عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 136
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
بسم الله الرحمن الرحيم
كثرت البحوث والمقالات والمؤتمرات واللقاءات الإعلامية حول الإعجاز في القرآن الكريم ولا سيما ما يسمى بالإعجاز العلمي ، وفي هذا السياق نشرت جريدة المدينة السعودية في الملحق التابع لها الذي يصدر كل جمعة باسم الرسالة مقالات حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم تحدث فيه الأستاذ الدكتور زغلول النجار حفظه الله عن أهمية العناية بهذا النوع من التفسير ، وما ينبغي على المسلمين في هذا الزمن من الدعوة إلى الله بهذا الأسلوب الدعوي وغيره.
وقد شارك في هذا التحقيق الدكتور مساعد الطيار بمقالة له عن الإعجاز العلمي ، رأيت الجريدة قد نشرته تحت عنوان :
تواصلاً مع ما نشر حول الإعجاز العلمي ... المعترضون :
الإعجازيون ينطلقون من ردة فعل ... وينتقصون من قدر العلماء
والذي أعرفه من كتابات وآراء الدكتور مساعد الطيار وفقه الله أنه لا يعترض على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم ، وإنما يدعو إلى الأخذ به بضوابط وشروط تحفظ للقرآن الكريم هيبته ومكانته ، وتحفظ للتفسير حرمته . وللدكتور مساعد الطيار أن يتحفنا بأي تعليق له في هذه المشاركة إن كان لديه توضيح لما نشرته الصحيفة .
وهذا نص المقال الأصلي الذي نشرته جريدة المدينة.
[align=center]** ** **[/align]
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
إن الحديث عن الإعجاز القرآني ـ فضلاً عما يُسمى بالإعجاز العلمي ـ ذو شجون .
لكن مما يحسن التنبيه عليه في بدء هذا الموضوع أن يعلم أن أهل التفسير ليسوا ضد المخترعات الحديثة والعلم التجريبي ، ولكن الإشكالية بينهم وبين الإعجازيين في الربط بين هذه المخترعات والمكتشفات وبين النصوص القرآنية ، وطريقة ذلك ، فهذا الربط فيه محاذير ، من أهمها :
أن ما يتوصل إليه الباحثون عرضة للنقض في حالة اكتشاف ما يناقضه ، ولا يمكن لأحد من البشر أن يدعي العصمة لأحد من الناس إلا من عصمه الله .
لاسيما وأن كثيرًا من المكتشفات التي تذكر في الإعجاز العلمي هي أمور غير محسوسة ، وإنما هي مبنية على استنتاجات ودراسات الله أعلم بصحتها ، إذ لا زالات الدراسات إلى اليوم تنقض ما كان يقال بأنه حقيقة لا رجعة فيه ، وذلك معروف وواضح من قصور العلم البشري الذي يتطور شيئًا فشيئًا .
ولا يفهم من هذا أننا ندعو إلى عدم دراسة هذه الأمور المفيدة للناس في حياتهم الدنيا وإنما التحفظ على ربطها بالنصوص الشرعية والطريقة المتبعة في ذلك .
لكن لما كان الحديث منصبًّا على مسألة الإعجاز العلمي ، فإني سأطرح بعض القضايا المتعلقة به على سبيل الاختصار ، فأقول :
1 ـ إن الأصل أن تتفق الحقيقة الكونية مع النص القرآني لأن مصدرهما واحد ، ولا يقع الاختلاف إلا في نظر الناظر ، فقد يكون نقص علمه من جهة الحقيقة الكونية أو من جهة الحقيقة القرآنية ، وفي كلا الحالين لا يمس هذا النقص قدسية القرآن ؛ لأن التفسير شيء ، وثبوت النص القرآني كلامًا لله شيء آخر .
2 ـ إن قُصارى الأمر في صحة دلالة النص القرآني على الحقيقة الكونية أنها دليل على صدق القرآن ، وبهذا يكون مجال الإعجاز العلمي ومآله إلى هذا ، وهو لا يختلف بهذه القضية عن دلائل صدق القرآن أو النبوة .
فإذا ثبتت الموافقة قلنا : هذا دليل صدق القرآن وأنه جاء من عند الله وليس من قول البشر ، وإذا صحَّت هذه الدعوى طالبنا الناس بالإيمان بها ، لكن لا يلزم أنهم سيصدقون ، فممن شهِد تنَزُّل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم كفر به ، فما بالك بمن جاء بعده .
ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن دلائل صدق القرآن لا يمكن أن تحصر ، فكل آية من آياته دليل على صدقه ، فالجهل بالاستدلال بها اليوم من قبل بعض الناس لا يعني عدم وجودها إلا في الإعجاز العلمي .
كما أن مما يحسن ملاحظته هنا أن ما يسمى بالإعجاز العلمي ليس مختصًّا بالقرآن وحده بل هو مخصوص بكلام الله سواءً أكان نازلاً على إبراهيم أم على موسى أم على محمد صلوات الله وسلامه عليهم ؛ لأن كلامه لا يتغير ولا يتبدل ، فلا يمكن أن تجد في كتابٍ من كتبه أن السموات ستًّا أو ثماني سموات ، مع ملاحظة أن غير القرآن قد دخله التحريف والنقص ، فقد لا يوجد فيه ما يوافق القرآن في بعض هذه القضايا بسبب التحريف ، والله أعلم .
