مقارنة بين مسائل الإمامة عند القاضي أبي يعلى الحنبلي والقاضي أبي بكر الباقلاني

محمد براء

New member
إنضم
12/03/2006
المشاركات
375
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
بسم الله الرحمن الرحيم
مقارنة بين مسائل الإمامة عند القاضي أبي يعلى الحنبلي والقاضي أبي بكر الباقلاني
من الأسس التي ينبغي رعايتها عند النظر في التراث الكلامي في باب الإمامة : التنوع المذهبي في هذا التراث ، وهذا ظاهر بالنسبة للخلاف بين السنة والشيعة ، أما بين الفرق المقابلة للشيعة : فيقل التنبه لذلك ، وقد وجدت بعد المعاصرين إذا أرادوا أن يتكلموا في مسألة الخروج على ولي الأمر الجائر – مثلًا - ذهبوا إلى كتب الزمخشري وأبي بكر الجصاص ، واستدلوا بكلامهما ، غافلين عن كون هذين الرجلين من المعتزلة ، وأن مذهبهما في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة ، وهذا مثال أذكره لبيان أهمية التنبه للتنوع المذهبي في التراث الكلامي في باب الإمامة ، لا لمعالجة هذه القضية بعينها .
وفي سبيل الكشف عن هذا التنوع والاختلاف المذهبي : اخترتُ المقارنة بين مسائل الإمامة لدى القاضي أبي بكر الباقلاني المتوفى سنة ( 403 هـ) والقاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفى سنة (458هـ) رحمهما الله تعالى ، وكل من هذين الإمامين يمثل اتجاها عقديًّا مؤثرًا ، فالقاضي الباقلاني أحد أئمة الأشعرية ، والقاضي أبو يعلى أحد أئمة متكلمة الحنابلة .
وقد اعتنى القاضي أبو يعلى في كتابه ( المعتمد في أصول الدين ) بإظهار مخالفة الأشعرية ، فيذكر المسألة ويبين أن مذهبه فيها كذا وكذا ثم يقول : " خلافًا للأشعرية " ، وسأذكر هذه المسائل - التي في باب الإمامة - وأتبعها بكلام القاضي الباقلاني ، وأدلة كل منهما - إن ذكروها - ، وما ذكره أتباع كل منهما في تأييد مذهب إمامه .
المسألة الأولى : هل تنعقد الإمامة برجل واحد من أهل الحل والعقد أم بجماعة أهل الحل والعقد ؟
قال القاضي أبو يعلى في المعتمد (ص238- 239) : " ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنها لا تنعقد إلا بجماعتهم ، .. خلافًا للمعتزلة في قولهم : لا تنعقد إلا برضى أربعة يشهدون العقد ، وقالت الأشعرية : تنعقد برجل واحد من أهل الحل والعقد ، واختلفوا : هل يفتقر العقد إلى شهادة اثنين أم لا ، فمنهم من قال يفتقر ، ومنهم من قال لا يفتقر " .
واعلم أن الأشعرية قرروا أن " معظم مسائل الإمامة عريَّة عن مسلك القطع، خليَّة عن مدارك اليقين "- كما يقول أبو المعالي الجويني في الغياثي (ص523) – وأن " أكثر مسائل الإمامة وأحكامها مسائل فقهية ظنية يحكم فيها بموجب الرأى الأغلب " – كما يقول تلميذه أبو حامد الغزالي في المستظهري (ص192) - ، لكنهم في مسألتنا هذه اختلفوا هل هي قطعية أو ظنية ؟ قال القاضي الباقلاني في التمهيد (ص468) : "فإن قيل : ألا جعلتم العقد إلى كل فضلاء الأمة في كل عصر من أعصار المسلمين ؟ قيل له : أجمع أهل الاختيار على بطلان ذلك " ، قال الجويني في الغياثي : " وظاهر قول القاضي يشير إلى أن ذلك مقطوع به ، وهذا وإن كان أظهر المذاهب في ذلك ، فلسنا نراه بالغًا مبلغ القطع " .
أدلة الأشعرية في المسألة وجواب الحنبلية عنها :
