، (ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً) وفي أولها (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً...) تسبيح في البدء والختام.
في سورة الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وآخرها (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم) حتى يقول لك ان الموضوع واحد والبدء والختام خيط واحد، وفي سورة البقرة (الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب...) وفي الختام (آمن الرسول...): أول البقرة فعل مضارع، وآخر البقرة فعل ماض، في البداية (الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) آخرها (آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن...)انظروا يؤمنون مرتين وآمن مرتين بالعدد، اذن خيط واحد أوله وآخره متشابه، فلماذا في أولها مضارع وفي آخرها ماض؟ المضارع له أهداف، وهذه الأهداف أنجزت واصبحت فعلاً ماضياً.
قال في الظلال: «يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة شخصية مميزة، شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس، ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة الى محور خاص، ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص، إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة، وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً، ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور...» [ سيد قطب. في ظلال القرآن، بيروت، دار احياء التراث العربي، ط 7، 1391 هـ / 1971 م، ج 1 ص 4،.]
اياكم ومقولة (ما ترك الأوائل للأواخر) هذه قاضية على العقل ! هل ترك الأوائل للأواخر؟ نعم، كون أن الزمخشري لم يقل بالوحدة الموضوعية لا يعني أن لا أقول بالوحدة الموضوعية، ومن ثم الجماعة كانوا مشغولين بالتفكيك، المنهج التفكيكي أي أخذ الكلمة واستخراج البلاغة وكل شيء منها، الآن نأخذ المنهج التركيبي، أشاروا إشارات كما قال قطب كان النبع على ضربة معول لكنه لم يضربه، فترك النبع ورمى الفأس وذهب. مع أن النبع كان على ضربة معول لكنه لم يضربه. فالزمخشري عظيم وفكر خارق، لكن مشغول بالتفسير التحليلي، أنجز إنجازاً مهماً، ومهمتنا نحن أن نطور.
12 ـ لا تُفسر الكلمة او النص الجزئي بمعزل عن السياق:
فقد يكون للمفردة مفردة معنى وفي السياق معنى آخر.
13 ـ الاستقراء للفظة في القرآن يعطيك من المعاني ما لا يعطي تفسير النص بمعزل عن هذا الاستقراء:
طبعاً الاستقراء لا يكون ناقصاً. (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) (آنس من جانب الطور ناراً) (ولا مستأنسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي) (حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) أجمع كل مادة أنس وأستأنس ومستأنسين وأفكر فيها مجتمعة، كلمة الشكر كذلك، الإنسان كذلك، كل ذلك يساعدك في التصور، فرق بين كلمة الإنسان عن الناس، اجمع كلمة الناس تجدها أنها واردة في التجمع البشري، الإنسان المفرد (يا أيها الإنسان ما غرك بربك) (يا أيها الناس) تأتي دائماً لما يحتاج الى واقع اجتماعي الى منظومة من البشر بعكس يا أيها الإنسان، هذا العمل بصفة فردية، وهكذا...
14 ـ لا يؤتى الى القرآن بأحكام مسبقة:
سواءً أكانت أحكاماً فقهية، أم عقدية، أم فلسفية... الخ. لكن يؤتى القرآن بثقافة وعقل عنده دُربة بالعربية ومسلح بالبلاغة.
15 ـ لا يفسر القرآن بمعزل عن روح القرآن وروح الإسلام.
16 ـ في القرآن آيات محكمات وأُخَرُ متشابهات:
والمتشابه من الآيات يُرد الى المحكمات، وفي النهاية لا متشابه في القرآن. ) انتهى البحث .
يقول الدكتور أحمد نوفل في هذا المقال :
( الموضوع هو منهجية التعامل مع القرآن الكريم. والموضوع مهم، ويحتاج إلى من يكون في مستواه، وحسبنا أن نحاول أن نقبس اقباساً لعلها تكون مفيدة. وسنشير ابتداءً الى معوقات الفهم الصحيح للتعامل مع كتاب الله.
1 ـ عدم الانطلاق من فهم شامل للإسلام: توضع في إطاره الآيات، فالأصل أن يكون هناك، إطار كبير تأتي آيات الله عز وجل فتوضع ضمن هذا الإطار الكبير من الفهم لروح الإسلام، وطبيعته، فإذا غاب الفهم الشامل للإسلام، غاب بالتالي الفهم الصحيح لآيات الكتاب العزيز.
2 ـ القدوم الى ساحة القرآن مع استصحاب مفاهيم سلبية كالجبر والإرجاء وما الى ذلك: فنحن نقدم على ساحة القرآن محمّلين بأفكار ليست من الإسلام ولا من القرآن، ثم نقرأ النصوص وننزل النصوص وفق ما في عقولنا من مقولات ومقررات، وذكرت لها مثالاً وهو موضوع الجبر (فعّال لما يريد) إذن الإنسان ليس له أي فعالية، إنّ الله لم يقل ذلك، (يضل من يشاء ويهدي من يشاء)، إذن الإنسان ليس له كسب، إن ربنا لم يقل ذلك، وما ذلك إلا مقولات جئنا بها الى ساحة القرآن الكريم.
3 ـ ربط النص بسبب نزول غير صحيح: كثير من أسباب النزول تشوش الفهم، من علمائنا من قال إن أسباب النزول تعين على فهم النص، وهذا كلام صحيح، لكن عندما يكون سبب النزول ملفّقاً تلفيقاً يصبح معيقاً ولا يكون معيناً على فهم النص.
4 ـ الآثار الموضوعة والضعيفة المنسوبة للنبي أو الصحابة والتابعين: هناك أحاديث ضعيفة وتفسيرات تُنسب لابن عباس، وابن مسعود. وقراءات قسم كبير منه غير صحيح، من شأن هذا أن يقف بيننا وبين النص.
5 ـ الإسرائيليات: ونشير إليها فقط، لأن هذا الموضوع وحده يحتاج الى تفصيل كثير.
6 ـ قطع النص عن السياق وأخذه مبتسراً بمعزل عن سياقه: نأتي بالنص ونقطع الآية قطعاً عمّا قبلها وما بعدها من سياق الآيات.
7 ـ الجزئية في الفهم والتفسير، أو تفسير النص بوجه واحد أو بصورة من الصور:
(وبشّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً) بشّر المؤمنين بأن لهم من الله نصراً في الدنيا والآخرة هكذا نفهم، طالما أنّ النص يحتمل عموم المعنى، نفسّر بالعموم، ولا نفسّر بجزئية المعنى. هذه قاعدة: إذا كان النص يحتمل الدنيا والآخرة لا نفسره بالدنيا ولا نفسره بالآخرة، وهكذا نجعل النص على شموله.
كثيراً ما يأتي العلماء بمثال فنظن أنّ المثال تفسير، وهذا غير صحيح بل يلزم أن نفرق بين المثال والتفسير، ومثال ذلك قوله عز وجل (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال بعض العلماء هو الغناء، وهذا غير صحيح إذا قلنا هذا هو التفسير، وهو صحيح إذا كان مثلاً، فلننتبه إلى الفرق.
