مقتطفات موثقة من كتب مهمة ومختلفة -طارق منينة

قال ابن القيم في التبيان:قال { خيرات حسان } فالبياض في ألوانهن والحسن في وجوههن والملاحة في عيونهم وقد وصف الله سبحانه نساء أهل الجنة بأحسن الصفات ودل بما وصف بما سكت عنه
فإن شئت التفصيل فالذي يحمد ويستحب من وجه المرأة وبدنها وأخلاقها البياض في أربعة أشياء : اللون وبياض العين والفرق والثغر والسواد في أربعة سواد العين وسواد شعر الرأس والجفن وسواد الحاجبين والحمرة في أربعة اللسان والشفتين والوجنتين وحمرة تشوب البياض فتحسنه وتزينه ومن التدوير أربعة أشياء الوجه والرأس والكعب والمقعد ومن الطور أربعة : القامة والعنق والشعر والحاجب والسعة في أربعة : الجبهة والعين والوجه والصدر ومن الصغر في أربعة : الثدي والفم والكف والقدم ومن الطيب في أربعة : الفم والأنف والفرق والفرج ومن الضيق في موضع واحد ومن الأخلاق كما قال تعالى { عربا أترابا } إذ العرب جمع عروب وهي المرأة المتحببة إلى زوجها بأخلاقها ولطافتها وشمائلها قال ابن الأعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة إليه وقال أبو عبيدة : هي الحسنة التبعل قال المبرد : هي العاشقة لزوجها وقال البخاري في صحيحه : هي الغنجة ويقال الشكلة فهذا وصف أخلاقهن وذلك وصف خلقهن وأنت إذا تأملت الصفات التي وصفهن الله بها رأيتها مستلزمة لهذه الصفات ولما وراءها والله المستعان-(1/169)
ومقدمة النص:وأما الحور العين فقال مجاهد : التي يحار فيها الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وقال قتادة بحور أي بيض وكذا قال ابن عباس وقال مقاتل : الحور البيض الوجوه العين : الحسان الأعين وعين حوراء : شديدة السواد نقية البياض طويلة الأهداب مع سوادها كاملة الحسن ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد فوصفهن بالبياض والحسن والملاحة كما قال { خيرات حسان } فالبياض في ألوانهن والحسن في وجوههن والملاحة في عيونهم وقد وصف الله سبحانه نساء أهل الجنة بأحسن الصفات ودل بما وصف بما سكت عنه
 
السببية وابن القيم
قال في التبيان:ففي الرياح من العبر هبوبها وسكونها ولينها وشدتها واختلاف طبائعها وصفاتها ومهابها وتصريفها وتنوع منافعها وشدة الحاجة إليها فللمطر خمسة رياح : ريح ينشر سحابه وريح يؤلف بينه وريح تلقحه وريح تسوقه حيث يريد الله وريح تذور أمامه وتفرقه وللنبات ريح وللسفن ريح وللرحمة ريح وللعذاب ريح إلى غير ذلك من أنواع الرياح وذلك تقضى بوجود خالق مصرف لها مدبر لها يصرفها كيف شاء ويجعلها رخاء تارة ورحمة تارة وعذابا تارة فتارة يحيي بها الزرع والثمار وتارة بغطيها بها وتارة ينحى بها السفن وتارة يهلكها بها وتارة ترطب الأبدان وتارة تذيبها وتارة عقيما وتارة لاقحة وتارة جنوبا وتارة دبورا وتارة صبا وتارة شمالا وتارة حارة وتارة باردة وهي مع غاية قوتها ألطف شيء وأقبل المخلوقات لكل كيفية سريعة التأثر والتأثير لطيفة المسارق بين السماء والأرض إذا قطع عن الحيوان الذي على وجه الأرض هلك كبحر الماء الذي إذا فارقه حيوان الماء هلك يحسبها الله سبحانه إذا شاء ويرسلها إذا شاء تحمل الأصوات إلى الأذان والرائحة إلى الأنف والسحاب إلى الأرض الجرز وهي من روح الله تأتي بالرحمة ومن عقوبته تأتي بالعذاب وهي أقوى خلق الله كما رواه الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال وقالوا يارب هل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال نعم النار قالوا : يارب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال نعم النار قالوا : يارب فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قاع نعم الماء قالوا : يارب فهل من خلقك أشد من الماء ؟ قال نعم الريح قالوا : يارب فهل من خلقك أشد من الريح ؟ قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله ] ورواه الإمام أحمد في مسنده وفي الترمذي في حديث قصة عاد أنه لم يرسل عليهم من الريح إلا قدر حلقة الخاتم فلم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وقد وصفها الله بأنها عاتية قال البخاري في صحيحه : عتت على الخزنة فلم يستطيعوا أن يردوها
والمقصود أن الرياح أعظم من آيات الرب الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته
(1/172)
 
قال ابن القيم في التبيان:ثم أقسم بالسحاب وهو من أعظم آيات الله في الجو في غاية الخفة ثم يحمل الماء والبرد فيصير أثقل شيء فيأمر الرياح فتحمله على متونهما وتسير به حيث أمرت فهو مسخر بين السماء والأرض حامل لأرزاق العباد والحيوان فإذا أفرغه حيث أمر به اضمحل وتلاشى بقدرة الله فإنه لو بقي لأضر النبات والحيوان فأنشأه سبحانه في زمن يصلح إنشاؤه فيه وحمله من الماء ما يحمله وساقه إلى بلد شديد الحاجة إليه
فسل السحاب من أنشأه بعد عدمه ؟ وحمله الماء والثلج والبرد ؟ ومن حمله على ظهور الرياح ؟ ومن أمسكه بين السماء والأرض بغير عماد ؟ ومن أغاث بقطره العباد وأحيا به البلاد وصرفه بين خلقه كما أراد وأخرج ذلك القطر بقدر معلوم وأنزله منه وأفناه بعد الاستغناء عنه ولو شاء لأدامه عليهم فلم يستطيعوا إلى دفعه سبيلا ولو شاء لأمسكه عنهم فلا يجدون إليه وصولا فإن لم يحبك جوابا حباك اعتبار مرسل الرياح من أنشأها بقدرته ؟ وصرفها بحكمته وسخرها بمشيئته وأرسلها بشرا بين يدي رحمته جعلها سببا لتمام نعمته وسلطانا على من شاء بعقوبته ؟ ومن جعلها رخاء وذراية ولاقحة ومثيرة ومؤلفة ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات وجعلها قاصفا وعاصفا ومهلكة وعاتية ؟ إلى غير ذلك من صفاتها فهل ذلك لها من نفسها وذاتها أم تدبير مدبر شهدت الموجودات بربوبيته وأقرت المصنوعات بوحدانيته بيده النفع والضر وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ؟
وسل الجاريات يسرا من السفن : من أمسكها على وجه الماء وسخر لها البحر ؟ ومن أرسل لها الرياح التي تسوقها على الماء سوق السحاب على متون الرياح ؟ ومن حفظها في مجراها ومرساها من طغيان الماء وطغيان الريح ؟ فمن الذي جعل الريح لها بقدر لو زاد عليها لأغرقها ولو نقص عنه لعاقها ؟ ومن الذي أجرى لها ريحا واحدة تسير بها ولم يسلط على تلك الريح ما يصادمها ويقاومها فتتموج في البحر يمينا وشمالا تتلاعب بها الريح ؟ ومن الذي علم الخلق الضعيف صنعة هذا البيت العظيم الذي يمشي على الماء فيقطع المسافة البعيدة ويعود إلى بلده يشق الماء ويمخره مقبلا ومدبرا بريح واحدة تجري في موج كالجبال { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير } ومن الذي حمل في هذا البيت نبيه وألياءه خاصة وأغرق جميع أهل الأرض سواهم ؟
وسل الجاريات يسرا من الكواكب والشمس والقمر : من الذي خلقها وأحسن خلقها ورفع مكانها وزين بها قبة العالم وفاوت بين أشكالها ومقاديرها وألوانها وحركاتها وأماكنها من السماء فمنها الكبير ومنها الصغير والمتوسط والأبيض والأحمر والزجاجي اللون والدري اللون والمتوسط في قبة الفلك والمتطرف في جوانبها وبين ذلك ؟ ومنها ما يقطع الفلك في شهر ومنها ما يقطعه في عام ومنها ما يقطعه في ثلايين عاما ومنها ما يقطعه في أضعاف ذلك ومنها ما لا يزال ظاهرا لا يغيب بحال فهو أبدي ومنها أبدي الخفاء ومنها ما له حالتان ظهور واختفاء ومنها ما له حركتان حركة عرضية من المشرق إلى المغرب وحركة ذاتية من المغرب إلى المشرق فحالما يأخذ الكوكب في الغروب فإذا كوكب آخر في مقابلته وكوكب آخر قد طلع وهو آخذه في الارتفاع والتصاعد وكوكب آخر في الربع الشرقي وكوكب آخر في وسط السماء وكوكب آخر قد مال عن الوسط وآخر قد دنا من الغروب وكأنه رقيبه ينتظر بطلوعه غيبته
وأنت إذا تأملت أحوال هذه الكواكب وجدتها تدل على المعاد كما تدل على المبدأ وتدل على وجود الخالق وصفات كماله وربوبيته وحكمته ووحدانيته أعظم دلالة وكل ما دل على صفات جلاله ونعوت كما له دل على صدق رسله فكما جعل الله النجوم هداية في طريق البر والبحر فهي هداية في طرق العلم بالخالق سبحانه وقدرته وعلمه وحكمته والمبدأ والمعاد والنبوة ودلالتها على هذه المطالب لا تقتصر عن دلالتها على طرق البر والبحر بل دلالتها للعقول على ذلك أظهر من دلالتها على الطرق الحسية فهي هداية في هذا وهذا
 
في الغيب السببية وهو مالم يفهمه العلمانيين!
قال ابن القيم في التبيان
:"أما دلالة ( المقسمات أمرا ) وهم الملائكة فلأن ما يشاهد من تدبير العالم العلوي والسفلي ومالا يشاهد إنما هو على أيدي الملائكة فالرب تعالى يدبر بهم أمر العالم وقد وكل بكل عمل من الأعمال طائفة منهم فوكل بالشمس والقمر والنجوم والأفلاك طائفة منهم ووكل بالقطر والسحاب طائفة ووكل بالنبات طائفة ووكل بالأجنة والحيوان طائفة ووكل بالموت طائفة وبحفظ بني آدم طائفة وبإحصاء أعمالهم وكتابتها طائفة وبالوحي طائفة وبالجبال طائفة وبكل شأن من شئون العالم طائفة هذا مع ما في خلق الملائكة من البهاء والحسن وما فيهم من القوة والشدة ولطاقة الجسم وحسن الخلقة وكمال الانقياد لأمره والقيام في خدمته وتنفيذ أوامره في أقطار العالم
ثم أقسم سبحانه بهذه الأمور على صدق وعده ووقوع جزائه بالثواب والعقاب فقال : { إنما توعدون لصادق } أي ما توعدون من أمر الساعة والثواب والعقاب لحق كائن وهو وعد صدق لا كذب ( وإن الدين لواقع ) أي إن الجزاء لكائن لا محالة ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة والعائد محذوف والمعنى أن الذي توعدونه لصادق أي كائن وثابت وأن تكون مصدرية أي إن وعدكم لحق وصدق
(1/176)
 
قال ابن القيم في التبيان:( إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك ) فالقول المختلف أقوالهم في القرآن وفي النبي صلى الله عليه و سلم وهو خرص كله فإنهم لما كذبوا بالحق اختلفت مذاهبهم وآراؤهم وطرائقهم وأقوالهم فإن الحق شيء واحد وطريق مستقيم فمن خالفه اختلفت به الطرق والمذاهب كما قال تعالى { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } أي : مختلط ملتبس وفي ضمن هذا الجواب : أنكم في أقوال باطلة متناقضة يكذب بعضها بعضا بسبب تكذيبهم بالحق (1/178)
 
قال ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن:ثم ذكرهم سبحانه بآياته الأفقية والنفسية فقال { وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون }
 
