مع الشيخ عبد الرحمن الشهري في التعليق على تفسير البيضاوي

يقول البيضاوي : " والمعنى يوم جزاء الدين ، وتخصيص اليوم بالإضافة : إما لتعظيمه ، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه "
من تعليق الشيخ : {مالك يوم الدين} ، الله خص يوم الدين بهذا الوصف . تخصيص اليوم بالإضافة ، إما لتعظيمه ، يعنى : تعظيم يوم الدين ، وأنه يوم عظيم ينبغي علينا أن نحسب له ألف حساب ، وهذا صحيح . أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه . والمعنيان صحيحان . عندما يذكر المفسر هنا علتين ، لا يعنى ذلك أنه ينبغي عليك أن تختار علة واحدة فقط ، وإنما هي كلها صحيحة . يوم عظيم كما قال الله تعالى في سورة المطففين : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)} ، فهو يوم عظيم لا شك . وأيضا لتفرده تعالى بالأمر فيه : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}[غافر:16] ، لا يملك أحد لنفسه شيئا في ذلك اليوم . فأيضا هذا تعليل صحيح .
 
تنبيه من الشيخ لا بد منه

تنبيه من الشيخ لا بد منه

يقول البيضاوي : " وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجداً للعالمين رباً لهم منعماً عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها ، مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب ، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه "
من تعليق الشيخ : هذا كلام صحيح . ونحن في حاجة - أيها الإخوة – إلى التمعن والتعمق دائما في هذه السورة العظيمة . وأنا أدرك ، أنه ربما التدقيق في مسائل اللغة والبلاغة والنحو وتوجيه القراءات قد تخرجك من جو الخشوع والتدبر والتأمل ، وهذا شيء لا بد منه ؛ لأنك حتى تمتلك آلة المفسر ، وتتمكن من فهم كلام المفسرين ، لا بد أن تدخل في هذه المداخل . لأن البعض أحيانا يقول : أشغلتمونا أنتم بكثرة الإعرابات ، وكثرة الاشتقاقات ، وكثرة الكتب . فنقول : لا عليك ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . نحن ، من يريد أن يسير بسيرنا على هذه الطريقة ، حتى يتدرب ويعرف كيف كتب هؤلاء العلماء هذه الكتب ، ومن أين أخذوا ، وكيف يناقشون قضايا التفسير وقضايا القرآن . لكن المجال أو الميدان الآخر ، ميدان التدبر والتفكر والدخول في إيمانيات هذه الآيات ، له باب آخر . نحن لا نُغفله ، لكنه باب آخر غير باب العلم ، وباب صناعة التفسير نفسها ، والتمرس بأدوات أصول التفسير ونحوها . وأنا أريد أن أفرق ، ولذلك من الخلل - وأنا أحدثكم عن تجربة - هناك أناس دخلوا في التفسير ، وهم لا يملكون الأدوات ، فجاءوا لنا بمصائب ، وقالوا على الله بغير علم ، وانتشرت مقولاتهم هنا وهناك ، وأصبح الناس بعدهم يسدُّون هذا الخلل ، وينبهون أن هذا لا يجوز ، وأن هذا لا يقبله أصول التفسير ، وهذا لا تقبله لغة القرآن . وإنما أوتي بتهاونه في هذه الأصول وفي هذه الأدوات التي هي : النحو والبلاغة والإعراب واللغة ؛ لغة الشعر أو لغة القرآن التي يُستشهد عليها بالشعر كما يفعل البيضاوي هنا .​
 
يقول البيضاوي : " فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له ، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلاً عن أن يعبد ، فيكون دليلاً على ما بعده ، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد ، وهو الإيجاد والتربية . والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد . والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما ، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين . "
من تعليق الشيخ : ثم أيضا يقول : " فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له ، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلاً عن أن يعبد ." الله يقول : {الحمد لله رب العالمين} ، كأن سائلا يسأل : لماذا سيتحق الله الحمد ؟ قال : هو ذكر مبررات ، لأنه يستحق الحمد وحده لا شريك له . قال : أولًا لأنه هو الخالق {رب العالمين} ، هو الرب ، ثم هو {الرحمن الرحيم} ؛ صاحب الرحمة العامة والرحمة الخاصة . ثم هو {مالك يوم الدين} ؛ هذه الصفة لا ينازعه فيها أحد . ولذلك - لاحظوا - عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم أو يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي : ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)) ، يقصد سورة الفاتحة ، ولذلك يستدل بها العلماء على أن سورة الفاتحة تسمى سورة الصلاة . ((فإذا قال العبد : {الحمد لله رب العالمين} ، قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي . وإذا قال : {مالك يوم الدين} ، قال : مجدني عبدي . )) فهذه كلها لله سبحانه وتعالى ، لا ينازعه فيها أحد . وكأنها كلها تعليل لاستيجابه للحمد . لماذا الحمد لله ، قال : لأنه رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين . فهذا هو مختصر كلام البيضاوي هنا ، عندما قال : " فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد ، وهو الإيجاد والتربية . والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد ." وهذه كلها أفعال الله سبحانه وتعالى تصدر منه اختيارا ، فليس لأحد عليه إيجاب . يعنى : أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه أن يرحمنا ، ولا يجب عليه أن يدخلنا الجنة ، فهو سبحانه وتعالى : { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء:23] . قال : " والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما ، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين . " وهنا قلنا سواء : {مالك يوم الدين} أو {ملك يوم الدين} ، فكلُّها دلالة على أنه سبحانه وتعالى لا ينازعه أحد في ملكه في ذلك اليوم ، كما أنه لا ينازعه أحد في الدنيا . ولكن لأن الناس في الدنيا يملكون مُلكية ناقصة – كما ترون – فقد يظن البعض أنه خارج عن ملك الله ، وليس كذلك ، فحتى مُلكيتك الخاصة هي تحت ملك الله سبحانه وتعالى ، ولكن يوم القيامة تتضح المسألة بصورة جلية ؛ لا أحد يملك لنفسه شيئا ، في ذلك اليوم اختص الله سبحانه وتعالى بالملك .
 
من وقفات الشيخ في الدرس السادس

من وقفات الشيخ في الدرس السادس

بالنسبة للاختيار في القراءات ، لا يجوز للمتأخرين أن يختاروا . ولعلكم ترجعون إلى أحد القراء المشهورين ، وهو أبو الحسن المقرئ ، المعروف بابن شنبوذ ، كان يذهب مذهبا غريبا في الاختيار ، خرج برأي قال : أنا أرى أن كل ما صح إعرابا ونحوا يصح القراءة به . فقام عليه أبو بكر بن مجاهد - صاحب كتاب السبعة في القراءات - حملة شعواء لتأديبه وإعادته إلى حضيرة المنهج الصحيح . لدرجة أنه وصل الأمر إلى استتابته .
يقول الخطيب البغدادي (ت:463 ه) في تاريخ بغداد : " واشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ ، يقرئ الناس ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف ، مما يروى عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وغيرهما مما كان يقرأ به قبل جمع المصحف الذي جمعه عثمان بن عفان . ويتبع الشواذ فيقرأ بها ويجادل حتى عظم أمره وفحش ، وأنكره الناس . فوجه السلطان فقبض عليه يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ، وحمل إلى دار الوزير محمد بن علي- يعني ابن مقلة- وأحضر القضاة والفقهاء والقراء وناظره - يعني الوزير- بحضرتهم ، فأقام على ما ذكر عنه ونصره ، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أن ينزل عنه ، أو يرجع عما يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف وتخالفه ، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس ، وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطره إلى الرجوع . فأمر بتجريده وإقامته بين الهنبازين وضربه بالدرة على قفاه ، فضرب نحو العشرة ضربا شديدا فلم يصبر ، واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة فَخُلِّيَ عنه ، وأعيدت عليه ثيابه واستتيب ، وكتب عليه كتاب بتوبته وأخذ فيه خطه بالتوبة ."
 
