مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
مفهوم النسخ عند الطبري وأثره على تعليقاته على تفسير السلف ، مع بيان مصطلحهم في ذلك
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن تفسير ابن جرير معين لا يكاد ينضب من الموضوعات القرآنية المتناثرة فيه ، وهي بحاجة إلى تنقيب وكشف عن مكنوناتها .
ولقد حرصت على أن أطرح في هذا المقال مثالاً لذلك ، غير أني قبل أن أبدأ به أذكر لك ـ أيها القارئ الكريم ـ ملحوظة لابدَّ منها عند من يريد النقل من ابن جرير ، وهي حاجتك إلى النقل الطويل لكي تتضح المسألة كما طرحها هذا الإمام ، وذلك مني اعتذار عما قد تجده من طول في النقل أثناء دراسة مسألة من المسائل التي طرحها الإمام رحمه الله تعالى .
وبعد هذه المقدمة أقول : لقد كان ابن جرير رحمه الله تعالى فقيهًا أصوليًّا ، وقد كتب في أصول الأحكام أسماه ( البيان عن أصول الأحكام ) ، وقد نصَّ عليه في كتاب التفسير في غير ما موضع ، ومنها قوله : (( وقد دللنا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام )) .
وقد كان إذا مرَّ بموضوع له علاقة بأصول الأحكام ـ كالنسخ مثلاً ـ أشار إلى أنه قد توسع فيه في كتابه هذا ، وأعرض عن التفصيل في كتاب التفسير .
وإليك هذه المواضع أمثلة على ذلك :
1 ـ قال : (( وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام )) ط : الحلبي / 1 : 508 .
2 ـ وقال : (( وأولى الأقوال بالصواب في قوله : (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) أن يقال هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام )) ط : الحلبي / 1 : 510 .
3 ـ وقال : (( ... وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى ذكره قال : ( ومتعوهن ) ، فأمر الرجال أن يمتعوهن وأمره فرض إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد لما قد بينا في كتابنا المسمى بلطيف البيان عن أصول الأحكام لقوله ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) ... )) ط : الحلبي / 2 : 536 .
ومن الموضوعات التي لم يمكنه إغفال جوانب منها في تفسيره موضوع النسخ ؛ لكثرة وروده في تفسيرات السلف ، فما المصطلح الذي سار عليه ابن جرير ، وما أثر ذلك على تعليقاته على مصطلح السلف في النسخ .
أولاً : تعريف النسخ عند ابن جرير :
قال : ((يعني جل ثناؤه بقوله : (ما ننسخ من آية ) إلى غيره فنبدله ونغيره .
وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ
وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره
فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أوفر حظها فترك أو محي أثرها فعفي ونسي إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة
والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ يقال منه نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا والنسخة الاسم )) . ط : الحلبي / 1 : 475 .
وقال : (( وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب لأن القائلين أن حكم هذه الآية منسوخ زعموا أنه نسخ بقوله : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، وقد دللنا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام أن النسخ لا يكون نسخا إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكل معانيه حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع )) . ط : الحلبي / 6 : 246
وقال : ((النسخ لا يكون في حكم إلا ينفيه بآخر له ناف من كل وجوهه )) ط : الحلبي 3 : 149 .
ثانيًا : لا بدَّ للنسخ من دلالة تدلُّ عليه .
قال : (( ... لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم والتحكم لا يعجز عنه أحد )) ط : الحلبي / 2 : 190 .
وقال : (( ... فإذ كان قوله عز وجل : (فأينما تولوا فثم وجه الله ) محتملا ما ذكرنا من الأوجه ، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها ؛ لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) معني به : فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم ... )) ط : الحلبي / 1 : 505 .
ثالثًا : النسخ في الأحكام أما الأخبار فلا تُنسخ :
قال الطبري : (( ... وذلك أن يحول الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ )) ط : الحلبي / 1 : 475 .
وقال : (( ... والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي )) . ط : الحلبي / 30 : 12
أثر عدم العمل بمفهوم النسخ الاصطلاحي عند الطبري :
المثال الأول :
قال الطبري : (( وقد روي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال ثنا عمرو بن أبي سلمة قال سألت أبا معاذ الخرساني عن قول الله : (لابثين فيها أحقابا ) ، فأخبرنا عن مقاتل بن حيان ، قال : منسوخة ، نسختها : ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) .