قال ابن القيم في التبيان:ثم ذكرهم سبحانه بآياته الأفقية والنفسية فقال { وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فآيات الأرض أنواع كثيرة منها خلقها وحدوثها بعد عدمها وشواهد الحدوث والافتقار إلى الصانع عليها لا تجحد فإنها شواهد قائمة بها ومنها بروز هذا الجانب فيها عن الماء مع كون مقتضى الطبيعة أن يكون مغمورا به ومنها سعتها وكبر خلقها ومنها تسطيحها كما قال تعالى { وإلى الأرض كيف سطحت } ولا ينافى ذلك كونها كرية فهي كرة في الحقيقة لها سطح يستقر عليه الحيوان ومنها أنه جعلها فراشا لتكون مقر الحيوان ومساكنه وجعله قرارا وجعلها مهادا ذلولا توطأ بالأقدام وتضرب بالمعاول والفئوس وتحمل على ظهرها الأبينة الثقال فهي ذلول مسخرة لما يريد العبد منها وجعلها بساطا وجعلها كفاتا للأحياء تضمهم على ظهرها وللأموات تضمنهم في بطنها وطحاها فمدها وبسطها ووسعها ودحاها فهيأها لما يراد منها بأن أخرج منها ماءها ومرعاها وشق فيها الأنهار وجعل فيها السبل والفجاج ونبه بجعلها مهادا وفراشا على حكمته في جعلها ساكنة وذلك آية أخرى إذ لا دعامة تحتها تمسكها ولا علاقة فوقها ولكنها لما كانت على وجه الماء كانت تكفأ فيه كما تكفأ السفينة فاقتضت العناية الأزلية والحكمة الإلهية أن وضع عليها رواسي يثبتها بها لئلا تميد وليستقر عليها الأنام وجعلها ذلولا على الحكمة في أن لم تكن في غاية الصلابة والشدة كالحديد فيمتنع حفرها وشقها والبناء فيها والغرس والزرع وبعث النوم عليها والمشي فيها ونبه بكونها قرارا على الحكمة في أنها لم تخلق في غاية اللين والرخاوة والدماثة فلا تمسك بناء ولا يستقر عليها الحيوان ولا الأجسام الثقيلة : بل جعلها بين الصلابة والدماثة وأشرف الجواهر عند الإنسان الذهب والفضة والياقوت والزمرد فلو كانت الأرض من هذه الجواهر لفاتت مصالح العباد والحيوان منها وتعطلت المنافع المقصودة منها وبهذا يعلم أن جواهر التراب أشرف من هذه الجواهر وأنفع وأبرك وإن كانت تلك أعلى وأعز فغلاؤها وعزتها لقاتها وإلا فالتراب أنفع منها وأبرك وأنفس وكذلك لم يجعلها شفافة فإن الجسم الشفاف لا يستقر عليه النور وما كان كذلك لم يقبل السخونة فيبقى في غاية البرد فلا يستقر عليه الحيوان ولا يتأتى فيه النبات وكذلك لم يجعلها صقيلة براقة لئلا يحترق ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس كما يشاهد من احتراق القطن ونحوه عند انعكاس شعاع الجسم الصقيل الشفاف فاقتضت حكمته سبحانه أن جعلها كثيفة غبراء فصلحت أن تكون مستقرا للحيوان والأنام والنبات
ولما كان الحيوان الهوائي لا يمكنه أن يعيش في الماء كالحيوان المائي أبرز له جانبها كما تقدم وجعله على أوفق الهيئات لمصالحه وأنشأ منها طعامه وقوته وكذلك خلق منها النوع الإنساني وأعاده إليها ويخرجه منها ومن آياتها أن جعلها مختلفة الأجناس والصفات والمنافع مع أنها قطع متجاورات متلاصقة فهذه سهلة وهذه حزنة تجاورها وتلاصقها وهذه طيبة تنبت وتلاصقها أرض لا تنبت وهذه تربة وتلاصقها رمال وهذه صلبة ويلاصقها ويليها رخوة وهذه سوداء ويليها أرض بيضاء وهذه حصى كلها ويجاورها أرض لا يوجد فيها حجر وهذه تصلح لنبات كذا وكذا وهذه لا تصلح له بل تصلح لغيره وهذه سبخة مالحة وهذه بضدها وهذه ليس فيها جبل ولا معلم وهذه مسجرة بالجبال وهذه لا تصلح إلا على المطر وهذه لا ينفعها المطر بل لا تصلح إلا على سقي الأنهار فيمطر الله سبحانه الماء على الأرض البعيدة ويسوق الماء إليها على وجه الأرض
فلو سألتها من نوعها هذا التنوع ؟ ومن فرق أجزاءها هذا التفريق ؟ ومن خصص كل قطعة منها بما خصها به ؟ ومن ألقى عليها رواسيها وفتح فيها السبل وأخرج منها الماء والمرعى ؟ ومن أمسكها عن الزوال ؟ ومن بارك فيها وقدر فيها أقواتها وأنشأ منها حيوانها ونباتها ؟ ومن وضع فيها معادتها وجواهرها ومنافعها ؟ ومن هيأها مسكنا ومستقرا للأنام ؟ ومن يبدأ الخلق منها ثم يعيده إليها ثم يخرجه منها ؟ ومن جعلها ذلولا غير مستصعبة ولا ممتنعة ؟ ومن وطأ مناكبها وذلك مسالكها ووسع مخارجها وشق أنهارها وأنبت أشجارها وأخرج ثمارها ؟ ومن صدعها عن النبات وأودع فيها جميع الأقوات ؟ ومن بسطها ؟ وفرشها ومهدها وذللها وطحاها ودحاها وجعل ما عليها زينة لها ؟ ومن الذي يمسكها أن تتحرك فتتنزلزل فيسقط ما عليها من بناء ومعلم أو يخسفها بمن عليها فإذا هي تمور ؟ ومن الذي أنشأ منها النوع الإنساني الذي هو أبدع المخلوقات وأحسن المصنوعات بل أنشأ منها آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه و سلم وعليهم أجمعين وأنشأ منها أولياءه وأحباءه وعباده الصالحين ؟ ومن جعلها حافظة لما استودع فيها من المياه والأرزاق والمعادن والحيوان ؟ ومن جعل بينها وبين الشمس والقمر هذا القدر من المسافة فلو زادت على ذلك لضعف تأثرها بحرارة الشمس ونور القمر فتعطلت المنفعة الواصلة إلى الحيوان والنبات بسبب ذلك ولو زادت في القرب لاشتدت الحرارة والسخونة - كما نشاهده في الصيف - فاحترقت أبدان الحيوان والنبات وبالجملة فكانت تفوت هذه الحكمة التي بها انتظام العالم ؟ ومن الذي جعل فيها الجنات والحدائق والعيون ؟ ومن الذي جعل باطنها بيوتا للأموات وظاهرها بيوتا للأحياء ؟ ومن الذي يحييها بعد موتها فينزل عليها الماء من السماء ثم يرسل عليها الريح ويطلع عليها الشمس فتأخذ في الجبل فإذا كان وقت الولادة مخضت للوضع واهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج
فسبحان من جعل السماء كالأب والأرض كالأم والقطر كالماء الذي ينعقد منه الولد فإذا حصل الحب في الأرض ووقع عليه الماء أثرت نداوة الطين فيه وأعانتها السخونة المختفية في باطن الأرض فوصلت النداوة والحرارة إلى باطن الحبة فاتسعت الحبة وربت وانتفخت وانفلقت عن ساقين : ساق من فوقها وهو الشجرة وساق من تحتها وهو العرق ثم عظم ذلك الولد حتى لم يبق لأبيه نسبة إليه ثم وضع من الأولاد بعد أبيه آلافا مؤلفة كل ذلك صنع الرب الحكيم في حبة واحدة لعلها تبلغ في الصغر إلى الغاية وذلك من البركة التي وضعها الله سبحانه في هذه الأمر
فيالها من آية تكفي وحدها في الدلالة على وجود الخالق وصفات كماله وأفعاله وعلى صدق رسله فيما أخبروا به عنه بإخراج من في القبور ليوم البعث والنشور
فتأمل اجتماع هذه العناصر الأربعة وتجاورها وامتزاجها وحاجة بعضها إلى بعض وانفعال بعضها عن بعض وتأثيره فيه وتأثره به بحيث لا يمكنه إلا الاتباع من التأثر والانفعال ولا يستقل الآخر بالتأثير ولا يستغني عن صاحبه وفي ذلك أظهر دلالة على أنها مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة حادثة بعد عدمها فقيرة إلى موجد غني عنها مؤثر غير متأثر قديم غير حديث تنقاد المخلوقات كلها لقدرته وتجيب داعي مشيئته وتلبي داعي وحدانيته وربوبيته وتشهد بعلمه وحكمته وتدعو عباده إلى ذكره وشكره وطاعته وطاعته وعبوديته ومحبته وتحذرهم من بأسه ونقمته وتحثهم على المبادرة إلى رضوانه وجنته
فانظر إلى الماء والأرض كيف لما أراد الرب تعالى امتزاجهما وازدواجهما أنشأ الرياح فحركت الماء وساقته إلى أن قذفته في عمق الأرض ثم أنشأ لها حرارة لطيفة سماوية وحصل بها الإنبات ثم أنشأ لها حرارة أخرى أقوى منها حصل بها الانفتاح وكانت حالته الأولى تضعف عن الحرارة الثانية فادخرت إلى وقت قوته وصلابته فحرارة الربيع للإخراج وحرارة الصيف للإنضاج هذا وإن الأم واحدة والأب واحد واللقاح واحد والأولاد في غاية التباين والتنوع كما قال تعالى { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }
فهذا بعض آيات الأرض ومن الآيات التي فيها وقائعه سبحانه التي أوقعها بالأمم المكذبين لرسلهم المخالفين لأمره وأبقى آثارهم دالة عليهم كما قال تعالى { وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم } وقال في قوم لوط { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون } وقال { فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن في ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم } أي بطريق ثابت لا يزول عن حاله وقال { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين } أي ديار هاتي الأمتين لبطريق واضح يمر به السالكون وقال تعالى { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } وقال عن قوم عاد { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } وقال { أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم } فأي دلالة أعظم من رجل يخرج وحده لا عدة له ولا عدد ولا مال فيدعو الأمة العظيمة إلى توحيد الله والإيمان به وطاعته ويحذرهم من بأسه ونقمته فتتفق كلمتهم أو أكثرهم على تكذيبه ومعاداته فيذكرهم أنواع العقوبات الخارجة عن قدرة البشر فيغرق المكذبين كلهم تارة ويخسف بغيرهم الأرض تارة ويهلك آخرين بالريح وآخرين بالصيحة وآخرين بالمسخ وآخرين بالصواعق وآخرين بأنواع العقوبات وينجو داعيهم ومن معه والهالكون أضعاف أضعاف أضعافهم عددا وقوة ومنعة وأموالا
( فيالك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا )
( ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا )
فهلا امتنعوا - إن كانوا على الحق وهم أكثرهم عددا وأقوى شوكة - بقوتهم وعددهم من بأسه وسلطانه وهلا اعتصموا من عقوبته كما اعتصم من هو أضعف منهم من أتباع الرسل ؟
ومن الآيات التي في الأرض مما يحدثه الله فيها كل وقت ما يصدق به رسله فيما أخبرت به فلا تزال آيات الرسل وأعلام صدقهم وأدلة نبوتهم يحدثها الله سبحانه وتعالى في الأرض إقامة للحجة على من لم يشاهد تلك الآيات التي قاربت عصر الرسل حتى كأن أهل كل قرن يشاهدون ما يشاهده الأولون أو نظيره كما قال { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } وهذه الإرادة لا تختص بقرن دون قرن بل لابد أن يري الله سبحانه أهل كل قرن من الآيات ما يبين لهم أن الله الذي لا إله إلا هو وأن رسله صادقون وآيات الأرض أعظم مما ذكر وأكثر فنبه باليسير منها على الكثيرثم قال { وفي أنفسكم أفلا تبصرون ؟ } لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه فإذا تفكر الانسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية وسطعت له أنوار اليقين واضمحلت عنه غمرات الشك والريب وانقشعت عنه ظلمات الجهل فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره دالة عليه مرشدة إليه إذا يجده مكونا من قطره ماء : لحوما منضدة وعظما مركبة وأوصالا متعددة مأسورة مشددة بحباله العروق والأعصاب قد قمطت وشدت وجمعت بجلد متين مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلا ما بين كبير وصغير وثخين ودقيق ومستطيل ومستدير ومستقيم ومنحن وشدت هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عرقا للإتصال والإنفصال والقبض والبسط والمد والضم والصنايع والكتابة
وجعل فيه تسعة أبواب : فبابان للسمع وبابان للبصر وبابان للشم وبابان للكلام والطعام والشراب والتنفس وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها
وجعل داخل بابي السمع مرا قاتلا لئلا تلج فيها تخلص إلى الدماغ فتؤذيه وجعل داخل بابي البصر مالحا لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هناك من الشحم وجعل داخل باب الطعام والشراب حلوا ليسيغ به ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به لو كان مرا أو مالحا
وجعل له مصباحين من نور كالسراج المضيء مركبين في أعلى مكان منه وفي أشرف عضو من أعضائه طليعة له وركب هذا النور في جزء صغير جدا يبصر به السماء والأرض وما بينهما وغشاه بسبع طبقات وثلاث رطوبات بعضها فوق بعض حماية له وصيانة وحراسة وجعل على محله غلقا بمصراعين أعلا وأسفل وركب في ذيل المصراعين أهدابا من الشعر وقاية للعين وزينة وجمالا وجعل فوق ذلك كله حاجبين من الشعر يحجبان العين من العرق النازل ويتلقيان عنها ما ينصب من هناك وجعل سبحانه لكل طبقة من طبقات العين شغلا مخصوصا ولكل واحد من الرطوبات مقدارا مخصوصا لو زاد على ذلك أو نقص منه لاختلت المنافع والمصالح المطلوبة وجعل هذا النور الباصر في قدر عدسة ثم أظهر في تلك العدسة صورة السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والعالم العلوي والسفلي مع اتساع أطرافه وتباعد أقطاره واقتضت حكمته سبحانه أن جعل فيها بياضا وسوادا وجعل القوة الباصرة في السواد وجعل البياض مستقرا لها ومسكنا وزين كلا منهما بالآخر وجعل الحدقة مصونة بالأجفان والحواجب كما تقدم والحواجب الأهداب وجعلها سوداء إذ لو كانت بيضاء لتفرق النور الباصر فضعف الإدراك فإن السواد يجمع البصر ويمنع من تفرق النور الباصر وخلق سبحانه لتحريك الحدقة وتقليبها اربعا وعشرين عضلة لو نقصت عضلة واحدة لاختل أمر العين
ولما كانت العين كالمرآة التي إنما تنطبع فيها الصور إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء جعل سبحانه هذه الأجفان متحركة جدا بالطبع إلى الانطباق من غير تكلف لتبقى هذه المرآة نقية صافية من جميع الكدورات ولهذا لما لم يخلق لعين الذبابة أجفانا فإنها لا تزال تراها تنظف عينها بيدها من آثار الغبار و الكدورات وكما جعل سبحانه العينين مؤديتين للقلب ما يريانه فيوصلانه إليه كما ترياه جعلهما مرآتين للقلب يظهر فيهما ما هو مودع فيه من الحب والبغض والخير والشر والبلادة والفطنة والزيغ والاستقامة فيستدل بأحوال العين على أحوال القلب وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة : وهي فراسة العين وفراسة الأذن وفراسة القلب فالعين مرآة للقلب وطليعة ورسول ومن عجيب أمرها أنها من ألطف الأعضاء وأبعدها تأثرا بالحر والبرد على أن الأذن على صلابتها وغلظها لتتأثر بهما أكثر من تأثر العين على لطافتها وليس ذلك بسبب الغطاء الذي عليها من الأجفان فإنها لو كانت متفتحة لم تتأثر بذلك تأثر الأعضاء اللطيفة ومن ذلك : الأذنان شقهما تبارك وتعالى في جانبي الوجه وأودعهما من الرطوبة ما يكون معينا على إدراك السمع وأودعهما القوة السمعية وجعل سبحانه في هذه الصدقة انحرافات واعوجاجات لتطول المسافة قليلا فلا يصل الهواء إلا بعد انكسار حدته فلا يصدمها وهلة واحدة فيؤذيها وأيضا لئلا يفجأها الداخل إليها من الدبيب والحشرات بل إذا دخل إلى عوجة من تلك الإنعطافات وقف هناك فسهل إخراجه
وكانت العينان في وسط الوجه والأذنان في جانبيه لأن العينين محل الملاحة والزينة والجمال وهما بمنزلة النور الذي يمشي بين يدي الإنسان وأما الأذنان فكان جعلهما في الجانبين لكون إدراكهما لما خلف الإنسان وأمامه وعن يمينه وعن شماله سواء فتأتي المسموعات إليهما على نسبة واحدة وخلف العينان بغطاء والأذنان بغير غطاء وهذا في غاية الحكمة إذ لو كان للأذنين غطاء لمنع الغطاء إدراك الصوت فلا يحصل إلا بعد ارتفاع الغطاء والصوت عرض لا ثبات له فكان يزول قبل كشف الغطاء بخلاف ماتراه العين فإنه أجسام وأعراض لاتزول فيما بين كشف الغطاء وفتح العين وجعل سبحانه الأذن عضوا غضروفيا ليس بلحم مسترخ ولا عظم صلب بل هي بين الصلابة واللين فتقبل بلينها وتحفظ بصلابتها ولا تنصدع انصداع العظام ولا تتأثر بالحر والبرد والشمس والسموم تأثر اللحم إذ المصلحة في بروزها لتتلقى ما يرد عليها من الأصوات والأخبارومن ذلك الأنف نصبه سبحانه في وسط الوجه قائما معتدلا في أحسن شكل وأوفقه للمنفعة وأودعه حاسة الشم التي يدرك بها الروائح وأنواعها وكيفياتها ومنافعها ومضارها ويستدل بها على مضار الأغذية والأدوية ومنافعها وأيضا فإنه يستنشق بالمنخرين الهواء البارد الرطب فيؤديه إلى القلب فيتروح به فيستغني بذلك عن فتح الفم أبدا وجعل تجويفه بقدر الحاجة فلم يوسعه عن ذلك فيدخله هواء كثير ولم يضيقه فلا يدخله من الهواء ما يكفيه وجعل ذلك التجويف مستطيلا لينحصر فيه الهواء وينكسر برده وحدته قبل أن يصل إلى الدماغ فلولا ذلك لصدمه بحدته وقوته
والهواء الذي يستنشقه الأنف ينقسم شطرين : شطرا يصعد إلى الدماغ وشطرا ينزل إلى الرئة وهو من آلات النطق فإن له إعانة على تقطيع الحروف وكما أن تجويفه جعل لاستنشاق الهواء فإنه جعل مصبا لفضلات الدماغ تنحدر فيه في تلك القصبة فيخرج فيستريح الدماغ ولذلك جعل عليها سترا ولم يجعلها بارزة فتستقبحها العيون وجعل فيها تجويفا فإنه قد ينسد أحدهما أو يعرض له آفة تمنعه من الإدراك والاستنشاق فيبقى التجويف الثاني نائبا عنه يعمل عمله كما اقتضت الحكمة مثل ذلك في العينين
ثم تأمل الهواء الذي يستنشقه الأنف كيف يدخله أولا من المنخرين وينكسر برده هناك ثم يصل إلى الحلق فيعتدل مزاجه هناك ثم يصل إلى الرئة ألطف ما يكون ثم تبعثه الرئة إلى القلب فيروح عن الحرارة الغريزية التي فيه ثم ينفذ من القلب إلى العروق المتحركة ويبلغ إلى أقاصي أطراف البدن ثم إذا سخن في الباطن وخرج عن حد الانتفاع خرج عن تلك الأقاصي إلى البدن ثم إلى الرئة ثم إلى الحلقوم ثم إلى المنخرين خارجا فيخرج منهما ويعود عوضه هواء بارد نافع والنفس الواحد من أنفاس العبد إنما يتم بمجموع هذه الأمور والقوى والأفعال وهو له في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس لله في كل نفس عدة نعم قد وقفت على القليل منها فما ظنك بما وراء النفس من الأعضاء والقوى ومنافعها وتمام النعمة بها ؟وأما الفم فمحل العجائب وباب الطعام والشراب والنفس والكلام ومكن اللسان الناطق الذي هوآلة العلوم وترجمان القلب ورسوله المؤدي عنه
ولما كان القلب ملك البدن ومعدنا للحرارة الغريرية فإذا دخل الهواء البارد وصل إليه فاعتدلت حرارته وبقي هناك ساعة فسخن واحترق فاحتاج القلب إلى دفعه وإخراجه فجعل أحكم الحاكمين إخراجه سببا لحدوث الصوت في الحنجرة والحنك واللسان والشفتين والأسنان مقاطع ومخارج مختلفة وبسبب اختلافها تميزت الحروف بعضها عن بعض ثم ألهم العبد تركيب تلك الحروف ليؤدي بها عن القلب ما يأمر به
فتأمل الحكمة الباهرة حيث لم يضع سبحانه ذلك النفس المستغنى عنه المحتاج إلى دفعه وإخراجه بل جعل فيه إذا استغنى عنه منفعة ومصلحة هي من أكمل المنافع والمصالح فإن المقصود الأصلي من النفس هو اتصال الريح البارد إلى القلب فأما إخراج النفس هو جار مجرى دفع الفضلة الفاسدة فصرف ذلك سبحانه إلى رعاية مصلحة ومنفعة أخرى وجعله سببا للأصوات والحروف والكلام
ثم أنه سبحانه جعل الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة لتختلف الأصوات باختلافها فلا يتشابه صوتان كما لا تتشابه صورتان وهذا من أظهر الأدلة فإن هذا الاختلاف - الذي بين الصور والأصوات على كثرتها وتعددها فقلما يشتبه صوتان أو صورتان - ليس في الطبيعة ما يقتضيه وإنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين فميز سبحانه بين الأشخاص بما يدركه السمع والبصروأودع اللسان من المنافع منفعة الكلام - وهي أعظمها - ومنفعة الذوق والإدراك وجعله دليلا على اعتدال مزاج القلب وانحرافه كما جعله دليلا على استقامته واعوجاجه فترى الطبيب يستدل بما يبدو للبصر على اللسان من الخشونة والملاسة والبياض والحمرة والتشقق وغيره على حال القلب والمزاج وهو دليل قوي على أحوال المعدة والأمعاء كما يستدل السامع بما يبدو عليه من الكلام على ما في القلب فيبدو عليه صحة القلب وفساده معنى وصورة وجعل سبحانه اللسان عضوا لحميا لا عظم فيه ولا عصب لتسهل حركته ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه فإن أي عضو من الأعضاء إذا حركته كما تحرك اللسان لم يطق ذلك ولم يلبث أن يكل ويخلد إلى السكون إلا اللسان وأيضا فإن من أعدل الأعضاء وألطفها وهو في الأعضاء بمنزلة رسول الملك ونائبه فمزاجه من أعدل أمزجة البدن ويحتاج إلى قبض وبسط وحركة في أقاصي الفم وجوانبه فلو كان فيه عظام لم يتهيأ منه ذلك ولمي تهيأ منه الكلام التام ولا الذوق التام فكونه الله كما اقتضاه السبب الفاعي والغائي والله أعلم وجعل سبحانه على اللسان غلقين : أحدهما الأسنان والثاني الفم وجعل حركته اختياريه وجعل على العين غطاء واحدا ولم يجعل على الأذن غطاء وذلك لخطر اللسان وشرفه وخطر حركاته وكونه في الفم بمنزلة القلب في الصدر وذلك من اللطائف فإن آفة الكلام اكثر من آفة النظر وآفة النظر أكثر من آفة السمع فجعل للأكثر آفات طبقين وللمتوسط طبقا وجعل الأقل آفة بلا طبق وجعل سبحانه الفم اكثر الأعضاء رطوبة والريق يتحلل إليه دائما لا يفارقه وجعله حلوا لا مالحا كماء العين ولا مرا كالذي في الأذن ولا عفنا كالذي في الأنف بل هو أعذب مياه البدن وأحلاها حكمة بالغة فإن الطعام والشراب يخالطه بل هو الذي يحيل الطعام ويمتزج به امتزاج العجين بالماء فلولا أنه حلو لما التذ الإنسان بل ولا الحيوان بطعام ولا شراب ولا ساغه إلا على كره وتنغيص ولما كان كثير من الطعام لا يمكن تحوله إلى بعد طبخه جعل الرب تعالى له آلة للتقطيع والتفصيل وآلة للطحن فجعل آلة القطع - وهي الثنايا وما يليها - حادة الرؤوس ليسهل بها القطع وجعل النواجذ وما يليها من الأضراس مسطحة الرؤوس عريضة ليتأتى بها الطحن ونظمها احسن نظام كاللؤلؤ المنظم في سلك وجعلها من الجانب الأعلى والأسفل ليتأتى بها القطع والطحن وجعلها من الجانب الأيمن والأيسر إذ ربما كلت إحدى الآلتين أو تعطلت أو عرض لها عارض فينتقل إلى الآلة الأخرى وأيضا لو كان العمل على جانب واحد دائما أوشك أن يتعطل ويضعف
وتأمل كيف أنبتها سبحانه من نفس اللحم وتخرج من خلاله نابتة كما ينبت الزرع في الأرض ولم يكسها سبحانه لحما كسائر العظام سواها إذ لو كساها اللحم لتعطلت المنفعة المقصودة ولما كانت العظام محتاجة إلى لحم يكسوها ويحفظها ويتلقى عنها الحرارة والبرد ويحفظ عليها رطوبتها لم تكمل مصلحة الحيوان إلا بهذه الكسوة ولما كانت عظام الإنسان محتاجة إلى ذلك من وجه مستغنية عنه من وجه جعلت كسوتها منفصلة عنها وجعلت هي المكتيسة العارية لتمام المنفعة بذلك ولما كانت آلة القطع والكسر والطحن لم تنشأ مع الطفل من أول نشأته - كسائر عظامه لعدم الحاجة إليها - عطل عنها وقت استغنائه عنها بالرضاع وأعطيها وقت حاجته إليها وفيه حكمة أخرى وهي أنه لو نشأت معه من حين يولد لأضرت بحلمة الثدي إذ لا عقل له يحرزه عن عضها فكانت الأم تمتنع من إرضاعه
ومن عجيب أمرها الإتفاق والموالاة التي بينهما وبين المعدة فإنه يسلم إليها الشيء اليابس والصلب فتطحنه ثم تسلمه إلى اللسان فيعجنه ثم اللسان يسلمه إلى الحلق فيوصله إلى المعدة فتنضجه وتطبخه ثم يرسل إليها منه معلومها المقدر لها فإذا عجزت عن قطع شيء وطحنه عجزت المعدة عن إنضاجه وطبخه وإذا كلت الأسنان كلت المعدة وإذا ضعفت ضعفت
وهي تصحب الإنسان وتخدمه ما لم يرها فإذا وقعت عينه عليها فارقته الأبد وهي سلاح ومنشار وسكين وروح وزينة وفيها منافع ومصالح غير هذه ثم تأمل حال الشعر ومنبته وسببه فإن البدن لما كان حارا رطبا والحرارة إذا عملت في الرطوبة فلابد أن تثير بخارا وتلك الأبخرة تتصاعد من عمق البدن إلى سطحه وتريد الانفصال من هناك فلابد أن تحدث مساما و منافذه في ظاهر الجلد وتلك الأبخرة إما أن تكون رطبة لطيفة فحينئذ تنفصل من المسام ولا تحدث شيئا وإما أن تكون دخانية يابسة غليظة فالجلد حينئذ إما أن يكون في نهاية النعومة والنضارة كجلد الصبيان أو في غاية اليبس والقشف أو يكون معتدلا فإذ ذاك لا يتولد فيه الشعر لأن البخار إذا شق سطح الجلد وانفصل عاد الجلد إلى الحال إلى اتصاله الأول بسبب كثرة رطوبته ونعومته مثاله السمك إذا رفع رأسه من الماء إنشق له الماء فإذا عاد إلى الماء عاد إلى اتصاله الأول وكذلك نشاهد الأشياء الرطبة كالنشاء مثلا إذا أغلي فخرج البخار من موضع الغليان عادت الرطوبة إلى الموضع الذي خرج منه ذلك البخار فسدته فإن كان الجلد في غاية اليبس لم يتولد الشعر لأن الجلد اليابس إذا انثقب بقيت تلك الثقب مفتوحة ليبس الجلد فيفرق أجزاءه البخار ولا يجتمع بعضه إلى بعض فإن الجلد متوسط بين النعومة والكثافة فإنه ينفتح فيه المسام بسبب تلك الأبخرة ولايعود ينسد بعد خروج البخار ولكن لا تبقى المسام شديدة الانفتاح وحينئذ يبقى ذلك البخار الدخاني في تلك الثقبة لا يزال يمده بخار آخر يدفعه أولا فأولا إلى خارج من غير أن ينقطع أصله فيبقى بعضه مركوزا في الجلد منزلته منزلة أصل النبات وبعضه يطلع إلى خارج منزلته منزلة ساق النبات وكذلك الشعر فمادة الشعر هي البخار الدخاني اليابس وسببه هو الحرارة الطبيعية المحرقة لذلك البخار والآلة التي بها يتم أمره هي المسام التي ارتكن فيها البخار فتلبد هناك فصار شعرا بإذن الله تعالى
والغاية التي من أجلها وجد شيئان : أحدهما عام وهو تنقية البدن من الفضول الدخانية الغليظة والآخر خاص وهو إما للزينة وإما للوقاية
وإذا بان أن الشعر إنما يتولد مع الحرارة واليبس المعتدل بقيت ثلاثة أقسام : أحدها حرارة غالبة على اليبس كالصبيان الثاني عكسه وهو يبس غالب على الحرارة كالمشائخ الثالث حرارة ضعيفة ويبس ضعيف كأبدان النساء ففي هذه الأقسام يقل الشعر : وأما الشباب فإن حرارة أبدانهم ويبسهم معتدل فيقوى تولد الشعر فيهم
وفي شعر الرأس منافع ومصالح : منها وقايته عن الحر والبرد والمرض ومنها الزينة والحسن
والسبب الذي صار به شعر الرأس أكثر من شعر البدن هو أن البخار شأنه أن يصعد من جميع البدن إلى الدماغ ومن الدماغ إلى فوق وكان هذا الشعر ناميا على الدوام لأن البخار يتصاعد إلى الرأس أبدا وهو مادة الشعر فبنماء الشعر ينمو البخار وكان فيه تخليص للبدن من تلك المواد وتكثير لوقايته وغطائه وأما شعر الحاجبين ففيه - مع الحسن والزينة والجمال - وقاية العين مما ينحدر من الرأس وجعل على هذا المقدار لأنه لو نقص عنه لزالت منفعة الجمال والوقاية ولو زاد عليه لغطى العين وأضر بها وحال بينها وبين ما تدركه وقد ذكرنا منفعة شعر الهدب
ولما كان الأنفع ولأصلح أن يكون شعر الهدب قائما منتصبا وأن يكون باقيا على حال واحد في مقدار واحد جعل منبت هذا الشعر في جرم صلب شبيه بالغضروف يمتد في طول الجفن لئلا يطول وينمو وهذا كما نشاهد النبات الذي ينبت في الأرض الرخوة اللينة فإنه يطول ويزداد والذي ينبت في الأرض الصخرية الصلبة لا ينمو إلا نموا يسيرا فكذلك الشعر النابت في الأعضاء اللينة الرطبة فإنه سريع النمو كشعر الرأس والعانة وأما شعر اللحية ففيه منافع : منها الزينة والوقار والهيبة ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى ومنها التمييز بين الرجال والنساء
فإن قيل : لو كان شعر اللحية زينة لكان النساء أولى به من الرجال لحاجتهن إلى الزينة وكان التمييز يحصل بخلو الرجال منه ولكان أهل الجنة أولى به وقد ثبت أنهم جرد مرد ؟
قيل : الجواب أن النساء لما كن محل الاستمتاع والتقبيل كان الأحسن والأولى خلوهن عن اللحى فإن محل الاستمتاع إذا خلا عن الشعر كان أتم ولهذا المعنى - والله أعلم - كان أهل الجنة مردا ليكمل استمتاع نسائهم بهم كما يكمل استمتاعهن بهن وأيضا فإنه أكشف لمحاسن الوجوه فإن الشعر يستر ما تحت من البشرة أن يمس بشرة المرأة والله أعلم بحكمته في خلقه وأما شعر العانة والأبط والأنف فمنفعته تنقية البدن من الفضلة ولهذا إذا أزيل من هذا الموضع وجد البدن خفة ونشاطا وإذا وفر وجد ثقلا وكسلا وغما ولهذا جاءت الشريعة بحلق العانة ونتف الإبط وكان حلق العانة أولى من نتفها لصلابة الشعر وتأذي صاحبها بنتفه وكان نتف الإبط أولى من حلقه لضعف الشعر هناك وشدته وتعجل نباته بالحلق فجاءت الشريعة بالأنفع في هذا وهذاوتأمل حكمة الرب تعالى في كونه أخلى الكفين والجبهة والأخمصين من الشعر فإن الكفين خلقا حاكمين على الملموسات فلو حصل الشعر فيهما لأخل بذلك وخلقا للقبض وإلصاق اللحم على المقبوض أعون على جودته من التصاق الشعر به وأيضا فإنهما آلة الأخذ والعطاء والأكل ووجود الشعر فيهما يخل بتمام هذه المنفعة
وأما الأخمصان فلو نبت الشعر فيهما لأضر بالماشي وأعاقه في المشي كثيرا مما يعلق بشعره مما على الأرض ويتعلق شعره بما عليها أيضا هذا مع أن أكثر الأوتار والأغشية في الكفين مانع من نفوذ الأبخرة فيها وأما الأخمصين فإن الأبخرة تتصاعد إلى علو وكلما تصاعد كان الشعر أكثر وأيضا فإن كثرة وطء الأرض بالأخمصين يصلبهما ويجعل سطحهما أملس لا ينبت شيئا كما أن الأرض التي توطأ كثيرا لا تنبت شيئا
وأما الجبهة فلو نبت الشعر عليها لستر محاسنها وأظلم الوجه وتدلى على العين وكان يحتاج إلى حلقه دائما ومنع العينين من كمال الإدراك والسبب المؤدي لذلك أن الذي تحت عظم الجبهة هو مقدم الدماغ وهو بارد رطب والبخار لا يتحرك منحرفا إلى الجبهة بل صاعدا إلى فوق
فإن قيل : لم نبت شعر الصبي على رأسه وحاجبيه وأجفانه معه من الصغر دون سائر الشعور ؟
قيل : لشدة الحاجة إلى هذه الشعور الثلاثة أوجدها الله سبحانه معه وهو جنبن في بطن أمه فإن شعر الرأس كالغطاء الواقي له من الآفات والأهداب والأجفان وقاية العين
فإن قيل : فلم لم تنبت له اللحية إلا بعد بلوغه ؟
قيل : لأنه عند البلوغ تجتمع الحرارة في بدنه وتكون أقوى ما هي ولهذا يعرض له في مثل هذا الطور البثرات والدمامل وكثرة الإحتلام وإذا كثرت الحرارة كثرت الأبخرة بسبب التحلل وزادت على القدر المحتاج إليه في شعر الرأس فصرفها أحكم الحاكمين إلى نبات اللحية والعانة وأيضا فإن بين أوعية المنى وبين اللحية ارتباط : إذ العروق والمجاري متصلة بينهما فإذا تعطلت أوعية المنى ويبست تعطل شعر اللحية وإذا قلت الرطوبة والحرارة هناك قل شعر اللحية ولهذا فإن الخصيان لا ينبت لهم لحى
فإن قيل : فما العلة في الكوسج ؟ قيل : برد مزاجه ونقصان حرارته
فإن قيل : فما السبب في الصلع ؟ قيل : عدم احتباس الأبخرة في موضع الصلع
فإن قيل : فلم كان في مقدم الرأس دون جوانبه ومؤخره ؟ قيل : لأن الجزء المقدم من الرأس بسبب رطوبة الدماغ يكون أكثر لينا وتحللا فتتحلل الفضلات التي يكون منها الشعر فلا يبقى للشعر مادة هناك
فإن قيل : فلم لم يحدث في الأصداغ قيل : إن الرطوبة في الأسافل اكثر منها في الأعالي وشاهده الأرض العالية والمنخفضة
فإن قيل : فلم لم تصلع المرأة إلا نادرا وكان الصلع في الرجال أكثر ؟ قيل لأن الأصل أنه يحدث من يبس الجلد بمنزلة احتراقه ذلك لقوة الرطوبة وأما النساء فالرطوبة والبرودة أغلب عليهن ولهذا فإن جلودهن أرطب من جلود الرجال فلا تجف جلود رؤوسهن فلا يعرض لها الصلع ولهذا لا يعرض للصبيان وإن عرض للمرأة صلع فذلك في سن يبسها وبلوغها من الكبر عتيا
فإن قيل : فما السبب في شدة سواد الشعر ؟ قيل : شدة البخارات الخارجة من البدن واعتدالها وصحة مادتها كخضرة الزرع
فإن قيل : ما سبب الصهوبة ؟ قيل : برد المزاج فتضعف الحرارة عن صبغ الشعر وتسويده
فإن قيل : فما سبب القشرة والحمرة ؟ قيل : زيادة الحرارة فتصبغ الشعر ولهذا تجد الشقر أشد حرارة واكثر حركة وهمة
فإن قيل : فما سبب البياض ؟ قيل : البياض نوعان : أحدهما طبيعي وهو الشيب والثاني خارج عن الطبيعة وهو ما يوجد في أواخر الأمراض المجففة بسبب تحلل الرطوبات كما يعرض للنبات عند الجفاف
فإن قيل : فما سبب الطبيعي ؟ قيل : اختلف في ذلك فقالت طائفة : سببه الاستحالة إلى لون البلغم بسبب ضعف الحرارة في أبدان الشيوخ وقالت طائفة : سببه أن الغذاء الصائر إلى الشعر يصير باردا بسبب نقصان الحرارة ويكون بطيء الحركة مدة نفوذه إلى المسام وجمعت طائفة بين القولين وقالوا : العلة في الأمرين واحدة وسببها نقصان الحرارة
فإن قيل : فلم اختص الشيب بالإنسان من بين سائر الحيوان ؟ قيل : لأن لحم الإنسان وجلده رخوين وجلود الحيوانات ولحومها أقوى واصلب فلما غلظت مادة الشعر فيها لم يعرض له ما يعرض لشعر الإنسان ولهذا يكون شعرها كلها معها من حين ولادتها بخلاف الإنسان وأيضا فإن الإنسان يستعمل المطاعم المركبة المتنوعة وكذا المشارب ويتناول أكثر من حاجته فتجتمع فيه فضلات كثيرة فتدفعها الطبيعة إلى ظاهر البدن فمادامت الحرارة قوية فإنه تقوى على إحراق تلك الفضلات فيتولد من إحراقها الشعر الأسود فإذا بلغ الشيخوخة ضعفت الحرارة وعجزت عن إحراق تلك الفضلات فتعمل فيها عملا ضعيفا وأما سائر الحيوانات فلا تتناول الأغذية المركبة وتتناول منها على قدر الحاجة فلا يشيب شعرها كما يشيب شعر الإنسان وأيضا فإن في زمن الشيخوخة يكون أقل حرارة وأكثر رطوبة فيتولد البلغم وأما الحيوانات فليس غالب عليها
فإن قيل : فلم كان شيب الأصداغ في الأكثر مقدما على غيره ؟ قيل : لقرب هذا الموضع من مقدم الدماغ والرطوبة في مقدم الدماغ كثيرة لأن الموضع مفصل والمفصل تجتمع فيه الفضلة الكثيرة فيكثر البرد هناك فيسرع الشيب
فإن قيل : فلم أسرع الشيب في شعور الخصيان والنساء ؟ قيل : أما النساء فلبرد مزاجهم في الأصل ولاجتماع الفضلات الكثيرة فيهن وأما الخصيان فلتوافر المنى على أبدانهم يصير دمهم غليظا بلغميا و لهذا لا يحدث الصلع
فإن قيل : فلم كشعر الإبط لا يبيض ؟ قيل : لقوة حرارة هذا الموضع بسبب قربه من القلب ومسامه كثيرة بلغمية لأنها تتحلل بالعرق الدائم
فإن قيل : فلم أبطأ بياض شعر العانة ؟ قيل : لأن حركة الجماع تحلل البلغم الذي في مسامه
فإن قيل : فلم كانت الحيوانات تتبدل شعورها كل سنة بخلاف الإنسان ؟
قيل : لضعف شعورها عن الدوام والبقاء بخلاف شعر الآدمي
فإن قيل : فما سبب الجعودة والسبوطة ؟
قيل : أما الجعودة فمن شدة الحرارة أو من التواء المسام فالذي من شدة الحرارة فإنه يعرض منه الجعدة كما تعرض للشعر عند عرضه على النار وأما الذي لالتواء المسام فلأن البخار لضعفه لا يقدر أن ينفذ على الاستقامة فيلتوي في المنافذ فتحدث الجعودة
فإن قيل : فما السبب في طول شعر الميت وأظفاره بعد موته إذا بقي مدة ؟
قيل : عنه جوابان : أحدها أنها لا تطول و لكن لما ينقص ما حولها يظن أنها زادت والثاني - وهو أصوب - أن ذلك الطول من الفضلات البخارية التي تتحلل وهلة من الميت فممتد معها الشعر والظفر
فإن قيل : فلم كان المريض - وخاصة المحموم - ينقص لحمه ويزيد شعره ؟
قيل : إن في المرض تكثر الفضلات فتطول الشعور والأظفار بها ويثقل الغذاء فيذوب اللحم وأما في الصحة فتقل الفضلات فلا تحتاج الطبيعة إلى الغذاء وهضمها له وإذا قلت الفضلات نفدت مادة الشعر فيبطئ
فإن قيل : فما العلة في انتصاب شعر الخائف والمقرور حتى يبقى كشعر القنفذ ؟
قيل : العلة فيه أن الجلد وتجتمع المسام على الشعر وتتضايق عليه فينتصب
فإن قيل : فلم انتصب شعر البدن واللحية واللحيين ؟
فإن قيل : فلم كانت كثرة الجماع تزيد في شعر اللحية والجسد وتنقص من شعر الرأس والأجفان ؟
قيل : لأن الشعر فيه ما يكون طبيعيا من أول الخلقة كاللحية وسائر شعر البدن والأول يكون من قوة الحرارة الأصلية والثاني من قوة الحرارة الخارجية فلا جرم نقصت بسببه الشعور الأصلية وتوفرت العرضية
فإن قيل : فلم كان الشعر في الإنسان في الجزء المقدم أكثر منه في المؤخر وباقي الحيوانات بالعكس ؟
قيل : لأن الشعر إنما يكون حيث تكون الحرارة قوية ويكون تحلل الجلد أكثر وهذا في الإنسان في ناحية الصدر والبطن وأما جلدة الظهر فمتكاثفة وأما ذوات الأربع ففي الخلف شعورها أكثر لأن البخار فيها يرقى إلى الخلف وان تلك المواضع هي التي تتلقى الحر والبرد فتحتاج إلى وقاء أكثر
فإن قيل : فلم كان الرأس بالشعر أحق الأعضاء ونباته أكثر ؟
قيل : لأن البخار يتصاعد ويطلب جهة الفوق وهو الرأس
ولا تستطل هذا الفصل فإن أمر الشعر من السمات والفضلات وهذا شأنه فما الظن بغيره من الأجزاء الأصلية ؟ فإذا كانت هذه قليلة من كثير من حكمة الرب تعالى في الشعور ومواضعها ومنافعها فكيف بحكمته في الرأس والقلب والكبد والصدر وغيرها ؟ ولا تضجر من ذلك فإن الخلق فيه من الفقه والحكم نظير ما في الأمر فالرب تعالى حكيم في خلقه وأمره ويحب من يفقه عنه ذلك ويستدل على كمال حكمته وعلمه ولطفه وتدبيره فإذا كان الله لم يضع هذه الفضلات في الإنسان سدى فما الظن بغيرها ؟ونحن نذكر فصلا مختصرا في حال الإنسان من مبدئه إلى نهايته لنجعله مرآة له ينظر فيها قول خالقه وبارئه { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }
لما اقتضى كمال الرب تعالى - جل جلاله - وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة و أنشأهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن اخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها(1/202) وماقبلها
 
