مقال الشهر (الصور في المرايا)

إنضم
9 يونيو 2009
المشاركات
94
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
بنغازي
الصور في المرايا

كم في رؤيتنا للعالم، وفي فهمنا للأمور، وفي حكمنا على الناس، من قصور وبُعد عن الحقيقة؟!

وما زالت الأيام تعلمنا أن ما نجهله أكثر مما نعلمه، وأن علمنا بما نعلم هو علم القاصرين الناقصين، وأنه لا يأتي علينا زمن إلا ونحن حريُّون أن ندعو: ربَّنا زدنا علمًا، وأن نعترف: لا علم لنا إلا ما علمتنا!

وعلى أن هذه القضية من البداهة بمكان، فإنها قلما تُذكَر في الحكم على الناس، وتصوُّر أحوالهم على الحقيقة، وتبيُّن ما هم عليه من علم وجهل، ومن ثقة وضعف، ومن صلاح وفساد، ومن بصيرة وغفلة!

عجبًا، أوليس الله قد قال: (عسى أن يكونوا خيرًا منهم)؟! فما الذي تتيقَّنه من غالب من تعرف، وأنت تحكي وتصف، أو تسخر وتنتقص، أو تجرح وتعدّل، أو تقدح وتمدح؟

الحق أنك في غير المجاهرين بالآثام، ممن فاضت سيئاتهم، وغاضت حسناتهم، لا تخرج من عالم الظنون، فأكثر الناس ممن خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، وممن امتزجت فيهم الأوصاف، وتداخلت الألوان، وتعارضت الأحكام، فأنت تعرف منهم وتنكر، وتأخذ وتدع، وتقبل وترد.

كثيرًا ما يعجبك العالم صاحب التصانيف، وما جمع من علوم، وما حقق من مسائل، وما ألف من كتب، وترسم له في نفسك صورة كبيرة، وتقيس أحواله الأخرى على ما عرفت من بعض علمه، ولو رأيته وهو يُسأل فلا يحسن أن يجيب، أو وهو يعيا بالمسألة لا يعرف لها سبيلاً، وبالمعضلة لا يصل فيها إلى حل، ولو رأيته وهو يتصرف في شؤونه بضعفه وهواه، فليس هو العالم دائمًا، وليس حتمًا أن يعمل بعلمه وبعقله.

وقد سمعتُ لقاء صحفيًّا بعالم كبير يشار إليه بالبنان فتمنيت أني لم أكن سمعته، ظهرت فيه سيئات العجب والغرور التي كانت تسترها الأوراق، ويخفف منها التمهل والتأني، ويقلِّل من قبحها التزين والتأنق، فلما انطلق اللسان من عقاله، وذهبت الروية والتصفح، ظهرت عيوب مستورة، ونقائص مستخفية.

إن الكاتب فيما يكتب يظهر للناس في أفضل حالاته، فهو يكتب متواريًا عن الأعين، ينقّح الكلام، ويزن الألفاظ، ويبحث ويتحرّى، وتخرج كتابته على خير ما يريده هو لنفسه.

ويجب ألا تعجب حين تقرأ السِّيَر والأخبار والتراجم والقصص لعلماء وكبراء نعرفهم ونجلهم، فإذا هم يَحْيَوْن كالناس بضعفهم البشري، يقع بينهم وبين أقرانهم التنافس والتحاسد، وتزل منهم الألسنة والأقدام، على حين كنا لا نرى منهم إلا الآثار الجليلة للأقلام.

ماذا يفعل الزمن بالإنسان، وماذا يفعل به تبدل الأحوال، واختلاف أطوار العمر؟ كم من إنسان كان في أوائل عمره على حال لا يُظن بها رفعة ولا شأن، فلما تقدمت به السن، وعركته الحياة، نشأ خلقًا آخر، على غير ما كان عليه في مبادئ حياته.

وآخر كانت تبدو عليه مخايل النجابة، وسيمياء الفضل، فدخل معمعة الحياة، فركن إلى الدعة، وآثر السلامة، ورضي بالمطعم والكسوة، أو غلبته الأحداث، وتصرفات الدهر، فغمرته بطوفانها، وأغرقته في لججها، فما عُرف عنه مما ينفع الناس شيء ذو بال، وعاش لنفسه ولولده.

كم من أناس عرفناهم ولقينا منهم الشرور والقوارص، وعرفنا فيهم المعايب والنقائص، هم عند غيرنا في محل المحبة والتكرمة، وفي مقام العدالة والتقدمة، وعكس هذا أيضًا يقع، فنرضي عن أقوام هم عند غيرنا مجروحون، ونحب أناسي هم عند آخرين مكروهون.

وتفسير ذلك -والله أعلم- أننا نرى جانبًا واحدًا من الصورة، ويقع تعاملنا مع ناحية من الشخصية، ويكون بين الأرواح تلاق في جهة من جهات التلاؤم والتوافق، فنرى من الإنسان ما لا يراه غيرنا، ونجهل منه ما خبره غيرنا وجرّبه.