8 ـ التكلّف في الفهم: إن ديننا يرفض التكلّف. العلماء كثيراً ما يقعون فيما فيه تكلف، وقرآننا علّمنا فقال: (وما أنا من المتكلّفين). سنأخذ دراسة معاً ونرى: أسباب النزول ضعيفة، وإسرائيليات، والمقولات المختلفة. إن التفسير ينبغي أن يكون في مستوى عظمة القرآن، وإلا فاكسر قلمك ومزّق ورقك خير لك من أن تنزل لساحة كتاب عظيم بفكر سقيم.
9 ـ ربط الآية بحديث قد يصح، لكنه ليس بالضرورة تفسيراً لهذه الآية: فالحديث صحيح، لكن أهو تفسير لهذه الآية؟ حديث قد يصح وقد لا يصح، لكن لا علاقة له بالآية، هذا الربط أشكل فهم الآية، مثل قوله تعالى (يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون). لقد كتبت حول هذه الآية حوالى 50 صفحة أناقش فيها روايات بعض الأحاديث، أرى أن الحديث الوارد في تفسيرها غير صحيح، ولئن صح فلا يصح تفسيراً للآية، فالحديث ليس له علاقة بالآية. والحديث «يكشف ربنا عن ساقه...»، نتحدث عن الأمة أولاً فنقول خذ نقطة نقد واحدة لتفسير الحديث لها. هي مكّي مبكّر، الناس وقتها لا يعرفون فهل آتي وأقول لهم سيكشف ربنا يا أهل مكة عن ساقه وهم يكفرون بربنا؟!!، إن ديننا دين منطق، فهل أقول للناس تعرفون ربنا من ساقه عندما يكشف عنها؟؟! هذا كلام غير مناسب، فكما قلنا الحديث في واد ـ ان صح ـ والآية في مكان آخر لا علاقة لها به.
لقد ربط البخاري هذه الآية بالحديث، ولكن يحق لنا التساؤل هل البخاري معصوم؟ البخاري نِعْمَ العالم، لكنه إذا أخطأ في حديث فإنه لا يسقط من أعيننا، البخاري إمامنا ولكنه أخطأ في هذه المسألة، وذلك لا يخدش منزلته، نحن تعودنا أن نأخذ علماءنا بالتقديس لا بالتقدير، وحينها نخشى على أنفسنا من قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، وهم شبكوا الآية مع الحديث وأنا في ظنّي أنه لا يوجد ارتباط، الآية تخاطب العرب بلسانهم وبلغتهم، (يوم يكشف عن ساق) ومعناها جدّ الجد، وما ثمّ ساق ولا قدم، وإنما هي كفاية كما في قولهم حزمت الأمور، «شمّرت الحرب عن ساقها) وهل للحرب ساق؟. وهكذا...
القرآن مهيمن على السُنة، هل قال ربنا إن جهنم ستسكت؟، بل استأنف بقوله: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت) وتظل تقول (هل من مزيد) يأتي الحديث ويقول لي لا، جهنم ستسكت، القرآن يقول (وتقول) أي باستمرار، فهنا مَن يُهيمن على مَن؟ القرآن يهيمن على السُنة، أولاً: لماذا لا تبقى جهنم تقول هل من مزيد ؟ لماذ تسكت؟ حتى يبقى الكفار في رعب وتبقى تتلظى وتخرج صوتاً (سمعوا لها شهيقاً وهي تفور)، ربنا يقول (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون).
10 ـ عدم الاطلاع على المعارف الإنسانية والتاريخ الإنساني والاجتماع الإنساني: لظن البعض أن العقل المسلم مكتف بذاته، وهذا غير صحيح، إذ العقل يحتاج الى المعارف الإنسانية وهي مترابطة متشابكة يأخذ بعضها من بعض ـ فالمسلم غير معزول عن العالم ولا منبت ولا منقطع ـ نستفيد من معارف العالم الكونية والاجتماعية والإنسانية... الخ. وبالتالي إذا جئنا ساحة القرآن الكريم بعقل مجرد لم نستـفد، قد يقال: أنت قلت يأتي نقي!، أقول بعقل نقي ليس بمقررات سابقة، ولنضرب مثالاً على ذلك أن شخصاً لا يعرف كيف تُساس الأمم وما حقوق الشعوب ولا يفهم شيئاً من ذلك، هل يستطيع أن يعرف معنى الشورى. وهو ما زال على عقل البداوة، لا يعرف ما يفعل، ويفعل ما يريد، وهو الآمر الناهي المتنفذ; فيُظن الإسلام هذا الواقع، إذن كلما أطلعنا على تجارب الشعوب، كنا لإسلامنا أفهم.
11 ـ التقليد في الفهم: إن أقوال العلماء في القرآن مفيدة، ولكنا لا نأخذ بها بالضرورة لأنهم قالوها، بل لأنها صحيحة ومنسجمة مع القرآن، وإذا كانت هناك مشكلة في هذه الأقوال فلا بأس بردها، ليس من باب الرد لذات الرد، أو لنبدو متعالمين، ولكن بما أن الحق يسير منسجماً مع القرآن، فلا مانع من اتباع هذا الأمر المنسجم، مع عدم تقليده.
12 ـ عدم بذل الجهد والكدح الذهني في محاولة الفهم: نحن لدينا اعتقاد أن القرآن ميسّر، (ولقد يسرنا القرآن للذكر)، فلماذا نجهد أنفسنا؟ إن القرآن الكريم كلام واضح، ولكن، العمق شيء واليسر شيء آخر، القرآن ميسر; ولكنه في منتهى العمق، يحتاج الى غوص الغواصين، نحن نسطّح الامور، فنظن ان اليسر يعني التسطيح ـ ومعاذ الله ـ أن يكون القرآن مقصده من اليسر التسطيح الفكري.
13 ـ عدم البحث عن احسن الفهم، والاكتفاء بأي فهم.
14 ـ الربط المتكلف بين الآي: يحاول أن يستقرئ، ولكنه استقراء غير موفق مثال ذلك قوله تعالى، (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) طبعاً همّ بها غير وارد. ولن أناقش الموضوع الآن، ولكن انظر كيف ربط بعض المفسرين فقالوا هَمّ بها ليضربها، من قوله تعالى: (وهمت كل أمة برسولهم)، انظروا الى الربط غير الموفق، الظاهر أنه ربط مناسب لكنه في الحقيقة ربط فاسد، إذاً أحياناً نربط بين الآيات لمجرد وجود تشابه في الألفاظ مثل بعضها، ولكن المعنى مختلف، لذلك همت كل أمة برسولها من باب القتل، هنا الهم هم الفاحشة، فهل همّ يوسف ؟ لا، أمتـنع الهم بوجود البرهان.