السببية عند ابن القيم لاتنكر الربوبية ولا الربوبية عنده تنكر السببية وهذا مالايفهمه العلمانيون!
ضرب مثلا بإعطاء الأنثة والذكر
قال ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن:"فتضمن الحديثان أمرين ترتب عليهما الأثران معا وأيهما انفرد ترتب عليه أثره فإذا سبق ماء الرجل وعلا أذكره وكان الشبه له وإن سبة ماء الرجل وعلا آنث وكان الشبه لها وإن سبق ماء المرأة وعلا ماء الرجل أذكر وكان الشبه لها ومع هذا كله فهذا جزء سبب ليس بموجب والسبب الموجب مشيئة الله فقد يسبب بضد السبب وقد يرتب عليه ضد مقتضاه ولا يكون في ذلك مخالفة لحكمته كما لا يكون تعجيزا لقدرته وقد أشار في الحديث إلى هذا بقوله : [ أذكر وآنث بإذن الله ] وقد قال تعالى { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير } فأخبر سبحانه أن ذلك عائد إلى مشيئته وانه قد يهب الذكور فقط والإناث فقط وقد يجمع للوالدين بين النوعين معا وقد يخليهما عنهما معا وأن ذلك كما هو راجع إلى مشيئته فهو متعلق بعلمه وقدرته وقد وهب الله آدم الذكور والإناث وإسرائيل الذكور دون الإناث ومحمدا صلى الله عليه و سلم الإناث دون الذكور سوى ولده إبراهيم وقال سليمان عليه السلام [ لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل امرأة منهن بغلام يقاتل في سبيل الله فطاف عليهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد ] قال النبي صلى الله عليه و سلم [ والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ] فدل على أن مجرد الوطء ليس بسبب تام وإن كان له مدخل في السببية وأن السبب التام مشيئة الله وحده فهو رب الأسباب المتصرف فيها كيف شاء بإعطائها السببية إذا شاء ومنعها إياها إذا شاء وترتيب ضد مقتضاها عليها إذا شاء والأسباب هي مجاري الشرع والقدر فعليها يجري أمر الله الكوني والديني
فإن قيل : فقد ظهر أن الولد مخلوق من الماءين جميعا فهل يخلق منهما على حد سواء أم يكون الولد من ماء الأب وبعضه من ماء الأم ؟ قيل : قد بين النبي صلى الله عليه و سلم هذه المسألة بأوضح البيان فقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا حسين ابن الحسين حدثنا أبو كريب عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال : مر يهودي برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يحدث أصحابه فقالت قريش : يا يهودي إن هذا يزعم انه نبي فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي فجاء حتى جلس ثم قال : يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ فقال [ من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم ] فقام اليهودي فقال : هكذا يقول من قبلك
(1/211)
 
