سعود العريفي
New member
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
المقصود بالإعجاز العلمي هو الموافقة الحاصلة بين المكتشفات العلمية التي لم تكن معلومة في زمن النبوة ولا قبله وبين القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة، فإن هذه الموافقة شاهدة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يك ينطق عن الهوى، وأنه مرسل من ربه، وهذه الشهادة تتحقق على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن التطور الهائل الذي جرى في العلوم التجريبية وما تضمنه من اكتشافات علمية عظيمة في مختلف التخصصات لم يتعارض أيٌ من الحقائق التي قررها مع أيٍّ من دلالات النصوص الصريحة في القرآن والسنة، رغم أنهما اشتملا على إشارات كثيرة إلى المخلوقات بأنواعها، ورغم أن المرحلة الزمنية التي ظهرت فيها النبوة كانت مليئة بالتصورات الخرافية للكون والحياة التي أبطلها العلم الحديث.
وهذا الوجه محل اتفاق بين المسلمين، وهو داخل في عموم قوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، وإنما يعترض عليه غير المسلمين من جهة تحميل بعض ظواهر القرآن والسنة ما ظنوه مصادما للعلم الحديث، مستغلين أخطاء بعض العلماء في فهم تلك النصوص.
الوجه الثاني: أن المنهج العلمي القرآني القائم على الاستدلال والنظر والتأمل والاعتبار وإعمال العقل ونبذ التعصب والتقليد الأعمى ومحاربة الخرافة والجهل هو نفس المنهج الذي أثمر هذه الثورة العلمية الهائلة، وإنما ولدت هذه الثورة لدى غير المسلمين بسبب إهمالهم لهذا المنهج في العصور المتأخرة، كما أن تأثير هذا المنهج على أوروبا كان له الفضل السابق في التمهيد لخروج هذه الثورة.
وهذا الوجه أيضا محل اتفاق بين الباحثين المنصفين، وإن كان غير متداول بين عامة المثقفين؛ لدقته وتعلقه بالناحية المنهجية التي يختص بها قلة من العلماء والباحثين.
الوجه الثالث: الموافقة التفصيلية بين المكتشفات العلمية الحديثة والنصوص القرآنية والنبوية، بأن تكون الآية أو الحديث مشيرا إلى حقيقة علمية جديدة بعينها.
وعلى هذا الوجه غلب إطلاق مصطلح "الإعجاز العلمي" حتى لا يكاد يتصور بدونه، وهو وجه مختلف فيه؛ لتلازمه مع تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية بتلك الحقائق العلمية المكتشفة، وهي مسألة ثار الخلاف فيها بين علماء المسلمين منذ ظهور تلك المكتشفات.
فرأى بعضهم ضرورة المبادرة إلى الربط بين هذه المكتشفات والنصوص القرآنية والنبوية، وأيدوا رأيهم هذا بالحجج التالية:
1- أن القرآن والسنة اشتملا على إشارات كثيرة إلى خلق الإنسان والحيوان والكون وسائر المخلوقات، في عبارات عامة يمكن أن تشمل الحقائق العلمية المكتشفة.
2- أن دلائل النبوة الأخرى مرتبط تأثيرها بزمنها، فالمعجزات الحسية لا تشاهد الآن، وإعجاز القرآن البياني لم يعد مستوعبا من أكثر المسلمين فضلا عن غيرهم، وإذا كانت المعجزات تتناسب مع روح العصر فعصرنا هذا عصر العلم التجريـبي، فناسب أن تكون معجزته علمية.
3- أن في هذا النهج إفحاما للملحدين بنفس الحجة التي ظنوها معارضة للدين.
4- أن في هذا التوجه تأكيدا على أن الإسلام دين العلم والتقدم والمعرفة.
5- أن في هذا حدا من افتتان شباب المسلمين بالثقافة الغربية المدلة بالمنهج العلمي.
6- أن الله تعالى قد هدى بسبب الإعجاز المبني على التفسير العلمي فئاما من الناس إلى الإسلام، وزاد في يقين آخرين، والشيء يُعرف بأثره.
ورأى آخرون خطورة هذا التوجه على الدين نفسه، واعترضوا على الحجج السابقة بما يلي:
1- أن القرآن لم ينـزل لشرح العلوم التجريبية، وإنما هو كتاب هداية في العلوم الإلهية، فسياق الآيات التي تتحدث عن المخلوقات غرضه غير ما يقرره أصحاب التفسير العلمي، وهكذا السنة النبوية.
2- أن في هذا اللون من التفسير تحميلا لسياق القرآن وألفاظه ما لا تحتمل، إلا من جهة التأويل المتكلف الذي لا تسيغه اللغة في الكلام الفصيح البليغ، فكيف بمعجز الفصحاء والبلغاء؟!.