الدليل الأول : قال القاضي الباقلاني في التمهيد (ص467): " الدليل على انعقادها بواحد أنه إذا صح أن فضلاء الأمة هم ولاة عقد الإمامة ، ولم يقم دليل على أنه يجب أن يعقدها سائرُها ، ولا عدد منهم مخصوص لا تجوز الزيادة عليه والنقصان منه = ثبت بفقد الدليل على تعيين العدد ، والعلم بأنه ليس بموجود في الشريعة ولا في أدلة العقول ؛ أنها تنعقد بالواحد فما فوقه " .
وقد أجاب أبو الحسن ابن الزاغوني الحنبلي المتوفى سنة (527 هـ) - من أتباع القاضي أبي يعلى – ببيان الغاية من اشتراط رضا جميع أهل الحل والعقد فقال في كتابه الإيضاح في أصول الدين ( ص623- 624) : " نحن لا نعتبر عددًا مخصوصًا ، وإنما تعلق ذلك بأهل العقد والحل ، وقد يكثرون زمانًا ، ويقلون في زمان آخر ، إلا أن قلتهم لا تؤدي أن يكونوا عددًا يسيرًا لا يثبت بخبرهم العلم ، ولا ينعقد بهم الإجماع ، والمقصود من التواتر والعدد الكثير إثبات العلم بإمامة الإمام ، حتى يرتفع فيه الشك وتزول عنه دعوى من يدعي أنه سبقه إلى الإمامة .
فإنه لو كانت الخلافة تنعقد بالعدد اليسير - كالواحد - ؛ لأفضى إلى أن يعقد رجل لإنسان ويعقد رجل آخر لآخر ، ويقع التشاجر في أيهما أول ، وأيهما أحق بالإمامة ، فيفضي ذلك إلى الهرج والفساد ، فاعتبر فيه جميع أهل الحل والعقد لرفع ذلك ، وهذه طريقة حسنة في المسألة لوقوع الابتداء بها " .
وقد ذهب بعض الأشعرية – كالقاضي الباقلاني في التمهيد (ص468) - لتجاوز هذه الإشكالية إلى اشتراط شهادة شهود على العقد ، قال أبو الحسن الآمدي في أبكار الأفكار ( 5 / 189) : " قال بعض الأصحاب : والواجب أن يكون عقد الإمامة بمحضر من الشهود وبينة عادلة ، كفًّا للخصام ووقوع الاختلاف بين الناس بادعاء مُدَّعٍ عقد الإمامة له سرًا متقدمًا على عقد من كان له العقد جهرًا ، وهذا لا محالة واقع في محل الاجتهاد " .
الدليل الثاني : قال القاضي الباقلاني في التمهيد (ص462) : " قد فرض الله علينا فعل العقد على الإمام ، وطاعته إذا عُقد له ، وأن اجتماع سائر أهل الحل والعقد في سائر أمصار المسلمين بصقع واحد وإطباقهم على البيعة لرجل واحد مُتعذِّر ممتنع ، وأن الله تعالى لا يُكلِّف فعل المحال الممتنع الذي لا يصح فعله ولا تركه " .
قال ابن الزاغوني في الإيضاح (ص622-623) مجيبًا عن هذا الاستدلال : " إنما ذكرنا اشتراط بيعة جميع أهل الحل والعقد عند الاختيار والفسحة والمهلة ، ووقوف الأمر على الرضا ، فإذا لم يؤمَن ذلك كان عذرًا في ترك اعتباره ، ولأن العادة في الأعم أن أهل العقد والحل يكثرون في موضع يكون فيه الإمام ، ويقلُّون في غير موضعه ، فإذا بادر هؤلاء إلى العقد وبقي الأقل والبعيد الذي يتعذر تحصيله = عُفي عنه لتعذُّره " .
الدليل الثالث : استدل القاضي الباقلاني بعقد أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ، وهو رجل واحد ، فقال (ص468) : " أبو بكر عقدها لعمر فتمت إمامته وسلم عهده بعقده له " .
قال ابن الزاغوني في الإيضاح (ص623) مجيبًا : " انعقاد بيعة عمر رضي الله عنه كان بتقليد أبي بكر رضي الله عنه له والوصية إليه ، وعندنا أنه يكفي في انعقاد الخلافة ذلك ، وإنما كلامنا في من يبتدىء بانعقاد الإمامة له على الناس ، وذلك أمر آخر " .
الدليل الرابع : استدل الباقلاني بطريقة تولية عثمان رضي الله عنه ، فقال (ص468) : " عمرُ ردَّ الأمر إلى ستة نفر فقط وإن كان في غيرهم من يصلح للعقد " ، أي : فلم يشترط عمر رضي الله عنه موافقة جميع أهل الحل والعقد .