قال ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن(تكملة المنشور السابق)
:"فإن قيل : قد ذكرتم أن تعلق الروح بالجنين إنما يكون بعد الأربعين الثالثة وإن خلق الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك وبينتم أن كلام الأطباء لا يناقض ما اخبر به الوحي من ذلك فما تصنعون بحديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يدخل الملك في النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول : أي رب أشقي أم سعيد ؟ فيكتبان : فيقول : أي رب : ذكر أو أنثى ؟ فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم يطوي الصحيفة فلا يزاد فيها ولاينقص ] قيل نتلقاه بالقبول والتصديق وترك التحريف ولاينافي ما ذكرناه إذ غاية مافيه أن التقدير وقع بعد الأربعين الأولى وحديث ابن مسعود يدل على أنه وقع بعد الأربعين الثالثة وكلاهما حق قاله الصادق صلى الله عليه و سلم وهذا تقدير بعد تقدير فالأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق والتقدير الثاني عند كمال خلقه ونفخ الروح فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره وهذا تقدير عقد تمام خلقه وتصويره وهذا أحسن من جواب من قال : أن المراد بهذه الأربعين التي في حديث حذيفة الأربين الثالثة وهذا بعيد جدا من لفظ الحديث ولفظه يأباه كل الأباء فتأمله
فإن قيل : فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أنه سمع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول : [ الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره ] فأتى رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقال له حذيفة ابن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود وقال له : وكيف يشقى رجل بغير عمل ؟ فقال له الرجل : أتعجب من ذلك ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك بالصحيفة في يده فلايزيد على أمره ولاينقص ]
وفي لفظ آخر في الصحيح أيضا : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بأذنى هاتين يقول [ إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها فيقول : يا رب أذكر أو أنثى ؟ أسوي أم غير سوي ؟ فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول : يا رب ما رزقه ؟ وما أجله ؟ وما خلقه ؟ ثم يجعله الله عز و جل شقيا أو سعيدا ] وفي لفظ آخر في الصحيح أيضا [ أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة ] ثم ذكر نحوه
قيل : نتلقاه أيضا بالتصديق والقبول وترك التحريف وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطباء أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين
فإن قيل : فكيف التوفيق بين هذا وبين حديث ابن مسعود وهو صريح في [ أن النطفة أربعين يوما نطفة ثم أربعين علقة ثم أربعين مضغة ] ومعلوم أن العلقة والمضغة لا صورة فيهما ولا جلد ولا لحم ولا عظم وليس بنا حاجة إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطباء فإن قول النبي صلى الله عليه و سلم معصوم وقولهم عرضة للخطأ ولكن الحاجة إلى التوفيق بين حديثه وحديث حذيفة المتقدم ؟ قيل : لا تنافى بين الحديثين بحمد الله وكلاهما خارج من مشكاة صادقة معصومة وقد ظن طائفة أن التصوير في حديث حذيفة إنما هو بعد الأربعين الثالثة قالوا : وأكثر مافيه التعقيب بالفاء وتعقيب كل شيء بحسبه وقد قال تعالى { خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما } وهذا تعقيب بحسب ما يصلح له المحل ولا يلزم أن يكون الثاني عقيب الأول تعقيب اتصال
وظنت طائفة أخرى أن التصوير والتخليق في حديث حذيفة في التقدير والعلم والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي والصواب يدل على أن الحد ما دل عليه الحديث من أن ذلك في الأربعين الثانية ولكن هنا تصويران : أحدهما تصوير خفي لا يظهر وهوتصوير تقديري كما تصور حين تفصل الثوب أو تنجر الباب مواضع القطع والتفصيل فيعلم عليها ويضع مواضع الفصل والوصل وكذلك كل من يضع صورة في مادة لاسيما مثل هذه الصورة ينشئ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئا بعد شيء لاوهلة واحدة كما يشاهد بالعيان في التخليق الظاهر في البيضة
فههنا أربع مراتب : أحدها تصوير وتخليق علمي لم يخرج إلى الخارج الثانية مبدأ تصوير خفي يعجز الحس عن إدراكه الثالثة تصوير يناله الحس ولكنه لم يتم بعد الرابعة تمام التصوير الذي ليس بعد إلا نفخ الروح
فالمرتبة الأولى علمية والثلاث الأخر خارجية عينية وهذا التصوير بعد التصوير نظير التقدير بعد التقدير فالرب تعالى قد مقادير الخلائق تقديرا عاما قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وهنا كتب السعادة والشقاوة والأعمال والأرزاق والآجال ( الثاني ) تقدير بعد هذا وهو أخص منه وهو التقدير الواقع عند القبضتين حين قبض تبارك وتعالى أهل السعادة بيمينه وقال [ هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ] وقبض أهل الشقاوة باليد الأخرى وقال [ هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ] ( الثالث ) تقدير بعد هذا وهو أخص منه عندما يمنى به كما في حديث حذيفة بن أسيد المذكور ( الرابع ) تقدير آخر بعد هذا وهو عندما يتم خلقه وينفخ فيه الروح كما صرح به الحديث الذي قبله وهذا يدل على سعة علم الرب تبارك وتعالى وإحاطته بالكليات والجزئيات وكذلك التصوير الثاني مطابق للتصوير العلمي والثالث مطابق للثاني والرابع مطابق للثالث وهذا ممايدل على كمال قدرة الرب تعالى ومطابقة المقدور للمعلوم فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين
ونظير هذا التقدير الكتابة العامة قبل المخلوقات ثم كتابة ما يكون من العام إلى العام في ليلة القدر وكل مرتبة من هذه المراتب تفصيل لما قبلها وتنوع وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم يصدق بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا ويطابق الواقع في الوجود ولا يخالفه وإنما يخبر بما لا يستقل الحس والعقل بإدراكه لا بما يخالف الحس والعقل وإنما يعرفه الناس ويستقلون بإدراكه على أمر عيني يتعلق به الإيمان أو على حكم شرعي يتعلق به التكليف والله أعلم
(1/214)
 
الدليل على ان الاسباب منها الخفي -غير معلوم للطب-ومنها الجلي-عند ابن القيم في التبيان
قال:قيل : ههنا سببان : سبب باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء وسبب ظاهر...والسبب الظاهر الذي لا تخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس ومعرفتهم له من غيرهم هو مفارقته المألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقته وطنه ومألفه وعند أرباب الإشارات أن بكاءه إرهاص بين يدي ما يلاقيه من الشدائد والآلام والمخاوف وأنشد في ذلك :
( ويبكي بها المولود حتى كأنه بكل الذي يلقاه فيها يهدد )
( وإلا فما يبكيه فيها وإنها لأوسع مما كان فيه وأرغد ؟ ) (1/220)
 
