مقدمة في بلاغة القرآن وإعجازه

إنضم
19/05/2006
المشاركات
28
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
الرياض
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد أنزل الله هذا الكتاب العظيم، فبهر الألباب، وسلب العقول والأبصار، لِما فيه من حق وجلال، فآمنت به بعض النفوس، وعاند بعضها شقاءً وضلالاً، إلاَّ أن كل واحد من هذين الفريقين وقف مبهوراً من بيان القرآن وعظمته، واعترف بروعة بيانه، وعظمة إعجازه .
وهذا الأثر الذي يتركه القرآن في نفوس سامعيه، ذكر الله طبيعته، فقال يخاطب الناس جميعاً: ﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ﴾ [ يونس : 57 ]، فهو إذن موعظة، والموعظة من شأنها أنها إذا استقرت في قلب سليم فإنها تهزه هزاً عنيفاً، لا تدع في النفس شيئاً مما لا يرضي الله ـ تعالى ـ إلاَّ اقتلعته من جذوره .
وليس في هذا الكلام عجب، فكم من إنسان معرض عن ربه، بعيد عنه كل البعد ما إن يسمع شيئاً من كلام الله، وتلامس شغاف قلبه حتى تراه يهتز من الأعماق متأثراً بعظمة هذا الكلام، مستجيباً لهاتيك الموعظة البليغة .
وقد عبَّر عن هذا المشهد المؤثر جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ حينما سمع آيات من القرآن من سورة الطور من فيّ رسول الله  فخفق فؤاده، وطار لبُّه، وقال: (( كاد قلبي أن يطير )). ( )
وهذا مصداق لقوله ـ عز وجل ـ ﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾ [ الحشر : 21 ]، فالجبل على عظمته وشموخه يخشع ويتصدع، فما بالك بقلب ابن آدم، تلك المضغة الطرية الصغيرة ؟!
إذن فهذه هي روعة القرآن التي أخذت بلبِّ ذلك العصر الأول كله مؤمنهم وكافرهم، فأما المؤمنون فهو أمر ظاهر للعيان، والواقع شاهد عليه، وأما المشركون الجاحدون فأذكر شاهداً واحداً من شواهد كثيرة، يدل على إعجابهم وانبهارهم بالقرآن العظيم، وذلك: ماكان من أمر رؤساء كفار قريش أبي جهل، وأبي سفيان، والأخنس بن شريق فقد كان كل واحد منهم يتسلل ليلاً فيصغي إلى رسول الله  وهو يتلو القرآن، يسمعه، ويلذُّ به، ويُطرب سمعه، حتى إذا قفل كل واحد منهم، وجمعهم الطريق، تلاوموا على هذا العمل أشد اللوم، وتعاهدوا ألاّ يعودوا، ثم هم بعد يعودون إليه ثلاث ليال متتابعة . ( )
فنرى في هذه القصة أن كفرهم لم يقف حائلاً بينهم وبين الاستماع إلى القرآن الكريم، والميل إليه، لِما يجدون في نفوسهم من النشوة والانجذاب إليه وهو يُلقى على مسامعهم، وصدق الله ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ... ﴾ [ النمل : 14 ]، بل ولأمرٍ ما قال هؤلاء الرؤساء لأتباعهم ﴿... لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ... ﴾ [ فصلت : 26 ] ؛ وذلك أن هذه المقولة تدل بجلاء (( على الذعر الذي كان يضطرب في نفوسهم من تأثير هذا القرآن فيهم، وفي أتباعهم، وهم يرون هؤلاء الأتباع يُسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوها محمد أو أحد أتباعه، فتنقاد إليهم النفوس، وتهوى إليهم الأفئدة، ويُهرع إليهم المتقون، ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقولة وهم في نجوة من سحر القرآن، فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روَّعتهم ما أمروا أتباعهم هذا الأمر، وما أشاعوا في قولهم هذا التحذير الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير )) ( )، ومن هنا يتبين أن المشركين لم يجدوا حلاً لوقف أثر القرآن الكريم في نفوس الناس إلاً بهذا العمل المشين، وما هي إلاَّ حيلة العاجز المغلوب على أمره.
وهذه المؤامرة ـ كما يذكر الطاهر بن عاشور ـ : (( من شأن دعاة الباطل والضلال أن يكمموا أفواه الناطقين بالحق والحجة بما يستطيعون من تخويف وترهيب وترغيب، فهم لا يدعون الناس يتجادلون بالحجة، ويتراجعون بالأدلة؛ لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهض، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها، ولكن بأساليب من البهتان والتضليل، فإذا أعيتهم الحيل، ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعمَّ نورها الناس الذين فيهم بقية من خير ورشد، عدلوا إلى لغو الكلام، ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة؛ لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق، ويغمرون القول الصالح باللغو، وكذلك شأن هؤلاء )).( )، وإن أعيتهم هذه الحيلة ـ أيضاً ـ ولم يجدوا نفعها لجأوا إلى البغي والظلم والقتل؛ بغية أن يوقفوا سير الدعوة ودعاتها، وما علموا أن الله غالب على أمره، وناصر دينه .
وما هذا الانبهار، وذلك الإعجاب الذي شدَّ سامعيه إليه إلاَّ شيء كامن فيه، وهو ذلك الأمر الذي أعجبهم، وهزَّ أريحيتهم، وفعل فعله في كوامن نفوسهم، حتى عدَّه الخطابي وجهاً من أوجه إعجاز القرآن الكريم، حين قال: (( لقد قلتُ في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلاَّ الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه في القلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً أو منثوراً إذا قرع السمع خلُص إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفَرَق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج منه القلوب، يحول بين النفوس ومضمراتها، وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو لرسول الله  من رجال العرب وفُتْاكِها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيماناً‎، وهو ذلك القرآن العظيم الذي لما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت:﴿ إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنا به...﴾[ الجن :1 ـ 2 ] )).( )
ولكن بعد هذا الاتفاق على هذه الروعة، والإجماع على تلك العظمة، وعلى ذلك السرِّ المؤثر الذي يجدون إيقاعه يتردد في حنايا النفس وزواياها، بعد هذا كله يفترقون، فقال الكافرون: شعر وسحر،كما حكى الله عن واحد منهم، معبراً عن رأيهم جميعاً في قوله ﴿ فقال إن هذا إلاَّ سحر يؤثر * إن هذا إلاَّ قول البشر ﴾ [ المدثر : 24 ـ 25 ]، وقال المؤمنون: كلام الله رب العالمين، آمنا به كل من عند ربنا، ومن ذلك الزمن مازال الناس على مفترق الطرق في سبب هذه الروعة، وفي بيان ذلك الإعجاز، وقد أشار الخطابي إلى هذا الاختلاف في سبب إعجاز القرآن، في قوله: (( وقد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم بعد صدروا عن رِيٍّ؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته )) . ( )
فهم من ذلك العهد القديم مختلفون، ولا يزالون مختلفين؛ إذ إن القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، ولا تُحدُّ وجوه إعجازه، لذا فقد طفق العلماء قديماً وحديثاً ينظرون في أسرار القرآن العظيم، وفي ذكر وجوه إعجازه، والإشارة إليها، والإشادة بها، فذكروا كثيراً من وجوه إعجاز القرآن العظيم . ( )
ومع هذا فليس لأحد أن يقصر وجوه إعجاز القرآن الكريم على ماذكره السابقون، بل لا بد أن نعلم علماً يقينياً أن القرآن وإعجازه لا يقف عند حدٍّ معين (( فعلى الرغم من كثرة ما كُتب عن الإعجاز القرآني في القديم والحديث على السواء، فإنه ما يزال قطرة من بحر ما ينبغي أن يُكتب للكشف عن هذه الجوانب التي لا تبلى على كثرة التردد، إذ كلما أمعن الباحثون النظر فيه، وأخلصوا النية له، وامتلكوا وسائل البحث الجاد من علم بالتراث، وفقه في اللغة، وبصر بالأساليب، وذوق أدبي مرهف، صقلته القراءة الواعية المتنوعة تكشف لهم عن عطاء سخي لا ينفد، ومعانٍ جديدة تُؤكد إعجازه )) . ( )
وسيبقى القرآن الكريم كتاباً مفتوحاً، ونبعاً فياضاً يفيض بالأسرار، والأمور العِظام، التي تشير إلى عظمة هذا الكتاب وإعجازه، وليس لأحد كائن من كان أن يُوصد الباب أمام الباحثين والدارسين، وليس لنا أبداً أن نرد من يقول في القرآن شيئاً محاولاً إظهار إعجازه، ولكننا نقول له: ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ [ البقرة : 111 ]، وبهذا البرهان فلا بأس، ولا حرج، إذ إن القرآن كتاب للأجيال كلها، ولا بد لكل جيل أن ينهل منه، وأن يقول كلمته فيه .