وهذا الدليل لم يذكره ابن الزاغوني في جملة المعارضات لمذهبه في اشتراط رضا جميع أهل الحل والعقد ، إلا أنه لما أراد تثبيت إمامة عثمان رضي الله عنه قال (ص627) : " .. فاجتمع الستة بالرضا والاتفاق على عثمان ، وأول من بايعه عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وباقي الرهط ، وتتابع الناس على ذلك ، ولم يختلف في بيعته اثنان ، وهذا يدل على أنها انعقدت له بالإجماع " ، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في المتعمد أن إمامة عثمان رضي الله عنه ثبتت بالإجماع .
والأشعرية يرون أن إمامة عثمان رضي الله عنه انعقدت بعقد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لها ، قال الباقلاني (ص505) : " عبد الرحمن بن عوف عقدها له بمحضر من أهل الشورى سوى طلحة ، وأن طلحة بايعه لما قدم وعلم ضرورة من حاله رضاه بإمامته " ، ولا يرون أن إمامة عثمان ولا غيره من الخلفاء انعقدت بالإجماع ، وإنما الإجماع تأكيد لعقد من عقدها من أهل الحل والعقد ، قال أبو بكر ابن فورك في مقالات الأشعري (ص193) : " وكان أبو الحسن الأشعري يقول في إمامة هؤلاء الخلفاء الأربعة إنه لم تكن إمامة واحد منهم بنص الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا أن المعتمد في شيء من ذلك الإجماع عليه ، بل تثبت إمامة كل واحد منهم بعقد من عقدها من أهل الحل والعقد ، وما حصل من الإجماع بعده عليه فإنما ذلك تأكيد للعقد ، لا أنه دلالة على الإمامة ابتداءً " .
فهذه أدلة الأشعرية في المسألة ، أما أدلة الحنابلة ؛ فقد قال القاضي أبو يعلى الحنبلي في المعتمد (ص239) : " والدلالة على أنها لا تنعقد بواحد ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد " ؛ فمنه دليلان : أحدهما : أنه ندب إلى لزوم الجماعة ، فاقتضى ذلك أنه غير مندوب إلى لزوم غير الجماعة ، وهذا المعنى لا يوجد عند واحد .
والثاني : قوله : " وإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد " ، وهذا موجود في عقد الواحد له .
ولأن الإمام يجب الرجوع إليه ولا يسوغ خلافه والعدول عنه كالإجماع ، ثم ثبت أن الإجماع يعتبر في انعقاده جميع أهل الحل والعقد ، كذلك الإمامة له .
لأنه ليس قول من قال : ينعقد باثنين بأولى من قول من قال : ينعقد بأربعة ، ولا قول من قال : ينقعد بأربعة بأولى من قول من قال : ينعقد بالجماعة " .
ولم أجد الأشعرية قد أجابوا عن هذه الأدلة ، وقد يكون السبب في ذلك قلة مبالاتهم بالحنابلة واعتراضاتهم .
المسألة الثانية : هل يشترط القول في البيعة أم يُكتفى بالرضا ؟
قال القاضي أبو يعلى (ص250) : " وصفة العقد أن يقال : " قد بايعناك على بيعة رضا على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة " ، ونحو ذلك ، ولا يحتاج مع ذلك إلى صفقة اليد ، وحكي عن قوم أن البيعة هي نفس الرضا والانقياد له بفعل أو بقول ، والدلالة عليه أن الصدر الأول هكذا عقدوا الإمامة ، من ذلك أن عمر بايع أبا بكرر بحضرة أبي عبيدة بن الجراح وبشير بن سعد وأسيد بن حضير الأنصاري وسالم مولى أبي حذيفة ثم ابتعهم الناس ، وعهد أبو بكر إلى عمر عهدًا ظاهرًا ، وبايع عبد الرحمن عثمان ، وصفق على يده على المنبر بيعة ظاهرة ، ولأن الرضا بالعقد لا يقوم مقام العقد بالقول ، بدليل النكاح والبيع والإجارة ، وكذلك الإمامة " .
