ملخص بحث نقد القراءات المعاصرة وروادها

إنضم
21/04/2011
المشاركات
2
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
بسم1

ملخص بحث نقد القراءات المعاصرة وروادها


بقلم الاستاذ الدكتور/ محمد سالم أبو عاصي

الحمد لله الذي أنزل الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، صلى وسلم على المبعوث للناس معلما، وعلى آله وصحبه ومن ورث عنه من العلماء الربانيين والعاملين المخلصين!
وبعد،..
فهذا تناولٌ لموضوع القراءة المعاصرة للقرآن الكريم، على وجهيها، أعني:
- أعلام هذه القراءة
- وأبرز ما تناولوه فيها من موضوعات
وإن الناظر بجد وإنصاف لَيعلم كيف هي أهمية هذا الموضوع، وخطره، وحساسيته، وكلية تعلقه بكتاب الله تعالى.
فأما أهمية هذا الموضوع وخطره وحساسيته ففي مسيسه بأحكام شرعية كانت منذ بزوغ فجر الدين الأول محل اتفاق، وموضع تطبيق، حتى لقد تزيا المجتمع المسلم بزي امتثالها، وصارت آثارها علما على أهل هذا الدين، رغم اختلافهم في دينهم ودنياهم مذاهب شتى وطرائق قددا!
على أن الذين قدموا هذه القراءة المعاصرة كانوا من جملة الدارسين لعلوم الإسلام، المشتغلين بقراءة تراثه، وأمانة حمله وأدائه، وكان ممن وافقهم في رأي أو خاصم مخالفيهم في مسألة بعض أعلام الشريعة وعلمائها والدعاة إليها، فكان الوقع أكبر أثرا، وبيان الحق أوجب وألزم على كل عالم به، قادر على أدائه، امتثالا بما نبذه أهل الكتاب من عهد الله تعالى للعلماء في قوله تعالى: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا" وحذرا من الوقوع في منطوق قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويعلنهم اللاعنون"
وأما كلية تعلقه بكتاب الله تعالى فمن مآل البحث فيه إلى أكثر مباحث علوم القرآن الكريم من جهة علم الأصول، بما يتسع إلى آفاقه الدلالية، وأصوله العقدية، وتطبيقاته الفقهية!
ومن هذا التقديم لا يسعني إلا بناء البحث على مقدمة أصولية في قراءة القرآن الكريم على منطق علمي مؤسس، أفرغ منها إلى بيان أصول القراءة المعاصرة، كتمهيد تتفرع عنه دراسة حول أبرز أعلامها، وأهم ما تناولوه من قضايا عقدية أو تشريعية في هذه القراءة.
أولا: مقدمة أصولية في قراءة القرآن الكريم على منطق علمي مؤسس
تتأسس القراءة الأصولية للقرآن الكريم على ركنين ركينين:
- أنه وحي إلهي منزل من رب العالمين، لا يشوبه احتمال الخطأ، أو يعتريه محض قصور.
- أنه كلام عربي بالغ أعلى مراتب البلاغة جار على أفصح لسان نطقت به العرب.
وقد صرح القرآن الكريم نفسه بهاتين الحقيقتين في سياق واحد من قوله تعالى:
وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين
وقد تكرر هذا القران بين معنيي إلهية التنزيل وعربية النص في غير موضع
ومن ثم، فالمنطق العربي المحكوم بالعقيدة الدينية هو الحكم الوحيد الذي يقبل قوله في بيان معاني هذا الكتاب، وتفصيل أحكامه
والأصوليون يتناولون اللفظ العربي باعتبارين اثنين:
معناه أي مفهومه الذهني
وموضوعه أي أفراده الخارجية (ماصدقات)
والعلاقة القائمة بين اللفظ ومعناه، وموضوعه، هي ما يعبرون عنه بعقد الوضع، الذي يرونه أحق بالسبق من استخدام المتكلم، وحمل السامع.
فما صح وضعا صح استعمالا، وما لم يصح فلا يصح؛ ومن ثم يقررون أن اللغة بنت السماع!
