ملخص الرسالة
ملخص الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وخفض أهل الجهل والزيغ والضلالات، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي ميَّزه الله بختم الرسالات، وعلى آله وصحبه الذين نصبوا أنفسهم لدحض أهل الكفر والغوايات، وأظهروا بأفعالهم وأقوالهم الصريحة شواهد الدين الواضحات.
أما بعد:
فإنَّ العلمَ فخرٌ يبقى على مرورِ الأحقابِ، وذكرٌ يتوارثه الأعقابُ بعد الأعقابِ، وأولُ المجدِ وآخرُه، وباطنُ الشرفِ وظاهرُه، به يترقَّى على كلِّ المراتب، وبه يتوصلُ إلى المآرب والمطالب، وهو الأربحُ مرعاه، وهو الأرفعُ مسعاه، يملأ العيون نوراً، والقلوب سروراً، ويزيدُ الصدورَ انشراحاً، ويفيدُ الأمورَ انفساحاً، وهو الغنمُ الأكبرُ، والحظُّ الأوفر، والبغية العظمى، والمنية الكبرى.
ألا إنَّ من أجل العلوم وأعظمها: علم العربية إذ هي خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهُّمِها من الديانة ؛ إذ هي أداة العلم ومفتاح التَّفَقُّهِ في الدين؛ ولهذا اهتمَّ العلماء بعلم العربية اهتماماً عظيماً، وباعث هذا الاهتمام أنَّ الله جل وعلا أنزل القرآن الكريم باللسان العربي المبين كما قال جل وعلا: ( وإنه لتنزيا رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين )(
[1])، وقال جلَّ شأنه: ( إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ) (
[2]).
قال الإمام ابن كثير في تفسـيره لهذه الآية: " وذلك لأنَّ العربية أفصح اللغات، وأبينها، وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فكَمُلَ من كل الوجوه"(
[3]).
وقال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة: " ومعلومٌ أنَّ تعلُّمَ العربيَّة وتعليم العربيَّة فَرضٌ على الكفاية، وَكَانَ السَّلَفُ يُؤَدِّبُونَ أَولادَهُمْ على اللَّحن. فنحن مأمورونَ أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظَ القانونَ العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فَهم الكتاب والسُّنَّة، والاقتداء بالعرب في خِطَابِها، فلو تُرِكَ النَّاسُ على لَحْنِهِم كان نقصاً وعيباً "(
[4]).
وقد اهتمَّ سَلفُنا الصالح - رحمهم الله – باللغة العربية اهتماماً عظيماً، وجاءت الآثار الكثـيرة التي تبين عنايتهم البالغة باللُّغة العربية وحرصهم على تعلُّمِها(
[5]).
وإنَّ من أهمِّ علوم العربية وأعظمها : علم النحو ؛ وذلك لأنَّه لا يستغنى عنه أيُّ علمٍ من العلوم، ولا يُفهَم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حقَّ الفَهم إلا به.
ولذلكَ أجْمَعَ الأئمَّة منَ السَّلَف والخَلَف قاطبةً على أنَّ النَّحو شرطٌ في رتبة الاجتهاد، وأنَّ المجتهد لو جَمَع كُلَّ العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النَّحو، فيعرف به المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره، فرُتبةُ الاجتهاد مُتَوَقِّفةٌ عليه، ولا تتمُّ إلاَّ به(
[6]).
وقال بعضهم في أهمية علم النحو :
النَّحْوُ يَبْسُطُ مِنْ لِسَانِ الأَلْكَنِ ** وَالمَرْءُ تُعْظِمُهُ إِذَا لَمْ يَلْحَنِ
فَإِذَا طَلَبْتَ مِنَ العُلُومِ أَجَلَّهَا ** فَأَجَلُّهَا مِنْهَا مُقِيمُ الأَلْسُنِ
لَحْنُ الشَّرِيفِ يُزِيلُهُ عَنْ قَدْرِهِ ** وَتَرَاهُ يَسْقُطُ مِنْ لِحَاظِ الأَعْيُنِ
وَتَرَى الوَضِيعَ إِذَا تَكَلَّمَ مُعْرِباً ** نَالَ المَهَابَةَ بِاللِّسَانِ الأَلْسَنِ
مَا وَرَّثَ الآبَاءُ عِنْد وَفَاتِهِمْ ** لِبَنِيهِمُ مِثْلَ العلومِ فَأَتْقِنِ
فَاطْلُبْ هُدِيتَ وَلا تَكُنْ مُتَأَبّياً ** فَالنَّحْوُ زَيْنُ العَالِمِ المُتَفَنِّنِ
والنَّحْوُ مِثْلُ المِلْحِ إِنْ أَلْقَيْتَهُ ** فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ طَعَامٍ يَحْسُنِ
ولمَّا كان علم النحو بهذه المنزلة العظيمة، أحببتُ أنْ يدور بحثي حول تعلُّق علم النحو بالقرآن الكريم، وبعد بحث واستشارة لأساتذتي الفضلاء في اختيار الموضوع المناسب، اخترت هذا الموضوع وعنوانه ( التوجيه النحوي للقراءات في تفسير "فتح القدير" للشوكاني – في النصف الأول من القرآن الكريم – " دراسة تحليلية " )
([1]) سورة الشعراء، الآية: 192- 195 .
([2]) سورة يوسف، الآية: 2 .
([3]) تفسير ابن كثير المسمَّى بـ"تفسير القرآن العظيم" 4/365.
([4]) "مجموع الفتاوى" 32/ 252 .
([5]) وقد أورد نجم الدين الطوفي في كتابه "الصَّعقة الغضبية في الرد على منكري العربية" جملة كبيرة من الآثار الواردة عن السلف صـ 233 - 279 .
([6]) انظر: "الصعقة الغضبية" صـ237 .