الحواشي والتعليقات:
(1) أخرجه البخاري في كتاب : تفسير القرآن، سورة الطور : 3 / 297 .
(2) يُنظر القصة كاملة في السيرة النبوية :1/ 328، لأبي محمد بن عبدالملك بن هشام .
(3) التصوير الفني في القرآن : 14، سيد قطب .
(4): التحرير والتنوير : 24 / 277 ، للشيخ محمد بن طاهر بن عاشور.
(5) بيان إعجاز القرآن : 71، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق ، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن .
(6) المصدر السابق : 21 .
(7) للاستزادة في هذا ، وللوقوف على أبرز ما قيل في سبب إعجاز القرآن، انظر: ثلاث رسائل في إعجار القرآن، دلائل الإعجاز، إعجاز القرآن للباقلاني، الطراز للعلوي، معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي، إعجاز القرآن للرافعي، النبأ العظيم للدكتور محمد عبدالله دراز، التصوير الفني في القرآن لسيد قطب، الإعجاز البياني للقرآن للدكتورة عائشة بنت الشاطئ ، إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق للدكتور حفني محمد شرف، البيان في إعجاز القرآن للدكتور صلاح عبدالفتاح الخالدي، دراسات حول الإعجاز البياني في القرآن للدكتور المحمدي عبدالعزيز الحناوي، الإعجاز القرآني وجوهه وأسراره للدكتور عبدالغني محمد سعد بركة، مباحث في إعجاز القرآن للدكتور مصطفى مسلم، وغيرها .
(8) من بدائع النظم القرآني :6 ، د. السيد عبدالفتاح حجاب .
 