ولا معنى لهذا القول ؛ لأن قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) خبر ، والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي )) . ط : الحلبي /30 : 12.
ولو حُمِلَ كلام مقاتل بن حيان على مفهوم النسخ عند السلف ـ وهو مطلق الرفع لشيءٍ من معنى الآية أو حكمها ، وهو أعم من المصطلح الذي ذكره الطبري ـ لما كان في الأمر إشكالٌ ، ويكون مراد مقاتل أنَّ الآية الأخرى تبين أنهم إذا انتهوا من عذابٍ في هذه الأحقاب ، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك ، ويكون قول مقاتل من باب بيان المجمل ، وبيان المجمل نوع من النسخ الذي يقع في الآية على مصطلح النسخ عند السلف .
المثال الثاني :
قال الطبري : (( حدثنا أبو كريب قال ثنا عثمان بن سعيد قال ثنا خالد عن حسين بن قيس عن عكرمة عن بن عباس في قوله : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) ، قال : نسختها : ( قالوا سمعنا وأطعنا ) .
وهذا قول لا معنى له لأن نسخ الأحكام من قِبَلِ الله جل وعز لا من قبل العباد وقوله : ( قالوا سمعنا وأطعنا ) خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه ، لا نسخ منه )) ط : الحلبي / 2 : 344 .
وهذا القول المذكور عن ابن عباس مشكلٌ يحتاج إلى بيانٍ ، فأقول :
1 ـ إن النسخ الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما ليس النسخ الاصطلاحي عند ابن جرير ، وذلك ظاهر بلا ريب .
2 ـ أن مصطلح النسخ عند ابن عباس ـ وغيره من السلف ـ له ثلاثة أحوال :
الأول : أن يراد به نسخ حكمٍ شرعي بحكم شرعي آخر ، كما هو النسخ الاصطلاحي عند المتأخرين .
الثاني : أن يكون المراد بالنسخ رفع جزء من حكم أو خبرٍ ، ويكون ذلك بتخصيص عموم ، أو تقييد مطلق ، أو بيان مجمل ، أو استثناءٍ .
أورد الطبري عن ابن جريج ، قال : (( قال الله تعالى ذكره : ( من كفر بالله من بعد إيمانه ) ، ثم نسخ واستثنى فقال : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها غفور رحيم ) )) ط : الحلبي / 14 : 183 . وكذا رواه عن الحسن وعكرمة في الآية نفسها . وينظر عن ابن عباس ( 18 : 110 ) .
وهذا نص صريح واضح في ترادف النسخ والاستثناء عندهم ، وقس عليه غيره من المصطلحات الأخرى .
الثالث : أن يُنسخ توهمُ معنى غير مراد بالآية ( ينظر : فتاوى شيخ الإسلام 13 :272 ـ 273 ) .
وذلك مثل ما رواه مسلم عن أبي هريرة ، قال : (( لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، وقالوا : يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ، بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) .
فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل الله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) )) .
فعبارة أبي هريرة : ( نسخها ) ، أي : نسخ المعنى المتوهم في الآية الأولى .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 14 : 106 ) : (( ... والمقصود هنا أن قوله تعالى : ( وإن تبدوا ما فى انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله )) حق ، والنسخ فيها هو رفع فَهْمِ من فَهِمَ من الآية ما لم تدل عليه ، فمن فَهِمَ أن الله يكلف نفسا ما لاتسعه ، فقد نسخ الله فهمه وظنَّه ، ومن فَهِمَ منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه ، فقوله : ( لايكلف الله نفسا إلا وسعها ) ردُّ للأول . وقوله : ( لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ) رد للثاني ... )) .
وقال في الفتاوى ( 14 : 69 ) : (( وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يُظن أن الآية دالة عليه )) .
وهذا المثال الوارد عن أبي هريرة يمكن أن يدخل في بيان المجمل ، غير أنه يقع فيه فهم غير مراد فتأتي الآية الأخرى ببيان المراد ، فيرتفع المعنى الذي ألقي في نفوسهم ، بخلاف المجمل الذي لا يبين المراد منه أولاً .