3- أن الحقائق العلمية المحمّلة لآيات القرآن إنما حُكم بقطعيتها في ضوء معطيات قابلة للتطور والتبدل بحسب ما يستجد من وسائل إدراك معِينة للحواس، ووسائلِ استقراء وتأمل ومقارنة معِينة للقياس، فجزْم العلماء التجريبين بهذه الحقائق لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه يقينيات من جنس ما يعرفه علماء العقائد، ويعتمدون فيه على أوليات فطرية وبدهيات عقلية.
4- أن كثيرا من المكتشفات العلمية المزعومة في حقيقتها غير مكتشفات، بل معلومات معروفة قديما للأطباء والفلاسفة والمعتنين بالعلوم الطبيعية، وإنما زادها المستكشفون دقة وتحديدا وتأكيدا وبرهنة بما فُتح عليهم من الآلات المعِينة للحواس المدركة، ووسائل التواصل الذي يتيح الاطلاع على ما أدركه الآخرون واكتشفوه، لكن جرى الوهم بأن كل ما عند الغرب مكتشف بسبب التقصير في الاطلاع على جهود السابقين، وأيسر طريقة للوقوف على ذلك تتبع ما ذكره المفسرون - وخصوصا الفخر الرازي- والشراح قديما عند كلامهم عن النصوص المستشهد بها في الإعجاز العلمي.
5- أن ما يذكره المنتصرون للتفسير العلمي من مبررات ومصالح ودواعٍ وإعجاز يتحقق بالمقام السلبي في هذا الباب: وهو أن القرآن العزيز على كثرة ما فيه من ذكر الظواهر الكونية وأنواع المخلوقات، وعلى أنه ظهر في مرحلة زمنية مليئة بالخرافات والأساطير المصادمة للعقل والعلم، مع ذلك كله لم تنهض واحدة من الحقائق العلمية المكتشفة حديثا على كثرتها للقدح في شيء مما صرح به القرآن أو أشار إليه.
6- أن ادعاء خفاء الوجه الصحيح للآيات المنبهة على المكتشفات العلمية على الأقدمين يكذبه سياق الآيات الصريح في مخاطبة أهل ذلك الزمان بما يفهمونه، والاحتجاج عليهم بما يعرفونه، كما في قوله تعالى:{أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما} وقوله:{أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}، وقوله:{إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم} أفتراه يبين لهم ما لا يفهمه على الوجه الصحيح إلا من جاء بعدهم بأحقاب، أو يحتج عليهم في إثبات الربوبية والبعث بما لا يعرفونه إلا من الوحي؟!.
7- أن العرب الذين خوطبوا بجميع ما في القرآن منذ نزوله لم يفهموا تلك المعاني المدّعاة في التفسير العلمي، وإلا لزم أن تظهر هذه المكتشفات على أيديهم منذ فهموها من القرآن، وإذا كانت البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال لم يجز أن تكون هذه المعاني مرادة من الآيات حين أنزلت، وإذا لم تكن مرادة آنذاك، فما الدليل على أنها مرادة في هذا الزمان، هذا على فرض احتمال القرآن لها.
أما ادعاء أنها جميعا مرادة جزما للمتكلم، كل منها في زمانه، وأنه أراد بكلامه جميع محامله السائغة على وجه التعيين فمن أعجب العجب؛ لأنه مبني على التسليم بعصمة المتكلم وكمال علمه، وذلك هو معنى كون القرآن كلام الله، وهي القضية المطلوب إثباتها بالإعجاز، فجعلها من مقدمات الدليل على الإعجاز من الدور الممتنع.
8- أن التمسك بمجرد احتمال القرآن والسنة لهذه المكتشفات يتيح للمكذب التمسك بالاحتمال أيضا في تقرير التعارض بين الدين والعلم، خصوصا وأن كثيرا من النصوص قد أشكلت على العلماء قديما وحديثا، حتى طلبوا لها الحل والتأويل، كنصوص العلو والنـزول وسجود الشمس واستئذانها للطلوع كل يوم وردم يأجوج ومأجوج والتخويف بكسوف الشمس وغيرها كثير، فإذا كنا نعتذر عنها بأن هذا التعارض إنما هو احتمال متوهم، لم يعجز المكذب أن يقول: وكذا الإعجاز المدعى إنما هو احتمال متوهم.
9- أن المطالب العقدية الكبرى لا يصلح الاستدلال لها بالأدلة المظنونة المحتملة، كما قال سبحانه:{وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا}، وذكر عن الكفار قولهم:{إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}.
10- أنه يلزم من التفسير العلمي القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فاته بعض معاني القرآن، أو أنه علمها ولم يعلمها أمته، كما يلزم تجهيل السلف ببعض معاني القرآن، وأن الحق قد يخرج عن مجموعهم.
11- أن الدافع للتفسير العلمي التجريبي للقرآن إنما هو الهزيمة النفسية أمام فتوحات العلم الحديث، وغياب الاستعلاء بالإيمان واليقين من واقع الأمة، وربما أشار إلى ثقة مهزوزة لدى المعتنين به بما تحظى به العقائد الإسلامية من دلائل تقليدية.