3 ـ لا شكَّ أن الدعوة بالإعجاز العلمي هي أحد طرق الدعوة ، وليس هو كل طرقها ، بل وليس هو أنجعها وأنفعها ، وكون بعضهم يزعم أن الإعجاز العلمي أهم الأسباب التي سوف تنقذ هذه الأمة من تخلفها وعجزها غير دقيق ، بل إن الرجوع إلى كتاب ربنا والعمل بما فيه من الآيات التي تدعونا إلى عمارة الأرض والجد والاجتهاد فيما يعود على الإنسان وأمته والناس بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة هو الطريق الأمثل في هذا الموضوع .
وأيضًا ، فإن طلب قيادة البشرية لا يكفي فيه العلم وحده ، بل لابد له من قوة تحميه ، فإذا وُجِد العلم ولم توجد له قوة تحميه فإنه يهاجر إلى هذه القوة ؛ كما هو الحال في هجرة كثير من علماء المسلمين وغيرهم إلى الدول التي تحميهم في كل المجالات .
ومما يحسن التنبه له في مجال بيان الحق للناس ودعوتهم إليه بالإعجاز العلمي أن تصديق القرآن مرتبط بالاستعداد النفسي والتجرد للحق ، فكم من العلماء الغربيين قد سمعوا ما يذكره الإعجازيون ومع ذلك لم يسلموا ولم تتهتز لهم شعرة .
أن هذا الموضوع ضُخِّم وأُعطي أكبر من حجمه من قبل المعتنين به حتى أصبح بعضهم يدعو إلى وضع مادة مستقلة للإعجاز العلمي تدرس في المدارس لعامة الطلاب ، وأن تخصص في الجامعات أقسام خاصة له ، بل وصل الأمر ببعضهم إلى انتقاص علماء الشريعة الذين لا معرفة لهم بما يسمونه الإعجاز العلمي ، ولو أن هذه العناية صرفت إلى فهم كتاب الله وما فيه من حكم ومقاصد أُنزل من أجلها لكان في ذلك من الخير والنتائج أضعاف ما يحصل من العناية بالإعجاز العلمي .
4 ـ إن بعض الإعجازيين دخلوا في هذا المجال بسبب ردود الفعل ؛ إما بما رأوا من تنقص بعض الملحدين للمسلمين ودينهم ، وإما بسبب ما يرونه من الهجمة الشرسة على الإسلام والدعوى بأنه دين جامد يحارب العلم ، ولقد كان لردة الفعل هذه أثرٌ في طريقة تفكيرهم وتناولهم لتفسير الآيات تفسيرًا يتناسب مع ما أُوتوه من علم بشري تجريبي أو كوني .
5 ـ أن الله قد بين لنا المقاصد والغايات التي أنزل من أجلها القرآن ، وقد بين لنا سبحانه الدلائل الواضحة والبينة على صدق هذا الكتاب وصدق هذا النبي صلى اله عليه وسلم من حين نزل القرآن فلماذا نهمل كل هذه الأمور ونتَّجه إلى جزئية صغيرة اعتورها كثير من المحاذير ، فالعدل والإنصاف يقتضي أن يعطى كل شيء قدره ، وأن ينزل كل أمر في منزلته ، مالم نفعل فسوف نصرف جهودنا في أمور غيرها أولى منها ، ونشتغل بما هو أدنى عما هو خير .
6 ـ إن ما يقوم به الإعجازيون إما أن يكون بحثًا محضًا في العلوم الطبيعية ، وأما أن يكون تفسيرًا لكلام الله ، فإن كان بحثهم في مجال تخصصهم فلهم أن يبينوا قدرة الله ولطفه في كونه لا يردُّهم بهذا الأمر أحدٌّ ، بل تلك طريقهم التي يحسن بهم أن يسلكوها ويدرِّسوا الطلاب على هذا السبيل لكي لا ينفك الطلاب عن النظر والتفكر في قدرة الخالق سبحانه وتعالى .
وإن كان بحثهم في مجال التفسير ، فإن تفسير كلام الله عز وجل باب خطير لا يحق للإنسان أن يلجه إلا بعد أن يتأهل لذلك ، وقد قرر العلماء أن من فسر القرآن بمجرد رأيه ، فإنه يكون مخطئا ولو أصاب في تفسيره ، فكيف بمن يدخل في باب التفسير ببضاعة مزجاة ويتجرأ على تفسير كلام الله عز وجل ويتهجم على أهل التفسير الذين أفنوا أعمارهم على تعلم هذا العلم وتعلم أدواته ، فللتفسير شروط وطرائق لابدَّ من الإتيان بها ومعرفتها ، ومن نقص في معرفتها نقص في وصوله إلى التفسير الصحيح ، وطرح هذه الأمور لا تحتمله مثل هذه المقالة ، لكن الملاحظ أنَّ كثيرًا ممن دخل في هذا المجال لا يحسن منهج التفسير ، ولست أقول ذلك من فراغ حين وصفتهم بالكثرة ، بل هذا هو الواقع ، والله المستعان .