فإذا وقع فهم لها منه ثم جاء البيان بآية أخرى ، فهو من القسم الثالث ، وإن لم يقع فهم أوليُّ ، بل كان المعنى مشكلاً مطلقًا ، ثم جاء البيان بآية أخرى فهو من قبيل المجمل .
والذي يدل على نسخ المعنى الذي يقع في الأفهام ، قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (الحج:52) .
3 ـ إذا تبينت أحوال النسخ عند السلف ، فالذي يظهر لي أن ابن عباس قد أغرب في عبارته ، وأن مراده أن يرفع توهم وقوع النكوص عن هذا الأمر المكروه ، وعدم الرضا به من الصحابة الكرام ، إذ قوله تعالى : ( سمعنا وأطعنا ) فيه إشارة إلى وقوع امتثال الأمر ، والآية فيها إلماح بغير ذلك في قوله ( وهو كره لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ) ، إذ قد يقع في الذهن احتمال عدم الرضا أو العمل ، فأراد ابن عباس أن ينفي هذا الاحتمال ، وأن يبين أن الصحابة كان أمرهم على الامتثال .
وهذا التخريج ـ مع غرابته ـ مطروح للمدارسة في فهم عبارة ابن عباس رضي الله عنه ، وباب تخريج الأقوال أوسع من باب الاستدلال .
ويظهر من هذا المثالين أنَّ الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعْمِلُ مصطلح السلف في النسخ ، ولذا كان يعترض على مثل هذا المثال ، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر ، وهي أن تعرف مصطلح كلِّ قوم ، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم ، فتقع في الخطأ .
مسألة متممة لمبحث النسخ عند السلف :
يقع السؤال عن كيفية إدراك أن السلف أرادوا بلفظ النسخ غير النسخ الاصطلاحي ؟
والجواب أن يقال :
إن كان النص الذي ورد عليه لفظ النسخ خبرًا ، فاحمله على مطلق الرفع لجزء من معنى الآية ، ويمكن أن يصطلح عليه بالنسخ الجزئي .
ثم ابحث عن الأنسب له من تقسيمات المتأخرين ، فقد يكون تقييد مطلق ، وقد يكون بيان مجمل ، وقد يكون تخصيص عامٍّ ، وقد يكون استثناءً من مستثنى منه .
ولا يصح بحال أن يكون مرادهم بالنسخ هنا النسخ الكلي للمعنى ؛ لأن هذا النسخ الكلي لا يأتي إلا في الأحكام .
وإن كان النص الذي ورد عليه لفظ النسخ حُكمًا شرعيًا ، فإنه لا يُصار إلى الحكم بمراد الواحد منهم أنه أراد النسخ الكلي في اصطلاح المتأخرين إلا إذا دلت عبارته على ذلك ، أما إذا كانت عبارةً مطلقة فالأولى حملها على المناسب لها من تقسيمات المتأخرين من تقييد مطلق ، أو بيان مجمل ، أو تخصيص عامٍّ ، أو استثناءً من مستثنى منه .
أما إذا كان النص مما ثبت فيه النسخ بلا إشكال ، فالصحيح أن تُحمل عبارتهم على النسخ الاصطلاحي الكلي ، والله أعلم .
ومن حرَّر النسخ على هذا السبيل بان له أنَّ النسخ الاصطلاحي الكلي لم يكن كثيرًا عند السلف ، خلافًا لما توهمه بعض المعاصرين من كثرته عنهم ، وراح يردُّ أقوالهم ، ويخطِّئ أفهامهم .
والسبيل في التعامل مع أقوال السلف أن تبحث العلل والأسباب الموجبة لهم بهذا القول أو ذاك ، وعدم الردِّ لها إلا بعد أن تنفذ السبل في قبول رأيهم أو توجيهه ، ذلك أنَّ هؤلاء أعلم منا بكتاب الله ، وأتقى منا لله ، فلا يُشنَّع عليهم بسبب أقوالٍ لم نفهم نحن مرادهم بها ، ولا أدركنا فقههم فيها ، والاعتذار لهم في أقوالهم ، وتخريجها على المخرج الحسن هو السبيل الأمثل الأقوم ، والله الموفق .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن تفسير ابن جرير معين لا يكاد ينضب من الموضوعات القرآنية المتناثرة فيه ، وهي بحاجة إلى تنقيب وكشف عن مكنوناتها .