وهذه المسألة خالفهم فيها الأشعرية ، قال ابن فورك في مقالات الأشعري (ص194) : " وكان يقول : إن بيعة الإمام ليست بصفقة اليد وبالمصافحة بكفّه ، وإنما هي بالرضا بها والاستصلاح لها مع العلم بها ، وأن الكل من الصحابة هكذا كان أمرهم مع الثلاثة الذين مضوا مما أجمعوا عليه ، دون علي بن أبي طالب ".
وقد وجدت ابن الزاغوني في الإيضاح (ص622) عندما ذكر الاعتراض بتأخر علي رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر ، فكيف يشترط إجماع أهل الحل والعقد ؟ وأجاب بأن عليًّا كان راضيًا بالبيعة ، وإنما يقدح في البيعة إذا أظهر الخلاف وامتنع عن الرضا بالعقد ، وهذا الجواب يُناقض مذهبهم في أن البيعة لا يُكتفى فيها بالرضا ولا بد من القول .
المسألة الثالثة : هل تجب معرفة عين الإمام على عامة الناس ؟
قال (ص254) : " ومعرفة عين الإمام غير واجب في حق العامة ، وإنما تجب معرفته في الجملة ، وأن لهم إمامًا ، وإذا حدث لهم حكومة أو أمر يتعلق بنظره عرفوه بظاهر الأخبار في دار الخليفة أو غيرها أن هذا هو الإمام .
وحكي عن سليمان بن حرب أن معرفه عينه واسمه واجب على جميع الأمة ، والدلالة عليه أنه لو وجب في حق العامة لوجب عليهم معرفة ما به يصير أمامًا من صفاته وصفات العاقدين ، ولا يجب معرفة ذلك بلا خلاف ، ولأنه كالأمير والقاضي والمفتي ، ولا تجب معرفة عينه بل يجزىء بظاهر الأخبار " .
هذه المسألة لم ينصب أبو يعلى الخلاف فيها مع الأشعرية ، وقد يكون السبب أن الباقلاني لم يذكرها ، إلا أن ابن فورك نقل عن الأشعري في مقالاته (ص192) أن معرفة عين الإمام من فروض الأعيان ، لأن طاعته تلزم كل عين من المكلفين ، فإذا صح عقد الإمامة لرجل وجب على سائر المكلفين أن يعرفوه وينقادوا له ويعتقدوا إمامته .
المسألة الرابعة : هل ينخلع الإمام بالفسق ؟
قال القاضي أبو يعلى في المعتمد (ص243) : " وإن لم يكفر الإمام لكن فسق في أفعاله ، كأخذ الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود وشرب الخمور ونحو ذلك ، فهل يوجب خلعه أم لا ؟ ذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن أصحابنا أنه لا ينخلع بذلك ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله تعالى ، خلافًا للمعتزلة والأشعرية في قوله ينخلع بذلك " .
[ قلت : شيخه المذكور هو أبو عبد الله ابن حامد توفي سنة (403هـ) شهيدًا ، وكتابه المذكور في أصول الدين غير مطبوع ، وينقل عنه ابن تيمية في كتبه في بعض المواضع ] .
قال القاضي أبو بكر الباقلاني في التمهيد (ص478) : " إن قال قائل : ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم ؟ قيل له : يوجب ذلك أمورٌ منها : كفر بعد الإيمان ، ومنها : تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك ، ومنها - عند كثير من الناس - : فسقُه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود .
وقال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع بهذه الأمور ، ولا يجب الخروج عليه ،بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله .
واحتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متظاهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال ، وأنه قال صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ولو لعبد حبشي وصلوا وراء كل بر وفاجر " ، وروي أنه قال : " أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك " ، " وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة " ، في أخبار كثيرة وردت في هذا الباب .