7 ـ إنَّه مما يظهر على بعض الإعجازيين فرحهم بما أوتوه من العلم ، حتى إنَّ بعضهم ليخطئ كل من سبقه ، ويزعم أنهم لم يعرفوا تفسير الآية ولم يأتوا في معناها بما يُقنِع ، وهذا الأمر يظهر عند بعضهم صريحًا ، ويظهر عند بعضهم بلازم قوله ، كمن يزعم ( أنَّ الآيات الكونية لا يمكن فهمها فهمًا صحيحًا في إطار اللغة وحدها ) ، ولازم هذا الكلام أن رسول الله عليه وسلم لم يفهم هذه الآيات ، فضلاً عمن عاصره من الصحابة أو جاء بعدهم ، ولم تُفهم هذه الآيات حتى ظهرت هذه العلوم الكونية والتجريبية .
وظنيِّ بكثيرٍ ممن صدر منه هذا الكلام حسنٌ جدًّا ، وإنما أُتِي ودُخِلَ عليه هذا الفهم بسبب عدم فهمه لطبيعة التفسير ولمنهجه الصحيح ، ولو علِمه لأثبت أن ما فهمه السالفون فيه حقٌّ لا مرية فيه ، وأنه لا يوجد آية لم يُفهم معناها وحُجِب حتى يأتي هو فيبينها ، وإنما الأمر أنه أضاف وجهًا آخر قد يكون صحيحًا في فهم الآية فحسب .
وكل من أتى على تفسير السالفين بالإبطال فليحذر ، وليخش على نفسه أن يكون ممن فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، وتنقُّصوا علم السالفين .
8 ـ ليس سبيل هذه المقال سبيل الوعظ ولا سبيل إثبات سلامة فهم الصحابة والتابعين ومن تبعهم للقرآن ، لكن ألا يدل الدليل العقلي على أنَّ من ألَّف كتابًا لطلابه فهم أدرى به من غيرهم ممن يجيء بعدهم ، وأنه لو وقع اختلاف في الفهم بين طالب من طلاب الأستاذ ورجل جاء بعده بقرون فإن العقل يدلُّ على قبول قول الطالب وتقديمه لأنه أدرى بكتاب أستاذه وبملابساته .
وهذه الصورة شبيهة بحال في من نزل القرآن بين ظهرانيهم ، وتعلموا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلَّموا أتباعهم هذا الكتاب ، فهم أدرى به وبملابساته من غيرهم ، فلا يقع في ظنِّ أحدنا أنه فاتهم شيء من فهم هذا القرآن .
9 ـ فإن قلت : ما ظهر لنا في هذا الزمان من تصديق لما في كتاب ربنا مما اكتشفه الباحثون في الأرض والسماء كيف نعمل به مع ما ذكرتَ ؟
فالجواب : إن ثبوت فهم السلف لجميع معاني القرآن لا يعني انتهاء هذا الفهم عندهم فقط ، لكنه يعني أنهم لم يبقَ عندهم ما يحتاجون إليه ولم يفهموه هذا أولاً .
وثانيًا : أنهم قد ظهر عندهم أفهام جديدة بسبب بعض الحوادث التي حدثت في عصرهم ، ونزلوها على الآيات ، وعملوا بها ، فدل ذلك على أصل المسألة ، وهو جواز إحداث قول جديد ؛ لأن القول بغير ذلك يلزم منه وقوف التفسير ، فأين تقف به ؟ أتقف به على الصحابة ، أم على التابعين أم على أتباع التابعين ، وما الحجة في ذلك ، وأين تضع ما صح من تفسيرات للعلماء الذين جاءوا بعدهم ؟
ثالثًا : أن ما صح دلالة القرآن عليه من قضايا العلوم المعاصرة لا يُعترضُ عليه بعدم معرفة السلف له ، وإنما يُرفضُ لو كانوا عَلِموه فأبطلوه ، أو عُلِمَ أنهم علِموه فتركوه ، فتركهم مع علمهم به يدل على وجود إشكال في ذلك ، وذلك ما لم يقع منهم .
رابعًا : إن تفسير القرآن بما صح واحتملته الآيات من هذه العلوم المعاصرة لا يدل على جهل السلف ، بل ليس من باب الأدب أن يُنسبوا إلى ذلك ؛ لأن المسألة لا تدخل من هذا الباب ، بل هي تدخل في باب تطور العلم البشري ، وليس يلزم أن يكون جمهور الصحابة يعلمون كل شيء كان في عصرهم فضلاً عما سيجيء بعدهم ؛ ألا ترى لو أن قائلاً قال : ( إنَّ عائشة رضي الله عنها لا تعرف أن تطبخ الأكلة الفلانية المعاصرة ) ، فإن ذلك مدعاة للسخرية من هذا القائل . وهذه المسألة قريبة من تلك ، فلا يصح نسب الجهل لهم .