ولقد حرصت على أن أطرح في هذا المقال مثالاً لذلك ، غير أني قبل أن أبدأ به أذكر لك ـ أيها القارئ الكريم ـ ملحوظة لابدَّ منها عند من يريد النقل من ابن جرير ، وهي حاجتك إلى النقل الطويل لكي تتضح المسألة كما طرحها هذا الإمام ، وذلك مني اعتذار عما قد تجده من طول في النقل أثناء دراسة مسألة من المسائل التي طرحها الإمام رحمه الله تعالى .
وبعد هذه المقدمة أقول : لقد كان ابن جرير رحمه الله تعالى فقيهًا أصوليًّا ، وقد كتب في أصول الأحكام أسماه ( البيان عن أصول الأحكام ) ، وقد نصَّ عليه في كتاب التفسير في غير ما موضع ، ومنها قوله : (( وقد دللنا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام )) .
وقد كان إذا مرَّ بموضوع له علاقة بأصول الأحكام ـ كالنسخ مثلاً ـ أشار إلى أنه قد توسع فيه في كتابه هذا ، وأعرض عن التفصيل في كتاب التفسير .
وإليك هذه المواضع أمثلة على ذلك :
1 ـ قال : (( وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام )) ط : الحلبي / 1 : 508 .
2 ـ وقال : (( وأولى الأقوال بالصواب في قوله : (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) أن يقال هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام )) ط : الحلبي / 1 : 510 .
3 ـ وقال : (( ... وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى ذكره قال : ( ومتعوهن ) ، فأمر الرجال أن يمتعوهن وأمره فرض إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد لما قد بينا في كتابنا المسمى بلطيف البيان عن أصول الأحكام لقوله ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) ... )) ط : الحلبي / 2 : 536 .
ومن الموضوعات التي لم يمكنه إغفال جوانب منها في تفسيره موضوع النسخ ؛ لكثرة وروده في تفسيرات السلف ، فما المصطلح الذي سار عليه ابن جرير ، وما أثر ذلك على تعليقاته على مصطلح السلف في النسخ .
أولاً : تعريف النسخ عند ابن جرير :
قال : ((يعني جل ثناؤه بقوله : (ما ننسخ من آية ) إلى غيره فنبدله ونغيره .
وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ
وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره
فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أوفر حظها فترك أو محي أثرها فعفي ونسي إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة
والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ يقال منه نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا والنسخة الاسم )) . ط : الحلبي / 1 : 475 .
وقال : (( وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب لأن القائلين أن حكم هذه الآية منسوخ زعموا أنه نسخ بقوله : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، وقد دللنا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام أن النسخ لا يكون نسخا إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكل معانيه حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع )) . ط : الحلبي / 6 : 246
وقال : ((النسخ لا يكون في حكم إلا ينفيه بآخر له ناف من كل وجوهه )) ط : الحلبي 3 : 149 .
ثانيًا : لا بدَّ للنسخ من دلالة تدلُّ عليه .
قال : (( ... لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم والتحكم لا يعجز عنه أحد )) ط : الحلبي / 2 : 190 .
وقال : (( ... فإذ كان قوله عز وجل : (فأينما تولوا فثم وجه الله ) محتملا ما ذكرنا من الأوجه ، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها ؛ لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) معني به : فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم ... )) ط : الحلبي / 1 : 505 .
ثالثًا : النسخ في الأحكام أما الأخبار فلا تُنسخ :
قال الطبري : (( ... وذلك أن يحول الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ )) ط : الحلبي / 1 : 475 .
وقال : (( ... والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي )) . ط : الحلبي / 30 : 12
أثر عدم العمل بمفهوم النسخ الاصطلاحي عند الطبري :
المثال الأول :
قال الطبري : (( وقد روي عن مقاتل بن حيان في ذلك ما حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال ثنا عمرو بن أبي سلمة قال سألت أبا معاذ الخرساني عن قول الله : (لابثين فيها أحقابا ) ، فأخبرنا عن مقاتل بن حيان ، قال : منسوخة ، نسختها : ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) .