بين قوسين

بين قوسين

حذف الأحرف الستة ، وبقاء معنى الأحرف السبعة في القراءات القرآنية :
الأحرف السبعة هي الألسن السبعة ، وما قام به عثمان رضي الله عنه هو جمع المسلمين على حرف واحد . أما القراءات القرآنية الصحيحة الموافقة لصورة الرسم العثماني فهي من معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف)) .
يقول الطبري بتصرف : " فحمل[عثمان] رحمةُ الله عليه [المسلمين]... على حرف واحد وجمعهم على مصحف واحد ، وحرف واحد ، وخَرَّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه ، أن يخرقه . فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية ، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامُها العادلُ في تركها ، طاعةً منها له ، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها من سائر أهل ملتها ، حتى دَرَست من الأمة معرفتها ، وتعفت آثارها ، فلا سبيلَ لأحد اليوم إلى القراءة بها ، لدثورها وعُفُوِّ آثارها ، وتتابعِ المسلمين على رفض القراءة بها ، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها . فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيقُ الناصحُ ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية .
فإن قال بعضُ من ضعفت معرفته : وكيف جاز لهم تَركُ قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بقراءتها ؟
قيل : إن أمرَه إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ، وإنما كان أمرَ إباحة ورخصة . لأنّ القراءة بها لو كانت فرضًا عليهم ، لوجب أن يكونَ العلمُ بكل حرف من تلك الأحرف السبعة ، عند من تقوم بنقله الحجة ، ويقطع خبرهُ العذر ، ويزيل الشك من قَرَأةِ الأمة . وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين ، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجبُ بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة .
... وأما ما كانَ من اختلاف القراءة في رفع حرفٍ وجرِّه ونصبه ، وتسكين حرفٍ وتحريكه ، ونقل حرف إلى آخر مع اتّفاق الصورة ، فمن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف)) . "
 
من وقفات الشيخ في الدرس السادس (تابع)

من وقفات الشيخ في الدرس السادس (تابع)

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5]
يذكر البيضاوي هنا وجه الربط بين هذه الآية والآية التي قبلها . وهذا ما يسميه العلماء (التناسب بين الآيات) ؛ لماذا هذه الآية جاءت بعد هذه الآية ، ولماذا هذه الآية جاءت قبل هذه الآية ، لماذا هذه السورة جاءت بعد هذه السورة وقبل هذه السورة . وهذا يسمونه التناسب .
هناك اجماع على أن ترتيب الآيات في المصحف ترتيب توقيفي ؛ هو من النبي صلى الله عليه وسلم ، هو من جبريل . ولكن ترتيب السور : الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، وهكذا إلى الناس . هل هذا الترتيب من النبي صلى الله عليه وسلم ، أم هو ترتيب اجتهادي من الصحابة - رضوان الله عليهم - عندما جمعوا المصحف في عهد أبي بكر الصديق . هناك قولان للعلماء :
القول الأول : توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم .
القول الثاني : اجتهادي من الصحابة لما جمعوا القرآن .
ولا يجدون دليلا على أنه اجتهادي من الصحابة في عهد أبي بكر أو عهد عثمان إلا حديثا مرويا عن ابن عباس أنه قال : " قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما . ولم تكتبوا بينهما سطر : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتموها في السبع الطوال ، فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها ، فقُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبيِّن لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتها في السبع الطوال " أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم .
وهذا الحديث يستشهد به أصحاب القولين ؛ فالذين يقولون اجتهادي ، يقولون لو لم يكن اجتهادي ما سأل ابن عباس . والذين يقولون توقيفي قالوا جواب عثمان يدل على أنه لم يغير ولم يبدل ، وإنما هو فعل ما أُمر به .
والحقيقة أن الأدلة والقرائن تدل على أن الترتيب توقيفي ؛ لأن :
أولا : النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حزبه ، وربما كان يقرأ بالسور المتتالية على هذا الترتيب .
ثانيا : أن الشأن في القرآن الكريم معتمد على الرواية والتلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء في تلاوته أو في ترتيبه بل وحتى في بيان معانيه ؛ لأن بيان معانيه وضع النبي صلى الله عليه وسلم أصولا لفهمه ، وفهمها الصحابة منه ، وأيضا فسروا ما لم يفهمه من جاء بعدهم ، ثم نحن نلتزم بهذه الأصول . فلا يصح أن يأتي الآن واحد ويفسر القرآن الكريم باللغة العربية التي نتكلم بها اليوم ، والتي لم تكن معروفة في زمن نزول الوحي . فلا يجوز أن نفسر القرآن بغير أصوله وغير ضوابطه .
***************************************​
يقول ابن عاشور : " لَا شَكَّ فِي أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُمَا مِنْ أَكْبَرِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، تَوَخَّيَا مَا اسْتَطَاعَا تَرْتِيبَ قِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسُّوَرِ ، وَتَرْتِيبَ قِرَاءَةِ الْحُفَّاظِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَكْبَرِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ وَقَدْ لَازَمَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ بِالْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ يَقْرَؤُهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَسَخَ الْمَصَاحِفَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ . "
 
من وقفات الشيخ في الدرس السادس (تابع)

من وقفات الشيخ في الدرس السادس (تابع)

محاولة استخراج المناسبة بين الآيات تحتاج إلى اجتهاد ، وإلى إعمال ذهن ، وربما تصيب وربما تخطئ . فهي اجتهادية مائة بالمائة . ولا يستطيع أحد أن يأتي ويقول : لماذا يا شيخ فلان ذُكِرت هذه الآية قبل هذه الآية ؟ فتجيب أنت جوابا ترى أنه صحيح ، فيقول : خطأ . فهو المخطئ ؛ لأن هذه المسألة اجتهادية ، ولا يستطيع أحد أن يُلزم أحدا بمناسبة ، فيقول : إنما ذُكرت هذه الآية بعد هذه الآية لهذا السبب فقط . لا يمكن أن تجبر الناس على اجتهادك ، ولكن تقول : لعل السبب هو كذا وكذا . ومن تجاوز هذا الافتراض ودخل في الجزم بالمناسبات فقد وقع في الخطأ .
*********************
وهذا رابط في الموضوع كتبه الشيخ في الملتقى : http://vb.tafsir.net/tafsir884/#.VLO5qdLz27s
 
كتب مقترحة من الشيخ في الدرس السادس :
1 – القراءات القرآنية : تايخها . ثبوتها . حجيتها . وأحكامها . تأليف : عبد الحليم بن محمد الهادي قابة .
2 – مقدمات في علم القراءات ، للدكتور أحمد خالد شكري والدكتور أحمد محمد مفلح القضاة والدكتور محمد خالد منصور .
3 – الاختيار في القراءات ، للدكتور عبد الفتاح شلبي .
4 – نصيحة لأهل العلم بالعناية بديوان الحماسة لأبي تمام وحفظه ؛ لأنه يكاد المفسرون يحتجون بكل ما فيه من أشعار .
5 – المناسبات بين الآيات ، للدكتور عبد الحكيم الأنيس ، (بحث قيم ، منشور في مجلة الأحمدية ، دبي : كلية الدراسات الإسلامية) .
 
من التعاريف الجامعة لمعنى الحمد ما جاء في تفسير الهداية لمكي من قوله: الحمد معناه الثناء الكامل والشكر الشامل لله يكون لافعاله الحسنة وفضائله الكاملة.
 
نعم ، الحمد ثناء وشكر ، كما سبقت صياغة هذا التعريف : الحمد هو الثناء على المحمود بكمال صفاته والشكر الخالص على نعمه مع المحبة والتعظيم .
روى البخاري عن رفاعة بن رافع : « كنا يومًا نصلِّي وراءَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فلما رفَع رأسَه من الركعةِ ، قال : سمِع اللهُ لمَن حمِدَه . قال رجلٌ وراءَه : ربَّنا ولك الحمدُ ، حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه . فلما انصرَف ، قال : مَنِ المتكلِّمُ . قال : أنا ، قال : رأيتُ بِضعَةً وثلاثينَ مَلكًا يبتَدِرونها ، أيُّهم يكتبُها أولُ »
وروى مسلم عن أنس بن مالك : « إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا . أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا »
 