10 ـ إن منهج التفسير الذي سار عليه العلماء ، ونصَّ عليه بعضهم أنَّ القول الذي قيل بعد جيل السلف في طبقاتهم الثلاث ( الصحابة والتابعون وأتباعهم ) يُقبل بضوابط ، وهي : أن يكون القول صحيحًا في ذاته ، وأن تحتمله الآية ، وأن لا يكون في القول به إبطالٌ لتفسير السلف ، وأن لا يُقتصر على هذا القول حتى لا يُفهم أن غيره غير صحيح ، فإذا وافقَ قولٌ هذه الضوابط فهو قول يدخل في محتملات الآية ، ولا يلزم أن يكون هو القول الصحيح الوحيد ، والله أعلم .
11 ـ إن بعض من كتب في الإعجاز العملي وكذا بعض مجلاَّت الإعجاز العلمي يشترطون شروطًا صحيحة في ذاتها ، لكنها قد تكون مطاطةً غير محددة ، فيقع الإخلال بشيء منها عند بعض الإعجازيين من حيث يدري أو لا يدري ، فأحدهم يفسر قوله تعالى : (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ 0 وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ 0 ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ 0 فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) فيقول : ( والاستواء الإلهي رمز للسيطرة الكلية ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين ، والتسوية للكون بأرضه وسمائه ... ) ، ويقول في موطن بعد هذا : ( والدحو لغة : هو المد والبسط والإلقاء ، وهو كناية عن الثورات البركانية العنيفة التي أخرج بها ربنا سبحانه وتعالى من جوف الأرض كلاً من غلافها الغازي والمائي والصخري ) وقال في موطن آخر يتكلم فيه عن أيام الخلق الستة : ( وإن كان غالبية المفسرين ترى خلاف ذلك لاعتبارهم يومي خلق الأرض داخلين في الأيام الأربعة لجعل الرواسي والمباركة وتقدير الأقوات ، إلا أنهم مجمعون على أن حرف العطف " ثم " لا يدل هنا على الترتيب مع التراخي ، لكنه يدل على بعد عملية الاستواء والتسوية للسموات السبع من السماء الدخانية الأولى ؛ لأن من معاني ثمَّ هنا أنها إشارة إلى البعيد بمعنى هناك في مقابل هنا للقريب ... ) .
وقائل هذه التفسيرات من فضلاء من تكلم في الإعجاز العلمي من الإعجازيبن ، وهو قد ذكر شروطًا ؛ منها :
1 ـ أن الظاهر مقدم على التأويل ، فمن أين ظهر له مفهوم الاستواء ، ومفهوم الدحو الذي هو تأويل مجازي وليس حقيقة ؟
2 ـ أنه اشترط حسن فهم النص من القرآن الكريم وفق دلالات ألفاظ اللغة العربية ، فأين وجد في اللغة أن الدحو بمعنى الإلقاء ، وأين وجد فيها أن ثمَّ ( بضم الثاء ) بمعنى الإشارة إلى البعيد ؟!
3 ـ أنه اشترط البعد عن القضايا الغيبية ، وهل ما يتحدث فيه من القضايا المشاهدة أم من القضايا الغيبية ، فمن أين له أن الدحو هو الثورات البركانية العنيفة التي خرجت من جوف الأرض ؟!
أليس هذا مخالفًا لما يشترطه ؟
وأخيرًا أقول :
إن صِدقَ كثيرين ممن ولج في هذا الباب من الإعجازيين لا يُنكر ، وقيامهم بالدعوة إلى الله من هذا السبيل جهد يُذكر ويُشكر ، لكن كتاب ربنا ـ تبارك وتعالى ـ أغلى وأعلى من أن نسمح لكل من هبَّ ودبَّ أن يجعل نفسه هو المبين لكلام الله بما يخالف ما جاءت به الشريعة من أجل أن نُثبت للعالم أننا نملك من العلم ما لم يصلوا إليه .
وإن كان هؤلاء جادين في هذه الدعوى فإن الدعوة بالعلم إنما تكون بمثل ما ساروا عليه هم فنجاريهم بالأبحاث والمكتشفات لا أن نقول لهم ما توصلتم إليه فإنه في كتابنا ، وهذا يدل على صدقه فآمنوا ، فإن هذه الدعوى لا يقبلها كثير من المفكرين من علماء الغرب ، بل لقد كانت موضع الاستهجان من بعضهم ، فقال : إذا كان هذا عندكم فلم لم تكتشفوه قبلنا ؟
وأقول : لا يأخذنا الحماس العاطفي لا يمنة ولا يسرة ، وليكن بيننا أدب الخلاف ، وأن نتعلم من بعضنا ، وأن نتأمل قول من يعترض علينا ، فقد يكون الحق معه ونحن لم نصل إلى ما علِمه ، لكن لابدَّ أن يكون لنا مرجعٌ نرجع إليه حال الاختلاف ، ومن ذلك ما اشترطه هؤلاء الإعجازيون من شروط صحيحة .
