بسم الله الرحمن الرحيم
مقارنة بين مسائل الإمامة عند القاضي أبي يعلى الحنبلي والقاضي أبي بكر الباقلاني
من الأسس التي ينبغي رعايتها عند النظر في التراث الكلامي في باب الإمامة : التنوع المذهبي في هذا التراث ، وهذا ظاهر بالنسبة للخلاف بين السنة والشيعة ، أما بين الفرق المقابلة للشيعة : فيقل التنبه لذلك ، وقد وجدت بعد المعاصرين إذا أرادوا أن يتكلموا في مسألة الخروج على ولي الأمر الجائر – مثلًا - ذهبوا إلى كتب الزمخشري وأبي بكر الجصاص ، واستدلوا بكلامهما ، غافلين عن كون هذين الرجلين من المعتزلة ، وأن مذهبهما في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة ، وهذا مثال أذكره لبيان أهمية التنبه للتنوع المذهبي في التراث الكلامي في باب الإمامة ، لا لمعالجة هذه القضية بعينها .مقارنة بين مسائل الإمامة عند القاضي أبي يعلى الحنبلي والقاضي أبي بكر الباقلاني
وفي سبيل الكشف عن هذا التنوع والاختلاف المذهبي : اخترتُ المقارنة بين مسائل الإمامة لدى القاضي أبي بكر الباقلاني المتوفى سنة ( 403 هـ) والقاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفى سنة (458هـ) رحمهما الله تعالى ، وكل من هذين الإمامين يمثل اتجاها عقديًّا مؤثرًا ، فالقاضي الباقلاني أحد أئمة الأشعرية ، والقاضي أبو يعلى أحد أئمة متكلمة الحنابلة .
وقد اعتنى القاضي أبو يعلى في كتابه ( المعتمد في أصول الدين ) بإظهار مخالفة الأشعرية ، فيذكر المسألة ويبين أن مذهبه فيها كذا وكذا ثم يقول : " خلافًا للأشعرية " ، وسأذكر هذه المسائل - التي في باب الإمامة - وأتبعها بكلام القاضي الباقلاني ، وأدلة كل منهما - إن ذكروها - ، وما ذكره أتباع كل منهما في تأييد مذهب إمامه .
المسألة الأولى : هل تنعقد الإمامة برجل واحد من أهل الحل والعقد أم بجماعة أهل الحل والعقد ؟
قال القاضي أبو يعلى في المعتمد (ص238- 239) : " ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنها لا تنعقد إلا بجماعتهم ، .. خلافًا للمعتزلة في قولهم : لا تنعقد إلا برضى أربعة يشهدون العقد ، وقالت الأشعرية : تنعقد برجل واحد من أهل الحل والعقد ، واختلفوا : هل يفتقر العقد إلى شهادة اثنين أم لا ، فمنهم من قال يفتقر ، ومنهم من قال لا يفتقر " .
واعلم أن الأشعرية قرروا أن " معظم مسائل الإمامة عريَّة عن مسلك القطع، خليَّة عن مدارك اليقين "- كما يقول أبو المعالي الجويني في الغياثي (ص523) – وأن " أكثر مسائل الإمامة وأحكامها مسائل فقهية ظنية يحكم فيها بموجب الرأى الأغلب " – كما يقول تلميذه أبو حامد الغزالي في المستظهري (ص192) - ، لكنهم في مسألتنا هذه اختلفوا هل هي قطعية أو ظنية ؟ قال القاضي الباقلاني في التمهيد (ص468) : "فإن قيل : ألا جعلتم العقد إلى كل فضلاء الأمة في كل عصر من أعصار المسلمين ؟ قيل له : أجمع أهل الاختيار على بطلان ذلك " ، قال الجويني في الغياثي : " وظاهر قول القاضي يشير إلى أن ذلك مقطوع به ، وهذا وإن كان أظهر المذاهب في ذلك ، فلسنا نراه بالغًا مبلغ القطع " .
أدلة الأشعرية في المسألة وجواب الحنبلية عنها :
الدليل الأول : قال القاضي الباقلاني في التمهيد (ص467): " الدليل على انعقادها بواحد أنه إذا صح أن فضلاء الأمة هم ولاة عقد الإمامة ، ولم يقم دليل على أنه يجب أن يعقدها سائرُها ، ولا عدد منهم مخصوص لا تجوز الزيادة عليه والنقصان منه = ثبت بفقد الدليل على تعيين العدد ، والعلم بأنه ليس بموجود في الشريعة ولا في أدلة العقول ؛ أنها تنعقد بالواحد فما فوقه " .