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
يقول البيضاوي : " ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود ، فكأن المعلوم صار عياناً والمعقول مشاهداً والغيبة حضوراً ، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً . "
من تعليق الشيخ : هذه الآية هي مفصلية في سورة الفاتحة ، فمعظم المفسرين يرون أن هذه الآية هي أهم آية في سورة الفاتحة . وأن عليها مدار السورة ومقصدها . وهي الإخلاص في العبادة لله سبحانه وتعالى في قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ولذلك جاء في الحديث الصحيح : «فهذه الآيةُ بيني وبين عبدي ولعبدي ما سألَ» . يقول البيضاوي : " ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك " كيف ؟ يقول الآن من أول هذه السورة إلى هذه الآية الحديث عن غائب ، كأن الله سبحانه وتعالى عندما وصف نفسه بهذه الصفات أصبح حاضرا لدى القارئ ؛ لأنه تميز بهذه الصفات العظيمة التي لا يشاركه فيها غيره . فانتقل من أسلوب الخطاب بالغائب إلى أسلوب الخطاب المباشر . فهو يقول هنا كأنه لما ميزه بهذه الصفات كأنه يخاطب حاضرا عنده ، فانتقل الخطاب . وهذه وسنتحدث عنها وهي من الأساليب المهمة جدا في القرآن الكريم وفي اللغة العربية ، وهو ما يسمى بأسلوب الالتفات .
ويقول البيضاوي : " أي : يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص " كيف ؟ الآن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليس معناها نعبدك ونستعينك . وإنما معناها نخصك بالعبادة ونخصك بالاستعانة . فإن قال قائل من أين جئت بــــ (نخصك) ، فنقول له هذه من دلالة الآية . تقديم المفعول به هو الذي أعطى هذا المعنى ، وهو معنى الاختصاص . والعرب تفهم هذا من الدلالة .
وهناك علة أخرى ذكرها البيضاوي قال : " وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود [هذه من تعبيرات البيضاوي رحمة الله عليه التي فيها شيء من التصوف . ولكن نحن نحملها على المحمل الحسن ، فنقول إنه يقصد بهذا التعبير في قوله لأنه وُصِف بهذه الصفات التي اختص بها] فكأن المعلوم صار عياناً والمعقول مشاهداً والغيبة حضوراً ، بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف [العارف المقصود به المتصوف] من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه " وهذا حال المؤمن الصادق ، وإن كان أحيانا في بعض الكتب وكتب التفسير إطلاق هذا الكلام على المتصوفة الذين يبالغون في التصوف البدعي . ولكن نحن نحملها على المؤمن الذي هذا حاله . فإن المؤمن مأمور بالتفكر والتأمل في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته تأملا وتدبرا يُفضي به إلى تعظيم الله سبحانه وتعالى والخوف منه والرجاء في رحمته سبحانه وتعالى . وهذا هو الثمرة التي نرجوها نحن جميعا من تدبرنا وتأملنا في آيات القرآن الكريم . قال : " ثم قفى [كأنه جاء بكل هذه الصفات : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، ثم انتقل إلى الخطاب المباشر : إياك نعبد وإياك نستعين ] بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عياناً ويناجيه شفاهاً " طبعا نحن نرد هذا المعنى ؛ لأن الصوفية المبالغين في التصوف البدعي يرون أن المتصوف يصل إلى درجة أنه يرى الله سبحانه وتعالى ، ويذوب في المعبود . وهذا الكلام لا قيمة له ، لا قيمة علمية ، ولا قيمة إيمانية . وإنما التصوف الحقيقي هو التأمل والتدبر في أسماء الله ، وما تفضي إليه من الخشوع والخضوع وإخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى . فإن التصوف الحقيقي هو في السنة وفي اتباع السنة ، وكما كان يتعبد السلف الصالح رضي الله عنهم وقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا جميعا .
 
يقول البيضاوي : " اللهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر . ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطاً للسامع ، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس ، كقوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم }[يونس:22] وقوله: { وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ }[فاطر:9] وقول امرئ القيس :
تطاول ليلك بالإثمد ..................ونام الخلي ولم يرقـــد
وبات وباتت له ليلة .................كليلة ذي العائر الإرمد
وذلك من نبأ جاءني ...................وخبرته عن أبي الأسود
من تعليق الشيخ : هنا يتحدث عن مسألة أخرى ، وهي الالتفات الموجود في : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5] . بعد أن كان أسلوب الفاتحة يتحدث عن الغائب ، أصبح يتحدث الآن عن المخاطب ، ولم يقل : إياه نعبد وإياه نستعين ، بل غير الأسلوب . هذا الأسلوب من أجمل الأساليب العربية ، وهو ما يسميه البلاغيون الالتفات . كأن المتكلم كان يتكلم في جهة ثم غير فأصبح يتكلم في جهة أخرى . فتنويع الخطاب بالانتقال من جهة إلى أخرى يسمى التفاتا . وهذا الأسلوب موجود في القرآن بكثرة . وذكر له البيضاوي مثالا هنا قال : " ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطاً للسامع ، فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس ..." والالتفات فيه تنويع للخطاب ، الهدف منه تنشيط للسامع وتلوين الخطاب . وهذا أسلوب القرآن الكريم ، وهو أسلوب من الأساليب البلاغية التي تعود عليها العرب .

كتاب مقترح من الشيخ في موضوع الالتفات :
أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية ، للدكتور حسن طبل .
 
يقول البيضاوي : " إيا ضمير منصوب من فصل ، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنتَ والكاف في أرأيتك . وقال الخليل : إيا مضاف إليها ، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وهو شاذ لا يعتمد عليه . وقيل : هي الضمائر ، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به ، وقيل : الضمير هو المجموع . وقرئ : { أَيَّاكَ } بفتح الهمزة و «هياك» بقلبها هاء . "
من تعليق الشيخ : تلاحظون البيضاوي هنا كيف يفسر . قال : يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة . فكأنه راعى في تفسيره الأسلوب البلاغي . وتذكرون أننا ذكرنا أن من شروط المفسر أن يكون عارفا بعلوم العربية . فيعرف دلالات اللغة ، ويعرف دلالات البلاغة ، والأساليب ، وكيف تتكلم العرب . وهذا لا يتأتى إلا بالممارسة والتجربة والقراءة العميقة والطويلة والمتوسعة في كلام العرب . بمعنى أنه لا بد للمفسر الذي يتصدى للتفسير أن يكون على علم بلغة العرب وأساليبها في كلامها . ولذلك كل المفسرين علماء باللغة . ومن لم يكن كذلك فهو دخيل على التفسير . وتقع منه أخطاء شنيعة ؛ لأن العلم باللغة العربية من أهم وسائل المفسر . كما هو البيضاوي هنا .

يتبع ...
 
المكانة العظيمة التي اكتسبتها الفاتحة تدفعنا للوقوف مع كل الدلالات الموجودة . وهذا الذي صنعه المفسرون إذ يطيلون في تفسيرها . فالمفسرون لا يكتفون بالمعاني المباشرة ، وإنما يتوقفون مع الأساليب والدلالات . والبيضاوي هنا يذكر فوق ذلك : أنه يُعرب ، ويتعرض للإعراب ، ويتعرض للاشتقاق أحيانا ، ويستشهد على كل ذلك باللغة . وإن كان ليس هناك أسلوب منهجي مضطرد في استشهاد المفسرين على غريب القرآن الكريم . البيضاوي عندما جاء إلى أسلوب الالتفات استشهد له ببيت من أبيات امرئ القيس ، واستشهد بآيات من القرآن الكريم نفسه . وامرئ القيس يُحتج به في اللغة ويحتج به في المعاني . ولو احتج البيضاوي هنا بأبيات المتنبي على أسلوب الالتفات لكان صحيحا ؛ لأن المتنبي يُحتج به في المعاني ، يعني في الأسلوب : الانتقال من الغيبة إلى الخطاب أو المبالغة أو التفنن في اللغة . لكن الاحتجاج في اللغة والدلالة لا يكون إلا للشعراء الذين يُحتج بشعرهم .

يتبع ...
 
يقول البيضاوي : " إيا ضمير منصوب من فصل ، وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب ، كالتاء في أنتَ والكاف في أرأيتك . وقال الخليل : إيا مضاف إليها ، واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ، وهو شاذ لا يعتمد عليه . وقيل : هي الضمائر ، وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردة فضم إليها إيا لتستقل به ، وقيل : الضمير هو المجموع . وقرئ : { أِيَّاكَ } بفتح الهمزة و «هياك» بقلبها هاء . "
خلاصة التعليق : البيضاوي يتناول إعراب { إِيَّاكَ } ويشير إلى أقوال النحويين فيها ، وهي مسائل لا تؤثر في المعنى .كما أشار إلى القراءة الشاذة في { أَيَّاكَ } بالفتح وفي «هياك» بالهاء .
 