12- أن في تسمية هذا إعجازا إشكالا؛ من جهة أن العلم الحديث لم يعجز عن الوصول إلى هذه الحقائق.
13- أن في الإعجاز البياني وغيره من الوجوه اليقينية الصريحة لدلالة القرآن على النبوة وسائر دلائل النبوة المعروفة قديما الكفايةَ والغَناء، ولا يزيدها الزمن إلا رسوخا وقطعية، والعجب كيف تُبرر مزاحمتها بالإعجاز العلمي بحجة تقادم العهد، ثم إذا أبدى منتقدو الإعجاز تخوفهم من تبدّل النظريات العلمية أجيب بأن هذه حقائق علمية ثابتة لا يضرها تطور الزمن، فما باله أضر بدلائل النبوة التقليدية عندهم، فما عادت تفي بمدلولها هذا الزمان، مع أن الإعجاز العلمي التفصيلي لو صح فإنما يدل على النبوة دون تفريق ذاتي بين القرآن والسنة، أما الإعجاز البياني فيزيد بالدلالة على أن القرآن جميعه ليس من قول البشر، كما أن الدلالة فيه سارية في جميع القرآن، بخلاف الإعجاز العلمي لو صح القول به.
14- أن حصول الأثر الحسن ببعض الأدلة المهزوزة لا يزكيها، ولا يمنع من نقدها؛ لأن هذا الأثر إنما يظهر في غير المتخصصين، وهؤلاء سبيلهم الوعظ غالبا، أما العارفون بموارد الأدلة ومصادرها ومناهجها وعيوبها وهم الطائفة الأهم فلا تروج عليهم، ونظير ذلك الأثر الحسن لكثير من الأحاديث الموضوعة في فضائل الأعمال، فهل يسكت عن التنبيه عليها وتحذير الناس منها لئلا يزول هذا الأثر الحسن، على أن الحصيف لن يعدم وسيلة يجمع بها الحسنين.
وبالتأمل في هذه الاعتراضات يظهر أن تقرير الإعجاز العلمي على الوجه الثالث المشهور لا يستقيم إلا في نص كان مسوقا أصلا باعتباره خبرا من أخبار الغيب التي ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها ولا قومه من قبل أن يوحى إليه، فيكون معناه مفهوما تماما للمخاطبين، لكن تصديقه فرع عن إيمانهم بالوحي، فإذا وقع وتحقق، أو انكشفت حقيقته من مصدر آخر غير الوحي موافقا لخبر النبي، انقلب الإخبار به إلى برهان صدق ينضم إلى شواهد النبوة، أما أن يُساق النص أصلا للاحتجاج به على المخاطبين في التوحيد أو البعث، فهذا ما لا يستقيم منهجا كما سبق.
وعلى هذا يكون لقبول دعوى الإعجاز العلمي في نص خمسة شروط:
1- أن يكون النص مفهوم المعنى تماما لمجموع المخاطبين به منذ صدوره.
2- أن يكون المعنى الإعجازي مدلولا متعينا للنص.
3- ألا يكون صدق هذا المعنى ومطابقته للواقع في نفس الأمر معلوما من قبل للمخاطبين.
4- إذا ادعي الإعجاز في حديث نبوي شريف لزم انتفاء احتمال صدوره بظن واجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم.
5- إجماع المختصين على كون هذا الاكتشاف حقيقة علمية ثابتة ثباتا نهائيا يمتنع نقضه، واشتهار ذلك الإجماع عنهم بالتواتر، بحيث تنتفي شبهة التقول عليهم.
فيُردّ بالشرط الأول كل إعجاز علمي يُزعم فيه فوات المعنى الصحيح للآية على من خوطبوا بها أيام التنـزيل، كالذي عبر عنه الدكتور أحمد جمال العمري بقوله: (والذي لا شك فيه أن القرآن العظيم يضم آيات كثيرة لم تُفهم بوضوح إلا بعد أن تقدمت العلوم التجريبية في عصرنا الحاضر...، ومن ثم نقول – على سبيل القطع -: إن كثيرا من آيات القرآن الكريم ستُفهم بصورة أدق وأكمل بعد تقدم العلوم التجريبية أكثر فأكثر) .
ومثاله الإعجاز المدّعى في اكتشاف العلماء كون (المضغة) المذكورة في أطوار خلق الجنين على شكل ما يمضغ وهيئته، ففيها كأثر الأسنان في العلك، لا على قدر ما يُمضغ كما فهم السابقون، بل هي أصغر من قدر اللقمة بكثير .
ومثاله أيضا الإعجاز المدّعى في كون زمن أطوار الجنين الثلاثة مجتمعة = 40، لا 120 كما فهم الأقدمون قاطبة من روايات الحديث، قال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يُختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما، وذلك في تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يُحتاج إليه من الأحكام، في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف .
فمثل هذا لو صح اكتشافه يكون إشكالا في الحديث لا إعجازا !!.