[align=center]كتبه / د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
قسم الدراسات القرآنية / كلية المعلمين بالرياض[/align]
كثرت البحوث والمقالات والمؤتمرات واللقاءات الإعلامية حول الإعجاز في القرآن الكريم ولا سيما ما يسمى بالإعجاز العلمي ، وفي هذا السياق نشرت جريدة المدينة السعودية في الملحق التابع لها الذي يصدر كل جمعة باسم الرسالة مقالات حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم تحدث فيه الأستاذ الدكتور زغلول النجار حفظه الله عن أهمية العناية بهذا النوع من التفسير ، وما ينبغي على المسلمين في هذا الزمن من الدعوة إلى الله بهذا الأسلوب الدعوي وغيره.
وقد شارك في هذا التحقيق الدكتور مساعد الطيار بمقالة له عن الإعجاز العلمي ، رأيت الجريدة قد نشرته تحت عنوان :
تواصلاً مع ما نشر حول الإعجاز العلمي ... المعترضون :
الإعجازيون ينطلقون من ردة فعل ... وينتقصون من قدر العلماء
والذي أعرفه من كتابات وآراء الدكتور مساعد الطيار وفقه الله أنه لا يعترض على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم ، وإنما يدعو إلى الأخذ به بضوابط وشروط تحفظ للقرآن الكريم هيبته ومكانته ، وتحفظ للتفسير حرمته . وللدكتور مساعد الطيار أن يتحفنا بأي تعليق له في هذه المشاركة إن كان لديه توضيح لما نشرته الصحيفة .
وهذا نص المقال الأصلي الذي نشرته جريدة المدينة.
[align=center]** ** **[/align]
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
إن الحديث عن الإعجاز القرآني ـ فضلاً عما يُسمى بالإعجاز العلمي ـ ذو شجون .
لكن مما يحسن التنبيه عليه في بدء هذا الموضوع أن يعلم أن أهل التفسير ليسوا ضد المخترعات الحديثة والعلم التجريبي ، ولكن الإشكالية بينهم وبين الإعجازيين في الربط بين هذه المخترعات والمكتشفات وبين النصوص القرآنية ، وطريقة ذلك ، فهذا الربط فيه محاذير ، من أهمها :
أن ما يتوصل إليه الباحثون عرضة للنقض في حالة اكتشاف ما يناقضه ، ولا يمكن لأحد من البشر أن يدعي العصمة لأحد من الناس إلا من عصمه الله .
لاسيما وأن كثيرًا من المكتشفات التي تذكر في الإعجاز العلمي هي أمور غير محسوسة ، وإنما هي مبنية على استنتاجات ودراسات الله أعلم بصحتها ، إذ لا زالات الدراسات إلى اليوم تنقض ما كان يقال بأنه حقيقة لا رجعة فيه ، وذلك معروف وواضح من قصور العلم البشري الذي يتطور شيئًا فشيئًا .
ولا يفهم من هذا أننا ندعو إلى عدم دراسة هذه الأمور المفيدة للناس في حياتهم الدنيا وإنما التحفظ على ربطها بالنصوص الشرعية والطريقة المتبعة في ذلك .
لكن لما كان الحديث منصبًّا على مسألة الإعجاز العلمي ، فإني سأطرح بعض القضايا المتعلقة به على سبيل الاختصار ، فأقول :
1 ـ إن الأصل أن تتفق الحقيقة الكونية مع النص القرآني لأن مصدرهما واحد ، ولا يقع الاختلاف إلا في نظر الناظر ، فقد يكون نقص علمه من جهة الحقيقة الكونية أو من جهة الحقيقة القرآنية ، وفي كلا الحالين لا يمس هذا النقص قدسية القرآن ؛ لأن التفسير شيء ، وثبوت النص القرآني كلامًا لله شيء آخر .
2 ـ إن قُصارى الأمر في صحة دلالة النص القرآني على الحقيقة الكونية أنها دليل على صدق القرآن ، وبهذا يكون مجال الإعجاز العلمي ومآله إلى هذا ، وهو لا يختلف بهذه القضية عن دلائل صدق القرآن أو النبوة .
فإذا ثبتت الموافقة قلنا : هذا دليل صدق القرآن وأنه جاء من عند الله وليس من قول البشر ، وإذا صحَّت هذه الدعوى طالبنا الناس بالإيمان بها ، لكن لا يلزم أنهم سيصدقون ، فممن شهِد تنَزُّل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم كفر به ، فما بالك بمن جاء بعده .
ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن دلائل صدق القرآن لا يمكن أن تحصر ، فكل آية من آياته دليل على صدقه ، فالجهل بالاستدلال بها اليوم من قبل بعض الناس لا يعني عدم وجودها إلا في الإعجاز العلمي .
كما أن مما يحسن ملاحظته هنا أن ما يسمى بالإعجاز العلمي ليس مختصًّا بالقرآن وحده بل هو مخصوص بكلام الله سواءً أكان نازلاً على إبراهيم أم على موسى أم على محمد صلوات الله وسلامه عليهم ؛ لأن كلامه لا يتغير ولا يتبدل ، فلا يمكن أن تجد في كتابٍ من كتبه أن السموات ستًّا أو ثماني سموات ، مع ملاحظة أن غير القرآن قد دخله التحريف والنقص ، فقد لا يوجد فيه ما يوافق القرآن في بعض هذه القضايا بسبب التحريف ، والله أعلم .