قال ابن القيم في التبيان:ولما كانت المعدة حوض البدن الذي يرده أجزاء البدن منكل ناحية اقتضت الحكمة الإلهية جعلها في وسطه وخالص الغذاء يتأدى إلى الكبد من شعب كثيرة ويجتمع في موضع واحد واسع يسمى باب الكبد وجميع العروق التي تتصل بالمعدة والأمعاء والطحال تجتمع وترتقي إلى باب الكبد والمعدة تجذب الموافق ويبقى المخالف المنافي الذي عجزت قوتها عنه ثم إن الكبد تصفيه وتنقيه بعد إجتذابه مرة أخرى وتنفى عنه غير الموافق
وقد أعد الصانع الحكيم سبحانه لتنقية الدم من الكبد ثلاثة خدام فارهيم قائمين بالمرصاد بلا كسل ولا فتور وقد وضع كلا منها في المكان اللائق به ونصبه نصبة بها يكون أمكن من عمله ولما استقر الغذاء في المعدة وطبخته وأنضجته صارت فضلاته ثلاثة : فضلة كالدردى الراسب وفضلة كالرغوة والزبد الطافي وفضلة مائية فجعل كل خادم من هذه الخدام الثلاثة على فضلة لا يتعداها إلى الأخرى ليجذبها من مجرى خادم الفضلة الخفيفة الطافية وهي للصفرة المرارة نصبها الرب تعالى فوق الكبد لأن المجتذب هو الفضلة الطافية ومكانها فوق مكان الدردى الراسب وخادم الفضلة التي هي كالدردى الراسب الطحال ونصبه الخلاق العليم أسفل من باب الكبد حيث كان ما يجتذبه من أسفل ولم يكن في الجانب الأيمن لأن المعدة قد شغلت ذلك الجانب وكان الجانب الأيسر خاليا فلم تعده فإذا نقى الدم من هاتين الفضلتين خدمه الخادم الثالث - وهو الكبد - وقد بقي أحمر نقي اللون مشرقا نورانيا ويصل إليها من عرق عظيم يسمى الأجوف ثم يوزع من هناك على جهات البدن العليا والسفلى في رواضع كثيرة العدد ما بين كبير وصغير ومتوسط كلها تتصل بالعرق الأجوف وتمتاز منه وما دام الدم في هذا العرق ففيه مائية غير محتاج إليها لأنها كانت بتركب الغذاء فلما وصل إلى مستقره استغنى عنها فاحتاج ولا بد إلى إخراجها ودفعها ولو لم يبادر إلى ذلك أضرت به فخلق الله سبحانه الكليتين يمتصان هذه الفضلة بعنقين طويلين كالأنبوبتين ويفرغانها في المثانة بعرقين آخرين وضعهما سبحانه أسفل من الكبد قليلا حيث يكون أمكن لتخليص المائية كما تروق العصارات وأما المرارة فوضعها الله سبحانه فوق الكبد لأنها بمنزلة السفنجة أو القطنة التي يقطف بها الدهن عن وجه الرطوبات وأما الطحال فوضعه أميل إلى أسفل لأنه بمنزلة ما يجتذب الأشياء المصونة إذا رسبت إذا تنقى الدم من هذه الفضلات كلها وعملت فيه هذه الخدم بقواها التي أودعها الله فيها هذا العمل وأصلحته هذا الاصلاح عمل ملك الأعضاء والجوارح - وهو القلب - فيه عملا آخر فقصده بحرارة أخرى وهي أقوى من حرارة الكبد وجعل سبحانه في المعدة أربع قوى : قوة جاذبة للملائم : وقوة منضجة له وقوة ممسكة له وقوة دافعة للفضلة المستغنى عنها منه ورئيس هذه القوى هي القوة المنضجة وسائرها خدم لها وحصت المعدة عن سائر الأعضاء بأن أودع فيها قوة تحس بالعوز والنقصان وخاصتها تنبيه الحيوان لتناول الغذاء عند الحاجة وأما سائر الأعضاء فإنها تتغذى بالنبات باجتذاب الملائم إليها ولما احتاجت المعدة إلى قوة وحس بالعوز ولم يكن ذلك إلا من معدن الحواس وهو الدماغ أتاها روح لعصب عظيم فأنبت أكثرها في فمها وما يليه وباقيه مستقيا حتى بلغ قعرها
فإن قيل : فما الحكمة في أن باعد الله سبحانه بين المعدة والفم وجعل بينهما مجرى طويلا وهو المرىء وهلا اتصلت المعدة بالفم واستغنت عن المرىء ؟ قيل : هذا من تمام حكمة الخالق وفيه منافع كثيرة منها أن يحصل للغذاء تغير ما في طريق المجرى فيلطف قبل وصوله إليها ومنها بعده عن آلة التنفس لئلا تعوقه وتعوق الصوت والكلام وأن لا تنقلب المعدة إلى خارج عند شدة الجوع كما يعرض ذلك للحيوان الشره إذا كان قصير العنق
فإن قيل : فلم كانت إلى الجانب الأيسر أميل إلى الجانب الأيمن ؟ قيل : ليتسع المكان على الكبد ولا ينحصر
فإن قيل : فهلا كانت مستقيمة في وضعها بل مال أسفلها إلى الجانب الأيمن ؟ قيل : ليتسع المكان على الطحال حيث كان أخفض موضعا من الكبد
فإن قيل : فلم جعلت مستطيلة مدورة وجعلت مما يلي الصلب مسطحة ؟
قيل : لما وضعها الله بين الكبد والطحال جعلها مستطيلة وكانت مستديرة لتتسع للطعام وللشرات وكان أسفلها أوسع من أعلاها لذلك وجعل لها مدخلا وهو المرىء ومخرجا يسمى البواب وجعل البواب أضيق من المرىء لأن ما تبتلعه يكون أصلب وأخشن مما تخرجه فجعل مدخل الداخل أوسع من مخرج الخارج لإنضاجه في المعدة ولينه ولحكم آخر : منها أن لا ينزل منه الطعام والشراب قبل نضجه ولتقوى المعدة على حبسه وليخرج أولا فأولا لا دفعة واحدة والمرىء يتسع بالتدريج حتى يبلغ المعدة ولذلك يظن أنه جزء منها وأما البواب فإن الجزء الضيق منه
يتصل بأسفلها الذي هو أوسعها ثم يتسع على التدريج ليسهل خروج الفضلة والكبد منطبقة على المعدة محتوية عليها بزوائدها لتسخنها والطحال يسخنها من الباب الأيسر والصلب يسخنها من خلف والترائب من قدامها والترائب مؤلفة من طبقتين رقيقتين تنطبق إحداهما على الأخرى بشحم كثير وهو غشاء الأمعاء كلها ولباسها ثم غشى البطن كله بغشاء واحد بقي الأحشاء ويمنع من انفتاح المعدة والأمعاء بالرياح ويربط جملة آلات الغذاء ولم يجعل في الكبد تجويف كتجويف القلب لتحتوي على الدم احتواء ممكنا وتحيله إحالة بليغة وللكبد ثلاث شباك من العروق : شبكة بينها وبين المعدة والأمعاء وشبكة في مفرعها وشبكة في مجذبها فالشبكة الأولى تجذب الغذاء وتحيله بعد أن أحاله وفي الشبكة الثانية يصير دما وفي الشبكة الثالثة يزداد صفاء وترويقا وللكبد بالقلب والدماء اتصال بشظة من العصب خفية كنسج العنكبوت
ولما كانت النفس المعدية بمنزلة حيوان عاد وحشي وكل جسم يموت فلا بد أن تتصل به هذه النفس وتغذوه بخلاف النفس المفكرة التي محلها الدماغ وبخلاف النفس الغضبية التي محلها القلب فالنفس المفكرة تستعين بالنفس الغضبية على تلك النفس الحيوانية العادية الوحشية - فاقتضت حكمة الخالق سبحانه أو وصل بين محل هذه الأنفس الثلاثة ليذعن بعضها لبعض
ولا تنكر تسمية هذه القوى نفوسا فليس الشأن في التسمية فأنت تجد فيك نفسا حيوانية تطلب الطعام والشراب ونفسا مفكرة سلطانها على التصور والعلم والشعور ونفسا غضبية سلطانها على الغضب والإرادة وتضرب كل واحدة منها فيما جعلت إليه وبعضها عون لبعض فمحل النفس الحيوانية الكبد ومحل المفكرة الدماغ ومحل الغضبية القلب وتأمل الحكمة في أن جعلت صفاقات عروق الكبد أرق من صفاقات سائر عروق البدن لينفذ إلى الكبد جوهر الدم بسرعة وهي مع ذلك غير محتاجة إلى الوقاية لأن الكبد تحوزها بلحمها وإنما وضعت مجاري المرة الصفراء بعد العروق التي تصعد الغذاء من المعدة وقبل العروق التي تأخذ الدم منها لأن هذا الموضع هو بين موضع كمال الطبخ وبين موضع انتقاله إلى العرض الأجوف وحينئذ يمكن انفصال المرة عن الدم وجمعت العروق كلها إلى عرق واحد هو الباب ثم عادت فتقسمت في مقعر الكبد ثم عادت فجمعت في مدها إلى عرق واحد وهو الأجوف لتجيد بقسميها إنضاج ما تحتوي عليه ولئلا ينفذ بسرعة وكذلك كل موضع احتيج فيه إلى طول مكث المادة هي بقاؤها فيه بطول مسلكها وكثرة تعاريجه كما فعل في مجاري المنى وشبكة الدماغ وهذا شأن العروق الجواذب وأما العروق الضوارب فبالعكس من ذلك فإنها جمعت في مقعر الكبد دون مجده بها لأنه موضع الدم وحاجته إلى التغذية بالحرارة ماسة قال جالينوس : ولا تقع العروق الضوارب في مجذب يعلم الخالق سبحانه أن جذبه الكبد لأنها تتحرك دائما بمجاورة الحجاب فيقوم لها ذلك مقام حركة العروق الضوارب وجعلت هذه العروق الضوارب رقاقا لأنها إنما وضعت لترويح الكبد لا لتغذيتها ولا لاتصال روح إليها إذ ليس بالكبد حاجة إلى قبول روح حيواني كثير ولا يحتاج لحمها إلا إلى غذاء لطيف بخاري وأحرز الصانع سبحانه موضع الكبد ووضعها بأن ربطها بالمعدة والأمعاء كلها بالعروق وبالغشاء الممدود على البطن الذي يشد جميعها ووصل بها رباطات من جميع النواحي وغشاؤها الرابط يتصل بالحجاب برباط قوي ورباط الكبد بالحجاب صلب وثيق لأن الكبد معلقة به وهو أصلب من غشاء الكبد لشدة الحاجة إلى صلابته لأنه يحرز الكبد والعرق الأجوف متى ناله آفة مات الحيوان كما تهلك أغصان الشجرة إذا أصاب ساقها آفة
وجعل أرق هذه الرباطات من خلف لشدة بالعظام وأغلظه من قدام حيث لا عظام هناك تقيه وهذا من شدة الأسر الذي قال الله تعالى فيها { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } شد أوصالهم بالرباطات المحكمة وجعل خلقهم بعضه موصولا ببعض ولما كان الحجاب آلة شريفة للنفس بوعد من العضوين المجاورين له - وهما المعدة والكبد - بمقدار حاجته لئلا يزحماه ويعوقاه عن فعله فبوعدت المعدة عنه بطول مجراها

(1/227)ال ص232
 
السببية عند ابن القيم وقوله كل عضو في جسم الاسنسان له سبب نافع
قال في التبيان:وأما الطحال فبعضهم يقول : إنه لا نفع فيه وإنما شغل المكان به لئلا يبقى فارغا فيميل أحد شقي البدن بثقل الكبد فجعل موازنا للكبد
قلت : وهذا غلط من وجه وصواب من وجه : أما الصواب فمن الحكم العجيبة جعل الطحال في الجانب الأيسر على موازنة الكبد لئلا يميل الشق الأيمن بها ولا يمكن أن تقوم المعدة بموازنة الكبد لأنها دائما تمتلىء وتخلو فتارة تكون أخف من الكبد وتارة أرجح منها فيصير البدن مترجحا أو يميل إلى شق الكبد وقتا وإلى شق المعدة وقتا آخر فجعل الخالق سبحانه الطحال يوازن الكبد وجعل المعدة بينهما في الوسد لئلا يثقل جانب ويخف جانب آخر عند امتلائها وخلوها فلما جعلت وسطا لم يختلف وضع البدن باختلافها
وأما الغلط فقوله : إنه لا منفعة فيه وإنما يشغل المكان لئلا يبقى فارغا فإنه - وإن لم يعلم فيه منفعة لم يكن له أن ينفيها فإن عدم العلم بالمنفعة لا يكون علما بعدمها ولا شيء في البدن خال عن المنفعة البتة وفي الطحال من المنافع أنه يجذب الفضلة الغليظة العكرة السوداء من الكبد نوعا من جنس العروق كالعنق له فإذا حصلت تلك الفضلة عنده أنضجها وأحالها وهو ينضج غليظ الدم وعكره كما ينضج قولون غليظ الغذاء ويابسه ويستعمل في فعله العروق والضوارب الكثيرة المبثوثة فيه كلها فما نضج واستحال إلى طبيعته صار غذاء له وما لم يمكن أن ينقل إلى الدم الموافق له قذفه إلى المعدة بعنق آخر من جنس العروق وإنما أمكنه جذب الفضل الأسود بقوة لحميته لأنه رخو متحلحل خفيف كالإسفتنج ولما اتصلت به العروق الضوارب الكثيرة استغنى بها عن إنضاج الفضول السوداء ليبقى لحمه خفيفا متحلحلا لأن دم الشرايين رقيق لطيف قريب طبيعته البخار فما اغتذى به كان نحيفا كالرئة ولكن الرئة تغتذي بما صفا ورق وأشرق وكان أحمر ناريا وكذلك الرئة كانت أخف وزنا منه وأسخف جرما ومائلة إلى البياض وأما الطحال فيغتذي بماء لطيف من الخلط الأسود المنطبخ في الشرايين فيستريح منه البدن ويغتذي به الطحال فالطحال يغتذي بغذاء لطيف من غذاء الكبد لأنه يرشح إليه من الشرايين التي صفا فأيهما يحبه جدا ولأجل سواد تلك الفضلة وكونها عكرة في الأصل لم يكن لون الطحال أحمر ولا مشرقا
فاما الكبد فتتغذى بدم غليظ فاضل يرشح إليها من العروق غير الضوارب فلجودة غذائيها كان لونها أحمر ولفضلته كانت كثيفة فالكبد تغتذي بدم أحمر غليظ والطحال بدم أسود لطيف والرئة بدم صاف مشرق في غاية النضج قريب من طبيعة الروح فجوهر كل عضو على ما هو عليه غذاؤه ملائما له فالغاذي شبيه بالمغتذي في طبعه وفعله وهذا كما أن حكمة الله سبحانه في خلقه فيه جرت حكمته في شرعه وأمره حيث حرم الأغذية الخبيثة على عباده لأنهم إذا اغتذوا بها صارت جزءا منهم فصارت أجزاؤهم مشابهة لأغذيتهم إذ الغاذي شبيه بالمغتذي بل يستحيل إلى جوهره فلهذا كان نوع الإنسان أعدل أنواع الحيوان مزاجا لاعتدال غذائه وكان الإغتذاء بالدم ولحوم السباع يورث المغتذي بها قوة شيطانية سبعية عادية على الناس فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الأغذية وأشبهاهها إلا إذا عارضها مصلحة أرجح منها كحال الضرورة ولهذا لما أكلت النصارى لحوم الخنازير أورثها نوعا من الغلظة والقسوة وكذلك من أكل لحوم السباع والكلاب صار فيه قوتها ولما كانت القوة الشيطانية عارضة ثابتة لازمة لذوات الأنياب من السباع حرمها الشارع ولما كانت القوة الشيطانية عارضة في الإبل أمر بكسرها بالوضوء لمن أكل منها ولما كانت الطبيعة الحمارية لازمة للحمار حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم لحوم الحمر الأهلية ولما كان الدم مركب الشيطان ومجراه حرمه الله تعالى تحريما لازما
فمن تأمل حكمة الله سبحانه في خلقه وأمره وطبق بين هذا وهذا فتحا له بابا عظيما من معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته وهذا هو الذي حركنا لبسط القول في هذا المقام الذي لا يكاد يرى فيه إلا أحد طريقين : طريق طبيب معترض للوحي مقلد لبقراط وطائفته قد عبرت عينه على الرسل وما جاءوا به وهو ممن قال تعالى فيه { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } وطريق من يجحد ذلك كله ويكذب قائله ويظن منافاته للشريعة فيجحد حكمة الله تعالى في خلقه وإبداعه في صنعه وكلا الطريقين مذموم وسالكه من الوصول إلى الغاية محروم فلا نكذب بشرع الله ولا نجحد حكمة الله وأكثر ما أفسد الناس أنهم لم يروا إلا طبائعيا زنديقا منحلا عن الشرائع أو متساهلا قادحا فيما جرت به حكمة الله ومشيئته في خلقه منكرا للقوى والطبائع والأسباب والحكم والتعليل فإذا أراد الآخر أن يدخل في معرفة الحكم والغايات وما أودع الله في مخلوقات من المنافع والقوى والأسباب صده زندقة هؤلاء وكفرهم وإعراضهم عما جاءت به الرسل وقدحهم فيما عندهم من العلم فيختار دينه على عقله ويختار ذلك عقله وما استقر عنده مما لا يكابر فيه حسه ولا عقله على الدين وهذا قد بلى خلق الأطباء والطبائعيين فهو عنده أحد أنواع أدلة التوحيد والمعاد وصفات الخالق وما أخبرت به الرسل هو من أظهر أدلته ولا يزداد الباطن فيه إلا إيمانا وما أخبرت به الرسل لا يناقض ما جرت به عادة الله وحكمته في خلقه : من نصب الأسباب وترتيب مسبباتها عليها بعلمه وحكمته فمصدر خلقه وأمره علمه تعالى وحكمته وآلاء الرب تعالى لا تتعارض ولا تتناقض ولا يبطل بعضها بعضا والله أعلم(1/232)
 