جزاك الله خيراً يا أبا يزيد على هذه اللفتة الكريمة ، والمقدمة البلاغية التي تنادي على ما ورائها من حلقات نتابعها للإفادة منها ، ولا سيما من متخصص في هذا الجانب وثيق الصلة بكتاب الله . والقرآن الكريم - كما تفضلتم - لا تنقضي عجائبه ، ولا يمكن أن نمنع متدبراً هداه الله إلى وجه بلاغي لم يسبق إليه ، غير أنه لا بد من البرهان والدليل الذي تطمئن إليه النفوس ، حتى تبقى لكلام الله جلالته وهيبته . وقد كتب العلماء في ذلك ما تطرب له النفوس والأرواح لروعته وحسنه والحمد لله . وإنا لمنتظرون منكم يا أبا يزيد ما يبصرني وإخواني بأوجه البلاغة ، ودقائق التعبير في كلام الله من الدراسات واللفتات ، أحسن الله إليكم ، وزادكم من فضله .
 
رغم تأخرك علينا وإنتظارنا بشوق لما ستكتبه في الإعجاز البلاغي في القرآن

إلا أن روعة المقدمة التي كتبتها تجبرنا على المتابعة حتى النهاية دون كلل

بارك ربي فيك على هذا الطرح والمقدمة الموفقة أخي أبا يزيد

وننتظر المزيد من نفحات البلاغة لنحلق بنسيمها نحو الإعجاز الذي يبهر الألباب ويريح الأنفس


سؤالي
هل ستورد لنا بقية الدرر في موضوع مستقل
أم ستكمله هنا ؟

لو كتبته هنا أتمنى من أن تطلب من المشرفين بتثبيت الموضوع حتى يسهل علينا البحث عنه


فلا تتأخر علينا فأرواحنا عطشى لمعرفة بلاغة القرآن من شخص متخصص وأسلوبة رائع ومشوق

دمت بحفظ الله
 
لكم مني الشكر والتحايا

لكم مني الشكر والتحايا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكل عام وأنتم بخير، وأتقدم بالشكر الجزيل للمشرف الفاضل على الموقع، وأشكر له تعليقه على مقالي، وقد سرني تعليقه، وقد أفدت منه، فله مني الشكر والدعاء، كما أشكر الأخت الفاضلة
على تعليقها، وعلى شكرها، فقد أحسنت بي الظن، وقد بالغت في شكرها، وأدعو الله أن أكون كما ظن الناس بي
كما أرجوه الإعانة للكتابة في بلاغة القرآن وإعجازه، أما عن سؤال الأخت الفاضلة فبالنسبة للمشاركاتي القادمة فلن تكون تحت هذا العنوان، بل ستكون كل مشاركة مستقلة بذاتها، وسيكون العنوان القادم: عن وجود الغريب في القرآن الكريم، وهي تمثل رؤية خاصة بي في وجود الغريب في ا لقرآن الكريم، وشكرا لكم جميعا.
 
عودة
أعلى