وقد أجاب أبو الحسن ابن الزاغوني الحنبلي المتوفى سنة (527 هـ) - من أتباع القاضي أبي يعلى – ببيان الغاية من اشتراط رضا جميع أهل الحل والعقد فقال في كتابه الإيضاح في أصول الدين ( ص623- 624) : " نحن لا نعتبر عددًا مخصوصًا ، وإنما تعلق ذلك بأهل العقد والحل ، وقد يكثرون زمانًا ، ويقلون في زمان آخر ، إلا أن قلتهم لا تؤدي أن يكونوا عددًا يسيرًا لا يثبت بخبرهم العلم ، ولا ينعقد بهم الإجماع ، والمقصود من التواتر والعدد الكثير إثبات العلم بإمامة الإمام ، حتى يرتفع فيه الشك وتزول عنه دعوى من يدعي أنه سبقه إلى الإمامة .
فإنه لو كانت الخلافة تنعقد بالعدد اليسير - كالواحد - ؛ لأفضى إلى أن يعقد رجل لإنسان ويعقد رجل آخر لآخر ، ويقع التشاجر في أيهما أول ، وأيهما أحق بالإمامة ، فيفضي ذلك إلى الهرج والفساد ، فاعتبر فيه جميع أهل الحل والعقد لرفع ذلك ، وهذه طريقة حسنة في المسألة لوقوع الابتداء بها " .
وقد ذهب بعض الأشعرية – كالقاضي الباقلاني في التمهيد (ص468) - لتجاوز هذه الإشكالية إلى اشتراط شهادة شهود على العقد ، قال أبو الحسن الآمدي في أبكار الأفكار ( 5 / 189) : " قال بعض الأصحاب : والواجب أن يكون عقد الإمامة بمحضر من الشهود وبينة عادلة ، كفًّا للخصام ووقوع الاختلاف بين الناس بادعاء مُدَّعٍ عقد الإمامة له سرًا متقدمًا على عقد من كان له العقد جهرًا ، وهذا لا محالة واقع في محل الاجتهاد " .
الدليل الثاني : قال القاضي الباقلاني في التمهيد (ص462) : " قد فرض الله علينا فعل العقد على الإمام ، وطاعته إذا عُقد له ، وأن اجتماع سائر أهل الحل والعقد في سائر أمصار المسلمين بصقع واحد وإطباقهم على البيعة لرجل واحد مُتعذِّر ممتنع ، وأن الله تعالى لا يُكلِّف فعل المحال الممتنع الذي لا يصح فعله ولا تركه " .
قال ابن الزاغوني في الإيضاح (ص622-623) مجيبًا عن هذا الاستدلال : " إنما ذكرنا اشتراط بيعة جميع أهل الحل والعقد عند الاختيار والفسحة والمهلة ، ووقوف الأمر على الرضا ، فإذا لم يؤمَن ذلك كان عذرًا في ترك اعتباره ، ولأن العادة في الأعم أن أهل العقد والحل يكثرون في موضع يكون فيه الإمام ، ويقلُّون في غير موضعه ، فإذا بادر هؤلاء إلى العقد وبقي الأقل والبعيد الذي يتعذر تحصيله = عُفي عنه لتعذُّره " .
الدليل الثالث : استدل القاضي الباقلاني بعقد أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ، وهو رجل واحد ، فقال (ص468) : " أبو بكر عقدها لعمر فتمت إمامته وسلم عهده بعقده له " .
قال ابن الزاغوني في الإيضاح (ص623) مجيبًا : " انعقاد بيعة عمر رضي الله عنه كان بتقليد أبي بكر رضي الله عنه له والوصية إليه ، وعندنا أنه يكفي في انعقاد الخلافة ذلك ، وإنما كلامنا في من يبتدىء بانعقاد الإمامة له على الناس ، وذلك أمر آخر " .