وذلك مع مرونة اتساع اللفظ لغير ما معنى، مما هو من باب المشترك والحقيقة والمجاز والنقل العرفي، واتساع المعنى لغير ما موضوع مما هو من قبيل التواطؤ والتشكيك، واتساع المعنى ليعم أفراده أو يخص ببعضها دون بعض من باب العموم والخصوص، أو عموم الصفات وخصوصها من باب الإطلاق والتقييد!
مما يثمر أفقا فسيحا لاتساع الدلالة القرآنية لا يمكن تضييقه المنضبطة بقانون لغوي صارم لا يحل الخروج عنه!
بينما يرى الناظر المنعم النظر فيما قدم أصحاب القراءة المعاصرة من دراسات فلا يجد لهم منطقا واحدا يتفقون عليه، أو معيارية محددة يقيسون من خلالها نتاجهم الفكري في قراءاتهم المتعددة.
وإنما تميز طرحهم بأمرين:
الأول: أنهم اتفقوا على هدم البنيان الدلالي للمنطق اللغوي الذي اعتمده الأصوليون في قراءتهم للقرآن الكريم.
الثاني: أن أحدا منهم لم يقدم مشروعا كاملا يمكن تقييم معطياته ونتائجه بصورة علمية ينتهى منها إلى قبول أو رد كلي أو جزئي!
ومن ثم فليس أمامنا إلا استعراض أبرز الأفكار التي قدمت جملة تحت هذا المسمى القراءة المعاصرة للقرآن الكريم.
مع ملاحظة أن أكثرها أفكار هدمية تتعلق بالبنيان الأصولي القائم.
- تعتمد الفكرة الأولى لدى أصحاب القراءة المعاصرة على تعدد المعنى الذي يتناوله اللفظ الواحد، ومع أن هذا لا ينكره المنطق اللغوي المستقيم، إلا أنه كما رأينا يحده بمنطق الاشتراك اللفظي أو الحقيقة والمجاز، ويكون الحكم في كل ذلك القرائن اللفظية أو العقلية التي تعين المعنى المراد من المشترك، أو القرينة الصارفة عن الحقيقة إلى المجاز التي تعينها على تعيين المجاز وتصحيحه العلاقة التي تجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي، على نحو ما هو معلوم في درس البلاغة وعلم الأصول.
بيد أن هذا الطرح لم يبدُ عليه أنه أشبع رغباتهم الجامحة بغير كابح، فانطلقوا يعددون المعنى لا بتعدد احتمالاته اللغوية المسموعة عن العرب، ويحددون المراد لا بما يظهر من قرائن معتبرة، بل يعددون المعنى بحسب عدد الناظرين إليه، ويحددون المراد بحسب أفهام القارئين له!
فيغدو النص واقعا في نسبية مطلقة بلا ثوابت تضبطها، ولا قواعد تحتكم إليها.
وقد تسلسلت هذه الفكرة على نحو متتابع بدأ أولا:
بتأويل النص في الإطار المعرفي المعاصر الذي يسعى لاستنطاقه أحكاما تتلاءم مع ما شاع في العصر من قيم وأفكار ومبادئ
ثم انتقلوا ثانيا إلى طرح المنطق اللغوي تماما، والاعتماد على منطقيات تعتمد على فلسفة الإلحاد التي طغت على أوربا حديثا، وزكمت رائحتها أنوف المؤمنين بالمشرق!
- أثمرت هذه الفكرة بما آلت إليه من اعتماد على فلسفات الإلحاد الغربي الحديث رؤى مختلفة في قراءة القرآن الكريم:
كان من أبرز هذه الرؤى:
- تاريخية النص، مما يعني أنه كان مؤقتا بوقته، ولم يعد صالحا لما أنزل من أجله في العصور التالية.
ومن ثم، فأحكام القرآن وتشريعاته مهدرة جملة وتفصيلا؛ انطلاقا من قراءتنا لنص تعاورته عوادي الزمان بما يكفي لإنهاء دوره في الحياة!
- أسطورية النص القرآني، والطعن في مصداقية أخباره، وبالتالي أحكامه التي جاءت لتخاطب عقول الأساطير لا عقول العلم المادي الحديث.
- محدودية اللغة القرآنية القديمة التي أنزل بها، وضرورة قراءته في آفاق لغوية حديثة تجمع بين العقل والمادة في ضوء السقف المعرفي للحضارة الذي يتطور بتطور العلم على مر العصور والحضارات!