قال ابن القيم في التبيان:والكبد والطحال متقابلان والمعدة بينهما والعروق الضوارب تتصل بها المعدة والقلب بمنزلة التنور أو بمنزلة أتون الحمام يسخن ماءه وله إلى كل بيت منفذ ينفذ منه وهج النار إليه وكذلك الحار العزيزي الذي منبعه من القلب ينفذ في مسالك ومنافذ إلى جميع الأعضاء فيسخنها وجعلت الأعضاء مسلكا مؤديا والمعدة هي الآلة لهضم الغذاء واستمرائه والأمعاء تؤدي ذلك إلى الكبد ولما كانت الأمعاء آلة الأداء والإتصال كثرت لفائفها وطولها وكانت العروق التي تأتيها من الكبد لا تحصى كثرة لينفذ فيها الغذاء أولا فأولا وتفيضه يسيرا يسيرا فلولا تطويل لفائف الأمعاء لكان يخرج قبل أخذ خاصيته وكان يعرض إليهم بشهوة الأكل دائما وكان الإنسان يعدم التفرغ لمصالحة وسائر أعماله وكان دائما مكبا على الغذاء ولهذا صار الحيوان الذي ليس لامعائه استدارات بل له معي واحد مستقيم مكبا على الغذاء دائما عديم الصبر عنه كالفيل وأما ما لامعائه استدارات فإنه إذا فارقه الغذاء أو بعضه في الإستدارة الأولى صادفه في الثانية فإن هو فاته في الثانية صادفه في الثالثة والرابعة والخامسة كذلك فيمكن صبره على الغذاء حكمة بالغة
وما ينفذ إلى الأمعاء يبعث من العروق الضاربة ويأخذ من الغذاء جزءا يسيرا لطيفا وأما العروق غير الضاربة فهي مجاري الغذاء بالحقيقة فأخذت أكثره وأما العروق الضاربة فجعلت مسلكا للأرواح المنبعثة من القلب فاستغنت بقليل الغذاء وجعل للقلب وصلة بالأمعاء ليحسنها أولا ويمدها بقوة الحار بإذن خالقه ثم يأخذ منها الجزء الملائم من الغذاء المستغنى عن فعل الكبد للطاقة جوهره فإن هذا الجزء لو حصل في الكبد لم يؤمن إحراقه وفساده فلا ينتفع به القلب ثم يأخذ منها شدة الحاجة وصدق المجاعة فيتعجل ذلك من أدنى المواضع ولذلك يشاهد من أكل مسنبة شديدة يحس بزيادة ونماء في كل أعضائه حتى يمر الطعام بالمعدة قبل استقراره فيها فسبحان من أتقن ما صنع
ولما كانت المعدة آلة هضم الغذاء والأمعاء آلة دفعه جعل للأمعاء طبقتان ليقوى دفعها بهما جميعا وليكون حرزا لها وحفظا ولذلك من تعرض له قرحة الأمعاء بانجراد أحد الصفاقين يبقى الآخر سليما وجعلت الأمعاء الغلاظ لقذف الثفل والرقاق لتأذية الغذاء والسبب في أن صار الإنسان لا يحتاج إلى تناول الغذاء دائماص كثرة لفائف أمعائه والسبب المائع من قذف الفضول دائما سعة الأمعاء الغلاظ التي تقوم لها مقام وعاء آخر شبيه بالمعدة في السعة كما أن المثانة وعاء للبول كذلك ونحن نذكر فصلا مختصرا في هذا الباب يجمع شتات ذلك بإيضاح وإيجاز إن شاء الله تعالى وبه الحول القوة فنقول :
المرىء موضوع خلف الحلقوم ومما يلي فقار الظهر وينتهي في ذهابه إلى الحجاب وهو مشدود برباطات فإذا أبعد مال إلى الجانب الأيسر واتسع وذلك المتسع هو المعدة وأسفلها يعود ماثلا إلى اليمين والمعدة مقر طبخه وفمها هو المسدف منها ويسمونه الفؤاد وهذا من غلطهم إلا أن يكون ذلك اصطلاحا خاصا منهم والفؤاد عند أهل اللغة هو القلب قال الجوهري : الفؤاد القلب وقال الأصمعي : وفي الجوف الفؤاد وهو القلب وقد فرق بعض أهل اللغة بين القلب والفؤاد فقال الليث : القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط وقالت طائفة : مسدف القلب وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ جاءكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة ] ففرق بينهما ووصف القلب بالرقة الأفئدة باللين وأما كون فم المعدة هو الفؤاد فهذا لا نعلم أحدا من أهل اللغة قاله وتأمل وصف النبي صلى الله عليه و سلم القلب بالرقة التي هي ضد القساوة والغلظة والفؤاد باللين الذي هو ضد اليبس والقسوة فإذا اجتمع لين الفؤاد إلى رقة القلب حصل من ذلك الرحمة والشفقة والإحسان ومعرفة الحق وقبوله فإن اللين موجب للقبول والفهم والرقة تقتضي الرحمة والشفقة وهذا هو العلم والرحمة وبهما كمال الإنسان وربنا وسع كل شيء رحمة وعلما فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول :
المعدة مع المرىء ذات طبقتين لطيفتين واللحم في الطبقة الداخلة أقل ولهذا يغلب عليها البياض وهي عصبية حساسة وهي في الطبعة الخارجة أكثر ولهذا يغلب عليها الحمرة وهي مربوطة مع الفقار برباطات وثيقة وتنتهي من جهة قعرها إلى منفذ هو باب المعدة وبوابها يغلق عند اشتماله على الغذاء مدة هضمه ويقال لباطن جرم المعدة : خمل المعدة
والأمعاء المصارين وهو جمع مصران - بضم الميم - وهو جمع مصير وسمي مصيرا لمصير الغذاء إليه والسفلى يقال لها : الاقتاب ومنه قوله صلى الله عليه و سلم فتندلق أقتاب بطنه والعليا أرق من السفلى لما تقدم من الحكمة
فأعلى الرقاق يسمى الإثني غشر لأن مساحته إثناء عشر إصبعا ويليه المسى بالصائم لقلة لبث الغذاء فيه لا لأنه يوجد أبدا خاليا كما ظنه بعضهم فإن هذا باطل حسا وشرعا كما سنذكره والثالث المسمى بالرقيق واللفائف وهو أطول الأمعاء وأكثرها تلافيف ولبث الغذاء فيه أطول والعروق التي تأتيه من الكبد أقل وأما اللذان قبله فمنتصبان في طول البدن قصيران ويقل لبث الغذاء فيهما وهو في الصائم أقل لبثا وهذه الثلاثة تسمى الأمعاء العليا والأمعاء الرقاق وهي كلها في سعة البواب
وأما الدامع وهو الأول من الثلاثة السفلى فيسمى الأعور لأنه لا منفذ له بل هو كالكيس يخرج منه ما دخل من حيث دخل وحكمته سبحانه أنه يتم فيه ما يعسر هضمه من الأشياء الصلبة كما يتم ذلك في قوانص الطيور ووضعه في الجانب الأيمن
والخامس المسمى يقولون يبتدىء من الجانب الأيمن ويأخذ عرضا إلى الأيسر ويحتبس فيه الثفل وربما يستقضي ما فيه
والسادس هو الآخر وهو المعي المستقيم لأنه مستقيم الوضع في طول البدن وهو واسع جدا يجتمع فيه الثفل كما يجتمع البول في المثانة وعليه الفضلة المانعة لخروج الثفل بدون الإرادة وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ] فأطلق على المعدة اسم المعى تغليبا ولمشابهتها بالأمعاء لكون كل واحد من الأمعاء والمعدة محلا للغذاء وهذا لغة العرب كما يقولون : القمران والعمران والركنان اليمانيان والشاميان والعراقيان ونظائر ذلك ولا سيما فإن تركيب الأمعاء كتركيب المعدة إذ هي مركبة من طبقتين لحمية خارجية وعصبية داخلة والطبقة الداخلية فيها لزوجات متصلة بها لتقيها من حر ألم البراز ورداءته كثيفة فلا تمسكه ولا يتعلق بها شيء منه ولما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يغتذي به انصرفت قواه ونهمته كلها إلى الغذاء الحيواني البهيمي لما فقد الغذاء الروحي القلبي فتوفرت أمعاؤه وقواه على هذا الغذاء واستفرغت أمعاؤه هذا الغذاء وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها كما امتلأت به العروق والمعدة وأما المؤمن فإنه إنما يأكل العلفة ليتقوى بها على ما أمر به فهمته وقواه مصروفة إلى أمور وراء الأكل فإذا أكل ما يغذيه ويقيم صلبه إستغنى قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الإستكثار من الغذاء الحيواني فاشتغل معاه الواحد - وهو قولان - بالغذاء فأمسكه حتى أخذت منه الأعضاء والقوى مقدار الحاجة فلم يحتج إلى أن يملأ أمعاءه كلها من الطعام وهذا أمر معلوم بالتجربة وإذا قويت مواد الإيمان ومعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته والشوق إلى لقائه في القلب استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني فإن كثف طباعك عن هذا وكنت عنه بمعزل فتأمل حال الفرح والسرور يتجدد نعمة عظيمة واستغناؤك مدة عن الطعام والشراب مع وفور قوتك وظهور الدموية على بشرتك وتغذية بالسرور والفرح ولا نسبة لذلك إلى فرح القلب ونعيمه وابتهاج الروح بقربه تعالى ومحبته ومعرفته كما قيل :
( لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد )
وقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته [ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني ] وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه فإن المقصود من الطعام والشراب التغذية الممسكة فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفهما وأنفعهما فيكف لا يغنيه عن الغذاء المشترك وإذا كنا نشاهد أن الغذاء الحيواني يغلب على الغذاء القلبي الروحي حتىيصير الحكم له ويضمحل هذا الغذاء بالكلية فكيف لا يضمحل غذاء البدن عند استيلاء غذاء القلب والروح ويصير الحكم له ؟ وقد كان صلى الله عليه و سلم يمكث الأيام لا يطعم شيئا وله قوة ثلاثين رجلا ويطوف مع ذلك على نسائه كلهن في ليلة واحدة وهن تسع نسوة وهذا المسيح بن مريم صلى الله عليه و سلم حتى لم يمت وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة وأنت تشاهد المريض يمكث الأيام العديدة لا يأكل ولا يشرب لاشتغال نفسه بمحاربة المرض ومدافعته واكتفاء الطبيعة ببقية الغذاء الذي في الأمعاء والمعدة مدة الحرب فإذا وضعت الحرب أوزارها رأيت شدة طلبه للغذاء فالخائف والمحب والفرح والحزين والمستولي عليه الفكر لا تطالبه نفسه بشيء من الغذاء كالخالي من ذلك والكبد عضو لحمي تتخلله عروق رقاق وغلاظ وعلى الكبد غشاء عصبي حساس يحيط بها وينثني إلى غلافه والكبد هي الأصل في الغذاء وآلات الغذاء خدم لها ومعينات فإن الإنسان لما كان كالشجرة المستقلة جعل له ما يقوم مقام النهر الجاري في أصول الشجرة يسقيها وهو الأمعاء والمعدة بمنزلة العين وتجري منها العروق مجرى السواقي وعروق الكبد المتصلة بالأمعاء بمنزلة عروق الشجرة المتصلة بأرض الساقية تمتص الماء منها وتؤديه إلى الشجرة وأغصانها ورقها وثمارها وهذه العروق تمص الماء من الطين والثرى وكذلك عروق الكبد تمتص صفو الماء وخالصه من كليتيه وتحيله إلى طبيعة الأعضاء كما تفعل عروق الشجرة وشكل الكبد شكل هلالي محدب من ظاهره مقعر من باطنه وهي تحت الأضلاع الخمس ولها خمس شعب يقال لها الزوائد تحتوي على المعدة كما تحتوي الكف بأصابعها على الشيء المقبوض ويقال للشعبة الصغيرة منها خاصة زائد الكبد وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن سبعين ألفا من أهل الجنة يأكلون من زيادة كبد الحوت الذي هو طعامهم ] وهذا يدل على عظم قدر هذه الزائدة فما الظن بالكبد التي هي زائدته فكيف بالحوت الذي حواها ؟
ومقعرها يسمى المورد لأنه يورد الغذاء من المعدة والأمعاء ويسمى باب الكبد ثم تتشعب هذه العروق من جانبيه بشعب تتصل بالأمعاء وتسمى الجداول لشبهها بالسواقي الصغار وتؤدي إلى نقرة عظيمة ولهذه الجداول أغشية من فوقها ومن تحتها فتستدير مع الأمعاء المتصله بها وتسمى هذه الأغشية وما تحتويه المرابط والعرق الثاني ينقسم في مجذبها إلى عروق صغار وأصغر منها حتى تبلغ غاية الرقة ثم تعود وتجتمع أول فأول على قياس ما تفرق وأخذ من كثرة إلى وحدة ومن رقة إلى غلظ حتى يجتمع منها العرق الخارج من الكبد المسمى بالأجوف ومنها يتأدى الدم إلى البدن كله وحين يخرج ينقسم إلى قسمين فيأخذ أحدهما نافذا في الحجاب نحو القلب ويسمى الوتين قال أهل اللغة : الوتين عرق يسقي القلب قال في الصحاح : الوتين عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه وأصيب وتينه فهو موتون وقال الواحدي الوتين نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه وهذا قول جميع أهل اللغة وأنشدوا للشماخ :
( إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين )
وقال ابن عباس وجمهور المفسرين : هو حبل القلب ونياطه وأما الأبهر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم [ هذا أوان انقطاع أبهري ] فقال الجوهري : الأبهر عرق إذا انقطع مات صاحبه وهما أبهران يخرجان من القلب ثم تتشعب منهما سائر الشرايين وأنشدوا للأصمعي :
( وللفؤاد وجيب عند أبهره لدم الغلام وراء الغيب بالحجر )والمرارة موضوعة على الكبد ولها مجريان : أحدهما متصل بتقعير الكبد يجتذب المرة الصفراء والآخر يتصل بالأمعاء العليا يصب في المرة ليغسلها ويجليها ويتصل منه السر بأسفل المعدة ليمتزج بالغذاء فيكون فيه معونة على مضمه والقوة التي وكلها الله سبحانه وتعالى بتدبير البدن من أعظم آياته الدالة عليه فإنها تفعل في الطعام والشراب الواردين عليه أفعالا متنوعة من تقطيع وتفصيل وتمريخ وتحليل وتركيب فمبدأ ذلك في الفم وهو تقطيعه بالأسنان ومضغه واختلاطه بالرطوبات التي فيه وانهضامه فيه انهضاما تاما ثم بعد ذلك عند وروده إلى المعدة تهضمه هضما آخر ويسمى الهضم الأول ويعينها على هضمه ما يجاورها من الأعضاء فالكبد عن يمينها والطحال عن يسارها والقلب من فوقها والمرىء أمامها والأمعاء السبل الموصلة إليها والعروق الطرق المؤدية منها والحرارة النار الطابخة للطعام فيها والقوة الهاضمة والجاذبة والغاذية والدامعة خدم لها فإذا انهضم الطعام فيها صار كيلوسا شبيها بماء الكشل الثخين ثم تنهز صوبه ولطيفه فتقذفه العروق الرقاق الشعرية التي هي برقة الشعر وينجذب إلى الكبد فإذا ورد هذا اللطيف إلى الكبد اشتملت عليه بجملته فطبخته وهضمته وأحالته إلى جوهرها وصيرته دما ويسمى هذا الهضم الثاني ولما كان هذا الإنضاج والطبخ يشبه طبخ القدر علاه شيء كالرغوة والزبد وهي الصفراء ورسب منه شيء مثل العكر وهو السوداء وتخلف عن تمام النضج شيء بقي على فجوجته وهو البلغم والشيء الذي يصفى ويبقى من ذلك كله هو الدم فاندفع من الكبد في العرق الأعظم المعروف بالأجوف بعد أن تصفت عنه المائية إلى آلة البول فيسلك هذا الدم في الأوردة المتشعبة من الجوف ثم في جداول متثقبة من الأوردة ثم في سواقي متثقبة من الجداول ثم في رواضع مشتقة من السواقي ثم في عروق رقاق شعرية ثم يرشح من أفواهها في الأعضاء لتغتذي به فتحله الأعضاء وتصيره لجوهرها فيصير في اللحم لحما وفي العظم عظما وفي العصب عصبا وفي الظفر ظفرا وفي الشعر شعرا وفي السمع والبصر وآلة الحس كذلك فتبارك من هذا صنعه في قطرة من ماء مهين الصفحات قبل (1/242)
 