الدليل الرابع : استدل الباقلاني بطريقة تولية عثمان رضي الله عنه ، فقال (ص468) : " عمرُ ردَّ الأمر إلى ستة نفر فقط وإن كان في غيرهم من يصلح للعقد " ، أي : فلم يشترط عمر رضي الله عنه موافقة جميع أهل الحل والعقد .
وهذا الدليل لم يذكره ابن الزاغوني في جملة المعارضات لمذهبه في اشتراط رضا جميع أهل الحل والعقد ، إلا أنه لما أراد تثبيت إمامة عثمان رضي الله عنه قال (ص627) : " .. فاجتمع الستة بالرضا والاتفاق على عثمان ، وأول من بايعه عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وباقي الرهط ، وتتابع الناس على ذلك ، ولم يختلف في بيعته اثنان ، وهذا يدل على أنها انعقدت له بالإجماع " ، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في المتعمد أن إمامة عثمان رضي الله عنه ثبتت بالإجماع .
والأشعرية يرون أن إمامة عثمان رضي الله عنه انعقدت بعقد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لها ، قال الباقلاني (ص505) : " عبد الرحمن بن عوف عقدها له بمحضر من أهل الشورى سوى طلحة ، وأن طلحة بايعه لما قدم وعلم ضرورة من حاله رضاه بإمامته " ، ولا يرون أن إمامة عثمان ولا غيره من الخلفاء انعقدت بالإجماع ، وإنما الإجماع تأكيد لعقد من عقدها من أهل الحل والعقد ، قال أبو بكر ابن فورك في مقالات الأشعري (ص193) : " وكان أبو الحسن الأشعري يقول في إمامة هؤلاء الخلفاء الأربعة إنه لم تكن إمامة واحد منهم بنص الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا أن المعتمد في شيء من ذلك الإجماع عليه ، بل تثبت إمامة كل واحد منهم بعقد من عقدها من أهل الحل والعقد ، وما حصل من الإجماع بعده عليه فإنما ذلك تأكيد للعقد ، لا أنه دلالة على الإمامة ابتداءً " .
فهذه أدلة الأشعرية في المسألة ، أما أدلة الحنابلة ؛ فقد قال القاضي أبو يعلى الحنبلي في المعتمد (ص239) : " والدلالة على أنها لا تنعقد بواحد ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد " ؛ فمنه دليلان : أحدهما : أنه ندب إلى لزوم الجماعة ، فاقتضى ذلك أنه غير مندوب إلى لزوم غير الجماعة ، وهذا المعنى لا يوجد عند واحد .
والثاني : قوله : " وإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد " ، وهذا موجود في عقد الواحد له .
ولأن الإمام يجب الرجوع إليه ولا يسوغ خلافه والعدول عنه كالإجماع ، ثم ثبت أن الإجماع يعتبر في انعقاده جميع أهل الحل والعقد ، كذلك الإمامة له .
لأنه ليس قول من قال : ينعقد باثنين بأولى من قول من قال : ينعقد بأربعة ، ولا قول من قال : ينقعد بأربعة بأولى من قول من قال : ينعقد بالجماعة " .
ولم أجد الأشعرية قد أجابوا عن هذه الأدلة ، وقد يكون السبب في ذلك قلة مبالاتهم بالحنابلة واعتراضاتهم .
المسألة الثانية : هل يشترط القول في البيعة أم يُكتفى بالرضا ؟
قال القاضي أبو يعلى (ص250) : " وصفة العقد أن يقال : " قد بايعناك على بيعة رضا على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة " ، ونحو ذلك ، ولا يحتاج مع ذلك إلى صفقة اليد ، وحكي عن قوم أن البيعة هي نفس الرضا والانقياد له بفعل أو بقول ، والدلالة عليه أن الصدر الأول هكذا عقدوا الإمامة ، من ذلك أن عمر بايع أبا بكرر بحضرة أبي عبيدة بن الجراح وبشير بن سعد وأسيد بن حضير الأنصاري وسالم مولى أبي حذيفة ثم ابتعهم الناس ، وعهد أبو بكر إلى عمر عهدًا ظاهرًا ، وبايع عبد الرحمن عثمان ، وصفق على يده على المنبر بيعة ظاهرة ، ولأن الرضا بالعقد لا يقوم مقام العقد بالقول ، بدليل النكاح والبيع والإجارة ، وكذلك الإمامة " .