وفي العلوم النفسية يقولون: إن للإنسان شخصية يراها الناس، وشخصية يراها هو، وشخصية يريد الناس أن يروه عليها، وشخصية على ما هو عليه في الواقع، ويضاف إلى ذلك تعدد المرائي باختلاف الرائين، وما يعتري الإنسان من تبدل مع الأزمنة والأحوال.

وفي الإعلام اليوم فن يسمى صناعة النجوم، يرسم لبعض الناس صورة محددة بمقاييس، لتثبيتها في الأذهان لأغراض سياسية أو مالية. وللشهرة سحر لا يمكن إنكاره، والمرء في العادة لا يكلف نفسه البحث في أحوال المشاهير، وتبيُّن أمرهم على ما هم عليه، ولكنه إما أن يركن إلى المشهور عنهم، وإما أن يتصورهم كما يريد أن يكونوا عليه إن كان له بهم اتصال ما بالمحبة أو الكراهة، وبالولاية أو العداوة.

والشهرة على ذلك في كثير من الأحوال -كما قيل- حظوظ، وأقدار تجري بلا تخطيط من الإنسان، فتجعل هذا مشهورًا، وذاك مغمورًا، ولو كان مردُّ الأمر إلى واحد منا لرأى أحدهما خليقًا بغير ما جرت به له أو عليه المقادير.

والمعاصرة بعد ذلك -كما قيل أيضًا- حجاب، فقلما يقع التناصف بين المتعاصرين، خصوصًا أهل البلد الواحد، أو الفن الواحد، أو السن الواحدة، لأنهم مظنة التنافس والتسابق، وكلٌّ يريد الغلبة لنفسه على أهل فنه، أو أهل بلده، أو أهل سنه، فإذا سئل عن رأيه فيمن يطمح أن يكون متقدمًا عليه لجامعة من الجوامع بينهما، لم يُقرَّ له بما يعلم من أمره، وحاول جهده ألا يسلّم له به، وأن يصوِّره أو أن يتصوَّره على غير الحقيقة.

وما مقدار الذي نعلمه عن أنفسنا؟

ولماذا نتطلع إلى أن نسمع رأي الناس فينا وفيما نعمل؟ ونتابع ما يُكتَب وما يقال عنا وعن أعمالنا من تعليقات وتعقيبات، ونحب الثناء، ونكره الذم؟ ألسنا نريد أن نطمئن إلى أننا نعمل ما ينفع وما يسر، وما يستوجب الثناء، ولسنا بمستيقنين ولا مطمئنين؟ ولكننا نظن أننا نحسن، ولولا ذلك الظن ما أقدمنا على العمل، فإذا جاء الاستحسان -خاصة ممن يُعوَّل على آرائهم- اطمأنت القلوب، كأنما هي شهادة نجاح، واعتراف بالفضل، ولطالما فخر الناس بالجوائز والشهادات، وعدَّدوها، واعتدوا بها!

إن الغرض من هذه الكلمة استذكار ما نحن عليه من نقص ومن جهل بأنفسنا وبالناس، فنحب إذا أحببنا هونًا ما، ونبغض إذا أبغضنا هونًا ما، كما جاء في الأثر، وأن ننصف الناس من أنفسنا وممن نحب، فنكون قوامين بالقسط شهداء لله، كما أمرنا القرآن، وأن نسدِّد فيما نقول، فكَثُرَما زلت الألسنة، وأخطأت الكلمات.

وإن من مصائد الشيطان أنه ينزغ بين المؤمنين بكلمة لا يلقي لها قائلها بالاً، وعلَّمنا القرآن لذلك أن نقول التي هي أحسن، لنقطع عليه طريقه، ونفسد عليه خطته: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم).

ولْنتفقّد ظنوننا، فمن مصائد الشيطان أيضًا الظنون التي في الصدور، لَمَّا تخرجْ إلى العلانية في ملفوظ أو مرقوم، وعسى أن تخرج يومًا، فيتفاقم الأمر، ويشتد الخطب، ويعسر الإصلاح، فقلما جُبر منكسر فرجع كما كان!

ولْنُنزل الناس أيضًا منازلهم البشرية، فلا نرفعَهم إلى مقام لا يمكن لهم أن يصلوا إليه من الكمال والعصمة، فربما حَمَلَنا ذلك من حيث لا نشعر على متابعة المخطئ في خطئه؛ لأننا رأينا منه كثيرًا من الصواب، أو على ترك الانتفاع بصاحب علم وحكمة؛ لأننا رأينا منه بعض الخطأ.

إن ما أجهله أكثر مما أعلمه، ولذلك أدرّب نفسي على التوقف، والاستثناء، والتثبت، والتبين، وأرُوضُها على ترك الإطلاق في القول، أو التعميم في الحكم.

فاللهم عونك عونك، فإنا لا نصلح بحال حتى تصلحنا!

25/6/2012
 
سبحان الله!
بتّ البارحة في حديث حول الآراء والأشخاص، ولكأنما نزل هذا المقال على قلبي برداً وسلاماً..

أدام الله قلمك الذي افتقدناه طويلاً!
 
ما شاء الله ، ما أجمل ما سطرت أستاذنا الكريم !
جزاك الله خيرا .
 
نحتاج أن نقف مع أنفسنا في كل سطر كُتب في هذا المقال الرائع .
بارك الله بكم .
 
عودة
أعلى