معالم منهج التعامل مع القرآن
بيّنّا فيما سبق معيقات المنهج السليم للتعامل مع القرآن الكريم وأوردنا أمثلة عابرة على صور من التعامل التي لا بد من النظر فيها ومراجعتها وتصويبها، وسنحاول فيما يلي رسم معالم منهج التعامل مع القرآن:
1 ـ القرآن كلام الله:
هو الرسالة الخاتمة، وهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. عندما نتعامل مع القرآن بهذه المثابة وهذه الحيثية، فهذا يعني شيئاً كثيراً، كونه كلام الله معناه أنه هو المصدر، في النحو هو القاعدة، في البلاغة هو القاعدة، وفي الصدق، لا يترك شيئاً إلا هو مهيمنٌ عليه، وعندما يقول طه حسين: (نحن قرأنا التاريخ ولم نجد فيه عاداً)، إذاً لا يوجد عاد، نقول له القرآن مهيمن على التاريخ، والكتب السماوية، والبلاغة، والنحو، والقواعد، وعلى الدنيا جميعها; لأنه كلام الله، هذا الكلام ينبني عليه شيء كثير، ففي القاعدة النحوية، القرآن هو
القاعدة، وليست قواعد النحو هي من يحاكم القرآن، وقواعد البلاغة مصدرها القرآن فتقاس النصوص الأخرى على بلاغة القرآن وليس العكس; لأن القرآن كلام الله، وهو المصدر والنموذج الذي نقيس عليه باقي الكلام، فإذا قال القرآن: إنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبَشَّر به في الكتب السابقة، ولم نجد في الكتب السابقة عن بشارة محمد، يكون العيب في هذه الكتب وليس في كتابنا; لأنه يقيناً كلام الله، وتلك الكتب ليست بيقين كلام الله، إنما فيها من كلام الله أشياء باقية وأغلبها ليس من كلام الله، وإنما وضع الشر.
2 ـ اتحاد المعجزة والرسالة في القرآن:
كان رسلُ الله السابقون يأتون بأمرين: الرسالة والمعجزة، الكتاب والآية، مفصولين عن بعضهما، التوراة والعصا واليد مثلاً، الإنجيل وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى والطير... الخ، الرسالة شيء والمعجزة والآية شيء مختلف; لأن البشرية كانت في مرحلة الطفولة العقلية، ليس لأنها كانت ناقصة في الخلقة، ولكن البشرية من يوم خُلقت وقدراتها العقلية سليمة، إنما الناقص هو المعارف، والمعلومات والتجارب، بدأت البشرية تكوّن معارف وتجارب وخبرات، وتراكم ثقافة وعلم وحضارة، فالحضارة تراكم، والثقافة تراكم، والمعرفة تراكم وقدرات، والذي صنع السيارة التي تسير بسرعة 300 كم في الساعة، استفاد من العربة القديمة وتعلم منها وطوّرها، وجاء من بعده وطوّر، فالبشرية تتقدم، وعقلها ينضج شيئاً فشيئاً بالخبرات، الى أن جاءت بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانت البشرية قد بلغت في التجربة سن النضج والرشد، فجاء القرآن أنضج من كل ما سبق، وجاء القرآن معتدلاً متوازناً، وليس متطرفاً لا لجهة الروحانيات ولا جهة الماديات. بينما إذا لاحظنا الإنجيل، فهو متطرف، إن جاز التعبير، أي موغل في الروحانية لماذا؟ شخص عنده نسبة السكر في الدم مرتفعة نقول له ممنوع عنك الخبز، النشويات وكل ما يمت للسكر. فنحن بهذه الحالة عالجناه علاجاً متطرفاً لأن وضعه متطرف، ولكن إذا رجع السكر الى نسبة قليلة قلنا له حلي الشاي. فالآن البشرية رجعت الى رشدها والى توازنها، فجاء الكتاب في مستوى رشد البشرية، فاتحدت الرسالة والمعجزة، فصارت شيئاً واحداً، ويحصل هذا لأول مرة في تاريخ الرسالات. والله سبحانه قد فطم البشرية كما يفطم الطفل عندما يكبر (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية) افعل، تريد آية اذهب ابحث في الارض أو في السماء واحضر آية أنزل آية ايها النبي، لا تتطلعوا الى السماء لن أنزل آية، مع أني قادر أن أسوق لهم آيات بلا عدد، والشمس أليست آية، والقمر أليست آية، والسماء أليست آية، وعيونهم أليست آية، والذي لا يكتفي بهذه الآيات لن يكفيه شيء. فيقولون يا رب كنت تأتي بآيات، لكن العقل البشري كان في طور الطفولة وعدم الرشد، ولكن الآن بلغ الرشد، ولذلك اتحدت المعجزة والرسالة في شيء واحد، وما أصدق قول شوقي:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت***وجئتـنا بكتاب غير منصرم
لذلك اين عصا موسى عليهم السلام الآن ؟ ماتت، الموتى الذين أحياهم عيسى عليهم السلام، ماتوا مرة ثانية، لكن معجزة محمد، الآن كل آن، ستظل معجزته شاهدة على الإنسان في الزمان والمكان. المعجزة لمن ولماذا؟ فكرة المعجزة لتشهد أن الرسول حق، هل نستطيع أن نثبت من القرآن أن محمداً عليه الصلاة والسلام حق وأن القرآن حق، من نص القرآن، نعم نستطيع; إذاً اكتفينا. يقول: الأستاذ مناع القطان: «الإعجاز: اثبات المعجز. والعجز فى المتعارف: اسم للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة. وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المعجز». لقد تحدى الرسول العرب بالقرآن على ثلاث مراحل: القرآن كله، بعشر سور، بسورة واحدة، (أقول بل وبحديث من مثله آية تحمل معنى مفيداً تامة).
أما أوجه الإعجاز فهو أنه معجز في ألفاظه وأسلوبه والحرف الواحد منه في موضعه من الاعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية... وهو معجز في بيانه ونظمه.. وعلومه ومعارفه وتشريعه وصيانته لحقوق الانسان... الخ.
وإعجازه العلمي ليس في اشتماله على النظريات العلمية التي تتجرد وتكون ثمرة للجهد البشري وإنما في حثه على التفكير . [ القطان، مناع. مباحث في علوم القرآن، بيروت، مؤسسة الرسالة: 1986 م ـ 1407 هـ، ص 258 ـ 280 بإيجاز.]