وهذه المسألة خالفهم فيها الأشعرية ، قال ابن فورك في مقالات الأشعري (ص194) : " وكان يقول : إن بيعة الإمام ليست بصفقة اليد وبالمصافحة بكفّه ، وإنما هي بالرضا بها والاستصلاح لها مع العلم بها ، وأن الكل من الصحابة هكذا كان أمرهم مع الثلاثة الذين مضوا مما أجمعوا عليه ، دون علي بن أبي طالب ".
وقد وجدت ابن الزاغوني في الإيضاح (ص622) عندما ذكر الاعتراض بتأخر علي رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر ، فكيف يشترط إجماع أهل الحل والعقد ؟ وأجاب بأن عليًّا كان راضيًا بالبيعة ، وإنما يقدح في البيعة إذا أظهر الخلاف وامتنع عن الرضا بالعقد ، وهذا الجواب يُناقض مذهبهم في أن البيعة لا يُكتفى فيها بالرضا ولا بد من القول .
المسألة الثالثة : هل تجب معرفة عين الإمام على عامة الناس ؟
قال (ص254) : " ومعرفة عين الإمام غير واجب في حق العامة ، وإنما تجب معرفته في الجملة ، وأن لهم إمامًا ، وإذا حدث لهم حكومة أو أمر يتعلق بنظره عرفوه بظاهر الأخبار في دار الخليفة أو غيرها أن هذا هو الإمام .
وحكي عن سليمان بن حرب أن معرفه عينه واسمه واجب على جميع الأمة ، والدلالة عليه أنه لو وجب في حق العامة لوجب عليهم معرفة ما به يصير أمامًا من صفاته وصفات العاقدين ، ولا يجب معرفة ذلك بلا خلاف ، ولأنه كالأمير والقاضي والمفتي ، ولا تجب معرفة عينه بل يجزىء بظاهر الأخبار " .
هذه المسألة لم ينصب أبو يعلى الخلاف فيها مع الأشعرية ، وقد يكون السبب أن الباقلاني لم يذكرها ، إلا أن ابن فورك نقل عن الأشعري في مقالاته (ص192) أن معرفة عين الإمام من فروض الأعيان ، لأن طاعته تلزم كل عين من المكلفين ، فإذا صح عقد الإمامة لرجل وجب على سائر المكلفين أن يعرفوه وينقادوا له ويعتقدوا إمامته .
المسألة الرابعة : هل ينخلع الإمام بالفسق ؟
قال القاضي أبو يعلى في المعتمد (ص243) : " وإن لم يكفر الإمام لكن فسق في أفعاله ، كأخذ الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود وشرب الخمور ونحو ذلك ، فهل يوجب خلعه أم لا ؟ ذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن أصحابنا أنه لا ينخلع بذلك ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله تعالى ، خلافًا للمعتزلة والأشعرية في قوله ينخلع بذلك " .
[ قلت : شيخه المذكور هو أبو عبد الله ابن حامد توفي سنة (403هـ) شهيدًا ، وكتابه المذكور في أصول الدين غير مطبوع ، وينقل عنه ابن تيمية في كتبه في بعض المواضع ] .
قال القاضي أبو بكر الباقلاني في التمهيد (ص478) : " إن قال قائل : ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم ؟ قيل له : يوجب ذلك أمورٌ منها : كفر بعد الإيمان ، ومنها : تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك ، ومنها - عند كثير من الناس - : فسقُه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود .
وقال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث : لا ينخلع بهذه الأمور ، ولا يجب الخروج عليه ،بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله .
واحتجوا في ذلك بأخبار كثيرة متظاهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال ، وأنه قال صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا ولو لعبد أجدع ولو لعبد حبشي وصلوا وراء كل بر وفاجر " ، وروي أنه قال : " أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك " ، " وأطيعوهم ما أقاموا الصلاة " ، في أخبار كثيرة وردت في هذا الباب .
وقد ذكرنا ما في هذا الباب في كتاب (إكفار المتأولين) وذكرنا ما روي في معارضتها ، وقلنا في تأويلها بما يغني الناظر فيه - إن شاء الله – " .
[ قلت : كتاب (إكفار المتأولين) للقاضي الباقلاني ليس مطبوعًا ].
