عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 138
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
قرأتُ مقالة ممتعة للعلامة المغربي عبدالله بن عبدالصمد كنون رحمه الله في كتابه (مفاهيم إسلامية) بعنوان :(القرآن الكريم في ورقة)، فطلبت من زوجتي الحبيبة أم عبدالله - وفقها الله ورعاها - أن تتكرم بنسخها لي على الكمبيوتر لأنشرها في ملتقى أهل التفسير ليقرأها الجميع ، وقد فعلت ونسختها وفقها الله وجزاها خيراً ، وها هي المقالة بين أيديكم ، وهي مناسبة لكثرة تهاون الخطاطين اليوم في كتابة القرآن أو بعضه بطرق فيها تصغير شديد للخط أو كتابة السورة من القرآن على هيئة صورة كمثرى أو تفاحة أو مزهرية أو نحو ذلك من الصور التي تبتذل فيها كتابة القرآن أو بعضه ، ويتنافس الناس في تعليقها في صدور مجالسهم .
القرآن الكريم في ورقة *
للأديب عبدالله كنون
أهدى إليَّ أحدُ الأصدقاء المقيمين في مصر هديةً قيمة في حد ذاتها طولها ثمانون سنتيمتراً وعرضها أربعون، محتوية على النص الكامل لكتاب الله عز وجل من سورة الفاتحة إلى سورة الناس.للأديب عبدالله كنون
وهي من عمل أحد الخطاطين البارعين، وقد استغرق في كتابتها ستة أشهر وأجازتها مشيخة القراء المصرية بتاريخ ثاني حجة الحرام متمم عام 1370هـ وخطها جميل ،ولكنه دقيق جداً ، بحيث لا يكاد يُقرأ بالعين المجردة ولا يفهم منه إلا البسملة واسم السورة الذي كتب بالأحمر، فكان كالعلامة الفاصلة بين دبيب النمل هذا، الذي يسمى خَطّاً ، ناهيك بأن الفاتحة لا تشغل أكثر من خمسة سنتميات من السطر الأول، وأن سورة البقرة وهي أطول سورة في القرآن لم تختص من الورقة بأكثر من 18 سطراً وأن السطر الذي قبل الأخير من الورقة يشتمل على تسع سور وهي العصر والهمزة والفيل وقريش والماعون والكوثر والكافرون والنصر واللهب مع اسم سورة الإخلاص وبسملتها.
ولما وصلتني هذه الهدية تحيرت ماذا أعمل بها ، هل أضعها في إطار وأعلقها في صدر البيت ، كما يفعل الناس بصور أحبائهم وأعز الناس عليهم وصور العظماء والزعماء ؟ أم أثنيها في حافظة من الجلد المرقق المنعم تسيطراً وتذهيباً وأحملها معي تيمنا وتبركاً إن لم يكن تحصناً وتمنعأً ؟ أم أضيفها إلى نوادر المخطوطات وغرائب المحفوظات من التحف الفنية والاعلاق الأدبية التي يتنافس فيها المتنافسون، ويحرص على مثلها أصحاب الهوايات ...أم ماذا؟..
وعلم الله أني لا أقول هذا الكلام تمشدقاً ولا تفيهقاً، وإنما هو أمر أهمني وأجلب الفكر فيه على جميع الوجوه، فلم اهتد فيه إلى طريق اتبعها ولا عرفت له مأخذاً آخذ به. وقد كان اعتقادي – ولا يزال – أن هذا الكتاب العزيز أنزل إلى الناس ليقرأوه ويتفهموه ويعملوا به ويهتدوا بهديه، وأنه رسالة عامة لجميع البشر تعرفهم بواجباتهم ازاء الخالق عز وجل وازاء أنفسهم ، وطريق معاملة بعضهم لبعض ، وكيف يعرجون معارج الكمال ويظهرون على مستوى القرب من ذي العزة والجلال،كما قال تعالى : {إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنَّ لهم أجراً كبيراً * وأنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً} وقال عز وجل من قائل : {هذا بلاغٌ للناس وليُنذروا به وليعلموا أنَّما هو إلهٌ واحدٌ وليذكر أولوا الألباب} إلى غير ذلك من الآيات العديدة التي تفيد أنَّ المقصود من التنزيل هو التدبر والاعتبار والانتهاء عما نهَى عنه والائتمار بما أمر به ، والتخلُّق بأخلاقه كما قالت عائشة رضي الله عنها في النبي صلى الله عليه وسلم : كان خُلُقُه القرآن ، يرضى برضاه ويغضب لغضبه.