3 ـ لا شكَّ أن الدعوة بالإعجاز العلمي هي أحد طرق الدعوة ، وليس هو كل طرقها ، بل وليس هو أنجعها وأنفعها ، وكون بعضهم يزعم أن الإعجاز العلمي أهم الأسباب التي سوف تنقذ هذه الأمة من تخلفها وعجزها غير دقيق ، بل إن الرجوع إلى كتاب ربنا والعمل بما فيه من الآيات التي تدعونا إلى عمارة الأرض والجد والاجتهاد فيما يعود على الإنسان وأمته والناس بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة هو الطريق الأمثل في هذا الموضوع .
وأيضًا ، فإن طلب قيادة البشرية لا يكفي فيه العلم وحده ، بل لابد له من قوة تحميه ، فإذا وُجِد العلم ولم توجد له قوة تحميه فإنه يهاجر إلى هذه القوة ؛ كما هو الحال في هجرة كثير من علماء المسلمين وغيرهم إلى الدول التي تحميهم في كل المجالات .
ومما يحسن التنبه له في مجال بيان الحق للناس ودعوتهم إليه بالإعجاز العلمي أن تصديق القرآن مرتبط بالاستعداد النفسي والتجرد للحق ، فكم من العلماء الغربيين قد سمعوا ما يذكره الإعجازيون ومع ذلك لم يسلموا ولم تتهتز لهم شعرة .
أن هذا الموضوع ضُخِّم وأُعطي أكبر من حجمه من قبل المعتنين به حتى أصبح بعضهم يدعو إلى وضع مادة مستقلة للإعجاز العلمي تدرس في المدارس لعامة الطلاب ، وأن تخصص في الجامعات أقسام خاصة له ، بل وصل الأمر ببعضهم إلى انتقاص علماء الشريعة الذين لا معرفة لهم بما يسمونه الإعجاز العلمي ، ولو أن هذه العناية صرفت إلى فهم كتاب الله وما فيه من حكم ومقاصد أُنزل من أجلها لكان في ذلك من الخير والنتائج أضعاف ما يحصل من العناية بالإعجاز العلمي .
4 ـ إن بعض الإعجازيين دخلوا في هذا المجال بسبب ردود الفعل ؛ إما بما رأوا من تنقص بعض الملحدين للمسلمين ودينهم ، وإما بسبب ما يرونه من الهجمة الشرسة على الإسلام والدعوى بأنه دين جامد يحارب العلم ، ولقد كان لردة الفعل هذه أثرٌ في طريقة تفكيرهم وتناولهم لتفسير الآيات تفسيرًا يتناسب مع ما أُوتوه من علم بشري تجريبي أو كوني .
5 ـ أن الله قد بين لنا المقاصد والغايات التي أنزل من أجلها القرآن ، وقد بين لنا سبحانه الدلائل الواضحة والبينة على صدق هذا الكتاب وصدق هذا النبي صلى اله عليه وسلم من حين نزل القرآن فلماذا نهمل كل هذه الأمور ونتَّجه إلى جزئية صغيرة اعتورها كثير من المحاذير ، فالعدل والإنصاف يقتضي أن يعطى كل شيء قدره ، وأن ينزل كل أمر في منزلته ، مالم نفعل فسوف نصرف جهودنا في أمور غيرها أولى منها ، ونشتغل بما هو أدنى عما هو خير .
6 ـ إن ما يقوم به الإعجازيون إما أن يكون بحثًا محضًا في العلوم الطبيعية ، وأما أن يكون تفسيرًا لكلام الله ، فإن كان بحثهم في مجال تخصصهم فلهم أن يبينوا قدرة الله ولطفه في كونه لا يردُّهم بهذا الأمر أحدٌّ ، بل تلك طريقهم التي يحسن بهم أن يسلكوها ويدرِّسوا الطلاب على هذا السبيل لكي لا ينفك الطلاب عن النظر والتفكر في قدرة الخالق سبحانه وتعالى .
وإن كان بحثهم في مجال التفسير ، فإن تفسير كلام الله عز وجل باب خطير لا يحق للإنسان أن يلجه إلا بعد أن يتأهل لذلك ، وقد قرر العلماء أن من فسر القرآن بمجرد رأيه ، فإنه يكون مخطئا ولو أصاب في تفسيره ، فكيف بمن يدخل في باب التفسير ببضاعة مزجاة ويتجرأ على تفسير كلام الله عز وجل ويتهجم على أهل التفسير الذين أفنوا أعمارهم على تعلم هذا العلم وتعلم أدواته ، فللتفسير شروط وطرائق لابدَّ من الإتيان بها ومعرفتها ، ومن نقص في معرفتها نقص في وصوله إلى التفسير الصحيح ، وطرح هذه الأمور لا تحتمله مثل هذه المقالة ، لكن الملاحظ أنَّ كثيرًا ممن دخل في هذا المجال لا يحسن منهج التفسير ، ولست أقول ذلك من فراغ حين وصفتهم بالكثرة ، بل هذا هو الواقع ، والله المستعان .