3 ـ القرآن كتاب هداية وفرقان وذكر وتبصرة:
هذا هو مقصده الأسمى، (اهدنا الصراط المستقيم)، (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)، ليس من المفروض أن يكون القرآن كتاب معرفة تفصيلية، ولا يطلب منه أن يصنع المعجزات وأن يحل فوراً المشكلات، لن يفعل، العقل البشري يجب أن يبدع في الاجتماع والاقتصاد والسياسية والإنسانيات والفلك والطب.. الخ، القرآن ليس من مهمته أن يأتي بمعلومات تفصيلية في الطب والفلك والفيزياء والمعارف، لا، لكنه كتاب هدى لما لا يستطيع العقل أن يعرفه من عالم الغيب. وكذلك ليس من شأن القرآن ولا فلسفة القرآن أن يجترح المعجزات، ولو كان ثمة كتاب على الأرض يصنع المعجزات، لكن هذا القرآن اولى كتاب بذلك. نحن دائماً نبحث عن أحسن الفهم، ولنضرب لذلك مثلاً بضيوف من علية القوم هل نحضر فواكه عادية من أي مكان ؟ بل نسأل هل هناك أحسن من هذه الفاكهة; لأن عندنا ضيوف من العلية.
نود أن نصل الى أحسنية الفهم، والمسافة واسعة بين الفهم وأحسن الفهم. إن القرآن ليس كتاب معرفة تفصيلية في المعارف الإنسانية، العقل يمكنه أن يأتي بها وحده، لكن هناك عالم ملائكة، وآخرة وميزان، وصراط وحساب، هل يمكن للعقل أن يأتي بها؟ أو الصفات، أو العرش، هذه أمور لا تُعرف بالعقل، ولكن خبّرنا القرآن عن كل ما يلزمنا عن عالم الغيب، عن كل ما يلزم من عالم المثل والقيم، والتشريع والعدل المطلق. إذاً كل ما كان للعقل فيه مدخل للعمل والإبداع ترك العقل يعمل فيه ويبدع، حتى وإن وصل بعد ألف سنة، والحياة مستمرة بالكمبيوتر وبغيره ولكن بغير هدى هل تستمر الحياة؟ لا، (فإن له معيشة ضنكا)، وعند ذاك سنصبح أقرب الى الحيوانات، أو عالم الشياطين، الإنسان بلا هدى بلا قرآن، واحد من اثنين إما الى عالم الشيطان او الحيوان، وهذه ليست حياة، بلا وسائل مادية، هل تستمر الحياة ؟ نعم.
إذن الكتاب يصنع المعجزات، ولكن بمقدار تفاعل الإنسان معه، في القرآن النصر معه، ولكن ليس على طريقة، (فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)، لا، بل (فقاتلا إنا معكم مقاتلون)، نعم نصنع حينها المعجزات، وهكذا، القرآن يفعل في الكون وفي الحياة وفي المجتمع، بمقدار ما ينفعل الناس به ومعه فيعطي، ولو زدنا إيماننا بالقرآن نزيد، يزداد خيرنا نزيد، وزدنا أيضاً يزيد، وإن زدتم يزيد القرآن، (ولدينا مزيد) فاذا زدت يزداد عليك الخير، وهكذا الى مالا نهاية، يزداد العطاء الرباني من القرآن. قال الأستاذ سيد قطب في «هذا الدين»: «إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر عندها; حينما يتسلم مقاليدهم ويسير بهم الى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبمقدار ما يبذلون من هذه الطاقة.
وقد شاء الله أن يتم تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) وشاء الله أن يبلغ الإنسان هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد،وما ينفق من الطاقة، وما يصبر على الابتلاء، في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم، وفي دفع الفساد عن نفسه وعن الحياة من حوله: (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون).
هذا المنهج الإلهي.. لا يتحقق في الأرض وفي دنيا الناس بمجرد تنزله من عند الله، لا يتحقق بكلمة كن الالهية مباشرة لخطة تنزله، ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، ولا يتحقق بالقهر الإلهي، على نحو ما يمضي ناموسه في دورة الفلك، وسير الكواكب،إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر تؤمن به إيماناً كاملاً وتستقيم عليه ـ بقدر طاقتها ـ وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك.
فإرادة الله هي الفاعلة في النهاية وبدونها لا يبلغ الإنسان بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها ويستمد منها ويجاهد في الله ليبلغ رضاه...» [ سيد قطب. هذا الدين. بإيجاز، بيروت، دار القرآن، الاتحاد الإسلامى العالمي للمنظمات الطلابية، 1389 هـ / 1978 م، ص 4 ـ 13.].
4 ـ النقل والعقل صنوان لا ينفكان ورفيقا درب لا يفترقان:
النقل والعقل، وإن شئت القرآن والعقل، هما صنوان، وهل يمكن أن يكونا غير ذلك؟ إن فك الارتباط بينهما غير ممكن، فالقرآن لا يكتفي بنفسه دون عقل، والعقل لا يقوم وحده بدون نص، لابد من الاثنين الروح والجسد، ما مقدار حاجة كل لكل، مئة بالمئة، حاجة الفناء أو البقاء، لا روح بلا جسد ولا جسد بلا روح، فالنقل ينزل على العقل فيتفاعل العقل معه ويبدع الفهم، ولولا هذا الفهم لما جاء النقل أصلاً، إذاً من يجلّي كنوز النقل إنه العقل، إياك أن تظن أن العقل عدو النقل، كما يظن بعض الناس من دهماء المسلمين، إذا ذكر العقل العقل إشمأز واستعاذ بالله وظن أننا فلاسفة، وظننا معتزلة أو مبتدعين أو أن الغزو الثقافي أثر علينا، إن إعلاء شأن العقل لب ديننا، وإن شئت نسرد بعض الآيات، وقد جمع العقل والنقل في آيات. (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)، (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) يبدأ بالنقل وينتهي بالعقل (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) ابتدأ بالكتاب وانتهى بالألباب، هكذا منهج مضطرد (أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) ختمت الآية (وما يتذكر إلا أولو الألباب)، ولذلك بدأ بالكتاب وانتهى بالألباب للمرة العشرين، نفس الظاهرة (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) النقل والعقل، (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون)، (ويريكم آياته لعلكم تعقلون)، (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)، من عدة سور: الأنعام والزخرف والعنكبوت والروم آيات مختلفات، لكن كأنها سبحان الله آية واحدة، صيغة يعقلون فقط (22) مرة، وصيغة تعقلون (49) مرة في ثلاثين سورة، يعني يعقلون بالغيبة، أقل من نصف تعقلون بالخطاب، حتى مجرد الاحصاء له دلالات، تعقلون بالخطاب (49) في ثلاثين سورة، أما في الغائب (22) إذاً تضاعفت السور بصيغة يعقلون عن تعقلون ثلاثة أضعاف عشرة الى ثلاثين سورة، بالخطاب مرتين ونصف تقريباً، ولكن عدد السور ثلاثة أضعاف، لماذا صيغة تعقلون أكثر؟ خطاب مباشر، (أفلا تعقلون)، (لعلكم تعقلون)، أكثر أهمية، إذاً الحقيقة في مناطق لا يكشف عن مخبوئها الا العقل، فلابد أن يبدع العقل ويطلع معاني الآيات، لأن القرآن أمرنا بالتدبر، إذا العقل معطل ليس له دور (كتاب أنزلناه مبارك ليدبّرَوا آياته)و (وليتذكر أولو الألباب) لماذا؟ وهو ما معنى تدبر: هو إعمال العقل، هذا الموضوع قديم، فلماذا نبحثه، حيث إن هذه الأمور البديهية ؟ لأن المسلمين في تخلف ومحتاجون أن نؤسس في عقولهم البدهيات، يعني قوله تعالى في قصة يوسف أو في قصة آدم، أو في أي موضوع من الموضوعات، في قصة آدم مثلاً، قوله تعالى (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)كيف عرف الملائكة أن آدم أو ذريته سيخرج منه هذا، هل القرآن أعطانا تفسيراً؟ ما الدليل إن كان هناك مخلوقات سابقة ؟ لا يوجد دليل، هذا خبط في البيداء على العمى، إذاً لن نفهم النقل إلا إذا أعملنا العقل، قوله تعالى (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) إذا من أين علموا أن آدم سيفسد فيها؟ الله أخبرهم ولكن القرآن لم يخبرنا، القرآن قال (إني جاعل في الأرض خليفة)، فالقرآن عندما خبرنا اقتصر فيما أخبر على خليفة، والقرآن عندما أخبرهم رب العالمين، كلمهم عن مسألتين: (إني جاعل في الارض خليفة) و (من يفسد)، لذلك إكراماً لنا غض الطرف عن ومن يفسد، فلما استفسر الملائكة غضوا الطرف عن خليفة، وركزوا على من يفسد.