- بشرية النص القرآني من خلال القول بانفصامه عن قائله بتنزله للبشر، الأمر الذي يفقد النص معاني القدسية والعصمة، ويصبح مجرد آراء وأخبار قابلة للأخذ والرد!
على هذه الأفكار، وبهذه الكلمات، طلع على العالم الإسلامي في قرنه الأخير محمد أركون وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وحاج أحمد وغيرهم.
فأما دكتور أركون فقد لخص بنيانه على شفا ثلاث خطوات:
أولاها: طرح المنطق اللغوي بإهدار ما بين اللفظ والمعنى من وضع لازم، فيقول في مبحث =معنى القرآن+، وذلك ضمن مقدمته لترجمة كازيميرسكي للقرآن([1]):
لبلوغ المعنى يتعين علينا التخلي هنا عن كل قراءة خطّية تعطي الأولوية للفهم المعتاد وللمنطق النحوي. فحتى لو رتبنا الآيات وفق التصنيف المعجمي - كما فعل محمد فؤاد عبد الباقي - فإنه سيظل مطروحاً علينا ضرورة تجاوز النظام البلاغي لاكتشاف نظام أكثر أهمية هو النظام البنيوي
فهو يقرر أن آيات القرآن لا تفهم في سياقها، بل بحسب كونها رموزاً، وليست مجرد دلائل لسانية بسيطة.
وثانيها إضفاء روح الأسطورة على النص
وفي هذه المرحلة يقرر أن الأسطورة قد التبست مع الخرافة، لكن مع الأنثروبولوجيا الاجتماعية.. فالأسطورة تعبير رمزي عن حقائق أصلية وكونية ترتبط بالوضع الثقافي للمجتمع الذي يخلقها([2]).. فالقصد من هذا الكلام كله هو إضفاء الرمزية (الباطنية) على مجمل المعاني القرآنية.
وثالثها تقويم التراث وفق هذين المعطيين
وقد نقد فيها التفسير السّنّي، وأشاد بتراث الباطنية وقال: ".. وبالفعل فإن الذين حازوا اسم أهل السنة والجماعة قد عملوا على تبني منهج في قراءة القرآن يناسب فرض نظرية الأمر الواقع.. فالطاعة تجب للخليفة ، وذلك بإضفاء المشروعية على حكمه. وهكذا.. فقد جرى رفض إمكانية وجود معنى باطن للقرآن من قبل هؤلاء. غير أن هذا المعنى هو الذي سيحظى بالأهمية عند الشيعة، بفضل تقنية في التأويل تخترق ظواهر الكلم لبلوغ الباطن([3]).
والخلاصة أن أركون لم يقف عند حد التعسف بل طرح اللغة جملة وتفصيلا، ولم يبحث عن مبررات يفسر بها ما قصر عن دركه بل جعل كل ذلك أساطير شعوب لا حق فيها، ولا اكتفى بما اضطر لبحثه من مسائل بل دعا إلى نقد التراث كله!
وأما الباحث السوداني أبو القاسم حاج حمد.. فالمحور الذي يدور عليه كلامه هو التأكيد على نسبية الدلالة اللغوية، فاللفظ القرآني ليس له دلالة ثابتة، بل له معان سيّالة لا تقف عند حدّ.
يقول في بيان ذلك في كتابه منهجية القرآن بحكم إعادة الترتيب، حيث اتخذ الكتاب وحدته العضوية، يفتح الطريق أمام القراءة المنهجية المعرفية، وهذه إحدى أهم معجزات القرآن، إذ النص واحد لا يتغير ولا يتبدل، وتختلف قراءته تبعاً للتركيب والفارق النوعي في تطور العقل البشري، فلكل حالة عقلية تاريخية إسقاطاتها الذهنية الخاصة بها على القرآن تبعاً لمبادئها العقلية وأشكال تصورها للوجود..([4]).
ولست هنا بصدد الخوض في عرض الزيف الكثير مما هو مذكور في هذا الكتاب، غير أن التلاقح - أو قل التواصل - بين أركون وأبي القاسم يتألف من نقطتين اثنتين..
الأولى: طرح المنطق اللغوي، وذلك بتجاوز ما يقتضيه اللسان العربي، وذلك إما عن طريق تجديد اللغة - كما هي الحال عند الدكتور حسن حنفي كما سيأتي -، وإما عن طريق القول بنسبيتها أو تأخرها العلمي مقارنة بعلم اللسانيات الحديث.