وقد ذكرنا ما في هذا الباب في كتاب (إكفار المتأولين) وذكرنا ما روي في معارضتها ، وقلنا في تأويلها بما يغني الناظر فيه - إن شاء الله – " .
[ قلت : كتاب (إكفار المتأولين) للقاضي الباقلاني ليس مطبوعًا ].
ونقل أبو بكر ابن فورك عن الأشعري في مقالاته (ص197) أنه كان يقول في أحكام السلطان الجائر والصلاة خلفه والمحاكمة إليه وإلى قضائه بما يذهب إليه أكثر الفقهاء : أن المخاصمة إليه والاستعانة به والصلاة خلفه جائزة وأحكامه نافذة إذا وافق الكتاب والسنة ، وكذلك الدخول في عمله إذا لم يكره العمل بالجور وأمر في عمله بالعدل ، والإنكار لما يعمله بالقلب ، وترك الخروج عليه بالسيف .
فلا يظهر بعد هذا أن القول بانخلاع الإمام بالفسق قول مُعتمدٌ لدى الأشعرية حتى يصح لأبي يعلى نصب الخلاف معهم فيه .
وقد بحث أبو المعالي الجويني المسألة بحثًا مفصلًا في الغياثي (271-279) ، ومضمون هذا البحث أمور :
1) سَلَّم بأن مسألة طروء الفسق على الإمام مسألة غامضة عويصة لدى العلماء .
2) ذكرَ خلاف العلماء في هذه المسألة ، وأن طوائف من الأصوليين والفقهاء ذهبوا إلى أن الفسق يوجب انخلاع الإمام ، وأن طوائف من العلماء ذهبوا إلى أنه يوجب الخلع من أهل الحل والعقد دون الانخلاع .
3) ضعَّف القول بأن الفسق يوجب الانخلاع ، " فلو كان الفسق المتفق عليه يوجب انخلاع الإمام أو يخلعه لكان الكلام يتطرق إلى جميع أفعاله وأقواله على تفنن أطواره وأحواله ، ولما خلا زمن عن خوض خائضين في فسقه المقتضي خلعه ، ولتحزب الناس أبدا في مطرد الأوقات على افتراق وشتات في النفي والإثبات ، ولما استتبت صفوة الطاعة للإمام في ساعة " .
قال : " والذي يجب القطع به أن الفسق الصادر عن الإمام لا يقطع نظره ، ومن الممكن أن يتوب ويسترجع ويئوب ، وقد قررنا بكل عبرة أن في الذهاب إلى خلعه أو انخلاعه بكل عثرة رفض الإمامة ونقضها ، واستئصال فائدتها ورفع عائدتها ، وإسقاط الثقة بها ، واستحثاث الناس على سل الأيدي عن ربقة الطاعة".
4 ) فرَّق بين نوادر الفسوق وبين الدوام عليه بحيث يفضي إلى خلاف ما وضعت له الإمامة ، بأن " تواصَل منه العصيان ، وفشا منه العدوان ، وظهر الفساد ، وزال السداد ، وتعطلت الحقوق والحدود ، وارتفعت الصيانة ، ووضحت الخيانة ، واستجرأ الظلمة ، ولم يجد المظلوم منتصفًا ممن ظلمه ، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور ، وتعطيل الثغور " .
فلا يخلو الأمر حينئذ : إما أن يكون مُستظهرًا بأهل الشوكة ، فقد شغر الزمان حينئذ عن الإمام ، وقد بحث أبو المعالي هذه المسألة - أعني شغور الزمان عن الإمام - في كتابه بحثًا طويلًا .
أما إن : " إن تيسر نصب إمام مستجمع للخصال المرضية، والخلال المعتبرة في رعاية الرعية، تعين البدار إلى اختياره، فإذا انعقدت له الإمامة، واتسقت له الطاعة على الاستقامة، فهو إذ ذاك يدرأ من كان، وقد بان الآن أن تقديم درئه في مهمات أموره، فإن أذعن، فذاك، وإن تأبى عامله معاملة الطغاة، وقابله مقابلة البغاة " .
هذه خلاصة تقرير الجويني في المسألة ، وهو قول مُفصَّل ، يُفرِّق بين مراتب الفسوق ولا يعطيها جميعها نفس الأحكام ، بل نظر الجويني مرتبط بأمرين : الأول : التفريق بين ما يخل من الفسوق مقاصد الإمامة وما لا يخل ، والثاني : التفريق بين حال القدرة على معالجة الفسوق المخل بمقاصد الإمامة بتنصيب إمام آخر وحال العجز عن ذلك ، والله تعالى أعلم .