هما خبران وليس واحداً، القرآن أخبرنا خبراً والله تعالى أخبر ملائكته، لما روي لنا الخبر إكراماً لنا قال (إني جاعل في الارض خليفة) فقط، لكن الخبر لما صدر من الله الى الملائكة أخبرهم أمرين، من أين جئنا بهذا الكلام؟ من الآيات التي تلي (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) مثل آخر، إبليس أكان مأموراً بالسجود أم لا؟ يا ملائكة اسجدوا لآدم، يقول أنا لست من الملائكة، (أو كما تقول بعض التفاسير أن إبليس من الملائكة) انظر للآية مرة أخرى (وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم) (قال يا إبليس ما منعك)، الصحيح أن القرآن قال إنه كان من الجن ففسق عن امر ربه، لكن هل كان مأموراً بالسجود؟ نعم مئة بالمئة، نصاً لا ضمناً، إذاً لما صدر الأمر (وإذ قال ربك للملائكة ولإبليس اسجدوا) ولكن احتقاراً لإبليس، حين يتدبر العقل في النقل يكتشف المتشابه، نريد أن نقتنع بالبديهية، فهل البديهية أصبحت بديهية؟
قال الأستاذ العقاد في (التفكير فريضة إسلامية): «العقل الذي يخاطبه الاسلام هو الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر، ويحسن الإدكار والروية، وإن هو العقل الذي يقابله الجمود والفوت والضلال، وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون. وأكبر الموانع في سبيل العقل: عبادة السلف التي تسمى بالعرف، والاقتداء الأعمى باصحاب السلطة الدينية والخوف المهيمن لأصحاب السلطة الدنيوية.
والعلم في الإسلام يتناول كل موجود، وكل ما يوجد، فمن الواجب أن يعلم، فهو علم أعم من العلم الذي يراد لأداء الفرائض والشعائر. كل ما نراه (في الكون) ونكرر رؤيته فهو معجزة تدعو الى العجب.. ولكنها المعجزة التي يعمل العقل لفهمها وليست هي المعجزة التي تبطل عمل العقل... والإسلام دين المعجزات التي يراها العقل حيثما نظر، وليس بدين المعجزات التي تكف العقل عن الرؤية وتضطره بالإفحام القاهر الى التسليم. فالمعجزة التي تتجه الى العقل موجودة يلتقي بها من يريدها حيثما التفت اليها، ولكنها غير المعجزة التي تقنع من لا يقتنع بتفكيره... ومن لم يقتنع بتفكيره فلن تهديه المعجزة من ضلال. والإسلام دين المعجزة التي تفحم العقل ولا تقنعه، لأن دين العقل والتفكير فريضة فيه.. والإسلام يضع المعجزة في موضعها من التفكير، ومن الاعتقاد، فهي ممكنة لا استحالة فيها على الخالق المبدع لكل شيء، ولكنها لا تهدي من لم تكن له هداية من بصيرته واستقامة تفكيره...»[ العقاد، عباس محمود. التفكير فريضة إسلامية، بيروت، دار الكتاب العربي، ط 2، 1969، ص 20 ـ 107 بإيجاز.]
5 ـ القرآن والمعرفة الإنسانية مرتبطان:
كلما اتسعت دائرة المعارف الإنسانية، اتسعت دائرة فهم القرآن، ولذلك لا يكفي فهم المعاني اللغوية من القواميس، بمعزل عن المعاني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية، (وأمرهم شورى بينهم) هل استفادت الإنسانية من هذا الحكم؟ والتجاوزات فيها، فقنعت وشرعت وطورت، لا أدري، فالأمة اتسعت دائرة المعارف فيها، وكلما اطلعنا على الحضارات والثقافات زاد فهمنا في القرآن الكريم، فسيد قطب ـ رحمه الله ـ صاحب الظلال، قال: أخذت من عمري (40) وأنا أقرأ الجاهلية، ولست نادماً، بالنسبة له الاطلاع على الجاهلية مفيد، وليس سلبياً من السلبيات، ومحمد قطب قرأ عن التربية عند الغربيين، ثم وظف ما قرأ في تفسير القرآن، فلو لم يكن قد قرأ التربية عند الآخرين لربما لم ينفتح له من آفاق المعنى القرآني ما انفتح، لا نريد أن نتقوقع ونقفل علينا النوافذ والأبواب، لقد شرّع القرآن هذه النوافذ لكنه وضع عليها شبكاً، يحميها من كل فساد، ليس كل ما عند الآخرين فاسد، الحضارة الغربية فاسدة، لكن هل كل شيء فاسد، إن في الحضارة الغربية علماً لا يمكن أن نصل اليه.
القرآن والكون كتابان متضافران، وآيات القرآن أرشدت الى آيات الأكوان، فهي آيات ترشد الى آيات، مثل فاتحة الجاثية، فيها آيات ترشد الى آيات، فمثلاً في سورة الجاثية (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين)، بدأ بالكتاب ثم انتقل للكتاب، أي كتاب؟ الكتاب المنظور أي الكون، وسمّاه آيات، ثم (وفي خلقكم وما يبث فيها من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون، ويل لكل أفّاك أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم، وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين، من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم، هذا هدى والذين كفروا بأيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم، الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) هل تلاحظون دمج الآيات دمجاً بلا فك ارتباط، وكل آية آيات، آيات القرآن وآيات الكون، ولذلك (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
قال صاحب كتاب «نظرات في القرآن» القرآن جعل النظر في الكون مصدراً من مصادر الإيمان، وأعطى النظر حرية واسعة في البحث والنظر والتأمل...[ حسن البنا. نظرات في القرآن، جمع أحمد عيسى عاشور، القاهرة، دار الاعتصام 1399 هـ / 1979 م، ص 27.