يقول البيضاوي : والعبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبَّد أي مذلل، وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة، ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى.
من تعليق الشيخ : (نحن نقرأ كلام البيضاوي ونشرح ونعلق عليه) .
لاحظوا أن البيضاوي ذكر العبادة وفسرها وهي لم تمر علينا من قبل . كان الأولى أن يفسر العبادة ويستشهد عليها بالشواهد الشعرية .
البيضاوي اختصر في الكلام عن العبادة . في الحقيقة ، الكلام الذي ذكره هو زبدة الكلام . العبادة هي التذلل والخضوع . وكل دلالاتها في اللغة العربية تدل على هذا المعنى . والمفسرون في العادة مثل الإمام الطبري ، ومثل الرازي وغيرهم يستشهدون على ذلك بشواهد من الشعر . أذكر منها على سبيل المثال قول طرفة بن العبد البكري في معلقته :
لِخَولةَ أطْلال بِبُرقةِ ثَمْهَدِ ، ........... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
يقول :
ومازال تَشرابي الخمور ولذتي ............وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها .................وأُفْرِدْتُ إفرادَ البعير المعبد
المعبد ، يعني المطرود والذليل ، فسمي البعير المذلل ؛ لأنه يذلل بكثرة الحمل عليه ، فأصبح ذلولا .
يقول تعالى : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ...}[البقرة:71]
وأيضا يقال للطريق الموطوء ، الذي يكثر مشي الناس عليه ، طريق معبد .
قوله تعالى : {إياك نعبد} العبادة هي أقصى غايات الذلة والخضوع ، ولذلك لا تُستخدَم إلا في حق الله سبحانه وتعالى . وشرف للمؤمن أن يكون عبدا لله تعالى . وقد وصف الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في القرآن الكريم ، ووصفه بالنبوة ، ووصفه بالرسالة . فوصفه بالعبودية في أشرف مواضعه ، مثل قوله سبحانه وتعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا } [الكهف:1] . وصفه بالعبودية في وقت نزول الوحي عليه . وهذا من أشرف مواقف النبي صلى الله عليه وسلم ، الوقت الذي ينزل جبريل عليه بالوحي .
ووصفه أيضا بالعبودية في ليلة الإسراء والمعراج ، قال تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ...}[الإسراء:1] . ولم يقل : سبحان الذي أسرى بنبيه ، ولم يقل : سبحان الذي أسرى برسوله . وإنما قال : {سبحان الذي أسرى بعبده} ، تشريفا له عليه الصلاة والسلام ، من كمال عبوديته لله سبحانه وتعالى . وأيضا وصفه الله بالعبودية في مقام قيامه بالدعوة ، كما في سورة الجن : {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن:19] .
ونحن كذلك عندما نقول : {إياك نعبد} ، فنحن نقول هذا على سبيل التشرف والتعظيم لله سبحانه وتعالى بهذه العبودية . ونسأل الله وإياكم كمال العبودية له سبحانه وتعالى . فالإنسان إذا لم يكن عبدا لله فسيكون عبدا لهواه . يقول تعالى : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43] .فالله قدم هذه الصفات التي تبرر استحقاقه للعبودية . فقدم بأنه الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين . وهذه الصفات العظيمة ليست لكل أحد وإنما اختص الله بها . وهذا الذي اختص بهذه الصفات العظيمة هو الذي يستحق العبادة .
 
تحدث البيضاوي عن العبادة ، وتكلم عنها بشكل مقتضب ، مع أن كلمة (العبادة) من أكثر الكلمات التي تكررت في القرآن الكريم . ومن المناسب دائما في دراستنا للتفسير أو لغريب القرآن أن نأتي إلى العبارات . وقد صنفت كتابا لكن لم أنته منه ، جمعت فيه العبارات التي يكثر دورانها في القرآن الكريم في غريب القرآن ، وشرحت معانيها . بمعنى أنك إذا أتقنت هذه العبارات والمفردات الغريبة ، خلاص أتقنت 98 % من لغة القرآن الكريم . ولذلك أن ابن قتيبة بدأ في كتابه بمقدمة شرح فيها أسماء الله الحسنى التي تتكرر كثيرا ، وذلك لكي لا يكررها في كل موضع .
فلفظة العبودية موجودة بكثرة في القرآن الكريم ومعناها واحد . وهذا من ثراء اللغة العربية عندما تعرف أن معنى عبد تذلل وخضع ، خلاص ، فدلالتها تدور مع ألفاظها مهما وردت في أي أسلوب .
وهذا رائع جدا ، يُتقِنها الطالب حتى يوفر على نفسه حيث يأخذ دلالتها الرئيسية . وهذا ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة أتقن هذا المعنى ؛ فهو يأتي إلى اللفظة العربية ، ويجمع كل مشتقاتها ، ويحاول أن يجمع الخيط الذي يدل على كل هذه المشتقات . فيقول : هذه اللفظة أصل واحد في اللغة العربية . مثل جن مثلا ، الْجِيمُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ السَّتْرُ وَ التَّسَتُّرُ . وأحيانا يحاول أن يجمعها في أصل واحد فما تأتي ، فيجد أنها أصلان . أصل يدل على معنى وله عدة مفردات ، وأصل آخر يدل على معنى مختلف وله مفردة واحدة أو عدة مفردات . وأكثر ما وجدت عند ابن فارس في المقاييس أن يقول : خمسة أصول ، ولم أره زاد على ذلك . فهذه مفيدة لطالب العلم ، عندما يدرس غريب القرآن ويدرس دلالات الألفاظ في التفسير .
 
بسم1
شكرا على الافادة التي اشفعها بزيادة بعد اذنكم وهي:
انه من المفسرين اللذين لحظوا هذا الملحظ وبنوا تفسيرهم على هذا النظر والماخذ، الامام ابن جزي الغرناطي في مقدمة التسهيل في المقدمة الثانية في تفسير معاني اللغات، ذكر في هذه المقدمة الكلمات التي يكثر دورها في القرآن، أو تقع فيه في موضعين فأكثر، من الأسماء والأفعال والحروف، وبين ثلاثة فوائد لجمعها:
اولا: تيسيرها للحفظ، فإنها وقعت في القرآن متفرقة فجمعها أسهل لحفظها.
ثانيا: ليكون هذا الباب كالأصول الجامعة لمعاني التفسير كما أن تواليف القرآت جمعت فيها الأصول المطردة والكثيرة الدور.
الثالث: الاختصار فتستغني بذكرها هنا عن ذكرها في مواضعها من القرآن خوف التطويل بتكرارها.
ورتبها على حروف المعجم،معتبرا فاء الكلمة الاصلي دون الحروف الزوائد في اول الكلمات.
وكذلك الامام ابن عطية في اول ورود الكلمة في تفسره يذكر اشتقاقها واستعمالتها والاصل اللذي ترجع اليه، كما في تفسيره لمفردات: الرب والملك والهداية والاحصان وغيرها.
 
يقول البيضاوي : " والاستعانة: طلب المعونة وهي: إما ضرورية، أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل. وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات "
من تعليق الشيخ : والاستعانة : الألف والسين والتاء في اللغة العربية تأتي بعد الفعل فتدل على الطلب . نستعينك : نطلب المعونة . ثم فصل ، فقال : هذه الاستعانة قسمان : إما ضرورية وإما غير ضرورية . والضرورية : ما لا يتأتى الفعل دونه . أي لا يمكنك أن يحصل الفعل إلا بهذه الاستعانة، قال : كاقتدار الفعل على الفاعل . هذه استعانة ضرورية . مثلا : عندما تريد أن تكتب فأنت تستعين بالقلم . فهل يمكن أن تكتب بغير القلم ؟ على افتراض أنه لا يوجد إلا هذا القلم للكتابة . فاستعانتك بالقلم ضرورية . قال : وحصول آلة ، تكتب بها ، فتعتبر ضرورية . والاستعانة على تصور الفعل الذي تريد أن تفعله . كَمَنْ كلفك بفعل أنت لم تتصوره ، فتحتاج أن تستعين بمن كلفك لكي يصور لك هذا الأمر تصويرا صحيحا . فهذه استعانة ضرورية لا بد منها . قال : ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل . فهذا كلام فيه نوع من الفلسفة في قضية أن الاستعانة نوعان : ضرورية وغير ضرورية . أما الضرورية فهي ما يتوقف الفعل عليها وعلى حصولها . هذه ضرورية . والاستعانة الأخرى قال : وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل . يعني : الفعل يمكن أن يحصل بغيرها ، مثلا : تريد أن تذهب الآن إلى آخر هذا الشارع . تستطيع أن تمشي على قدميك ، ولكنك لو وجدت سيارة تحملك لكان هذا أيسر . فالاستعانة بالسيارة هنا نقول غير ضرورية ؛ لأن الفعل يمكن بدونها . لكنه يكمل ويتيسر بها .
يقول : كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف . طبعا هذه مسألة فيها نوع من الفلسفة والجانب العقدي ، لكن ليس له أثر في فهم المعنى هنا . لكن معناها : هناك من يرى أنه يجوز أن يُكلف المكلف بما لا يستطيع ، التكليف بما لا يُطاق . هل يصح أن يُكلف المكلف بما لا يطاق ؟ الله سبحانه وتعالى قد نفى ذلك ، وقال : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286] . ولذلك تستغرب أحيانا من بحث مثل هذه المسألة . وهو يريد أن يقول : إن الاستعانة الضرورية ما لا يتم الفعل إلا به . ولا يمكن أن يُكلف الفاعل إلا إذا مُكِّن منها . أما الاستعانة غير الضرورية ما يمكنه أن يؤدي الفعل والعبادة بغيرها ، فهذه لا يتوقف عليها صحة التكليف . وهي مسألة فلسفية لا تؤثر في دلالة الآية معنا هنا ، في قولنا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإن الاستعانة المقصود بها : العون من الله سبحانه وتعالى لنا على عبادته . فنحن نستعين بالله سبحانه وتعالى في كل شؤوننا . وندعو الله سبحانه وتعالى أن يُعيننا دائما . ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بذلك ، وكان يقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . فإن حتى العبادة والشكر لله سبحانه وتعالى إذا لم يُعنك الله عليها فإنك لا تستطيع أن تؤديه . وقال الشاعر قديما :
إذا لم يكن عون من الله للفتى ............... فأول ما يجني عليه اجتهاده
لأنه قد حُرم التوفيق . ولهذا لا بُد لك واحد منا أن يستحضر هذا المعنى ، ويسأل الله التوفيق والعون والسداد في كل ما يأتي وما يدر ؛ لأن الله هو الموفق والمعين الذي يهدي ويسدد ويوفق وييسر ويسهل الأمور ، حتى الفهم ، فهم المسائل والقدرة على إيصال المسألة . وقد يتيسر أحيانا بعض الفهم وأحيانا يستغلق الفهم ، فلا يكاد يفهم الإنسان ، فإذا راجع وسأل ودعا فتح الله عليه ، فنسأل الله أن يفتح علينا وعليكم وأن يُعيننا وإياكم على شكره وعلى ذكره وحسن عبادته .
 