مجلة حراس الشريعة - عدد ذي الحجة 1434 هـ
http://t.co/EW0eaj6d5W
 
جزاك الله خيرا


- لكن إطلاق نسبة الجصاص إلى طريقة المعتزلة-خاصة في جنس هذه المسائل التي لم تتمحض لباب للاعتقاد-= فيه نظر، ولو وافقهم في بعض فروعها فإن المأخذ ربما اختلف، ومما يبين ذلك موافقته في بعضها لأئمة الفقه في مذهبه ممن لا يصح القول بأنهم معتزلة؛ كأبي حنيفة نفسه. والله أعلم






-أما بالنسبة لكلام الأشاعرة في بيعة الواحد= فإطلاق نسبة القول بكفايته مطلقا إلى(الأشاعرة)= فيه نظر.





- وتأمل هذه القيود في كلام إمام متكلمي الأشاعرة؛ الجويني في كتابه"الغياثي":

(ثم أقول: إن بايع رجل واحد مرموق، كثير الأتباع والأشياع، مطاعٌ في قومه، وكانت منعته تفيد ما أشرنا إليه انعقدت الإمامة.
وقد يبايع رجال لا يفيد مبايعتهم شوكةً ومُنَّةً قهريةً، فلست أرى للإمامة استقرارا.
والذي أجريته ليس شرطَ إجماع، ولا احتكاما بعدد، ولا قطعاً بأن بيعة الواحد كافية).




-وهذا كلام تلميذه إمامهم الغزالي في كتابه"فضائح الباطنية" ص159 فما بعدها:

[وسأنقله بطوله لأهميته في توضيح حقيقة مذهبهم في هذه المسألة المهمة، خاصة أنه نبه ضمنه على أن نقل غيره عنهم= جهل بمذهبهم، وأن مذهبهم مما أشكل على جميع جماهير النظار]



قال الغزالي:(...وقولهم إن الاختيار باطل لأنه لايمكن اعتبار كافة الخلق ولا الاكتفاء بواحد ولا التحكم بتقدير عدد معين بين الواحد والكل.

فهذا جهل بمذهبنا الذي نختاره ونقيم البرهان على صحته والذي نختاره أنه يكتفى بشخص واحد يعقد البيعة للامام مهما كان ذلك الواحد مطاعا ذا شوكة لا تطال ومهما كان مال الى جانب = مال بسببه الجماهير ولم يخالفه إلا من لا يكترث بمخالفته، فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذه الصفة اذا بايع كفى إذ في موافقته موافقة الجماهير، فإن لم يحصل هذا الغرض إلا لشخصين او ثلاثة فلابد من اتفاقهم، وليس المقصود أعيان المبايعين وإنما الغرض قيام شوكة الإمام بالأتباع والأشياع، وذلك يحصل بكل مستول مطاع.
ونحن[لا](1) نقول لما بايع عمر أبا بكر رضي الله عنهما انعقدت الإمامة له بمجرد بيعته، ولكن لتتابع الأيدي إلى البيعة بسبب مبادرته ولو لم يبايعه غير عمر وبقي كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب= لما انعقدت الإمامة؛ فإن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب الى المشايعة ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة، فإن المقصود الذي طلبنا له الامام جمع شتات الآراء في مصطدم تعارض الأهواء ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأى واحد إلا اذا ظهرت شوكته وعظمت نجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابته، ومدار جميع ذلك على الشوكة، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان...

وقد لاح لك الآن كيف ترقينا من هذه المغاصة المظلمة وكيف دفعنا ما أشكل على جميع جماهير النظار من تعيين المقدار في عدد أهل الأخيار إذ لم نعين له عددا بل اكتفينا بشخص واحد يبايع وحكمنا بانعقاد الإمامه عند بيعته لا لتفرده في عينه ولكن لكون النفوس محمولة على متابعة ومبايعة من أذعن هو لطاعته وكان في متابعته قيام قوة الإمام وشوكته وانصراف قلوب الخلائق إلى شخص واحد أو شخصين أو ثلاثة على ما تقتضيه الحال في كل عصر ليس أمرا اختيارا يتوصل إليه بالحيلة البشرية بل هو رزق إلهي يؤتيه الله من يشاء فكأنا في الظاهر رددنا تعيين الامامة إلى اختيار شخص واحد وفي الحقيقة رددناها إلى اختيار الله تعالى ونصبه إلا أنه قد يظهر اختيار الله عقيب متابعة شخص واحد أو أشخاص، وإنما المصحح لعقد الإمامة انصراف قلوب الخلق لطاعته والانقياد له في أمره ونهيه وهذه نعمة وهدية من الله تعالى فاذا أتاحها لعبد من عباده وصرف إلى محبته وجوه اكثر خلقه وكان ذلك من الله تعالى لطفا في اختياره لخلافته وتعيينه للاقتداء بأوامره في تفقد عباده وذلك أمر لا يقدر كل البشر على الاحتيال لتحصيله).