الثانية: الطعن في التراث التفسيري المنضبط بفقه اللغة ودلالاتها، وذلك لكي نعود ونقرأ القرآن قراءة جديدة أو معاصرة.
ومن ثم.. استخدم كلّ من الرجلين في تفسير القرآن اللسانيات البنيوية، وهي تلك التي تزعم بأن النصوص تظل دائماً وأبداً قابلة للتفسير، فالقراءة أو التفسير عملية مستمرة لا تنتهي عند دلالة معينة ولا تقف عند حد، كما أنها تجعل المفسر أو القارئ يساهم في إنتاج المعاني، ولذلك فالبنيوية تذهب إلى عدم وجود قراءة (تفسير) بريئة([5]).
أما الدكتور حسن حنفي ظهر اهتمامه بالتفسير المادي للقرآن في مقدمته لترجمة رسالة في اللاهوت والسياسة لاسبينوزا حيث دعا في مقدمته إلى تبني منهج اسبينوزا في نقده للكتاب المقدس، وذلك لأجل إعادة النظر في القرآن الكريم، ثم بعد ذلك اتجه فكره إلى إسقاط الفكر الماركسي المادي على آيات القرآن الكريم، وأنها من نتائج الواقع الذي يفرضها ويستدعيها، وهذا تطبيق للمبدأ الماركسي الذي ينص على أولوية الواقع على الفكر، وأن البناء التحتيّ المادي ينتج الفكر ويفرز البناء الفوقي (الوحي الإلهي). ويقول في لك:
كل آيات الوحي نزلت في حوادث بعينها، ولا توجد آيات أو سور لم تنزل بلا أسباب. والسبب هو الظرف أو الحادثة أو البيئة التي نزلت فيها الآية. وإن كان لفظ النزول يعني الهبوط من أعلى إلى أسفل فلفظ السبب إنما يعني الصعود من أسفل إلى أعلى. وإن كثرة الحديث الخطابي عن واقعية الإسلام إنما نشأ من هذا الموضوع، وهو أسباب النزول: أسبقية الواقع على الفكر، وأولوية الحادثة على الآية، والمجتمع أولاً والوحي ثانياً، الناس أولاً والقرآن ثانياً، الحياة أولاً والفكر ثانياً([6]).
وفي كتابه التراث والتجديد يحدد تصوره لمنهج تفسير القرآن ضمن فصل موضوعات التجديد: إعادة بناء العلوم.. قائلاً:
أما علم التفسير، فإنه أيضاً يعاد بناؤه، بحيث يتم تجاوز التفسير الطّوليّ سورة سورة وآية آية، وتجاوز التفسيرات اللغوية والأدبية والفقهية، وبداية التفسير الموضوع بوصف بناء الشعور..([7])..
ثم يقول بعد ذلك:
فالغاية النهائية هي الوحي ذاته، وإمكانية تحويله إلى علم إنساني شامل، وهذا لا يتم إلا عن طريق نظرية في التفسير تكون منطلقاً للوحي...([8]).
وهذه النظرية في التفسير تبدأ من الواقع الشعوري الذي يقدم لنا التجارب الحية التي يقوم العقل بتحليلها، ويصل إلى معان تكون هي معاني النص، والتي يمكن أيضاً إدراكها بالحدس الموجّه إلى النص مباشرة أو إلى الواقع المباشر ([9])
والسبيل إلى هذه النظرية في التفسير عند الدكتور حسن حنفي هو: تجديد اللغة؛ فتجديدها هو بداية العالم الجديد، بل إن بداية كل حركة جديدة تبدأ بتجديد اللغة أولاً.. يقول:
وعندما تتطور الحضارة تضيق بلغتها القديمة، فتنشأ حركة تجديد لغوية، تسقط فيها الحضارة لغتها القديمة الخاصة، وتضع لغة جديدة أكثر قدرة على التعبير([10]).
والعلة في ذلك في نظره أن اللغة القديمة لم تعد قادرة على التعبير عن المضامين المتجدّدة طبقاً لمتطلبات العصر، نظراً لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها([11]).