ويُردّ بالشرط الثاني كل إعجاز علمي مبني على معنى محتمَل في الآية، حتى لو التزم صاحبه بصحة المعنى الآخر الذي فهمه السابقون أو بعضهم من الآية؛ لاحتمال أن يكون وحده هو مراد الله تعالى من الآية دون غيره من المعاني المحتملة، وإذا دخل الاحتمال سقط الاستدلال.
ومثال ذلك الإعجاز المدّعى في قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض}[النور]، وأن المراد بها الموج الباطني والموج السطحي ؛ فإن عامة المفسرين على أن المراد بالموج الذي من فوقه موج هو هذه الأمواج المترادفة المتراكبة المتتابعة المتلاطمة، التي يشاهدها مباشرة كل من نظر إلى بحر هائج، فهي مراد للآية قطعا؛ وإلا لم يكن المثل المضروب للكافر مفهوما لمن لا يعرف الموج الباطني.
وهكذا الإعجاز المدّعى في قوله تعالى{كأنما يصّعّد في السماء}؛ وأن المراد بها الضغط الجوي!، مع أن الآية تضرب مثلا ليفهمه السامعون منذ نزلت، وقال بعدها:{قد فصلنا الآيات لقوم يذّكرون}، فليت شعري ما ذا فهموا من الآية إن كان مرادها الضغط الجوي؟ وإن كان ما فهموه حقا وهو أن صدره يضيق عن الإيمان ضيقا معنويا لا حسيا، فيمتنع عليه الإيمان امتناع التصعد في السماء، لم يبق للإعجاز العلمي إلا الاحتمال البعيد المتكلف.
ويُردّ بالشرط الثالث كل إعجاز علمي مبنيٍّ على معنىً كان الناس يعرفون مطابقته للواقع في نفس الأمر قبل تحّدث النبي صلى الله عليه وسلم به.
ومثال ذلك الإعجاز المدّعى في الآيات التي تتحدث عن أطوار خلق الإنسان؛ فإنها ذُكرت في سياق يقتضي معرفة المخاطبين السابقة بحقيقة هذه الأطوار، وهو سياق الاحتجاج بخلق الإنسان أول مرة على إعادة خلقه بعد الموت، سواء قلنا إن قومه علموها من النبوات السابقة أو بالحس، فعلى كلا الوجهين لا تكون برهانا على النبوة وهم يعلمون حقيقتها قبل أن يذكرها لهم.
ومثاله أيضا الإعجاز المدعى في قوله تعالى:{إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}، من جهة أنه يشير إلى حقيقة علمية مكتشفة عن الكلب، وهو أنه ليس له غدد عرقية تذكر كبقية الحيوانات، فلذلك يلهث، فالسؤال هنا: ما الذي زادته الآية عما فهمه الناس قديما عن لهث الكلب؟ أليس ضرب المثل مؤكدا فهمهم التام للمعنى؟ {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}.
ويرد بالشرط الرابع كل إعجاز علمي مدعىً في حديث نبوي ليس في شأن ديننا؛ مما يَحتمل أن يكون مقولا على سبيل الظن والاجتهاد، لا بوحي من الله تعالى.
ومثاله كل إعجاز علمي مدعى في أحاديث طب الأبدان التي لم يرد فيها تصريح بأنها وحي من الله تعالى.
ويرد بالشرط الخامس كل إعجاز علمي لم توثَّق فيه الحقيقة العلمية على وجه يمنع خفاءها والخلاف حولها والمراجعة فيها من العقلاء، ويسوّغ التحدّي بثباتها ويقينيتها على صدق النبوة.
ومثال ذلك ما راج مؤخرا من الإعجاز المدّعى في نصوص عذاب البرزخ، المبني على صوت مسجّل من باطن الأرض يُسمع فيه ما يشبه الصراخ واللغط، وأنه صوت المعذبين في البرزخ، التقطته أجهزة قياس الموجات الصوتية مصادفة.
ومما قد يصلح مثالا لانطباق هذه الشروط قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الذباب: (إن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء)، وإن كان من تردد فيه فإنما هو من قبل تحقق الشرط الخامس؛ فإن المطلوب اشتهار ذلك بقدر شهرة نقل الذباب للأمراض، الذي دأبنا على سماعه والتحذير منه، أما أن يُعتمد فيه على باحث قد يخالفه ألف باحث فلا.