قال ابن القيم في التبيان:ولما اقتضت حكمة الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره - حيث كان بدن الإنسان مشبها في أحواله بالمدينة - وأن يوجد فيه أعضاء رئيسية تقوم بمصالحها كما تقوم رؤساء المدينة بمصالحها وتكون لها بمنزلة الولاة والأمراء وأعضاء تكوى خادمة لهذه الأعضاء الرئيسية فإن الرئيس لا يكون رئيسا إلا بمرؤوس وهي : بمنزلة الشرط والجلاوزة والنقباء وأن يوجد فيها أعضاء كالرعية وهي قسمان : ماله اتصال بالرؤساء وإن لم يكن له اتصال خدمة وما لا اتصال له بهم بل هو مستقل بنفسه بالأعضاء إذا بهذا التقسيم أربعة : أحدها الأعضاء الرئيسية المخدومة الثاني الأعضاء المرءوسة الخادمة الثالث الأعضاء المرءوسة بلا خدمة الرابع الأعضاء التي ليست رئيسة ولا مرءوسة والأعضاء الرئيسية إنما استحقت الرياسة لشرفها إذ كانت هي الأصول والمعادن والمبادئ للقوى الأولى في البدن المضطر إليها في بقاء الشخص والنوع وهي بحسب بقاء الشخص ثلاثة : القلب والكبد والدماغ وبحسب بقاء النوع أربعة : الثلاثة المذكورة والأنثيان
وأما القلب فهو الذي جعله الخلاق العليم قائما بأمر البدن كقيام الملك بالرعية وهو أول عضو يتحرك في البدن وآخر عضو يسكن منه وهو مبدأ جميع الخلق وما يلحقه من صلاح أو فساد يتأذى منه إلى غيره من الأعضاء
وأما الكبد فهي العضو التي تقوم لحفظ الحياة إذ كانت هي التي تملأ الأعضاء بالغذاء ليبقى البدن محفوظا ما أمكن بقاؤه
وأما الدماغ فهو العضو القائم بأمر الحس والإدراك وتكميل الحياة إذ فيه آلات الإحساس التي بها يعرف النافع من الضار الملائم من المنافر وبه صارت الحياة نافعة صالحة متجاوزة لزينة حياة النبات
وأنا الانثيان فهما اللذان يقومان لحفظ بقاء النوع وأما الأعضاء الخادمة فالرئة والشرايين الحاملة المؤدية من القلب الحرارة الغريزية والقوى والأرواح الحيوانية التي بها قوام البدن
فهذان خادما القلب والمعدة والأوردة خادمان للكبد والأوردة تنفذ الدم الغاذي والقوى إلى جميع البدن والكبد خادمة الدماغ وكذلك الأعصاب التي بها يحصل الحس والحركة والانثيان يخدمهما الأعضاء المؤدية للمنى والمجاري المؤدية عنهما إلى موضع التوالد وأما الأعضاء المرءوسة بلا خدمة فهي أعضاء مختصة بقوى لها طبيعة بها يتم تدبيرها ويستقيم أمرها ولا يدفع ذلك أنه يقبض عليها من الأعضاء الرئيسية قوى تمدها بإذن الله تعالى كالأذن والعين والأنف فإن كل واحد منها يقوم بأمر نفسه بما فيه من القوة الطبيعية التي أعطاها إياها الخالق سبحانه ولا يتم ذلك إلا بأن تأتيها قوة حساسة تنزل عليها من الدماغ بإذن الله تعالى وأما الأعضاء التي ليست برئيسة ولا مرءوسة فهي التي اختصت بقوى غريزية فيها من أصل الخلقة في أول التكوين ليتم بها قوام أمرها وتدبيرها في جلب المنافع ودفع المضار كالعظام والغضاريف وسائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء مثل الرباطات والأعصاب والأوتار والشرايين والأوردة والأغشية واللحم والعظام كالأساس والأسطوانات لبناء هيكل البدن
فإن قيل : هل في العظام قوة الإحساس وحياته أم لا ؟ قيل : هذا موضع اختلف فيه أرباب الشريعة فيما بينهم وأرباب الطبيعة فيما بينهم فقالت طائقة : لا حياة في العظام وإن كان فيها قوة النمو والاغتذاء
قالوا : إن الحياة إنما هي الروح الحيواني ولا حفظ للعظام فيه
قالوا : ولأن مركب الحياة إنما هو الدم المنبث في العروق والأعصاب واللحم ولهذا لم يكن للشعر ولا للظفر نصيب من ذلك ولهذا لم يألم الإنسان بأخذه
قالوا : فحياة العظام والشعر حياة نمو واغتذاء وحياة أعضاء البدن حياة نمو وإحساس
قالوا : ولهذا قلنا إن العظام لا تنجس بالموت لأنها لم يكن فيها حياة تزول بالموت
قالوا : وزال النمو لا يوجب نجاسة ما فارقه بدليل يبس الزرع والشجر
قال آخرون : الدليل على أن العظام تحلها الحياة قوله تعالى { قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } والحس يدل على ذلك أيضا فإن العظم يألم ويضرب ويسكن وذلك نفس إحساسه
قالوا : ولا يمكن إنكار كون العظام فيها قوة حساسة تحس بالبارد والحار
قال الآخرون : الإحساس والألم ليس للعظم في نفسه وإنما هو لما جاوره من اللحم
قال المنازعون لهم : هذا مكابرة ظاهرة فإن العظم نفسه يألم ولا سيما إذا تصدع ثم إن الأسنان والأضراس تحس بالألم والحار والبارد بأنفسها لا بمجاورها من اللحم ولهذا توسطت طائفة ثالثة وقالت : عظام الأسنان خاصة لها الإحساس بخلاف سائر العظام وهؤلاء قد سلموا المسألة من مكان قريب فإن الذي دل على إحساس الأسنان وحياتها هو الدال على حياة سائر العظام والشبهة التي ذكروها لو صحت لمنعت من إحساس الأسنان
وأما حديث الطهارة والنجاسة فذاك لأمر آخر وراء الحياة
من نجسها بالموت سوى بينها وبين اللحم ومن لم ينجسها - وهو الراجح في الدليل - فذاك لعدم علة التنجيس فيها وإن الموت ليس بعلة النجاسة وإنما هو دليل العلة وسببها والعلة هي احتقان الفضلات في اللحم والعظم بريء من ذلك والدليل على هذا أن الشارع لم يحكم بنجاسة الحيوان النامي الذي لا نفس له سائلة لعدم احتقان الفضلات فيه فلان لا يحكم بنجاسة العظم أولى وأحرى فإن الرطوبات التي في الذباب والعقرب والخنفساء أكثر من الرطوبات التي في العظم والذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما سوى الصغار السمسميات التي أحكم بها مفاصل الأصابع والتي في الحنجرة وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلا فإن كانت المفاصل هي العظام فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظاما صغارا لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم وإن كان المراد بالمفاصل المواضع التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض - كما قال الجوهري وغيره المفصل واحد مفاصل الأعضاء - فتلك أعم من العظام فتأمله وإن السلاميات المذكورة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر [ يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقه فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة ] الحديث فالسلامي العظم وجمعه سلاميات فهنا ثلاثة أمور : أعضاء وعظام ومفاصل وجعل الله سبحانه العظام أصلب شيء في البدن لتكون رأسا وعندة في البدن إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام حتى القلب كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهي حاملة للأعضاء والحامل أقوى من المحمول ولتكون وقاية وجنة أيضا كالقحف فإنه وقاية الدماغ وعظام الصدر وقاية له وجعلت العظام كثيرة لفوائد ومنافع عديدة : منها الحركة فإن الإنسان قد يحتاج إلى حركة بعض أجزائه دون بعض وقد يحتاج إلى حركة جزء من عضو
ومنها أنه لو كان على عظم واحد لكان إذا أراد أن يتحرك تحرك بجملته
ومنها أنه كان يتعذر عليه الصنائع والحل والربط
ومنها أنه إذا أصابه آفة عمت جميع البدن فجعلت العظام كثيرة ليكون متى نال بعضها آفة لم تسر إلى غيره وقام غيره من العظام مقامه في تحصيل تلك المنفة
ومنها تعذر المنافع التي حصلت بسبب تعدد العظام ولولا كثرتها وتعددها لفاتت تلك المنافع
ومنها أن من العظام مايحتاج البدن إلى كبيره ومنها مايحتاج إلى صغيره ومنها ما يحتاج إلى مستطيلة ومنها مايحتاج إلى مجوفه ومنها مايحتاج إلى محنيه ومنها مايحتاج إلى مستقيمه ولايحصل ذلك إلا بتعدد العظام
ومنها بديع الصنع وحسن التأليف والتركيب وغير ذلك من الفوائد
ثم شد الخالق بعضها إلى بعض بالرباطات والأسر المحكم ثم كساها لحما حفظا لها ووقاية ثم كسى اللحم جلدا صونا له
ولما كانت الفضلات تنقسم إلى لطيفة وغليظة جعل الله سبحانه للغليظة منها مجارى تنجذب فيها إلى أسفل ويخرج منها خروجا ظاهرا للحس واما اللطيفة فهي الفضلات البخارية ولما كان من شأنها أن تصعد إلى فوق وتخرج عن البدن بالتحليل جعل في العظام العليا منها منافذ يتحلل منها البخار المتصاعد فلم تكن تلك المنافذ محسوسة لئلا يضعف صوان الدماغ - وهو القحف - بوصول الأجسام المؤذية إليه فجعل الدماغ مركبة من عظام كثيرة ووصل بعضها ببعض بوصل يقال لها الشئون ومنه قولهم : فلان لم تجمع شئون رأسه
ويشتمل الرأس بجملة أجزائه على تسعة وخمسين عظما وجعل القحف مستديرا تاما في مقدمه ومؤخره وجانبيه بمنزلة غطاء القدر وعظامه ستة وهي : عظم اليافوخ وعظم الجهة وعظم مؤخر الرأس والعظمان اللذان فيهما ثقبا السمع وفي كل واحد من الصدغين عظمان مصمتان
وعظام اللحى الأعلى أربعة عشر عظما : ستة منها في محاجر العينين وإثنان للأنف وإثنان تحت الأنف وهما المثقوبان إلى الفم وإثنان في الوجنتين وإثنان تحت الشفة العليا
وأما العظم الشبيه بالوتد فهو واحد وهو كالقاعدة للرأس
وعظام اللحى الأسفل إثنان : وهما متصلان في وسط الذقن وبينهما بنيان ويتصلان من فوق باللحى الأعلى اتصالا مفصليا
والأسنان إثنان وثلاثون في كل لحى ستة عشر : أربع ثنيات وتليها الرباعيات وتليها النابان ويليهما الأضراس : خمسة من هنا وخمسة من هنا والنواجذ أول الأضراء وهما ناجذان في كل ناحية ناجذ وربما نقصت النواجذ في بعض الأفراد وكان في كل جانب أربعة أضراس
وقد سلم الله غذاء الإنسان إلى يده فتأخذه فتسلمه إلى شفتيه فتسلمه الشفتان إلى الأنياب والثنايا فتفصله ثم تسلمه إلى الأضراء فتسلمه وتطحنه ثم تسلمه إلى اللسان والفم فيعجنه ثم يسلمه إلى الحلقوم والمرئ فيسلمه ويوصله إلى المعدة فتطبخه وتنضجه وتصلحه كماينبغي ثم تسلمه إلى الكبد فيتسلمه منها ثم يرسل منه إلى كل عضو راتبه ومعلومه ثم تصب قربة الصفراء في المرارة السوداء في الطحال والثفل يخرجه عنها كما تقدم بيانه والرأس يقال بالعموم على مايقله العنق بجملته ويقال بالخصوص على الفروة وهي جلدة الرأس حيث منبت الشعر والجمجمة العظم الذي يحوي الدماغ وهي مؤلفة من سبع قطع متقابلة تسمى القبائل وتسمى مواضع التآليف شئونا ووسط الجمجمة يسمى الهامة وحد الهامة من الجانبين قرن الرأس وحد الهامة من المقدم اليافوخ ومن المؤخر القمحدوة وهي مايصيب الأرض من رأس المستلقي على ظهره ولها ثلاث حدود : نقرة القفا والقذالان فنقرة القفا حدها من آخر الوسط والقذالان جانبا النقرة وقد تقدم تفصيل القبائل السبع
وسنظهر الجمجمة عمايحيط بها : السمحاق وسطها غشاوتان : إحداهما تلي الجمجمة وهو أثخنها وأصلبهما والآخر يكتنف الدماغ ويحيط به ويخالطه ويقال لكل منهما : أم الدماغ ويسميان الأمان ومنة الآمة والمأمومة التي فيها ثلث الدية وهي الجراحة التي تبلغ أم الدماغ ويقال لها : تجويف الدماغ
وبطن وهي ثلاث بطون وبين بطني الدماغ اللذين في مؤخره ووسطه مجرى فيه قطعة من الدماغ مستطيلة شبيهة بالدودة ينسد ذلك المجرى وينفتح بها وتحت الدماغ سبلة مبسوطة مؤلفة من عروق ضوارب يتولد منها روح نفساني ينفذ إلى البطنين اللذين في مقدم الدماغ
وفي الدماغ البركة والحوض والقمح والدودة والبطون والأغشية ومبادئ الأعصاب ويحتوي الدماغ على ثلاث خزائن نافذ بعضها إلى بعض وتسمى بطونا : فالأولى في مقدمة تنقسم إلى قسمين والثانية في وسطه والثالثة في مؤخره وجوهر الدماغ مخي متزرد الشكل كأنه زرد مجموع والروح النفساني مثبت في خلل الزرد والدماغ مقسوم في طوعه لنصفين متضامين والتنصيف في مقدم الدماغ أظهر والغشاءان يدخلان في فصول الدماغ وتزريده والصلب منهما يدخل بطونا بين جزءي البطن المقدم فيحجز بينهما وتحته مصفى كالبركة تسمى المعصرة تصب في العروق الدم المنضج وتنبعث في جداول تسقي المبطن المقدم وتجتمع إلى عرقين كبيرين يحملان الدم إلى البطن الأوسط والمؤخر والبطن الأوسط كدهليز ومنفذ بين المقدم والمؤخر وسقفه معقود كالأزج والدماغ موضوع طولا على زائدتين متقاربتين فيتماسان ويتباعدان إلى الإنفراج فيفتح الدهليز ويتراءى البطنان المقدم والمؤخر والجزء المؤخر أخفى تدويرا من المقدم وأصغر زردا وهو كرى الإستطالة ويستدق على التدريج حتى يسيل منه النخاع كالجدول من العين
وفي الدماغ مجريان : أحدهما في آخر المقدم والمؤخر في الأوسط لدفع فضوله ويجتمعان عند منفذ واحد عميق أولهما في الغشاء الرقيق والآخر في الغشاء الصلب يأخذ إلى ضيق كالقمع
ولماكان الدماغ مبدأ حركات البدن إلى إرادته ولم يكن به حاجة إلى الحركة القوية فحوط عليه بسور من عظام بخلاف المعدة والكبد والرحم وسائر آلات الغذاء فإنها لما احتاجت إلى أن تتسع وتمتلئ بالغذاء فتحمل مرة بعد أخرى وأن تعصر الفضول فتخرجها والعظم يمنع من ذلك ويكفي فيه الفصل وحده فأحيط عليه بسور من عظم
وأما الصدر فإنه لما احتاج إلى الوثاقة بالعظام وإلى الحركة بافصل بالفصل ألف الصدر منهما وكان البطن أوسع من الصدر لما يحل بها من آلات الغذاء والتنفس والطحال والمرئ وغيرها فاستقل الآن النظر في نفسك وانظر إلى المبدأ الأول وهو النطفة التي هي قطرة مهينة ضعيفة لو تركت ساعة لبطلت وفسدت كيف أخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب ؟ وكيف أوقع المحبة والألفة بين الذكور والإناث ثم قادهما بسلسلة المحبة والشهوة إلى الإجتماع ثم استخرج النطفة من الذكر بحركة الوقاع من أعماق العروق وجمعها في الرحم في قرار مكين لاتناله يد ولا تطلع عليه شمس ولايصيبه هواء ثم صرف تلك النطفة طورا بعد طور وطبقا بعد طبق وغذاها بماء الحيض
وكيف جعل سبحانه النطفة - وهي بيضاء مشرقة - علقة حمراء ثم جعلها مضغة ثم قسم أجزاء المضغة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم في داخل الرحم في الظلمات الثلاث ولو كشف لك الغطاء لرأيت التخطيط والتصوير يظهر في تلك النطفة شيئا بعد شيء من غير أن ترى المصور ولا آلته ولاقلمه فهل رأيت مصورا لاتحس آلته ولاتلاقيها ؟
ثم تأمل هذه القبة العظيمة التي قد ركبت على المنكبين وما أودع فيها من العجائب وما ركب فيها من الخزائن وماأودع في تلك الخزائن من المنافع وما اشتملت عليه هذه القبة من العظام المختلفة الأشكال والصفات والمنافع ومن الرطوبات والأعصاب والطرق والمجاري والدماغ والمنافذ والقوى الباطنة من الذكر والفكر والتخيل وقوة الحفظ ففيه القوة المفكرة والذاكرة والمخيلة والحافظة وهذه القوى مودعة في خزانتها مسخرة لمصالحها يستعملها ويستخدمها كيف أراد
فتأمل كيف دور سبحانه الرأس وشق سمعه وبصره وأنفه وفمه ؟ وكيف ركب كرته في بطن الأم من ثلاثة وعشرين عظما وخلق تلك العظام على كيفيات مختلفة
وتأمل كيف انقلبت تلك النطفة اللينة الضعيفة إلى العظام الصلبة الشديدة ؟
ثم تأمل كيف قدر سبحانه كل واحد من تلك العظام بشكل مخصوص بحيث حصل من مجموعها مالو كان على خلافه لبطلت المنفعة وفات الغرض ثم ركب بعضها مع بعض بحيث حصل من مجموعها كرة الرأس على هذه الخلقة المخصوصة
ولما كان الرأس أشرف الأعضاء الإنسانية وأجمعها للقوى والمنافع والآلات والخزائن اقتضت العناية الإلهية بأن صين بأنواع من الصيانات وذلك أن الدماغ يحيطه غشاء رقيق وفوق ذلك الغشاء غشاء آخر يقال له : السمحاق ثم فوق ذلك الغشاء طبقة لحمية وفوق تلك الطبقة اللحمية الجلد ثم فوق الجلد الشعر فخلق سبحانه فوق دماعك سبع طبقات كما خلق فوق الأرض سبع سموات طباقا والمقصود من تخليقها الإحتياط في صون الدماغ من الآفات والدماغ من الرأس بمنزلة القلب من البدن
وهو سبحانه قسمه في طوله ثلاثة أقسام وجعل القسم المقدم محل الحفظ والتخيل والبطن الأوسط محل التأمل والتفكر والبطن الأخير محل التذكر والإستراجاع لما كان قد نسيه ولكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة أمر مهم للانسان لابد له منه وأنه محتاج إلى التفهم والتفهيم ولولم يكن حافظا لمعاني التصورات وصورها بعد غيبتها لكان إذا سمع كلمة وفهمها شذت عنه عند مجيء الأخرى فلم يحصل المقصود من الفهم والإفهام فجعل له ربه وفاطره خزانة تحفظ له صور المعلومات حتى تجتمع له وتسمى القوة التي فيها القوة الحافظة ولاتتم مصلحة الإنسان إلا بها فإنه إذا رأى شيئا ثم غاب عنه ثم رآه مرة أخرى عرف أن هذا الذي رآه قبل ذلك لأنه في المرة الأولى ثبتت صورته في الحافظة ثم تتوارى عنه بالحجاب فلما رآه مرة ثاينة صارت هذه الصورة المحسوسة مطابقة للمصورة المعنوية التي في الذهن فحصل الجزم بأن هذا ذاك ولولا القوة الحافظة لماحصل ذلك ولما عرف أحد أحدا بعد غيبته عنه ولذلك إذا طالت الغيبة جدا وانمحت تلك الصورة الأولى من الذهن بالكلية لم يحصل له العلم بأن هذا هو الذي رآه أولا إلا بعد تفكر وتأمل
وقد قال قوم : إن محل هذه الصور النفس وقال قوم : محلها القلب وقال قوم : محلها العقل ولكل فريق منهم حجج وأدلة وكل منهم أدرك شيئا وغاب عنه شيء إذ الإدراك المذكور مفتقر إلى مجموع ذلك لايتم إلابه
والتحقيق أن منشأ ذلك ومبدأه من القلب ونهايته ومستقره في الرأس وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء هل العقل في القلب أو في الدماغ ؟ على قولين : حكي روايتين عن الإمام أحمد والتحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ قال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } فجعل العقل في القلب كماجعل السمع بالأذن والبصر بالعين وقال تعالى { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } قال غير واحد من السلف : لمن كان له عقل
واحتج آخرون : بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أن العقل في الرأس لمازال فإن السمع والبصر لايزولان بضرب اليد أو الرجل ولاغيرهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بهما
وأجاب أرباب القلب عن هذا بأنه لا يمتنع زواله بفساد الدماغ وإن كان في القلب لمابين القلب والرأس من الإرتباط وهذا كما لايمتنع نبات شعر اللحية بقطع الأنثيين وفساد القوة بفساد العضو قد يكون لأنه محلها وارتباطه بها والله أعلم
وعلى كل تقدير فذلك من أعظم آيات الله وأدلته وقدرته وحكمته كيف ترتسم صورة السموات والأرض والبحار والشمس والقمر والأقاليم والممالك والأمم في هذا المحل الصغير ؟ والإنسان يحفظ كتبا كثيرة جدا وعلوما شتى متعددة وصنائع مختلفة فترتسم كلها في هذا الجزء الصغير من غير أن يختلط بعض هذه الصور ببعض بل كان صورة منهن بنفسها محصلة في هذا المحل وأنت لو ذهبت تنقش صورا وأشكالا كثيرة في محل صغير لاختلط بعضها ببعض وطمس بعضها بعضا وهذا الجزء الصغير تنقش فيه الصور الكثيرة المختلفة والمتضادة ولايبطل منها صورة صورة
ومن أعجب الأشياء أن هذه القوة العاقلة تقبل ماتؤديه إليها الحواس فتجتمع فيها ثم تعيد كل حاسة منها فائدة الحاسة الأخرى مثاله : أنك ترى الشخص فتعلم أنه فلان وتسمع صوته فتعلم أنه هو وتلمس الشيء فتعرفه وتشمه فتعرف أنه هو ثم تستدل بماتسمعه من صوته على أنه هو الذي رأيته فيغنيك سماع صوته عن رؤيته ويقوم لك مقام مشاهدته ولهذا جوز أكثر الفقهاء شهادة الأعمى وبيعه وشراءه وأجمعوا على جواز وطئه امرأته وهولم يرها قط اعتمادا منه على الصوت بل لو كانت خرساء أيضا وهو أطرش جاز له الوطء
وقد جعل الله سبحانه بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطا ونفوذا يقوم به بعضها مقام بعض ولهذا يقرن سبحانه بينهما كثيرا في كتابه كقوله { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقوله تعالى { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } وقوله { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } وهذا من عناية الخالق سبحانه بكمال هذه الصورة البشرية لتقوم كل حاسة منها مقام الحاسة الأخرى وتفيد فائدتها في الجملة لافي كل شيء
ثم أودع سبحانه قوة التفكر وأمره باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة فركب القوة المفكرة من شيئين من الأشياء الحاضرة عند القوة الحافظة تركيبا خاصا فيتولد من بين هذين الشيئين شيء ثالث جديد لم يكن للعقل شعور به كانت مواده عنده لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث ومن ههنا حصل استخراج الصنائع والحرف والعلوم وبناء المدن والمساكن وامور الزراعة والفلاحة وغير ذلك فلما استخرجت القوة المفكرة ذلك واستحسنته سلمته إلى القوة الإرادية العلمية فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان فكان أمرا ذهنيا ثم صار وجوديا خارجيا ولولا الفكرة لما اهتدى الإنسان إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد وذلك من أعظم النعم وتمام العناية الإلهية ولهذا لما فقد البهائم والمجانين ونحوهم هذه القوة لم يتمكنوا مما تمكن منه أرباب الفكر
ولما كان استخراج المطلوب بهذه الطريق يتضمن فكرا وتقديرا فيفكر في استخراج المادة أولا ثم يقدرها ويفصلها ثانيا كما يصنع الخياط يحصل الثوب ثم يقدره ويفصله ثانيا قال تعالى عن الوحيد { ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر } فكرر سبحانه التقدير دون التفكير وذمه عليه دونه وهذا منزل على مقتضى حال سواه فإنه بالفكر طالب لاستخراج المجهول ولك غير مذموم فلما استخرجه قدر له تقديرين : تقديرا كليا وتقديرا جزئيا فالتقدير الكلي أن الساحر هو الذي يفرق بين المرء وزوجه والتقدير الجزئي أن الذي يفرق بين المرء وزوجه مذموم فههنا تقدير بعد تقدير فلهذا كرره سبحانه وذمه عليه وأما التفكير فإن الفكر طالب لمعرفة الشيء فلايذم بخلاف من قدر بعد تفكيره مايوصله إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق فتأمله
الصفحات قبل (1/255)
 