]
6 ـ القرآن قائم على التناسق:
إذ التناسق أحد دلائل الربانية أخذاً من قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، والتناسق ألوان وفنون، هذا العنوان فقط يريد كتابين الى ثلاثة، فالتناسق كما قلنا لا يقل عن عشرين لوناً من الألوان وعشرين فناً من الفنون، تأخذ بعضها برقاب بعض، خذوا ما قاله سيد قطب (التناسق بين المعنى المراد التعبير عنه واللفظ المؤدي لهذا المعنى) أنا إن أردت أن أوصل معنى فإنني أعبر بلفظ يوصل هذا المعنى (وإن منكم لمن ليبطئن) الكلمة مربوطة، وكذلك (اثّاقلتم الى الأرض)(ويسكن الريّح فيظللن)، فهذا أسميناه تناسقاً بين المعنى المُراد واللفظ المؤدي لهذا المعنى، خذوا مثلاً هذا اللون والذي نسميه التناسق في الإيقاع الموسيقي وهذا اللون هو موضوع كتاب قائم بذاته، وهناك كتب عديدة، منها «الإعجاز الموسيقي في القرآن» للدكتور رمضان عبد التواب، (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) كلّها حروف مد، فكل الكلمات كان بها مد حتى تتناسق، (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى...)(والضحى، والليل إذا سجى، ما ودّعك ربك وما قلى) (كهيعص، ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداءً خفياً قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً)... الخ، كلها إيقاع رخي ندي، (طسم، تلك آيات الكتاب المبين، لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين)، (فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث) هنا اختلف الجرس لماذا؟ لأن طبيعة الكلام اختلفت، الأول كله امتنان، فالآيات السابقة كلها نِعَمْ وهذه الآية أوامر، فأصبح لدينا الآن .........[ سقط من المقال بقية الكلام عن هذا العنصر ]
7 ـ القرآن دعوة مفتوحة للتدبر وليس عدو القرآن إعمال الفكر:
إنما عدوه الجهل، القرآن أكثر من مرة دعانا الى التدبر، أي اعمال الفكر، لقد قلنا مراراً: إن بعض الأصحاب وبعض التابعين كان يقوم الليل يردد آية، ما الذي يفعله بها؟ كان يقلب النظر في هذه الآية، (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) فكما قلنا من قبل ان التدبر حيث ورد في القرآن ورد بصيغة الجمع، التدبر جماعي والتلاوة فردية (ورتل القرآن ترتيلا). (وآن أتلو القرآن) (إقرأ) ...الخ، فلاذا التلاوة فردية والتدبر جماعي؟ التدبر عمل مؤسسي; الجانب النفسي والعملي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعلمي، فتتكامل الرؤى فيكون هناك تدبر للقرآن الكريم، ولذلك لأمر ما جاء أمر التدبر بصيغة الجمع وهكذا... الخ.
8 ـ القرآن كتاب الحكمة:
القرآن كتاب حكيم نزل من رب حكيم في ليلة فيها يُفرق كل أمر حكيم على رسول حكيم لينشئ أمة حكيمة، فالسورة كما ترون محاطة بالحكمة من كل جوانبها، والله تعالى امتن على المؤمنين بانه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين، (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)، وحتى يضيّع البعض بركة الفهم قالوا: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والسنة، بهذه الطريقة نكون قد قضينا على طريقة الفهم تماماً، وقطعنا دابره نهائياً.هل المراد بالحكمة في الآية في سورة الأحزاب السنة؟ قولاً واحداً لا، نحن قلنا في الفهم: نريد أن نرجع للغة العربية، فهل في اللغة العربية أن الحكمة هي السنة، قالها واحد وقلّده البقية، لا بد ان نرجع الى القاموس أو لا أن نقول: قال فلان أو قال علاّن، (ولقد آتينا داود الحكمة)أهذه سنة أيضاً، انما الحكمة أحسنية الفهم. إذن الكتاب والحكمة (ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب)، الحكمة الفهم والفهم المناسب للنص الذي يضع الأمور في نصابها ومعاييرها... الخ.
فكنوز هذا الكتاب لن تتجلى إلا إذا ارتقى العقل المسلم الى مرتبة الحكمة، التي هي مرتبة الإحسان أن نصل بالشيء الى ذروته، لكن كتاب عظيم وأمة متخلفة كيف يصير ذلك ؟ كانت النصوص توضع بين أيدي أناس عقلاء. أصبحت النصوص الآن توضع بين أيدي اناس حمقى، فإسلامنا مظلوم منا وبيدنا أشد والله من ظلمه على يد الغربيين والمستشرقين واليهود والنصارى، ويمكن بحسن نية (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)، عندنا نص مستقيم ولكن عقل أعوج ما الفائدة؟ فمثل ذلك مثل العود عندما نضعه في الماء ينكسر، والنص المستقيم عندما تضعه في العقل الأعوج ينكسر النص ويخرج هذا النص أعوجاً، وأحياناً يخرج نقيض مراده بالضبط، إذن لا بد أن يُقرأ الكتاب بالحكمة، يرتقي العقل المسلم الى مرتبة الحكمة التي هي قمة الارتقاء العقلي، وقمة التطور الفكري التي هي مرتبة الحكمة وأحسنية الفهم، وللارتقاء بالعقل المسلم يحتاج الى جهد منظم ومبرمج، نحن حتى الآن لا نفهم عمل الفريق في الجهد العقلي، فهرسة السنة لم يشتغل بها المسلمون بل اشتغل بها الكفار والمستشرقون، المسلمون لا يعرفون عمل الفريق، أما الكفار فيعرفون كيف يعمل العقل!! إذن لا يوجد عندنا العقل الجماعي ولا العمل الجماعي ولا التفكير الكلي ولا التفكير التركيبي، عندنا التفكير الذرّي، طبعاً لا يعني ذلك أن الله خلق العقل العربي متخلفاً، لكن البيئة لها دور في تشكيل العقل; فالإنسان ابن بيئته، ويتنفس المفاهيم منها، فلما كانت بيئتنا متخلفة عقلياً وفكرياً كنا كلنا كذلك، فتجد أن المتدينيين والشيوعيين والليبراليين والوطنيين متخلفون، المسلم والشيوعي والحكومي والليبرالي كلهم متعصبون، المسلم والشيوعي والحاكم كلهم فرديون، حتى المسلمون عندما يعملون عملاً كل يقول أنا، مع أن ديننا قائم على غير هذا، ديننا شوري، لكن أين العمل الإسلامي الشوري ؟ لا بد أن نرتقي، ولن نرتقي بالبيئة ما لم نرتق بالعقل، ولن نغير البيئة إلا إذا تغير العقل والعكس صحيح.