وبعد، فبالتأمل في عامة ما يتداوله المتحمسون للإعجاز العلمي يظهر أنهم لا يراعون هذه الملاحظات المنهجية، وأنه لا يكاد يستقيم لهم مثال صالح للدلالة اليقينية على النبوة، وإنما تصلح عامة أمثلتهم للدلالة على الربوبية، من جهة توسيع مدلول الدعوة القرآنية للتدبر في خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة، بحيث تشمل على وجه العموم التفاصيل الدقيقة المكتشفة، وتلك قضية مغايرة تماما لقضية الإعجاز والدلالة على النبوة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
المقصود بالإعجاز العلمي هو الموافقة الحاصلة بين المكتشفات العلمية التي لم تكن معلومة في زمن النبوة ولا قبله وبين القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة، فإن هذه الموافقة شاهدة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يك ينطق عن الهوى، وأنه مرسل من ربه، وهذه الشهادة تتحقق على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن التطور الهائل الذي جرى في العلوم التجريبية وما تضمنه من اكتشافات علمية عظيمة في مختلف التخصصات لم يتعارض أيٌ من الحقائق التي قررها مع أيٍّ من دلالات النصوص الصريحة في القرآن والسنة، رغم أنهما اشتملا على إشارات كثيرة إلى المخلوقات بأنواعها، ورغم أن المرحلة الزمنية التي ظهرت فيها النبوة كانت مليئة بالتصورات الخرافية للكون والحياة التي أبطلها العلم الحديث.
وهذا الوجه محل اتفاق بين المسلمين، وهو داخل في عموم قوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}، وإنما يعترض عليه غير المسلمين من جهة تحميل بعض ظواهر القرآن والسنة ما ظنوه مصادما للعلم الحديث، مستغلين أخطاء بعض العلماء في فهم تلك النصوص.
الوجه الثاني: أن المنهج العلمي القرآني القائم على الاستدلال والنظر والتأمل والاعتبار وإعمال العقل ونبذ التعصب والتقليد الأعمى ومحاربة الخرافة والجهل هو نفس المنهج الذي أثمر هذه الثورة العلمية الهائلة، وإنما ولدت هذه الثورة لدى غير المسلمين بسبب إهمالهم لهذا المنهج في العصور المتأخرة، كما أن تأثير هذا المنهج على أوروبا كان له الفضل السابق في التمهيد لخروج هذه الثورة.
وهذا الوجه أيضا محل اتفاق بين الباحثين المنصفين، وإن كان غير متداول بين عامة المثقفين؛ لدقته وتعلقه بالناحية المنهجية التي يختص بها قلة من العلماء والباحثين.
الوجه الثالث: الموافقة التفصيلية بين المكتشفات العلمية الحديثة والنصوص القرآنية والنبوية، بأن تكون الآية أو الحديث مشيرا إلى حقيقة علمية جديدة بعينها.
وعلى هذا الوجه غلب إطلاق مصطلح "الإعجاز العلمي" حتى لا يكاد يتصور بدونه، وهو وجه مختلف فيه؛ لتلازمه مع تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية بتلك الحقائق العلمية المكتشفة، وهي مسألة ثار الخلاف فيها بين علماء المسلمين منذ ظهور تلك المكتشفات.
فرأى بعضهم ضرورة المبادرة إلى الربط بين هذه المكتشفات والنصوص القرآنية والنبوية، وأيدوا رأيهم هذا بالحجج التالية:
1- أن القرآن والسنة اشتملا على إشارات كثيرة إلى خلق الإنسان والحيوان والكون وسائر المخلوقات، في عبارات عامة يمكن أن تشمل الحقائق العلمية المكتشفة.
2- أن دلائل النبوة الأخرى مرتبط تأثيرها بزمنها، فالمعجزات الحسية لا تشاهد الآن، وإعجاز القرآن البياني لم يعد مستوعبا من أكثر المسلمين فضلا عن غيرهم، وإذا كانت المعجزات تتناسب مع روح العصر فعصرنا هذا عصر العلم التجريـبي، فناسب أن تكون معجزته علمية.
3- أن في هذا النهج إفحاما للملحدين بنفس الحجة التي ظنوها معارضة للدين.
4- أن في هذا التوجه تأكيدا على أن الإسلام دين العلم والتقدم والمعرفة.
5- أن في هذا حدا من افتتان شباب المسلمين بالثقافة الغربية المدلة بالمنهج العلمي.
6- أن الله تعالى قد هدى بسبب الإعجاز المبني على التفسير العلمي فئاما من الناس إلى الإسلام، وزاد في يقين آخرين، والشيء يُعرف بأثره.
ورأى آخرون خطورة هذا التوجه على الدين نفسه، واعترضوا على الحجج السابقة بما يلي:
1- أن القرآن لم ينـزل لشرح العلوم التجريبية، وإنما هو كتاب هداية في العلوم الإلهية، فسياق الآيات التي تتحدث عن المخلوقات غرضه غير ما يقرره أصحاب التفسير العلمي، وهكذا السنة النبوية.
2- أن في هذا اللون من التفسير تحميلا لسياق القرآن وألفاظه ما لا تحتمل، إلا من جهة التأويل المتكلف الذي لا تسيغه اللغة في الكلام الفصيح البليغ، فكيف بمعجز الفصحاء والبلغاء؟!.