ومعلومٌ أَّن ذلك إنما يكون بقراءته وتلاوته وتفهم كلمه وتأمل معانيه حتى ينفذ الخطاب الكريم إلى الذهن والقلب ، ويمتزج مدلوله باللحم والدم فتنبعث الجوارح على العمل بمقتضاه، وتشرق النفس بنوره المبين، ولا تسل عما ينشأ عن ذلك من خير وصلاح للفرد والمجموع ، وذلك هو المراد من هذه الرسالة الإلهية الخالدة التي نعلم كلنا أنها اعظم معجزة أوتيها نبي للدلالة على صدقه وتزكية دعواه أنه رسول الله.
وهل يتأتى هذا المراد بتعليق القرآن على الجدران ؟ أو بحمله مغلفاً بين طيات الثوب ؟ أو بعرضه على الأنظار وقد جُمع في ورقةٍ واحدةٍ تعجيباً من براعة كاتبه ؟
اللهم لا .. وإنني أخشَى إذا فعلتُ شيئاً من ذلك أن أكون مِمَّن قال فيهم الكتاب العزيز: {وقال الرسولُ يا ربِّ إِنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} وأن أكون ممن يعنيهم القائل :
... ... ... ... ... ... ... * كأَنَّني مصحفٌ في بيتِ زنديقِ
بل إنني أخشَى أن أكونَ مِن أفراد المقول فيهم ذلك حتى بالنسبة للمصاحف العادية التي عندي ، فأحبُّ أَن أقرأ فيها كلها لئلا يصدقَ على واحدٍ منها أَنَّها في بيت زنديق، فكيف إذن يمكنني أن أتجنَّب ذلك بالنسبة إلى هذه الورقة التي تمتنع القراءة فيها ، وهي مع ذلك مصحفٌ كريمٌ ؟لا ياسيدي المُهْدِي ، لقد أخطأت موضعَ الهدية، وأوقعت هذا المهدَى إليهِ في حرجٍ شديدٍ يغفره الله لك؛ لأَنَّك حَسَنُ النيةِ جميلُ المقصدِ، وإنما الأعمال بالنيات، بل يا سيدي الكاتب إِنَّك أنتَ وحدَكَ المسئول عن هذه المخالفة وما ينشأ عنها مِن صَدٍّ عن كتاب الله، ومِنْ نُسُكٍ أعجميٍّ يكتفي بالقِشْرِ عن اللباب ، ولو عرفتَ ما تؤدي إليه من عكس المراد لتجنبتَها جهدَك، إذ الظن بك جميل ،وحاشى الله ان ألزمك القول بما يقتضيه هذا الفعل من أنَّه لغوٌ في كتاب الله أشارت إليه الآية الكريمة إشارةً لا تسرُّ المؤمن حيث قالت : {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآنِ والْغَوا فيه} أليس المؤدَّى واحداً ، وهو الصَّرفُ عن الكتاب بأي وسيلةٍ كان ؟ [1]
وإني أرى أنَّ حُبَّكَ للقرآن الكريم هو الذي حَمَلَك على هذا الصنيع، والحبُّ لا بُدَّ أن يُوزن بميزان الشرع فما وافقه فهو محمود، وما خالفه فهو مذموم، وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : ( الهوى الموافق للحق شَهدة يزيد) فغاية الأمر أن تكون اجتهدتَ وأخطأتَ ، فلك أجر الاجتهاد وليس عليك وزر الخطأ.
وأنا أرجو أن أكون أعذرتُ إليك بهذه الكلمة، وأن يكون حبك للحق باعثاً لك على التبصر في هذا الأمر ، والله يتجاوز عن ثلاثتنا أنا المهدى إليه ، والمُهدِي ، وأنت الكاتب، بمنِّه وكرمه آمين.
_______________________
[*] نشرت في كتاب (مفاهيم إسلامية) لعبدالله كنون ، ص 60-62 ، دار الثقافة بالدرا البيضاء ، عام 1405هـ .
[1] في كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي فصل في آداب كتابة المصحف مال فيه إلى كراهة كتابته في الشيء الصغير ، ومشق خطه وتعليقه ونقل في ذلك نقولا عن السلف الصالح والصحابة رضي الله عنهم من عمر وعلي وغيرهما فلينظر .
[*] نشرت في كتاب (مفاهيم إسلامية) لعبدالله كنون ، ص 60-62 ، دار الثقافة بالدرا البيضاء ، عام 1405هـ .
[1] في كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي فصل في آداب كتابة المصحف مال فيه إلى كراهة كتابته في الشيء الصغير ، ومشق خطه وتعليقه ونقل في ذلك نقولا عن السلف الصالح والصحابة رضي الله عنهم من عمر وعلي وغيرهما فلينظر .