قال في المنار: فسروا الكتاب بالقرآن والحكمة بالسنة، والثاني غير مسلّم على عمومه، أما الأول فله وجه، وعليه يكون المراد بالآيات دلائل العقائد وبراهينها، وفيه وجه ثان وهو أن المراد بالكتاب مصدر كتب يقال كتب كتاباً وكتابة، وإنما الدعاء لأمة أمّية لابد في اصلاحها وتهذيبها من تعليمها الكتابة، أما الحكمة فهي في كل شيء مفرقة سره وفائدته والمراد بها: اسرار الاحكام الدينية والشرائع ومقاصدها، وقد بين رسول الله ذلك بسيرته في المسلمين; فان أرادوا من السنة هذا المعنى في تفسير الحكمة فهو مسلّم، وهو الذي كان يفهم من اسمها في الصدر الأول، وان ارادوا بالسنة ما يفسرها به أهل الاصول والمحدثون فلا تصح على اطلاقها. فالحكمة له هذا المعنى، ولكن الذي يتفقه في الدين ويفهم اسراره ومقاصده يصح ان يقال: إنه أوتي الحكمة التي قال الله فيها (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً). ولن يكون أحد داخلاً في دعوة إبراهيم حتى يقبل تعليم الحكمة من هذا النبي الكريم. علم ابراهيم واسماعيل عليه السلام ان تعليم الكتاب والحكمة لا يكون في اصلاح الامم واسعادها بل لابد أن يقرن التعليم بالتربية على الفضائل، والحمل على الاعمال الصالحة بحسن الاسوة والسياسة فقالا: (ويزكيهم) أي يطهر أنفسهم من الأخلاق الذميمة [ تفسير المنار، بيروت، دار المعرفة، ج 1، ص 472 ـ 473.].
وأقول أن الحكمة وردت في عشرين موضعاً في القرآن في (11) سورة (11) موضعاً منها في قصص أنبياء سابقين أو الحكمة مطلقة، كما في حكمة بالغة فما تغن النذر. وورد وصف (حكيم) في (81) مرة في (40) سورة [ المعجم المفهرس مادة حكم.].
وقد نقل الشيخ سعيد حوى في تفسيره بعض معاني الحكمة: «ويشهد على أن الحكمة: العلم بكتاب الله وصف الله عز وجل كتابه، بأنه حكيم (والقرآن الحكيم)، وقال ابراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. وقال مالك: وانينفع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله. وقال مجاهد: الحكمة: الاصابة في القول. وقال ابو العالية: الحكمة: خشية الله فان خشية الله رأس كل كلمة، قال ابن كثير: «والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، ولكن لاتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع...» [ سعيد حوى. الاساس في التفسير، القاهرة، دار السلام، 1405 هـ / 1985 م،ج 1، ص 625.].
كيف نغير الحال وكيف نبدأ ونكسر الجدلية هذه؟ وذلك بمبادرات من أشخاص قياديين، يستطيعون أن يطرحوا طروحات على العقل والبيئة فتبدأ البيئة تتفاعل مع طروحاته العقلية فمن هنا نبدأ، من قيادة فكرية نبدأ، نحن نحلم بأن يأتي خليفة، ها هو سيدنا موسى وهل أحسن منه خليفة ؟ لم يَنْتُج معه أي شيء وقال بعد نهاية المطاف (رب إني لا أملك الا نفسي وأخي) هذا بعد أربعين أو خمسين سنة في ميدان الدعوة والاصلاح، بعد كل هذا الجهد المتطاول بماذا خرج ؟ لا شيء، فبذلك نرد على إخواننا الذين يظنون ان حل المشكلة في شخص اسمه خليفة، الخليفة مهم لكن أيضاً بيئة تتفاعل مع الخليفة، نحن الآن من أين نبدأ ؟ واذا لم يأتِ خليفة نبدأ من طرح فكري، هذا الطرح الفكري يبدأ يتفاعل معه الناس فيغيرون البيئة من غير التعصب، نريد أن نغير الفردية والتعسف والهجوم على الأمور بلا انضاج ولا روية، نريد أن نغير اللاعقلانية الى العقلانية، وما لم نغير نحن الدعاة بأنفسنا فلا نحلم بأن يغير عامة الناس إذا كنا نحن طليعة الشعب كما نقول فنبدأ نحن التغيير. فاقرأوا القرآن وسترون أنه دائماً (الكتاب والحكمة) مع الانبياء، مثل داود محمد وهكذا دائماً مقترنين مع بعض، مشكلة المسلمين اليوم أنهم يقرأون الكتاب بلا حكمة فنقع في وقعات مميتة قاتلة.
9 ـ الكتاب وحال الأمة:
الأمم في حالة المد تفهم شيئاً وفي حالة الجزر تفهم غيره; ربما نقيض الفهم الصحيح، نصوص الكتاب كما قلنا محايدة، يأتي العقل هو الذي يحدد مسار الفهم، النص في محله. تتذكرون جميعاً كيف فهم المسلمون قوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة) الصحابة فهموا الآية; لان الأمة كانت في حالة مد لكن أمة في حالة الجزر، فإذن لا يوجد فك ارتباط بين فهم العلماء وبين حال الأمة، لكن لاحظوا العلماء كيف أنزلوا النصوص على الواقع، تنزيل مريض مشوّه; لأن الأمة في حالة الجزر، فالحكّام إن أرادوا السّلم فنقوم بتفصيل الآيات وإن أرادوا الحرب فنغيّر الآيات حسب مرادهم، إذا أرادوا السلام (وإن جنحوا للسّلم...) إذا أرادوا أن يحاربوا (انفروا...) ان النص لا علاقة له بهذا، ولكن واقعنا مريض.
نريد أن نحلّق فوق هذا الواقع المتخلّف، لأن نصّنا عال وواقعنا رديء فلا بد لنا من أن نخرج من جاذبية الواقع الرديء للأمة الى أفق النص القرآني العالي والرحب.
10 ـ النبي لم يفسّر إلا النزر اليسير; ليظل المعنى متسعاً لكل تطورات العصور:
ما الذي فسّره النبي من القرآن ؟ أنا أزعم أنه لم يتجاوز العشرات، ولذلك قال أحمد بن حنبل: ثلاثة لا أصل لها: التفسير والمغازي والسّيَر، أليس باستطاعة النبي أن يفسر (استوى) وأن يفسر كلمة (الميزان) بلى إنه قادر على ذلك، فهل فعلها النبي؟ لا، لماذا؟ إن معنى أن يفسّر النبي النص أن العقل توقف، ونحن لا نريد أن يتوقف العقل نريد أن يبقى العقل في حالة تطور محمد رشيد رضا قال كلاماً في التفسير جميلاً جداً، هل انتهى التفسير؟ بالطبع لا، ولذلك يجب أن يكون تفسير لكل عصر، والتفسير مرآة العصر، تقرأ به قضايا العصر، ابن كثير فسّر، لزمانه، الطبري فسّر، لزمانه، الزمخشري فسّر لزمانه، لا يوجد عقل خارق للقرون.