ويتجلى قصور هذه اللغة كذلك في كونها إلهية، تدور فيها المعاني حول الله، وأنها لغة دينية أكثر من تعبيرها عن الفكر، ولغة صورية مجرّدة.
والبديل عن هذه اللغة القديمة البالية في نظره هو لغة الفكر الجديدة، لغة الحركة التجديدية، لغة التطور. إنها اللغة الجديدة التي تعد أكثر قدرة على التعبير عن مضامين متجددة طبقاً لمتطلبات العصر.
فاللغة كالحضارة.. متطورة، وبتطور الأفكار وتجددها تتطور الألفاظ وتتجدد([12]).
ولا يتحقق هذا إلا باللغة الجديدة المتصفة في رأيه بالمميزات التالية:
أولاً: أن تكون عامة، تخاطب كل الأذهان.
ثانياً: أن تكون مفتوحة، قابلة للتغير والتبديل.
ثالثاً: أن تكون عقلية، يمكن التعامل معها في إيصال المعنى.
رابعاً: أن يكون لها ما يقابلها في الحسّ والمشاهدة.
خامساً: أن تكون عربية، لا مستعربة([13]).
وعصارة القول أن الرجل تسلل - كما قلنا سابقاً - من نافذة طرح اللغة ليفتح لنفسه ولمن قلّده دهليزاً من التأويل غير المنضبط في نصوص الشريعة الإسلامية، ثم باباً من الإسقاطات الماركسية على القرآن وعلومه.
ويأتي نصر حامد أبو زيد ليجمع كل ما قاله أسلافه ليفتريه دفعة واحدة:
فالنص عنده أسطورة، محدودة بما نزلت فيه من أسباب مادية، ومن ثم فإننا أمام ضرورة إحلال الفهم محل المعنى في المنطق اللغوي، والالتجاء إلى النسبية اللغوية المطلقة.
ثم يخرج بزيادة على من سبقه بدعوى تاريخية النص، التي توجب أن يكون التأويل المعاصر مبنيا على أساس انفصال النص عن قائله، مما يعني إهدار القيمة العقدية الثابتة فيه. من أنه وحي منزل من الله تعالى. ويقول في بيان ذلك:
الواقع إذاً هو الأصل، ولا سبيل إلى إهداره. من الواقع تكوّن النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته.. فالواقع أولاً، والواقع ثانياً، والواقع أخيراً. وإهدار الواقع لحساب نصّ جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة.. يتحول النص إلى أسطورة عن طريق إهدار بعده الإنساني والتركيز على بعده الغيبي([14]).
ويقول في موضع آخر:
إن النص تشكل من خلال ثقافة شفاهية([15])، والوقائع هي التي أنتجت النصوص([16]).. ففي مرحلة تشكّل النص في الثقافة، تكون الثقافة فاعلاً والنص منفعلاً، وتكون الثقافة (اللغة) فاعلاً، والنص منفعلاً([17])..
من خلال هذه المقولات يتبين أن لباب كلامه كله يتمثل في أن الواقع هو أصل كل الظواهر، وهو يعني الواقع الإنساني، الذي يعمد إلى المفاضلة بينه والواقع الإلهي، لينتهي إلى تقديم الواقع الإنساني، إذ التفكير في الواقع الإلهي أضحى من قبيل الأسطورة.
وهو بتركيزه على الواقع المادي الإنساني يهدف إلى تأسيس الفارق بين فكره المادي وبين الفكر الإسلامي الذي ينزع بطابعه الميتافيزيقي إلى البحث عن البدايات الأصلية لأسسه وعقائده، وهذه الأسس لها بداية مفارقة متعالية، هي موطن الحقيقة، والنقطة الأساسية التي تسبق كل معرفة ممكنة، والتي هي في نظر الدكتور أسطورة!