يقول البيضاوي : " والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات، والضمير المستكن في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة، وحاضري صلاة الجماعة. أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما (معناه نعبدك ولا نعبد غيرك) "
من تعليق الشيخ : خلاصة قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} طلب المعونة في كل المهمات التي يفعلها الإنسان من العبادات ومن العادات ، ومن أمور الدنيا والدين . فنحن لا نستطيع أن نقوم بأي عمل إلا بعونه سبحانه وتعالى كما تقدم . ثم قال : والضمير المستكنُّ في الفعلين : نعبد ونستعين . الضمير الذي هو ضمير المتكلم ، نحن ، نستعين نحن ، ونعبد نحن . من هم ؟ قال للقارئ ومن معه . وإذا كان وحده ، قال : ومن معه من الحفظة . يعني من الملائكة . قال : وإن كان في صلاة ، قال : فحاضري صلاة الجماعة ، إن كان يقرأها الإمام ووراءه الناس . أو له ولسائر الموحدين . طبعا اجتهادات عند المفسرين . قال : أدرج عبادته . هنا يتكلم عن الحكمة من قوله : {إياك نعبد وإياك نستعين} وجاء التعبير هنا بصيغة الجمع . لماذا ؟ لأن كل واحد منا عندما يقرأ ، يقول : يارب أنا أعبدك من سائر الذين يعبدونك . أنا أسألك ومعي الجماعة يسألونك . أنا أعبدك ومعي جماعة يعبدونك . وأستعين بك ومعي جماعة يستعينون بك . وهذا توجيه لطيف جدا ذكره البيضاوي قال : أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم ، وخلط حاجته بحاجتهم ، لعلها تُقبل ببركتها ويجاب إليها . ولهذا شُرعت الجماعة ، لعل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل صلاته بِقَبول هؤلاء جميعا ، ويغفر للمسيء إكراما له ؛ لأنه جاء مع المحسنين . ولله المثل الأعلى ، فهذا يصْدُق حتى في البشر ؛ فإنه قد يأتي الرجل الذي لا يستحق العطية ، فيدخل مع أناس يستحقون العطية فيُعطى . وفي الحديث النبوي : فتقول الملائكة : " أيْ ربِّ فيهم عبدُك الخطَّاءُ ليس منهم إنَّما مرَّ بهم فجلس إليهم ، فيقول : وفلان قد غفرت له ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " فالله سبحانه وتعالى في هذا التعبير في قوله : {إياك نعبد وإياك نستعين} جاء التعبير بصيغة الجمع لعل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من القارئ ومن الداعي ببركة دخوله في جماعة المسلمين وجماعة الموحدين . قال هنا : وقُدِّم المفعول للتعظيم . لاحظوا البيضاوي فرق الكلام ، لو جمع الكلام الذي يدل على الدلالة البلاغية في مكان واحد ، لكنه ينقل من الرازي وينقل من الكشاف وينقل من أكثر من موضع ، ولذلك يكرر الكلام.
قال هنا : وقدم المفعول للتعظيم ، وهذا الباب : التقديم والتأخير ، أنصحكم يا شباب بالتفقه فيه . فهو من أهم أبواب البلاغة العربية . وهناك كتاب رائع جدا : بلاغة التقديم والتأخير لعبد القاهر الجرجاني في كتابه : أسرار البلاغة . وهناك كتاب قيم جدا : دلالة التقديم والتأخير في القرآن الكريم للدكتور منير المسيري .
وعندما نتحدث عن البلاغة والبيان وفَهْمنا هنا وكلام المفسرين عنها ، نحن في الحقيقة نفصل ما كان لا يحتاج إلى تفصيل عند الصحابة رضي الله عنهم . ولذلك فالتفسير الذي أُثِر عن السلف كان تفسيرا مختصرا موجزا لا يتجاوز كلمة كلمتين . لكن لما تأخر الزمان أصبح الكلام يطول ويُشقق كما تلاحظون في كلام البيضاوي .
قال : وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما (معناه نعبدك ولا نعبد غيرك) . لاحظوا هنا ، لو كان البيضاوي قدم تفسير ابن عباس هذا الذي جعله في آخر الكلام . كلام ابن عباس يجمع بين أمرين ، الأمر الأول : الاختصار ، والأمر الثاني : الفصاحة ، وهو يجمع كل الكلام الذي تقدم : نعبدك ولا نعبد غيرك .
ثم يقول هنا البيضاوي : قُدم المفعول به للتعظيم والاهتمام به . في الحقيقة هذا الكلام غير دقيق من البيضاوي ، والصحيح هو الذي ذكره الجرجاني ، أننا نقول قدمه للاهتمام . ثم نأتي لنبحث عن نوع هذا الاهتمام : فنقول قد يأتي الاهتمام به تعظيما لشأنه ، وقد يأتي الاهتمام به للتقدم في المكانة ، أو الإكرام أو المجاملة ، أو أي نوع من أنواع الاهتمام . ففي الحقيقة التعظيم هو فرع من الاهتمام وليس العكس . فالصحيح للاهتمام به من باب التعظيم .
يتبع ...
 
يقول البيضاوي : " وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق "
من تعليق الشيخ : ثم قال : وتقديم ما هو مقدم في الوجود . يعني {إياك نعبد} ، تقديم ما هو مقدم في الوجود ، يعني تقديم العبادة ، كيف ؟ يقول : نحن الآن نعبدك استعانةً بك على قضاء حوائجنا . فنحن نقدم العبادة في الواقع ، ونطلب في هذه العبادة العون من الله سبحانه وتعالى . فنقدم ما هو موجود في الواقع الذي هو العبادة التي نفعلها ، على الشيء الذي نطلبه وهو لم يأت بعد.
قال : ... والتنبيه على أن العابد الذي يعبد الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات . هذه مسألة من مسائل البيضاوي الذي يريد أن يدقق فيها . يعني أنه ينبغي على العابد الذي يعبد الله سبحانه وتعالى وعلى المؤمن أن يكون نظره إلى المعبود سبحانه وتعالى لا إلى العبادة . فإنه مهما عبَدت َ الله سبحانه وتعالى فأنت مقصر . ولكن يكفيك شرفاً أن الله سبحانه وتعالى منحك الفرصة لعبادته ، ومنحك الفرصة لذكره ؛ لأنه كما تلاحظون – أيها الإخوة – انظروا إلى الملحدين وإلى الكفار في العالم الآن ، كم عددهم ؟ كم عددنا مقارنة بهم ؟ لا نكاد نذكر . أليس كذلك ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " . فمسألة الكثرة والقلة ، نحن دائما في الجانب الأضعف فيها ، من عهد آدم إلى اليوم . { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103] . ولذلك ينبغي أن يكون نظرك متجها إلى فضل الله ورحمته سبحانه وتعالى ، الذي مكنك من عبادته ، وأتاح لك الفرصة . هذا هو معنى كلام البيضاوي هنا .

يتبع ...
 
من تعليق الشيخ : قال : وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق سبحانه وتعالى ، فإن العارف ( وأنا أكرر بالمقصود بالعارف هنا ، هو يقصد به المتصوف . ولكن نحن نقول : المقصود بالعارف هنا هو المؤمن الصادق الذي عرف حقيقة المقصود بهذه الآيات فاستجاب لأمر الله فيها) . قال : فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها (ثم ذكر لطيفة تعتبر من لطائفه عندما قال) : ولذلك فضل ما حكى الله عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ، حين قال : {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:40] . فضلت على ما حكاه الله عن كليمه ، يعنى عن موسى عليه الصلاة والسلام حين قال : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] . كيف ؟ يعني يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال له أبو بكر في الغار وخاف {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ولم يقل له : إن الله معي . بينما موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال له قومه : {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}[الشعراء:61] . {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:62] . فموسى قال لقومه وهم جماعة كثيرون : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} ولم يقل : إن معنا ربنا . ومحمد صلى الله عليه وسلم كان هو وأبو بكر فقط ، وبالرغم من ذلك قال : { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . فالعلماء يقولون : إن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم أفضل في الدلالة من قول موسى عليه الصلاة والسلام . طبعا هذه من باب الاستنباطات اللطيفة في القرآن الكريم . وإلا فموسى عليه الصلاة والسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام كلاهما من أولي العزم من الرسل . نحن لا ينبغي لنا أن نفضل بينهم في مثل هذا ، إلا نتبع في ذلك الوحي . النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع بعض الصحابة يفضلونه على يونس قال : " لا تفضلوني على يونس بن متى " وفي نفس الوقت ، الله سبحانه وتعالى يقول في سورة البقرة : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ}[البقرة:253] . فالذي له حق التفضيل هو الله سبحانه وتعالى .