7 ـ إنَّه مما يظهر على بعض الإعجازيين فرحهم بما أوتوه من العلم ، حتى إنَّ بعضهم ليخطئ كل من سبقه ، ويزعم أنهم لم يعرفوا تفسير الآية ولم يأتوا في معناها بما يُقنِع ، وهذا الأمر يظهر عند بعضهم صريحًا ، ويظهر عند بعضهم بلازم قوله ، كمن يزعم ( أنَّ الآيات الكونية لا يمكن فهمها فهمًا صحيحًا في إطار اللغة وحدها ) ، ولازم هذا الكلام أن رسول الله عليه وسلم لم يفهم هذه الآيات ، فضلاً عمن عاصره من الصحابة أو جاء بعدهم ، ولم تُفهم هذه الآيات حتى ظهرت هذه العلوم الكونية والتجريبية .
وظنيِّ بكثيرٍ ممن صدر منه هذا الكلام حسنٌ جدًّا ، وإنما أُتِي ودُخِلَ عليه هذا الفهم بسبب عدم فهمه لطبيعة التفسير ولمنهجه الصحيح ، ولو علِمه لأثبت أن ما فهمه السالفون فيه حقٌّ لا مرية فيه ، وأنه لا يوجد آية لم يُفهم معناها وحُجِب حتى يأتي هو فيبينها ، وإنما الأمر أنه أضاف وجهًا آخر قد يكون صحيحًا في فهم الآية فحسب .
وكل من أتى على تفسير السالفين بالإبطال فليحذر ، وليخش على نفسه أن يكون ممن فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، وتنقُّصوا علم السالفين .
8 ـ ليس سبيل هذه المقال سبيل الوعظ ولا سبيل إثبات سلامة فهم الصحابة والتابعين ومن تبعهم للقرآن ، لكن ألا يدل الدليل العقلي على أنَّ من ألَّف كتابًا لطلابه فهم أدرى به من غيرهم ممن يجيء بعدهم ، وأنه لو وقع اختلاف في الفهم بين طالب من طلاب الأستاذ ورجل جاء بعده بقرون فإن العقل يدلُّ على قبول قول الطالب وتقديمه لأنه أدرى بكتاب أستاذه وبملابساته .
وهذه الصورة شبيهة بحال في من نزل القرآن بين ظهرانيهم ، وتعلموا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلَّموا أتباعهم هذا الكتاب ، فهم أدرى به وبملابساته من غيرهم ، فلا يقع في ظنِّ أحدنا أنه فاتهم شيء من فهم هذا القرآن .
9 ـ فإن قلت : ما ظهر لنا في هذا الزمان من تصديق لما في كتاب ربنا مما اكتشفه الباحثون في الأرض والسماء كيف نعمل به مع ما ذكرتَ ؟
فالجواب : إن ثبوت فهم السلف لجميع معاني القرآن لا يعني انتهاء هذا الفهم عندهم فقط ، لكنه يعني أنهم لم يبقَ عندهم ما يحتاجون إليه ولم يفهموه هذا أولاً .
وثانيًا : أنهم قد ظهر عندهم أفهام جديدة بسبب بعض الحوادث التي حدثت في عصرهم ، ونزلوها على الآيات ، وعملوا بها ، فدل ذلك على أصل المسألة ، وهو جواز إحداث قول جديد ؛ لأن القول بغير ذلك يلزم منه وقوف التفسير ، فأين تقف به ؟ أتقف به على الصحابة ، أم على التابعين أم على أتباع التابعين ، وما الحجة في ذلك ، وأين تضع ما صح من تفسيرات للعلماء الذين جاءوا بعدهم ؟
ثالثًا : أن ما صح دلالة القرآن عليه من قضايا العلوم المعاصرة لا يُعترضُ عليه بعدم معرفة السلف له ، وإنما يُرفضُ لو كانوا عَلِموه فأبطلوه ، أو عُلِمَ أنهم علِموه فتركوه ، فتركهم مع علمهم به يدل على وجود إشكال في ذلك ، وذلك ما لم يقع منهم .
رابعًا : إن تفسير القرآن بما صح واحتملته الآيات من هذه العلوم المعاصرة لا يدل على جهل السلف ، بل ليس من باب الأدب أن يُنسبوا إلى ذلك ؛ لأن المسألة لا تدخل من هذا الباب ، بل هي تدخل في باب تطور العلم البشري ، وليس يلزم أن يكون جمهور الصحابة يعلمون كل شيء كان في عصرهم فضلاً عما سيجيء بعدهم ؛ ألا ترى لو أن قائلاً قال : ( إنَّ عائشة رضي الله عنها لا تعرف أن تطبخ الأكلة الفلانية المعاصرة ) ، فإن ذلك مدعاة للسخرية من هذا القائل . وهذه المسألة قريبة من تلك ، فلا يصح نسب الجهل لهم .