ولا معنى لهذا القول ؛ لأن قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) خبر ، والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي )) . ط : الحلبي /30 : 12.
ولو حُمِلَ كلام مقاتل بن حيان على مفهوم النسخ عند السلف ـ وهو مطلق الرفع لشيءٍ من معنى الآية أو حكمها ، وهو أعم من المصطلح الذي ذكره الطبري ـ لما كان في الأمر إشكالٌ ، ويكون مراد مقاتل أنَّ الآية الأخرى تبين أنهم إذا انتهوا من عذابٍ في هذه الأحقاب ، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك ، ويكون قول مقاتل من باب بيان المجمل ، وبيان المجمل نوع من النسخ الذي يقع في الآية على مصطلح النسخ عند السلف .
المثال الثاني :
قال الطبري : (( حدثنا أبو كريب قال ثنا عثمان بن سعيد قال ثنا خالد عن حسين بن قيس عن عكرمة عن بن عباس في قوله : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) ، قال : نسختها : ( قالوا سمعنا وأطعنا ) .
وهذا قول لا معنى له لأن نسخ الأحكام من قِبَلِ الله جل وعز لا من قبل العباد وقوله : ( قالوا سمعنا وأطعنا ) خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه ، لا نسخ منه )) ط : الحلبي / 2 : 344 .
وهذا القول المذكور عن ابن عباس مشكلٌ يحتاج إلى بيانٍ ، فأقول :
1 ـ إن النسخ الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما ليس النسخ الاصطلاحي عند ابن جرير ، وذلك ظاهر بلا ريب .
2 ـ أن مصطلح النسخ عند ابن عباس ـ وغيره من السلف ـ له ثلاثة أحوال :
الأول : أن يراد به نسخ حكمٍ شرعي بحكم شرعي آخر ، كما هو النسخ الاصطلاحي عند المتأخرين .
الثاني : أن يكون المراد بالنسخ رفع جزء من حكم أو خبرٍ ، ويكون ذلك بتخصيص عموم ، أو تقييد مطلق ، أو بيان مجمل ، أو استثناءٍ .
أورد الطبري عن ابن جريج ، قال : (( قال الله تعالى ذكره : ( من كفر بالله من بعد إيمانه ) ، ثم نسخ واستثنى فقال : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها غفور رحيم ) )) ط : الحلبي / 14 : 183 . وكذا رواه عن الحسن وعكرمة في الآية نفسها . وينظر عن ابن عباس ( 18 : 110 ) .
وهذا نص صريح واضح في ترادف النسخ والاستثناء عندهم ، وقس عليه غيره من المصطلحات الأخرى .
الثالث : أن يُنسخ توهمُ معنى غير مراد بالآية ( ينظر : فتاوى شيخ الإسلام 13 :272 ـ 273 ) .
وذلك مثل ما رواه مسلم عن أبي هريرة ، قال : (( لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، وقالوا : يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ، بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) .
فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل الله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) )) .
فعبارة أبي هريرة : ( نسخها ) ، أي : نسخ المعنى المتوهم في الآية الأولى .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 14 : 106 ) : (( ... والمقصود هنا أن قوله تعالى : ( وإن تبدوا ما فى انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله )) حق ، والنسخ فيها هو رفع فَهْمِ من فَهِمَ من الآية ما لم تدل عليه ، فمن فَهِمَ أن الله يكلف نفسا ما لاتسعه ، فقد نسخ الله فهمه وظنَّه ، ومن فَهِمَ منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه ، فقوله : ( لايكلف الله نفسا إلا وسعها ) ردُّ للأول . وقوله : ( لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ) رد للثاني ... )) .
وقال في الفتاوى ( 14 : 69 ) : (( وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يُظن أن الآية دالة عليه )) .
وهذا المثال الوارد عن أبي هريرة يمكن أن يدخل في بيان المجمل ، غير أنه يقع فيه فهم غير مراد فتأتي الآية الأخرى ببيان المراد ، فيرتفع المعنى الذي ألقي في نفوسهم ، بخلاف المجمل الذي لا يبين المراد منه أولاً .