ومن هنا - أي من إلغاء البداية الأصلية -.. فإنه يريد تقويض هويّة النص.. وهذه الهوية الخالدة. إنه قضاء على المنشأ الأول للعقيدة الإسلامية إنه أولوية الواقع التي تسعى إلى ذبذبة الميتافيزيقي (العقيدة، الجزاء، العالم الأخروي، الشريعة).. فهو لا يؤمن بهذه الماهيّات الثابتة، ولا بالغائيّات الميتافيزيقية (أي ما وراء الطبيعة)، وإنما يؤمن بماهية واحدة فقط الواقع. ولهذا فهو يتهم السلف بالجمود والوقوف عند حالة واحدة، أو تأويل معين يسعى إلى تثبيت المعنى في دلالات معينة متجهة نحو غاية بعينها، وهي الرجوع إلى الله جل جلاله، وبذلك تقف - في رأيه - حركة التاريخ: المستقبل هو الماضي، والماضي هو المستقبل. أي تثبيت عقارب الساعة على ساعة التراث، ويترتب على ذلك أن حركة السلف حركة ارتدادية إلى الماضي دائماً.
ثم يقول: إن القرآن خطاب تاريخي، لا يتضمن معنى مفارقاً جوهريّاً ثابتاً، وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص.
وفي مقابل كل هذا ألا يحق لنا أن نتساءل:
- أولا: هل نزل القرآن ألفاظا مهملة من المعاني؟
- فإن كانت له معان مقصودة، فما قيمتها إذا كانت متغيرة تحمل ألفاظه نسبية مطلقة؟
- فإن نزل بمعان ثابتة، فهل نزل بغير العربية المعروفة بين أهلها مبنى ومعنى؟
- كيف يتم إخضاع النص العربي الذي لا يحتمل إلا حقيقة واحدة لمفاهيم متناقضة وتأويلات متضادة؟
- وما قيمة التفسير النبوي للقرآن الكريم؟ هل هي اجتهادات بشرية تخطئ؟ أم هي وحي غير متلو لبيان وحي متلو؟
- وما معنى تاريخية النص القرآني وانقطاع الصلة بين النص والواقع المعاصر، في ظل توكيد الإسلام عقيدة وشريعة على فتح أوسع آفاق العلم والنظر في الكون الفسيح وإعمار الأرض؟
- وكيف يحكم العلم المادي الحديث على مجال الغيب الذي لا يملك أدوات النظر فيه، فينفي أو يثبت عالم الجن والملائكة؟!
إن القول بتاريخية النص القرآني، مع فتح باب تأويله تأويلا نسبيا مطلقا عن كل قيد لغوي، وعن كل معيار يرجع إليه: لهو ذريعة لأمرين:
- هدم ثوابت العقيدة الإسلامية لاسيما ما يتعلق منها بعالم الغيب. كالذي وقع منهم فعلا من القول بأسطورية القصص القرآني
- إهدار أحكام الشريعة. كإنكارهم وجوب حجاب المرأة المسلمة!




([1])نشرت هذه المقدمة مجلة " الثقافة الجديدة " المغربية، العدد 26-27 السنة السادسة بعنوان: الوحي والحقيقة والتاريخ.. نحو قراءة جديدة للقرآن، ترجمة العربي الوافي.
([2])المرجع السابق، ص 35.
([3])عن المصدر السابق، ص 36.
([4])منهجية القرآن، ص 69.
([5])انظر التعريف بالمصطلحات الذي نشره الدكتور جابر عصفور ملحقاً بكتابه عصر البنيوية.
([6])الوحي والواقع: دراسة في أسباب النزول، د. حسن حنفي، ضمن ندوة موقف الإسلام والحداثة، دار الساقي، ص 135، 136.
([7])انظر: التراث والتجديد، ص 151.
([8])المرجع السابق، ص 155.
([9])نفسه، ص 157.
([10])نفسه، ص 93.
([11])نفسه، ص 94.
([12])نفسه، ص 93: 95.
([13])نفسه، ص 151، 152.
([14])الخطاب الديني، ص 68.
([15])مفهوم النص، ص 9.
([16])المرجع السابق، ص 109.
([17])نفسه، ص 200.
 
حياك الله يا دكتور محمد في الملتقى بين إخوانك، ولقد سعدت بالتعرف على جنابكم الكريم في مؤتمر الجديدة الماضي، كما أشكرك على تنزيل ملخص موضوعك.
وملتقى الانتصار للقرآن الكريم هو ميدان أنت من فرسانه .
 
حياكم الله يا دكتور محمد بين إخوانك في ملتقى أهل التفسير وفي ملتقى الانتصار خصوصاً
وكلنا شوق لفوائدكم القيمة بارك الله فيكم.
 
عودة
أعلى