10 ـ إن منهج التفسير الذي سار عليه العلماء ، ونصَّ عليه بعضهم أنَّ القول الذي قيل بعد جيل السلف في طبقاتهم الثلاث ( الصحابة والتابعون وأتباعهم ) يُقبل بضوابط ، وهي : أن يكون القول صحيحًا في ذاته ، وأن تحتمله الآية ، وأن لا يكون في القول به إبطالٌ لتفسير السلف ، وأن لا يُقتصر على هذا القول حتى لا يُفهم أن غيره غير صحيح ، فإذا وافقَ قولٌ هذه الضوابط فهو قول يدخل في محتملات الآية ، ولا يلزم أن يكون هو القول الصحيح الوحيد ، والله أعلم .
11 ـ إن بعض من كتب في الإعجاز العملي وكذا بعض مجلاَّت الإعجاز العلمي يشترطون شروطًا صحيحة في ذاتها ، لكنها قد تكون مطاطةً غير محددة ، فيقع الإخلال بشيء منها عند بعض الإعجازيين من حيث يدري أو لا يدري ، فأحدهم يفسر قوله تعالى : (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ 0 وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ 0 ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ 0 فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) فيقول : ( والاستواء الإلهي رمز للسيطرة الكلية ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين ، والتسوية للكون بأرضه وسمائه ... ) ، ويقول في موطن بعد هذا : ( والدحو لغة : هو المد والبسط والإلقاء ، وهو كناية عن الثورات البركانية العنيفة التي أخرج بها ربنا سبحانه وتعالى من جوف الأرض كلاً من غلافها الغازي والمائي والصخري ) وقال في موطن آخر يتكلم فيه عن أيام الخلق الستة : ( وإن كان غالبية المفسرين ترى خلاف ذلك لاعتبارهم يومي خلق الأرض داخلين في الأيام الأربعة لجعل الرواسي والمباركة وتقدير الأقوات ، إلا أنهم مجمعون على أن حرف العطف " ثم " لا يدل هنا على الترتيب مع التراخي ، لكنه يدل على بعد عملية الاستواء والتسوية للسموات السبع من السماء الدخانية الأولى ؛ لأن من معاني ثمَّ هنا أنها إشارة إلى البعيد بمعنى هناك في مقابل هنا للقريب ... ) .
وقائل هذه التفسيرات من فضلاء من تكلم في الإعجاز العلمي من الإعجازيبن ، وهو قد ذكر شروطًا ؛ منها :
1 ـ أن الظاهر مقدم على التأويل ، فمن أين ظهر له مفهوم الاستواء ، ومفهوم الدحو الذي هو تأويل مجازي وليس حقيقة ؟
2 ـ أنه اشترط حسن فهم النص من القرآن الكريم وفق دلالات ألفاظ اللغة العربية ، فأين وجد في اللغة أن الدحو بمعنى الإلقاء ، وأين وجد فيها أن ثمَّ ( بضم الثاء ) بمعنى الإشارة إلى البعيد ؟!
3 ـ أنه اشترط البعد عن القضايا الغيبية ، وهل ما يتحدث فيه من القضايا المشاهدة أم من القضايا الغيبية ، فمن أين له أن الدحو هو الثورات البركانية العنيفة التي خرجت من جوف الأرض ؟!
أليس هذا مخالفًا لما يشترطه ؟
وأخيرًا أقول :
إن صِدقَ كثيرين ممن ولج في هذا الباب من الإعجازيين لا يُنكر ، وقيامهم بالدعوة إلى الله من هذا السبيل جهد يُذكر ويُشكر ، لكن كتاب ربنا ـ تبارك وتعالى ـ أغلى وأعلى من أن نسمح لكل من هبَّ ودبَّ أن يجعل نفسه هو المبين لكلام الله بما يخالف ما جاءت به الشريعة من أجل أن نُثبت للعالم أننا نملك من العلم ما لم يصلوا إليه .
وإن كان هؤلاء جادين في هذه الدعوى فإن الدعوة بالعلم إنما تكون بمثل ما ساروا عليه هم فنجاريهم بالأبحاث والمكتشفات لا أن نقول لهم ما توصلتم إليه فإنه في كتابنا ، وهذا يدل على صدقه فآمنوا ، فإن هذه الدعوى لا يقبلها كثير من المفكرين من علماء الغرب ، بل لقد كانت موضع الاستهجان من بعضهم ، فقال : إذا كان هذا عندكم فلم لم تكتشفوه قبلنا ؟
وأقول : لا يأخذنا الحماس العاطفي لا يمنة ولا يسرة ، وليكن بيننا أدب الخلاف ، وأن نتعلم من بعضنا ، وأن نتأمل قول من يعترض علينا ، فقد يكون الحق معه ونحن لم نصل إلى ما علِمه ، لكن لابدَّ أن يكون لنا مرجعٌ نرجع إليه حال الاختلاف ، ومن ذلك ما اشترطه هؤلاء الإعجازيون من شروط صحيحة .
[align=center]كتبه / د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
قسم الدراسات القرآنية / كلية المعلمين بالرياض[/align]