النبي فسّر القرآن عملياً، لكنه لم يفسّر القرآن لغوياً، وإذا أردنا أن ندقق ونحقق قد نجد عشرة أحاديث في التفسير وقد لا نجد، فأقول: إن كتاب التفسير في البخاري يحتاج الى مراجعة، وهذا ليس تعالياً على البخاري; لكن الحق أحق وأحبّ علينا من كل واحد. فلحكمة بالغة لم يفسّر النبي كل القرآن; وذلك ليبدع العقل على مر العصور، ويبقى في حالة مد وإبداع.
11 ـ الوحدة الموضوعية:
يجب أن تعرف أن كل سورة لها موضوع وبلا تكلّف، كيف يقبل العقل المسلم أن يُقفل باب الاجتهاد؟! أكان حجتهم بذلك حتى لا يدخل من ليس بأهل للاجتهاد فقفله أفضل، فوالله لأن يدخل أناس باب الاجتهاد ويخطئوا خير من أن يقفل. نعني بالوحدة الموضوعية أن كل سورة لها وحدة موضوع، من أول آية الى آخر آية، واقرأ في الظلال وغير الظلال، محمد قطب أعطى نماذج على ذلك في كتابه «دراسات قرآنية» فقال على سبيل المثال سورة البقرة موضوعها تربية أمة لا إله إلا الله، سورة آل عمران موضوعها معركة أمة لا إله إلا الله، فمن أول آية الى آخر آية الكلام صحيح باتساق، المعركة الفكرية.
والمعركة المادية، المعركة مع اليهود والمشركين والمنافقين والنصارى، إذن معركة أمة لا إله إلا الله معركة ضد كل أعداء لا إله إلا الله، وعلى الصعيدين المادي والفكري، هذه سورة آل عمران، معركة نفسية ثقافية فكرية دينية عقدية اجتماعية ومادية ميدانية ومع اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، موضوع واحد، لن تخرج السورة عن هذا الإطار ننشأ.
نأتي الى سورة النساء لماذا فيها جهاد؟ نحن نعلم أن السورة تتكلم عن أحكام النساء، ولكن لماذا يوجد الجهاد؟ نحن عندنا نظام اجتماعي أو لا يحتاج هذا النظام الى نظام عسكري يحميه، إذن النظام في سورة النساء نظام اجتماعي وهذا النظام لن يستقر ما لم نحميه بجهاد، ان آيات الجهاد منسجمة تماماً، ولذلك لاحظ كيفية ورود آيات الجهاد (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء). إذن لكل سورة موضوع، ولو سألنا ما هو موضوع سورة القلم على سبيل المثال؟ موضوع هذه السورة هو النبي ونفي تهمة الجنون، (ن) النبي (ما انت بنعمة ربك بمجنون) النبي وبالذات نفي تهمة الجنون، تعالوا معي الى نهاية السورة (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون انه لمجنون) هناك قاعدة في السور القرآنية: دائماً عطف البدء على الختام، حتى يؤكد لك ان كل سورة فيها موضوع، فمثلاً سورة الاسراء بدأت بالتسبيح وانتهت بالتسبيح، سورة الاحزاب (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) وفي منتصف السورة تقريباً (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) وأول السورة (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً)نفس النص، إذن هناك وحدة موضوع، وعندنا شيء نسمّيه عطف البدء على الختام، (ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً) وفي أولها (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً...) تسبيح في البدء والختام.
في سورة الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وآخرها (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم) حتى يقول لك ان الموضوع واحد والبدء والختام خيط واحد، وفي سورة البقرة (الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب...) وفي الختام (آمن الرسول...): أول البقرة فعل مضارع، وآخر البقرة فعل ماض، في البداية (الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) آخرها (آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن...)انظروا يؤمنون مرتين وآمن مرتين بالعدد، اذن خيط واحد أوله وآخره متشابه، فلماذا في أولها مضارع وفي آخرها ماض؟ المضارع له أهداف، وهذه الأهداف أنجزت واصبحت فعلاً ماضياً.
قال في الظلال: «يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة شخصية مميزة، شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس، ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة الى محور خاص، ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص، إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة، وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً، ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور...» [ سيد قطب. في ظلال القرآن، بيروت، دار احياء التراث العربي، ط 7، 1391 هـ / 1971 م، ج 1 ص 4،.]
اياكم ومقولة (ما ترك الأوائل للأواخر) هذه قاضية على العقل ! هل ترك الأوائل للأواخر؟ نعم، كون أن الزمخشري لم يقل بالوحدة الموضوعية لا يعني أن لا أقول بالوحدة الموضوعية، ومن ثم الجماعة كانوا مشغولين بالتفكيك، المنهج التفكيكي أي أخذ الكلمة واستخراج البلاغة وكل شيء منها، الآن نأخذ المنهج التركيبي، أشاروا إشارات كما قال قطب كان النبع على ضربة معول لكنه لم يضربه، فترك النبع ورمى الفأس وذهب. مع أن النبع كان على ضربة معول لكنه لم يضربه. فالزمخشري عظيم وفكر خارق، لكن مشغول بالتفسير التحليلي، أنجز إنجازاً مهماً، ومهمتنا نحن أن نطور.
12 ـ لا تُفسر الكلمة او النص الجزئي بمعزل عن السياق:
فقد يكون للمفردة مفردة معنى وفي السياق معنى آخر.
13 ـ الاستقراء للفظة في القرآن يعطيك من المعاني ما لا يعطي تفسير النص بمعزل عن هذا الاستقراء:
طبعاً الاستقراء لا يكون ناقصاً. (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) (آنس من جانب الطور ناراً) (ولا مستأنسين لحديث ان ذلكم كان يؤذي النبي) (حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) أجمع كل مادة أنس وأستأنس ومستأنسين وأفكر فيها مجتمعة، كلمة الشكر كذلك، الإنسان كذلك، كل ذلك يساعدك في التصور، فرق بين كلمة الإنسان عن الناس، اجمع كلمة الناس تجدها أنها واردة في التجمع البشري، الإنسان المفرد (يا أيها الإنسان ما غرك بربك) (يا أيها الناس) تأتي دائماً لما يحتاج الى واقع اجتماعي الى منظومة من البشر بعكس يا أيها الإنسان، هذا العمل بصفة فردية، وهكذا...
14 ـ لا يؤتى الى القرآن بأحكام مسبقة:
سواءً أكانت أحكاماً فقهية، أم عقدية، أم فلسفية... الخ. لكن يؤتى القرآن بثقافة وعقل عنده دُربة بالعربية ومسلح بالبلاغة.
15 ـ لا يفسر القرآن بمعزل عن روح القرآن وروح الإسلام.
16 ـ في القرآن آيات محكمات وأُخَرُ متشابهات:
والمتشابه من الآيات يُرد الى المحكمات، وفي النهاية لا متشابه في القرآن. ) انتهى البحث .