3- أن الحقائق العلمية المحمّلة لآيات القرآن إنما حُكم بقطعيتها في ضوء معطيات قابلة للتطور والتبدل بحسب ما يستجد من وسائل إدراك معِينة للحواس، ووسائلِ استقراء وتأمل ومقارنة معِينة للقياس، فجزْم العلماء التجريبين بهذه الحقائق لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه يقينيات من جنس ما يعرفه علماء العقائد، ويعتمدون فيه على أوليات فطرية وبدهيات عقلية.
4- أن كثيرا من المكتشفات العلمية المزعومة في حقيقتها غير مكتشفات، بل معلومات معروفة قديما للأطباء والفلاسفة والمعتنين بالعلوم الطبيعية، وإنما زادها المستكشفون دقة وتحديدا وتأكيدا وبرهنة بما فُتح عليهم من الآلات المعِينة للحواس المدركة، ووسائل التواصل الذي يتيح الاطلاع على ما أدركه الآخرون واكتشفوه، لكن جرى الوهم بأن كل ما عند الغرب مكتشف بسبب التقصير في الاطلاع على جهود السابقين، وأيسر طريقة للوقوف على ذلك تتبع ما ذكره المفسرون - وخصوصا الفخر الرازي- والشراح قديما عند كلامهم عن النصوص المستشهد بها في الإعجاز العلمي.
5- أن ما يذكره المنتصرون للتفسير العلمي من مبررات ومصالح ودواعٍ وإعجاز يتحقق بالمقام السلبي في هذا الباب: وهو أن القرآن العزيز على كثرة ما فيه من ذكر الظواهر الكونية وأنواع المخلوقات، وعلى أنه ظهر في مرحلة زمنية مليئة بالخرافات والأساطير المصادمة للعقل والعلم، مع ذلك كله لم تنهض واحدة من الحقائق العلمية المكتشفة حديثا على كثرتها للقدح في شيء مما صرح به القرآن أو أشار إليه.
6- أن ادعاء خفاء الوجه الصحيح للآيات المنبهة على المكتشفات العلمية على الأقدمين يكذبه سياق الآيات الصريح في مخاطبة أهل ذلك الزمان بما يفهمونه، والاحتجاج عليهم بما يعرفونه، كما في قوله تعالى:{أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما} وقوله:{أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}، وقوله:{إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم} أفتراه يبين لهم ما لا يفهمه على الوجه الصحيح إلا من جاء بعدهم بأحقاب، أو يحتج عليهم في إثبات الربوبية والبعث بما لا يعرفونه إلا من الوحي؟!.
7- أن العرب الذين خوطبوا بجميع ما في القرآن منذ نزوله لم يفهموا تلك المعاني المدّعاة في التفسير العلمي، وإلا لزم أن تظهر هذه المكتشفات على أيديهم منذ فهموها من القرآن، وإذا كانت البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال لم يجز أن تكون هذه المعاني مرادة من الآيات حين أنزلت، وإذا لم تكن مرادة آنذاك، فما الدليل على أنها مرادة في هذا الزمان، هذا على فرض احتمال القرآن لها.
أما ادعاء أنها جميعا مرادة جزما للمتكلم، كل منها في زمانه، وأنه أراد بكلامه جميع محامله السائغة على وجه التعيين فمن أعجب العجب؛ لأنه مبني على التسليم بعصمة المتكلم وكمال علمه، وذلك هو معنى كون القرآن كلام الله، وهي القضية المطلوب إثباتها بالإعجاز، فجعلها من مقدمات الدليل على الإعجاز من الدور الممتنع.
8- أن التمسك بمجرد احتمال القرآن والسنة لهذه المكتشفات يتيح للمكذب التمسك بالاحتمال أيضا في تقرير التعارض بين الدين والعلم، خصوصا وأن كثيرا من النصوص قد أشكلت على العلماء قديما وحديثا، حتى طلبوا لها الحل والتأويل، كنصوص العلو والنـزول وسجود الشمس واستئذانها للطلوع كل يوم وردم يأجوج ومأجوج والتخويف بكسوف الشمس وغيرها كثير، فإذا كنا نعتذر عنها بأن هذا التعارض إنما هو احتمال متوهم، لم يعجز المكذب أن يقول: وكذا الإعجاز المدعى إنما هو احتمال متوهم.
9- أن المطالب العقدية الكبرى لا يصلح الاستدلال لها بالأدلة المظنونة المحتملة، كما قال سبحانه:{وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا}، وذكر عن الكفار قولهم:{إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}.
10- أنه يلزم من التفسير العلمي القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فاته بعض معاني القرآن، أو أنه علمها ولم يعلمها أمته، كما يلزم تجهيل السلف ببعض معاني القرآن، وأن الحق قد يخرج عن مجموعهم.
11- أن الدافع للتفسير العلمي التجريبي للقرآن إنما هو الهزيمة النفسية أمام فتوحات العلم الحديث، وغياب الاستعلاء بالإيمان واليقين من واقع الأمة، وربما أشار إلى ثقة مهزوزة لدى المعتنين به بما تحظى به العقائد الإسلامية من دلائل تقليدية.