- وقارن هذا باشتراطه الأكثرية في كتابه الآخر"الإحياء"1/ =

قال فيه:(فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق).




- وتقريره الذي في"فضائح الباطنية" يكاد يكون كتقرير ابن تيمية في"منهاج السنة"1/530-فما بعدها

--------------------------

(1) سقطت من هذه الطبعة وغيرها من الطبعات، وسقوطها خطأ فاحش، ويتضح خطؤه بما بعده من كلامه.
 
إيضاح أصول غلط المرجئة في مسألة الإيمان (تطبيق على شرح ابن رشد لقول الإمام مالك)

إيضاح أصول غلط المرجئة في مسألة الإيمان (تطبيق على شرح ابن رشد لقول الإمام مالك)

بسم الله الرحمن الرحيم​
قال الفقيه أبو الوليد ابن رشد رحمه الله تعالى في كتاب البيان والتحصيل (18 / 586 587) - الذي شرح فيه كتاب العتبية في فقه الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى - عند قول صاحب العتبية : " فقلنا لمالك: فالإيمان قول وعمل أو قول بلا عمل؟ قال مالك: بل قول وعمل " .
قال : " لما سأله عن الإيمان هل هو قول وعمل أو قول بلا عمل فقال بل قول وعمل، أوجب أن الإيمان لا يكون إلا بالقول مع العمل، وأنه لا يكون بالقول وحده إذا تجرد عن العمل، وهو صحيح؛ لأن العمل ينقسم على قسمين: أحدهما : عمل القلب، والثاني : عمل الجوارح ؛ فأما عمل القلب فإنه شرط في صحة الإيمان، لأن الإيمان هو التصديق الحاصل في القلب بأن الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فمن قال بلسانه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولم يعتقد تصديق ذلك بقلبه فليس بمؤمن.
وأما أعمال الأبدان من الوضوء والصلاة وسائر الطاعات، فإنها ليست بشرط في صحة الإيمان، وإنما الإيمان، هو شرط في صحتها إذا وجبت عليه بدخول وقتها ؛ لأن الرجل إذا أسلم وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له واعتقد تصديق ذلك بقلبه، فهو مؤمن كامل الإيمان بإجماع من أهل العلم إن مات بفور ذلك قبل أن تجب عليه الصلاة بدخول وقتها كان من أهل الجنة، وإن لم يمت حتى وجبت عليه الصلاة بدخول وقتها لم تصح له الصلاة إلا بمقارنة الإيمان لها الذي هو شرط في صحتها كما ذكرناه. هذا ما لا اختلاف فيه ولا امتراء في صحته.
وإن ترك الصلاة فلم يصلها بسهو أو نوم أو غفلة أو نسيان لم يقدح ذلك في صحة إيمانه، وكذلك إن تركها عمدا وهو مقر بفرضها ووجوبها لم يقدح ذلك أيضا في صحة إيمانه إلا أنه آثم عاص لله عز وجل، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد فياليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع شيئا منهن استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة " بيانًا لما في كتاب الله عز وجل من قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) .
فقول مالك إن الإيمان لا يكون إلا بقول مع العمل، معناه مع عمل القلب وهو التصديق ، لا مع عمل الأبدان على ما بيناه .
فقول من قال من أهل السنة : إن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح ، معناه : أن هذا هو الإيمان الكامل الذي يكون العبد به مؤمنًا في الظاهر والباطن ؛ لأنه مؤمن عند الله في الباطن بما يعلمه من إخلاص قلبه ، وهو مؤمن عندنا في الظاهر بما نسمعه من شهادته ونراه من صلاته ؛ لأن ما نسمعه من شهادته ونراه من صلاته ليس بإيمان ، وإنما هو دليل على الإيمان ، فيحكم له بحكمه بما ظهر إلينا من قوله وفعله ، ولو قال أنا مؤمن وأبى أن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وأبى أن يصلي، لم نصدقه في أنه مؤمن واستتبناه، فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى، وإلا قتلناه، ولما كانت الشهادة والصلاة لا تكون واحدة منهما طاعة وقربة إلا مع مقارنة الإيمان لها الذي هو التصديق الحاصل في القلب، جاز أن يسمى كل واحد منهما إيمانًا ، قال الله عز وجل: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة: 143) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنها كانت بالإيمان الذي هو شرط في صحتها " .
قال مقيده - عفا الله عنه - : كلام أبو الوليد هنا هو من جنس كلام الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة الذين وصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى طريقتهم في مسألة الإيمان بقوله : " وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف ويبحثون بحثًا يناسب قول الجهمية ، لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان " . مجموع الفتاوى (7 / 403) . وقوله : " هؤلاء لم يكونوا خبيرين بكلام السلف ، بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقوه عن المتكلمين من الجهمية ونحوهم من أهل البدع ، فيبقى الظاهر قولَ السلف والباطنُ قولَ الجهمية الذين هم أفسد الناس مقالة في الإيمان " .