قال ابن القيم في التبيان:ثم انزل إلى العين وتأمل عجائبها وشكلها وخلقها وإيداع النور الباصر فيها وتركيبها من عشر طبقات وثلاث رطوبات ولكل واحد من هذه الطبقات والرطوبات شكل مخصوص ومقدار مخصوص لولم يكن عليه لاختلت المصلحة المقصودة وجعل سبحانه موضع الأبصار في قدر العدسة ثم اظهر في تلك العدسة قدر السماء والأرض والجبال والبحار والشمس والقمر فانظر كيف اتسعت تلك العدسة أن يرتسم فيها مالانسبة لها إليه ألبتة ؟ وجعل تلك القوة الباصرة في جزء أسود فتأمل كيف قام الباصر بهذا الجزء الأسود ؟
وجعل سبحانه الحدقة مصونة بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها وجعل شعر الأجفان أسود ليكون سواده سببا لاجتماع النور الذي به الأبصار ويكون مانعا من تفرقه ويكون أبلغ في الحسن والجمال
وخلق سبحانه لتحرك الحدقة أربعة وعشرين عضلة لو نقصت واحدة منهن لاختل أمر العين
ولما كانت العين شبيهة بالمرآة - التي إنما ينتفع بها إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء - جعل سبحانه الأجفان متحركة إلى الانفتاح والأطباق أبدا باختيار الانسان وغير اختياره لتبقى الحدقة نقية صافية عن جميع الكدورات وجعل العيبين بمنزلة المرآتين الصقيليتين اللتين تنطبع فيهما صور الأشياء الخارجة فيتأثر القلب ثم يظهر مافيه عليهما فيتأثران به فهما مرآة لما في القلب يظهر فيهما ومرآة لما في الخارج تنطبع صورته فيهما فالعينان على القلب كالزجاجتين الموضوعتين في المرآة ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه وغضبه وحبه وبغضه ونفرته ومن أعجب الأشياء أن العين من ألطف أعضاء البدن وهي لاتتأثر بالحر والبرد تأثر غيرها من الأعضاء الكثيفة ولو كان الأمر عائدا إلى مجرد الطبيعة لكان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس لأن الألطف أسرع تاثرا فعلم أن حصول هذه المصالح ليس هو بمجرد الطبع

(1/255)
 
قال ابن القيم في التبيان:ثم اعدل إلى الأذنين وتأمل شقهما وخلقهما وإيداع الرطوبة فيهما ليكونا عونا على إدراك السمع وجعلها مرة لتمتنع الهوام عن الدخول في الأذن وحوطهما سبحانه بصدفتين يجمعان الصوت ويؤديانه ‘لى الصماخ وجعل في الصدفتين تعريجات لتطول المسافة فتنكسر حدة الصوت و لا تلج الهوام دفعة بل تكثر حركاتها فينتبه لها فيخرجها وجعل العينين مقدمتين والأذنين مؤخرتين لأن العينين بمنزلة الطليعة والكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه وأما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العبد من أمامه ومن خلفه وعن جانبيه فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور فسبحان من بهرت حكمته العقول
وجعل للعينين غطاء لأن مدرك الأذن الأصوات ولا بقاء لها فلو جعل عليهما غطاء لزال الصوت قبل ارتفاع الغطاء فزالت المنفعة المقصودة وأما مدرك العين فأمر ثابت والعين محتاجة إلى غطاء يقيها وحصول الغطاء لا يؤثر في الإدراك وقال بعض أهل العلم : - عينا الانسان هاديان وأذناه رسولان إلى قلبه ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريدان والقلب ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث خبثت جنوده(1/256)
 
قال ابن القيم في التبيان:ثم انزل إلى الأنف وتأمل شكله وخلقته وكيف رفعه سبحانه في وسط الوجنة بأحسن شكل وفتح له بابين وأودع فيهما حاسة الشم وجعله آلة لاستنشاق الهواء وإدراك الروائح على اختلافها فيستنشق بهما الهواء البارد والطيب فيستغنى بالمنخرين عن فتح الفم أبدا ولولاهما لاحتاج إلى فتح فيه دائما وجعل سبحانه تجويفه واسعا لينحصر فيه الهواء وينكسر برده قبل الوصول إلى الدماغ فإن الهواء المستنشق ينقسم قسمين : شطرا منه - وهو أكثره - ينفذ إلى الرئة وشطرا ينفذ إلى الدماغ ولذلك يضر المزكوم استنشاق الهواء البارد وجعل في الأنف أيضا إعانة على تقطيع الحروف وجعل بين المنخرين حاجزا وذلك أبلغ في حصول المنفعة المقصودة حتى كأنهما أنفان بمنزلة العينين والأذنين واليدين والرجلين وقد يصيب أحد المنخرين آفة فيبقى الآخر سالما وجعل تجويفه نازلا إلى أسفل ليكون مصبا للفضلات النازلة من الدماغ وستره بساتر أبدي لئلا تبدو تلك الفضلات عن عين الرائي
تأمل منفعة النفس الذي لو قطع عن الانسان لهلك وهو أربعة وعشرون ألف نفس في اليوم والليلة قسط كل ساعة ألف نفس
وتأمل كيف يدخل الهواء في المنخرين فينكسر برده هناك ثم يصل إلى الحلقوم فيعتدل مزاجه ثم يصل إلى الرئة فيصفي فيها من الغلظ والكدرة ثم يصل إلى القلب أصفى ماكان وأعدله فيروح عنه ثم ينفذ منه إلى العروق المتحركة ويتقدم إلى أقاصي أطراف البدن ثم إذا سخن جدا وخرج عن حد الانتفاع به عاد عن تلك الأقاصي إلى البدن ثم إلى الرئة ثم إلى الحلقوم ثم إلى المنخرين ثم يخرج ويعود مثله وهكذا أبدا فمجموع ذلك هو النفس الواحد وقد أحصى الرب عدد هذه الأنفس وجعل مقابل كل نفس منها ماشاء الله من الأحقاب في الجحيم أوفي النعيم فما أسفه من أضاع ماهذا قيمته في غير شيء(1/257)
 
عودة
أعلى