12- أن في تسمية هذا إعجازا إشكالا؛ من جهة أن العلم الحديث لم يعجز عن الوصول إلى هذه الحقائق.
13- أن في الإعجاز البياني وغيره من الوجوه اليقينية الصريحة لدلالة القرآن على النبوة وسائر دلائل النبوة المعروفة قديما الكفايةَ والغَناء، ولا يزيدها الزمن إلا رسوخا وقطعية، والعجب كيف تُبرر مزاحمتها بالإعجاز العلمي بحجة تقادم العهد، ثم إذا أبدى منتقدو الإعجاز تخوفهم من تبدّل النظريات العلمية أجيب بأن هذه حقائق علمية ثابتة لا يضرها تطور الزمن، فما باله أضر بدلائل النبوة التقليدية عندهم، فما عادت تفي بمدلولها هذا الزمان، مع أن الإعجاز العلمي التفصيلي لو صح فإنما يدل على النبوة دون تفريق ذاتي بين القرآن والسنة، أما الإعجاز البياني فيزيد بالدلالة على أن القرآن جميعه ليس من قول البشر، كما أن الدلالة فيه سارية في جميع القرآن، بخلاف الإعجاز العلمي لو صح القول به.
14- أن حصول الأثر الحسن ببعض الأدلة المهزوزة لا يزكيها، ولا يمنع من نقدها؛ لأن هذا الأثر إنما يظهر في غير المتخصصين، وهؤلاء سبيلهم الوعظ غالبا، أما العارفون بموارد الأدلة ومصادرها ومناهجها وعيوبها وهم الطائفة الأهم فلا تروج عليهم، ونظير ذلك الأثر الحسن لكثير من الأحاديث الموضوعة في فضائل الأعمال، فهل يسكت عن التنبيه عليها وتحذير الناس منها لئلا يزول هذا الأثر الحسن، على أن الحصيف لن يعدم وسيلة يجمع بها الحسنين.
وبالتأمل في هذه الاعتراضات يظهر أن تقرير الإعجاز العلمي على الوجه الثالث المشهور لا يستقيم إلا في نص كان مسوقا أصلا باعتباره خبرا من أخبار الغيب التي ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها ولا قومه من قبل أن يوحى إليه، فيكون معناه مفهوما تماما للمخاطبين، لكن تصديقه فرع عن إيمانهم بالوحي، فإذا وقع وتحقق، أو انكشفت حقيقته من مصدر آخر غير الوحي موافقا لخبر النبي، انقلب الإخبار به إلى برهان صدق ينضم إلى شواهد النبوة، أما أن يُساق النص أصلا للاحتجاج به على المخاطبين في التوحيد أو البعث، فهذا ما لا يستقيم منهجا كما سبق.
وعلى هذا يكون لقبول دعوى الإعجاز العلمي في نص خمسة شروط:
1- أن يكون النص مفهوم المعنى تماما لمجموع المخاطبين به منذ صدوره.
2- أن يكون المعنى الإعجازي مدلولا متعينا للنص.
3- ألا يكون صدق هذا المعنى ومطابقته للواقع في نفس الأمر معلوما من قبل للمخاطبين.
4- إذا ادعي الإعجاز في حديث نبوي شريف لزم انتفاء احتمال صدوره بظن واجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم.
5- إجماع المختصين على كون هذا الاكتشاف حقيقة علمية ثابتة ثباتا نهائيا يمتنع نقضه، واشتهار ذلك الإجماع عنهم بالتواتر، بحيث تنتفي شبهة التقول عليهم.
فيُردّ بالشرط الأول كل إعجاز علمي يُزعم فيه فوات المعنى الصحيح للآية على من خوطبوا بها أيام التنـزيل، كالذي عبر عنه الدكتور أحمد جمال العمري بقوله: (والذي لا شك فيه أن القرآن العظيم يضم آيات كثيرة لم تُفهم بوضوح إلا بعد أن تقدمت العلوم التجريبية في عصرنا الحاضر...، ومن ثم نقول – على سبيل القطع -: إن كثيرا من آيات القرآن الكريم ستُفهم بصورة أدق وأكمل بعد تقدم العلوم التجريبية أكثر فأكثر) .
ومثاله الإعجاز المدّعى في اكتشاف العلماء كون (المضغة) المذكورة في أطوار خلق الجنين على شكل ما يمضغ وهيئته، ففيها كأثر الأسنان في العلك، لا على قدر ما يُمضغ كما فهم السابقون، بل هي أصغر من قدر اللقمة بكثير .
ومثاله أيضا الإعجاز المدّعى في كون زمن أطوار الجنين الثلاثة مجتمعة = 40، لا 120 كما فهم الأقدمون قاطبة من روايات الحديث، قال عياض: اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يُختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوما، وذلك في تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يُحتاج إليه من الأحكام، في الاستلحاق عند التنازع وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف .
فمثل هذا لو صح اكتشافه يكون إشكالا في الحديث لا إعجازا !!.