وقد شرح ابن تيمية أغلاط المرجئة في كتابي الإيمان الكبير والإيمان الأوسط ، وقد وقع أبو الوليد ابن رشد في هذه الأخطاء في كلامه آنف الذكر ، وبيان ذلك :
الغلط الأول : في تفسيره عمل القلب الذي يدخل في الإيمان بمجرد التصديق ، دون غيره من الأعمال القلبية كالمحبة والتوكل والإنابة والخوف والرجاء ، كما يدل عليه قوله : " فقول مالك إن الإيمان لا يكون إلا بقول مع العمل، معناه مع عمل القلب وهو التصديق " .
قال ابن تيمية في بيان الأصل الأول من غلط الجهمية - وهو الأصل الثاني الذي ذكره في أصول غلط المرجئة - : " ظنهم أنَّ الإيمان مُجرَّدُ تصديقٍ وعلمٍ فقط ، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب ؛ وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقًا ، فإن أعمال القلوب التي يسميها بعض الصوفية أحوالًا ومقامات أو منازل السائرين إلى الله أو مقامات العارفين أو غير ذلك ؛ كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب ، وفيها ما أحبه ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب ، فالأول لا بد لكل مؤمن منه ، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين ، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين ، وذلك مثل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بل أن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما ، بل أن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله ، ومثل خشية الله وحده دون خشية المخلوقين ، ورجاء الله وحده دون رجاء المخلوقين والتوكل على الله وحده دون المخلوقين والإنابة إليه مع خشيته كما قال تعالى: { هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } ومثل الحب في الله والبغض في الله والموالاة لله والمعاداة لله " . مجموع الفتاوى (7 / 190 - 191) .
الغلط الثاني : في احتجاجه لقوله بأن أعمال الجوارح ليست من الإيمان بأن " الرجل إذا أسلم وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له واعتقد تصديق ذلك بقلبه، فهو مؤمن كامل الإيمان بإجماع من أهل العلم إن مات بفور ذلك قبل أن تجب عليه الصلاة بدخول وقتها كان من أهل الجنة " ، وهذا مبني على ظنه أن الإيمان الواجب على الخلق واحد ، لا يتفاضلون فيه .
قال ابن تيمية في بيان الأصل الأول من أصول غلط المرجئة : " ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل ٌفي حق العباد ، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص ، وليس الأمر كذلك ، فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأوجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم ، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن ، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مُفصَّلا ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مُجملا ، فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر ، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك ، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر .
وأيضًا : لو قُدِّر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به ، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه ، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة ، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك ، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة ، فصار يجب من الإيمان تصديقًا وعملًا على أشخاص ما لا يجب على آخرين " .
قال : " وبهذا يظهر الجواب عن قولهم : " من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمنا " ، فهذا صحيح ، لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه ، والعمل لم يكن وجب عليه بعد ، فهذا مما يجب أن يعرف فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين" . مجموع الفتاوى (7 / 196 - 197) .
الغلط الثالث : في عده الأعمال الظاهرة ليست إيمانًا وإنما دليلا على الإيمان ، وهذا معناه أنه في نفس الأمر قد يكون مؤمنًا وإن لم يأت بها ، وفي هذا غفلة عن حقيقة التلازم بين الظاهر والباطن .
قال ابن تيمية في بيان الغلط الثالث من أغلاط المرجئة : " ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًّا بدون شيء من الأعمال ، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ، والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تامٌّ بدون عمل ظاهر " . مجموع الفتاوى (7 / 204) .
 
عودة
أعلى