ونقل أبو بكر ابن فورك عن الأشعري في مقالاته (ص197) أنه كان يقول في أحكام السلطان الجائر والصلاة خلفه والمحاكمة إليه وإلى قضائه بما يذهب إليه أكثر الفقهاء : أن المخاصمة إليه والاستعانة به والصلاة خلفه جائزة وأحكامه نافذة إذا وافق الكتاب والسنة ، وكذلك الدخول في عمله إذا لم يكره العمل بالجور وأمر في عمله بالعدل ، والإنكار لما يعمله بالقلب ، وترك الخروج عليه بالسيف .
فلا يظهر بعد هذا أن القول بانخلاع الإمام بالفسق قول مُعتمدٌ لدى الأشعرية حتى يصح لأبي يعلى نصب الخلاف معهم فيه .
وقد بحث أبو المعالي الجويني المسألة بحثًا مفصلًا في الغياثي (271-279) ، ومضمون هذا البحث أمور :
1) سَلَّم بأن مسألة طروء الفسق على الإمام مسألة غامضة عويصة لدى العلماء .
2) ذكرَ خلاف العلماء في هذه المسألة ، وأن طوائف من الأصوليين والفقهاء ذهبوا إلى أن الفسق يوجب انخلاع الإمام ، وأن طوائف من العلماء ذهبوا إلى أنه يوجب الخلع من أهل الحل والعقد دون الانخلاع .
3) ضعَّف القول بأن الفسق يوجب الانخلاع ، " فلو كان الفسق المتفق عليه يوجب انخلاع الإمام أو يخلعه لكان الكلام يتطرق إلى جميع أفعاله وأقواله على تفنن أطواره وأحواله ، ولما خلا زمن عن خوض خائضين في فسقه المقتضي خلعه ، ولتحزب الناس أبدا في مطرد الأوقات على افتراق وشتات في النفي والإثبات ، ولما استتبت صفوة الطاعة للإمام في ساعة " .
قال : " والذي يجب القطع به أن الفسق الصادر عن الإمام لا يقطع نظره ، ومن الممكن أن يتوب ويسترجع ويئوب ، وقد قررنا بكل عبرة أن في الذهاب إلى خلعه أو انخلاعه بكل عثرة رفض الإمامة ونقضها ، واستئصال فائدتها ورفع عائدتها ، وإسقاط الثقة بها ، واستحثاث الناس على سل الأيدي عن ربقة الطاعة".
4 ) فرَّق بين نوادر الفسوق وبين الدوام عليه بحيث يفضي إلى خلاف ما وضعت له الإمامة ، بأن " تواصَل منه العصيان ، وفشا منه العدوان ، وظهر الفساد ، وزال السداد ، وتعطلت الحقوق والحدود ، وارتفعت الصيانة ، ووضحت الخيانة ، واستجرأ الظلمة ، ولم يجد المظلوم منتصفًا ممن ظلمه ، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور ، وتعطيل الثغور " .
فلا يخلو الأمر حينئذ : إما أن يكون مُستظهرًا بأهل الشوكة ، فقد شغر الزمان حينئذ عن الإمام ، وقد بحث أبو المعالي هذه المسألة - أعني شغور الزمان عن الإمام - في كتابه بحثًا طويلًا .
أما إن : " إن تيسر نصب إمام مستجمع للخصال المرضية، والخلال المعتبرة في رعاية الرعية، تعين البدار إلى اختياره، فإذا انعقدت له الإمامة، واتسقت له الطاعة على الاستقامة، فهو إذ ذاك يدرأ من كان، وقد بان الآن أن تقديم درئه في مهمات أموره، فإن أذعن، فذاك، وإن تأبى عامله معاملة الطغاة، وقابله مقابلة البغاة " .
هذه خلاصة تقرير الجويني في المسألة ، وهو قول مُفصَّل ، يُفرِّق بين مراتب الفسوق ولا يعطيها جميعها نفس الأحكام ، بل نظر الجويني مرتبط بأمرين : الأول : التفريق بين ما يخل من الفسوق مقاصد الإمامة وما لا يخل ، والثاني : التفريق بين حال القدرة على معالجة الفسوق المخل بمقاصد الإمامة بتنصيب إمام آخر وحال العجز عن ذلك ، والله تعالى أعلم .
مجلة حراس الشريعة - عدد ذي الحجة 1434 هـ
http://t.co/EW0eaj6d5W