يتبع ...
 
المفسر يعتمد على السياق القرآني لاستخراج المعنى . ولا شك ، أن السياق من أقوى الأدلة التي يستدل بها الذي يحلل الخطاب . وبالمناسبة كلام الفقهاء والمحدثين والمفسرين كله تحليل للخطاب .
تسمعون كثيرا في هذه الأيام تداول (تحليل الخطاب) والدراسات الكثيرة في ذلك . في الحقيقة كلامنا في التفسير هو لب تحليل الخطاب . ولا يوجد أحد ينافس المفسرين وشراح الحديث والفقهاء في تحليل الخطاب .
العلماء في كتب الفقه ماذا يفعلون ؟ يأتون إلى القرآن والسنة ، ويستنبطون منهما الأحكام . وهذه مسألة حساسة جدا . لماذا ؟ لأنه كما قال ابن قتيبة رحمه الله ؛ نحن عندما نشرح الشعر لا نحرم حراما ، ولا نحل حلالا . نتكلم في الشعر ، في كلام امرئ القيس وفي كلام النابغة الذبياني ، إن أصبنا أهلا وسهلا ، وإن أخطأنا فالأمر فيه سعة . ولكن عندما نتكلم في معاني القرآن الكريم ومعاني السنة النبوية ، المسألة خطيرة ، فإنك تتكلم وتقول : الله أراد هذا المعنى .
 
يقول البيضاوي : " {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا اهْدِنَا. أو إفراد لما هو المقصود الأعظم."
من تعليق الشيخ : البيضاوي هنا يتحدث عن قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ } وكلامه هذا كله يتكلم عن {اهْدِنَا} فقط . تلاحظون منهجية البيضاوي في تفسير الآيات ، أول ما تحدث ، تحدث عن مناسبة الآية لما قبلها . وهذه الطريقة يكاد يلتزم بها فيما مضى معنا . عندما يبدأ بالآية يذكر علاقة الآية بالآية التي قبلها . سبق أن تحدثنا في الحلقة الماضية عن هذا العلم ؛ وهو علم المناسبات . ولذلك ذكر الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن) في أول فن من فنون علوم القرآن والذي ذكره هو عن أسباب النزول . وقال : اختلف العلماء هل يبدأ المفسر عندما يفسر آية عن الحديث بأسباب النزول أو المناسبة لما قبله ؛ مناسبة الآية لما قبلها . فقال إن هناك بعض العلماء قالوا يأتي المفسر فيذكر سبب النزول ، وهذا هو المفترض ، ثم يذكر بعد ذلك مناسبة الآية لما قبلها . وقول آخر بالعكس قالوا نبدأ بمناسبة الآية ثم سبب النزول . وقال الزركشي ثم هناك قول ثالث وهو : إذا كان يتوقف فهم الآية على ذكر سبب النزول ، فيبدأ بسبب النزول . وإلا يقدم ذكر مناسبة الآية لما قبلها . والبيضاوي هنا يقدم مناسبة الآية . فيقول هنا : " {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا { اهْدِنَا }. أو إفراد لما هو المقصود الأعظم." فذكر هنا وجهين للمناسبة . الوجه الأول : أن يكون قوله : {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} بيان لنوع المعونة ؛ لأنهم قالوا في الآية التي قبلها : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فكأن قائلا قال : تستعينونه على ماذا ؟ قالوا : على الهداية : {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} . وهذا وجه قوي من أوجه المناسبة . الوجه الثاني : قال : كأن الكلام هنا انقطاع عما قبله ، وليس بيانا للمعونة . وإنما هو ابتداء بسؤال أعظم ما يسأله المؤمن وهو الهداية . فكأنه قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منفصلة عن قوله : {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} . فكأن هذا ابتداء بطلب الهداية من الله سبحانه وتعالى . سبق أن ذكرت لكم ما قاله العلامة محمد عبد الله دراز رحمة الله عليه في حديثه عن هذه السورة ، وهي تفسير سورة الفاتحة في أحد أبحاثه قال : ما أشبه سورة الفاتحة إلا بالاستدعاء بين يدي القرآن الكريم . فكأن المؤمن عندما يسأل الله سبحانه وتعالى الهداية يأتي القرآن الكريم كله ، من البقرة إلى آخر القرآن استجابة لهذه الدعوة . قال : ولو فقدت ، لو جاء أحد وأزال سورة الفاتحة من المصحف لالتبس على الناس سبب نزول هذا القرآن . كأن قائلا يقول : لماذا نزل هذا القرآن ؟ استجابة لماذا؟ لأن هذا موجود في هذه الآية : {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} . فكأن البشر سألوا الله سبحانه وتعالى الهداية فجاءت الاستجابة بنزول القرآن كله ؛ لذلك في أول سورة البقرة : {الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)}[البقرة:1-2] . كأنه استجابة لهذا السؤال وهذا الاستدعاء في قوله : {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
قال : " أو إفراد لما هو المقصود الأعظم " أي إفراد بطلب المقصود الأعظم ، وهو الهداية ؛ فإنها أعظم ما يطلبه المؤمن ، نسأل الله سبحانه وتعالى الهداية .

يتبع ...
 
من تعليق الشيخ :
ثم قال البيضاوي : " والهداية دلالة بلطف ولذلك تُستعمل في الخير " الهداية في اللغة : هي الدلالة بلطف . ويقول ابن فارس - رحمه الله – في مقاييس اللغة : الفعل الثلاثي (هدى) أصلان : الأصل الأول : تقدُّمٌ للإرشاد – وهو المقصود معنا هنا – والمقصود الثاني : هو بَعْثَةٌ للتَّلَطُّف ، وهي الهدية ، الهدية يختلف قياسها عن الهداية . ولذلك قالوا في الهدية بمعنى العطية : أهدى . وفي الهداية بمعنى الدلالة : هدى . يقال : هداه الطريق ، وأهداه المال مثلا .
هنا يقول : والهداية دلالة بلطف ولذلك تُستعمل في الخير ، بمعنى : أن الدلالة بلطف وبِيُسر ، هو المعنى اللغوي للدلالة. وهذا المعنى موجود في كتاب المفردات للراغب الأصفهاني . ونحن ذكرنا أن البيضاوي في كتابه هذا يعتمد على ثلاثة كتب بدرجة رئيسية . الكتاب الأول هو كتاب الراغب الأصفهاني اللغوي (مفردات القرآن الكريم) ، والثاني هو تفسير الرازي (التفسير الكبير) والثالث هو (تفسير الكشاف) للزمخشري . قال : " ولذلك تُستعمل في الخير " يعني أن الهداية لا تُستعمل إلا في الخير ، فيقال : هداه إلى الحق ، وهداه إلى النور ، وهداه إلى الطريق ، وهداه إلى المسجد ، ونحو ذلك . ولكن وجدناه في القرآن ، ووجدناه أيضا في لغة العرب استخدام للهداية في الضلال ، فيقال : {فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات:23] . قال : هذا على سبيل التهكم . كما في قوله تعالى : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87] . قالوا : هذا من باب السخرية والاستهزاء به . وقس على ذلك . وهذا أسلوب عند العرب ، أن يُتهكم بعكس ، يراد بالتعبير عكس ما بظاهره ، والسياق هو الذي يحدد المقصود . هنا فقوله : {فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ} هو المقصود به التهكم . كما أنهم كما يقول العلماء في البشارة ، البشارة لا تكون إلا بالخير . تبشره بالنجاح ، تبشره بالجنة ، تُبشره بالولد ، تبشره بقُدوم غائب . ولكن إذا استُخدمت في غير الخير ، في غير ما يُسر به الإنسان فالمقصود بها التهكم والسخرية . كأن يُقال للطالب إذا رسب : نُبشرك بأنك رسبت . فهذا من باب الاستهزاء والتهكم به ؛ لأنه قد قصَّر في وقت الطلب ، وهكذا . قال : " ومنه الهداية " الهداية بمعنى الدلالة بلطف : الهداية . قال : من هدى . قال : " وهوادي الوحش لمقدماتها : العرب تسمي أوال السرب من بقر الوحش ، تسميها : هوادي الوحش . التي تأتي في المقدمة . كما يُسمونها أيضا : المِسْحل . يقال للذي يتقدم سرب بقر الوحش : المسحل أو الهادي ، وإذا كانت أكثر من واحد قالوا : هوادي الوحش ؛ لأنها تأتي في المقدمة .

يتبع ...
 