فإذا وقع فهم لها منه ثم جاء البيان بآية أخرى ، فهو من القسم الثالث ، وإن لم يقع فهم أوليُّ ، بل كان المعنى مشكلاً مطلقًا ، ثم جاء البيان بآية أخرى فهو من قبيل المجمل .
والذي يدل على نسخ المعنى الذي يقع في الأفهام ، قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (الحج:52) .
3 ـ إذا تبينت أحوال النسخ عند السلف ، فالذي يظهر لي أن ابن عباس قد أغرب في عبارته ، وأن مراده أن يرفع توهم وقوع النكوص عن هذا الأمر المكروه ، وعدم الرضا به من الصحابة الكرام ، إذ قوله تعالى : ( سمعنا وأطعنا ) فيه إشارة إلى وقوع امتثال الأمر ، والآية فيها إلماح بغير ذلك في قوله ( وهو كره لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ) ، إذ قد يقع في الذهن احتمال عدم الرضا أو العمل ، فأراد ابن عباس أن ينفي هذا الاحتمال ، وأن يبين أن الصحابة كان أمرهم على الامتثال .
وهذا التخريج ـ مع غرابته ـ مطروح للمدارسة في فهم عبارة ابن عباس رضي الله عنه ، وباب تخريج الأقوال أوسع من باب الاستدلال .
ويظهر من هذا المثالين أنَّ الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعْمِلُ مصطلح السلف في النسخ ، ولذا كان يعترض على مثل هذا المثال ، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر ، وهي أن تعرف مصطلح كلِّ قوم ، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم ، فتقع في الخطأ .
مسألة متممة لمبحث النسخ عند السلف :
يقع السؤال عن كيفية إدراك أن السلف أرادوا بلفظ النسخ غير النسخ الاصطلاحي ؟
والجواب أن يقال :
إن كان النص الذي ورد عليه لفظ النسخ خبرًا ، فاحمله على مطلق الرفع لجزء من معنى الآية ، ويمكن أن يصطلح عليه بالنسخ الجزئي .
ثم ابحث عن الأنسب له من تقسيمات المتأخرين ، فقد يكون تقييد مطلق ، وقد يكون بيان مجمل ، وقد يكون تخصيص عامٍّ ، وقد يكون استثناءً من مستثنى منه .
ولا يصح بحال أن يكون مرادهم بالنسخ هنا النسخ الكلي للمعنى ؛ لأن هذا النسخ الكلي لا يأتي إلا في الأحكام .
وإن كان النص الذي ورد عليه لفظ النسخ حُكمًا شرعيًا ، فإنه لا يُصار إلى الحكم بمراد الواحد منهم أنه أراد النسخ الكلي في اصطلاح المتأخرين إلا إذا دلت عبارته على ذلك ، أما إذا كانت عبارةً مطلقة فالأولى حملها على المناسب لها من تقسيمات المتأخرين من تقييد مطلق ، أو بيان مجمل ، أو تخصيص عامٍّ ، أو استثناءً من مستثنى منه .
أما إذا كان النص مما ثبت فيه النسخ بلا إشكال ، فالصحيح أن تُحمل عبارتهم على النسخ الاصطلاحي الكلي ، والله أعلم .
ومن حرَّر النسخ على هذا السبيل بان له أنَّ النسخ الاصطلاحي الكلي لم يكن كثيرًا عند السلف ، خلافًا لما توهمه بعض المعاصرين من كثرته عنهم ، وراح يردُّ أقوالهم ، ويخطِّئ أفهامهم .
والسبيل في التعامل مع أقوال السلف أن تبحث العلل والأسباب الموجبة لهم بهذا القول أو ذاك ، وعدم الردِّ لها إلا بعد أن تنفذ السبل في قبول رأيهم أو توجيهه ، ذلك أنَّ هؤلاء أعلم منا بكتاب الله ، وأتقى منا لله ، فلا يُشنَّع عليهم بسبب أقوالٍ لم نفهم نحن مرادهم بها ، ولا أدركنا فقههم فيها ، والاعتذار لهم في أقوالهم ، وتخريجها على المخرج الحسن هو السبيل الأمثل الأقوم ، والله الموفق .