ويُردّ بالشرط الثاني كل إعجاز علمي مبني على معنى محتمَل في الآية، حتى لو التزم صاحبه بصحة المعنى الآخر الذي فهمه السابقون أو بعضهم من الآية؛ لاحتمال أن يكون وحده هو مراد الله تعالى من الآية دون غيره من المعاني المحتملة، وإذا دخل الاحتمال سقط الاستدلال.
ومثال ذلك الإعجاز المدّعى في قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض}[النور]، وأن المراد بها الموج الباطني والموج السطحي ؛ فإن عامة المفسرين على أن المراد بالموج الذي من فوقه موج هو هذه الأمواج المترادفة المتراكبة المتتابعة المتلاطمة، التي يشاهدها مباشرة كل من نظر إلى بحر هائج، فهي مراد للآية قطعا؛ وإلا لم يكن المثل المضروب للكافر مفهوما لمن لا يعرف الموج الباطني.
وهكذا الإعجاز المدّعى في قوله تعالى{كأنما يصّعّد في السماء}؛ وأن المراد بها الضغط الجوي!، مع أن الآية تضرب مثلا ليفهمه السامعون منذ نزلت، وقال بعدها:{قد فصلنا الآيات لقوم يذّكرون}، فليت شعري ما ذا فهموا من الآية إن كان مرادها الضغط الجوي؟ وإن كان ما فهموه حقا وهو أن صدره يضيق عن الإيمان ضيقا معنويا لا حسيا، فيمتنع عليه الإيمان امتناع التصعد في السماء، لم يبق للإعجاز العلمي إلا الاحتمال البعيد المتكلف.
ويُردّ بالشرط الثالث كل إعجاز علمي مبنيٍّ على معنىً كان الناس يعرفون مطابقته للواقع في نفس الأمر قبل تحّدث النبي صلى الله عليه وسلم به.
ومثال ذلك الإعجاز المدّعى في الآيات التي تتحدث عن أطوار خلق الإنسان؛ فإنها ذُكرت في سياق يقتضي معرفة المخاطبين السابقة بحقيقة هذه الأطوار، وهو سياق الاحتجاج بخلق الإنسان أول مرة على إعادة خلقه بعد الموت، سواء قلنا إن قومه علموها من النبوات السابقة أو بالحس، فعلى كلا الوجهين لا تكون برهانا على النبوة وهم يعلمون حقيقتها قبل أن يذكرها لهم.
ومثاله أيضا الإعجاز المدعى في قوله تعالى:{إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}، من جهة أنه يشير إلى حقيقة علمية مكتشفة عن الكلب، وهو أنه ليس له غدد عرقية تذكر كبقية الحيوانات، فلذلك يلهث، فالسؤال هنا: ما الذي زادته الآية عما فهمه الناس قديما عن لهث الكلب؟ أليس ضرب المثل مؤكدا فهمهم التام للمعنى؟ {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}.
ويرد بالشرط الرابع كل إعجاز علمي مدعىً في حديث نبوي ليس في شأن ديننا؛ مما يَحتمل أن يكون مقولا على سبيل الظن والاجتهاد، لا بوحي من الله تعالى.
ومثاله كل إعجاز علمي مدعى في أحاديث طب الأبدان التي لم يرد فيها تصريح بأنها وحي من الله تعالى.
ويرد بالشرط الخامس كل إعجاز علمي لم توثَّق فيه الحقيقة العلمية على وجه يمنع خفاءها والخلاف حولها والمراجعة فيها من العقلاء، ويسوّغ التحدّي بثباتها ويقينيتها على صدق النبوة.
ومثال ذلك ما راج مؤخرا من الإعجاز المدّعى في نصوص عذاب البرزخ، المبني على صوت مسجّل من باطن الأرض يُسمع فيه ما يشبه الصراخ واللغط، وأنه صوت المعذبين في البرزخ، التقطته أجهزة قياس الموجات الصوتية مصادفة.
ومما قد يصلح مثالا لانطباق هذه الشروط قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الذباب: (إن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء)، وإن كان من تردد فيه فإنما هو من قبل تحقق الشرط الخامس؛ فإن المطلوب اشتهار ذلك بقدر شهرة نقل الذباب للأمراض، الذي دأبنا على سماعه والتحذير منه، أما أن يُعتمد فيه على باحث قد يخالفه ألف باحث فلا.
وبعد، فبالتأمل في عامة ما يتداوله المتحمسون للإعجاز العلمي يظهر أنهم لا يراعون هذه الملاحظات المنهجية، وأنه لا يكاد يستقيم لهم مثال صالح للدلالة اليقينية على النبوة، وإنما تصلح عامة أمثلتهم للدلالة على الربوبية، من جهة توسيع مدلول الدعوة القرآنية للتدبر في خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة، بحيث تشمل على وجه العموم التفاصيل الدقيقة المكتشفة، وتلك قضية مغايرة تماما لقضية الإعجاز والدلالة على النبوة، والله الهادي إلى سواء السبيل.