بسم1
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد؛
شكرا لكم دكتور عبد الكريم عزيز على ماكتبتم، لقد قرأت تعليقكم وأعجبت به، غير أن لي سؤال عن الهداية، بما أنكم خبرتم المفهوم وهو مصطلح قرآني، له دلالة الاستعمال القرآني في كلام الله، ولا يكاد يتخلص من هذا إذا استعمل في كلام البشر، وعليه أتساءل لماذا سمى مكي بن أبي طالب القيسي تفسيره بالهداية؟ أهو مستمد من قوله تعالى '' اهدنا الصراط المستقيم '' الفاتحة. أم كان يعي بدلالة المفهوم في كلام البشر؟ أم مالحاجة إلى ذلك؟
 
الفاضل عبد الرحيم الإسماعيلي حفظه الله
في هذه السلسلة ، مازلت مع تفريغ دروس الشيخ عبد الرحمن الشهري . وكما ورد في تعليقه على تفسير البيضاوي ، أن الهداية في لغة العرب لها أصلان . الأول : تقدم للإرشاد ، والثاني : بَعثَةٌ للتلطف ، وهي الهدية .
والهداية بمعنى دلالة بلطف تستعمل في الخير ، وهو ما نجده عند مكي بن أبي طالب ، حيث يقول صراحة عن كتابه في التفسير : " جعلته : هداية إلى بلوغ النهاية في كشف علم ما بلغ إلي من علم كتاب الله تعالى ذكره مما وقفت على فهمه ووصل إلي علمه من ألفاظ العلماء ، ومذاكرات الفقهاء ومجالس القراء ، ورواية الثقات من أهل النقل والروايات ، ومباحثات أهل النظر والدراية . "
أي أن كتابه هذا دلالة للقارئ وإرشاد له إلى بلوغ نهايةِ ما وصله من علم كتاب الله تعالى . ويوضح لنا قصده ببلوغ النهاية بقوله : " وسميت هذا الكتاب : (الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره ، وأحكامه ، وجمل من فنون علومه) . أعني بقولي : بلوغ النهاية : أي إلى ما وصل إلي من ذلك لأن علم كتاب الله لا يقدر أحد أن يبلغ إلى نهايته إذ فوق كل ذي علم عليم . "
ومن هنا يتبين أن مكي بن أبي طالب قد وظف الهداية بمعنى الدلالة بلطف إلى نهاية ما وصله من علم في التفسير ، الذي جمعه في كتابه (الهداية) .

والله أعلم وأحكم
 
أخي الفاضل
هي سلسلة دروس علمية للشيخ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن معاضة الشهري ، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الملك سعود ، يشرح ويعلق على تفسير الإمام البيضاوي .
وهذه الدروس موجودة صوت وصورة في مركز تفسير وعلى اليوتوب . وهي متاحة للجميع .

والله الموفق
 
أكرمني الله تعالى بحضور هذه الدروس وسماعها مباشرة من شيخي الدكتور عبدالرحمن الشهري، في مسجد الهداب بالرياض، وأنصح طلبة العلم بالحضور، أو مشاهدتها عبر قناة مركز تفسير على (يوتيوب):
https://www.youtube.com/channel/UCzPBBUB3SQlDx7EO00YawkQ
 
ما أسعدكم بهذه المجالس الطيبة لمشايخنا وعلمائنا الأجلاء
نفعنا الله بعلمهم وجعل أعمالهم في ميزان حسناتهم
 
قال : والفعل منه هدى ، الثلاثي . وأصله أن يُعَدَّى باللام أو إلى . فعل هدى – كما يقول البيضاوي – قال أصله أن يُعدى باللام أو إلى ، فتقول : هداه للحق ، أو هداه إلى الحق . تُعديه باللام أو تعديه بإلى . قال : فعومل معاملة اختار . في قوله تعالى : {وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا}[الأعراف:155] . ما معنى هذا الكلام يا مشايخ ؟ يحتاج للواحد أن يكون له معرفة بأنواع الفعل . ينقسم إلى قسمين : فعل متعدٍّ وفعل لازمٌ . الفعل المتعدي هو الذي لا يكتفي بنفسه ، وإنما يحتاج إلى مفعول به ، أو يحتاج إلى جار ومجرور ، ونحو ذلك . فتقول مثلا : بنى محمد البيت . بنى – هذا – لازم أم متعد ؟ قالوا : هذا متعد ؛ لأنه احتاج إلى مفعول به ولا يمكن أن يُفهم المقصود إلا إذا ذُكر المعدى إليه . تقول : بنى محمد . بنى ماذا ؟ يقول : بنى محمد بيتا . إذن ، هذا فعل متعد ، لا يُفهم إلا إذا ذُكر المعدى إليه . فإذا قلت : فاز محمد . اكتمل المعنى . قالوا : هذا فعل لازم . ليس متعديا . اللازم هو الذي يكتفي بنفسه . فهو هنا يقول : إن هدى أصلها أنها تتعدى باللام أو بإلى . والأمر أن كلام البيضاوي غير صحيح . لماذا ؟ لا يُقال : إن هدى أصلها أنها تتعدى ، وإنما يُقال : قبائل العرب تعديها بنفسها ، وقبائل أخرى تعديها بالحرف . فمثلا : أهل الحجاز ، قريش ، هذيل ، والقبائل المجاورة لها ، يُعدون هدى بنفسها ، كما في السورة هنا : {اهدنا الصراط المستقيم} ولم يقل : اهدنا إلى الصراط المستقيم . فجاءت هنا على لغة قريش ، لغة أهل الحجاز . فلا يُقال : الأصل أن تُعَدَّى بكذا ؛ لأن الأصل يقال إذا كانت اللغة الشائعة . فإذا خالف اللغة الشائعة ، قلنا : خرجت عن الأصل . أما وهي لغات قبائل متكافئة ، فيقال : هذه لغة وهذه لغة ، كلاهما صحيح ؛ متكافئة في فصاحتها وقوتها .
قال هنا : فعومِل معاملة اختار . يعني : يقول عُدي بنفسه كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا}[الأعراف:155] . معنى الآية : واختار موسى من قومه سبعين رجلا . ولكنه عدى بنفسه فقال : واختار موسى قومَه . ثم قال سبعين رجلا . واضح يا مشايخ ؟ ولذلك جاء بهذا .

يتبع ...
 
تذكير بمنهج البيضاوي من خلال تفسير الشيخ :
يقول الشيخ في إحدى حلقات الدروس : وكما تلاحظون ، تفسير البيضاوي له منهجيته التي شرحناها وكررناها في مواضع كثيرة ، وكيف يحرص البيضاوي رحمه الله على إيجاز العبارة والاختصار ، وكيف أنه يتقيد بما في الكتب الثلاثة التي جعلها مصادر رئيسية له ، وهي : كتاب الزمخشري (الكشاف) ، وتفسير الراغب الأصفهاني صاحب كتاب (المفردات) ، والرازي في كتابه (التفسير الكبير) . ويضيف البيضاوي بين الحين والآخر استنباطات فقهية ، أو استنباطات أصولية ، أو استنباطات عقدية . أيضا تلاحظون البيضاوي كيف يركز في بعض المواضع على الإعراب الذي يؤثر في فهم الآية . وكذلك منهج البيضاوي المتوسط في تناوله للنحو ؛ فلا هو يتوسع فيه توسع أبي حيان الغرناطي في (البحر المحيط) أو السمين الحلبي في (الدر المصون) أو الواحدي في (البسيط) ، ولا هو يُهمله بالكلية كما يفعل ابن كثير - رحمه الله – في تفسيره ، أو البغوي مثلا . وإنما هو يحاول أن يقتصر من مسائل النحو على ما يَخدم المعنى .
 
السلام عليكم
فهو هنا يقول : إن هدى أصلها أنها تتعدى باللام أو بإلى . والأمر أن كلام البيضاوي غير صحيح . لماذا ؟ لا يُقال : إن هدى أصلها أنها تتعدى ، وإنما يُقال : قبائل العرب تعديها بنفسها ، وقبائل أخرى تعديها بالحرف .
بالبحث فى أمثلة كثيرة وجدت أن هدى متعدية بنفسها ... فيقال :هدى الله زيداً .. أو هدى الشرطي الرجل الغريب إلى الطريق ... فالهدى كان للرجل وليس الطريق ،

وإن كان المقصود أن التعدى إلى متعلق بالمفعول يكون بحرف ففى قوله تعالى " وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً "،
وقوله " يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً" ،
وقوله "لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً "،
وقوله " وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً "
نجد أن " هدى " تعدى إلى مفعول بدون حرف ... المفعول الأول الضمير ، ويتعلق بكلمة " صراطا مستقيما "
وسؤالي من فضلكم :
كيف لم نعتبر المفعول هو الضمير " نا "فى الفعل " اهدنا" فى قوله تعالى " اهدنا الصراط المستقيم " ؟
 
الفاضل مصطفى سعيد حفظه الله
تعليق الشيخ يتماشى مع تفسير البيضاوي ، حيث يقول : " والفعل منه هدى ، وأصله أن يُعَدَّى باللام ، أو إلى ، فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : { واختار موسى قومه } "
وهذا منهج البيضاوي في تفسيره المبني على الإيجاز . فهو يتكلم عن المفعول الثاني . معنى ذلك أن هدى يُعدَّى بالنسبة للمفعول الثاني باللام أو إلى . وذلك على اعتبار أن المخاطب بالتفسير يعرف ذلك . بينما نجد غيره يشير إلى المسألة بوضوح تام .
يقول أبو حيان (ت:745 هـ) في (البحر المحيط) : " والأصل في هدى أن يصل إلى ثاني معموله باللام { يهدي للتي هي أقوم } أو إلى { لتهدي إلى صراط مستقيم } ثم يتسع فيه فيُعدى إليه بنفسه ، ومنه { اهدنا الصراط }. "
ويقول السمين الحلبي (ت:756 هـ) في (الدر المصون في علم الكتاب المكنون) : " وأصل (هَدَى) أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا : إلى أو اللام ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، ثم يُتَّسَعُ فيه ، فيُحذَفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه ، فأصلُ اهدِنا الصراط : اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ ، ثم حُذِف . "
وبعد ذلك يوضح الشيخ أن من قال بأن أصل (هدى) أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر وهو إما : إلى أو اللام ، ثم بعد ذلك توسعوا فيه فحذفوا الحرف . من قال بذلك فهو خاطئ ؛ لأن المسألة تتعلق بلغتين موجودتين فعلا . فهذه لغة وهذه لغة ، وهما متكافئتان . ولا يصح أن نقول عن إحداهما أصلية .

والله أعلم وأحكم
 
ملاحظة

ملاحظة

ملاحظة :
إذا كان في لغة العرب الفعل (هدى) في تعديته بواسطة أو بغير واسطة يُعتبر لغتان متكافئتان ، ففي لسان القرآن ليس كذلك ؛ لأن صاحب لسان القرآن واحد هو الله .
لذلك فأساليب التعدية ، كل منها يؤدي مهمته في الدلالة القرآنية .

أمثلة للتأمل :
التعدية بإلى ليست هي التعدية باللام :
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي للحق أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس:35]
وتعدية الفعل بنفسه ليست كتعديته بإلى أو اللام :
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}[الفتح:20]

والله أعلم وأحكم
 
يقول البيضاوي : " وهداية الله تعالى تتنوع أنواعاً لا يحصيها عد ، كما قال تعالى : ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها﴾ [النحل:18] . ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة .
الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال : ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10] . وقال : ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى﴾ [فصلت:17] .
الثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وإياها عنى بقوله : ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا﴾ [الأنبياء:73] . وقوله : ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:9] .
الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي ، أو الإلهام والمنامات الصادقة ، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله : ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90] . وقوله : ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾ [العنكبوت:69] . فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى ، أو الثبات عليه ، أو حصول المراتب المرتبة عليه . فإذا قاله العارف بالله الواصل عنى به : أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشي أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك . والأمر والدعاء يتشاركان لفظاً ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل ، وقيل : بالرتبة "

من تعليق الشيخ :
هداية الله لا يُحصيها إلا الله سبحانه وتعالى ، ولذلك قال عندما سأل فرعون : ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50) ﴾ [طه:49-50] . هدى من ؟ هدى كل مخلوق لرزقه ، ولذلك انظر إلى الطفل إذا ولد كيف يهديه الله سبحانه وتعالى إلى ثدي أمه ، دون تدريب ، أليس كذلك ؟ وقس على ذلك المخلوقات في البر والبحر .
ثم أشار الشيخ إلى قول البيضاوي : " وهداية الله تعالى تتنوع أنواعاً لا يحصيها عد ، كما قال تعالى : ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوها﴾ [النحل:18] " كأنه جعل الهداية هي أعظم نعمة . ثم ذَكَّرَ بالفائدة التي أشار إليها في إحدى تعليقاته السابقة وهي أن : المفرد إذا أضيف يدل على العموم . فقد يسأل سائل : نعمة الله واحدة ، فلماذا يقول لا تستطيعون إحصاءها ؟ نعم ، نعمة الله مفرد وأضيفت إلى لفظ الجلالة (نعمة الله) فأصبحت تدل على كل نعم الله سبحانه وتعالى . وعندما تقول باسم الله فإنك تقصد كل أسماء الله تعالى .

يتبع ...
 
يشير الشيخ إلى أن العلماء يقسمون الهداية في القرآن الكريم إلى قسمين : النوع الأول هو هداية الدلالة والإرشاد . والنوع الثاني هو : هداية التوفيق والإلهام .
فهداية الدلالة والإرشاد : المقصود بها أن الله سبحانه وتعالى يدلك على الحق ويدلك على الطريق المستقيم ويبين لك طريق الضلال . لذلك قال البيضاوي هنا : " الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة " فلا شك أن هذه هداية . فكيف تتعلم ، لا يكون ذلك إلا إذا رزقك الله القوى ؛ من العقل المدرك والسمع والبصر والفؤاد . فلولا هذه القوى ما اهتديت .
والثاني من الهدايات : " نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد " وهذه هداية الدلالة والإرشاد . فالله تعالى أوضح لنا في القرآن الكريم كل الدلائل التي تساعد على السير على الطريق المستقيم ؛ بين لنا أصلنا وفصلنا والهدف من هذه الحياة ومآل الإنسانية ، بينما غيرنا تائهون بين شعاب فلسفات مبنية على الوهم كالأعمى الذي يبحث في الظلام .
والثالث من الهدايات التي أشار إليها البيضاوي هي : " الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب " وهذه الهداية من اختصار الله عز وجل ولا يأتي بها عنه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . جاءوا بهداية الدلالة والإرشاد فقط . لذلك لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي عمه . لأن الله أثبت له هداية الدلالة والإرشاد ونفى عنه هداية التوفيق والإلهام . فهداية التوفيق والإلهام لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى . يقول تعالى : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[القصص:56] .
بينما في هداية الدلالة والإرشاد ، يقول تعالى : ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]
والنوع الرابع من الهداية : " أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي ، أو الإلهام والمنامات الصادقة ، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله : ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام:90] . وقوله : ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾ [العنكبوت:69] . فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى ، أو الثبات عليه ، أو حصول المراتب المرتبة عليه " . هناك احتمالات ثلاثة كلها صحيحة وتحتملها الآية : أن يكون المقصود الزيادة في الهداية أو الثبات عليها أو ثمرتها في الآخرة . وليس هناك تعارض بين هذه المعاني .
فمن قواعد التفسير : إذا كانت المعاني التي تحتملها اللفظة في القرآن الكريم غير متعارضة ، فإنها تُحمل عليها كلها .

يتبع ...
 
يدخل بنا البيضاوي الآن في شغل الصوفية ، قال : " فإذا قال العارف بالله الواصل عنى به : أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا ، وتميط غواشي أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك " . هذا الكلام مر معنا أكثر من مرة ؛ في المرة الماضية وسيمر كثيرا .
الصوفية يقسمون السائرين إلى الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة مراتب . المرتبة الأولى : العابدين . والمرتبة الثانية : المريدين . والطبقة الثالثة : العارفين .
مرتبة العابدين قسموها تقريبا إلى سبع مراتب : التوبة ، الورع ، الزهد ، الصبر ، التوكل ، الرضى ، الحرية . وهذا تقسيم بدعي لسبب وهو : أن العبادة توقيفية ، إدخال العقل فيها بدعة . وتقسيمات الصوفية هو عمل لم يفعله الرسول صلى الله عليه ولا الصحابة رضوان الله عليهم .
وطقوس الصوفية تدخل فيها خرافات وقضايا ما أنزل الله بها من سلطان .
فإذا قال البيضاوي : " العارف بالله الواصل" نمر عليها لأنها ليست من العلم ، وإنما هي من غيره .

يتبع ...
 
الشيخ يعلق على كلام البيضاوي في قوله : " والأمر والدعاء يتشاركان لفظاً ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل ، وقيل : بالرتبة " .
هذه معلومة مهملة . في أقسام الفعل : أمر ، مضارع ، ماض . اهدنا : فعل أمر ، فهو طلب من العبد إلى الله . فالفعل من أعلى إلى أسفل فهو أمر . فإذا كان من الأسفل للأعلى ، كأن يكون من العبد إلى الله سبحانه وتعالى فهو طلب أو دعاء . فإذا كان فعل الأمر من شخص إلى شخص ند له فهو التماس . وهذا ما يناقشه العلماء في البلاغة .

يتبع ...
 
يقول البيضاوي : " والسراط : من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة ، ولذلك سمي لقماً لأنه يلتقمهم . والصِّراطَ من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق ، وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه . وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه ، ورويس عن يعقوب بالأصل ، وحمزة بالإشمام ، والباقون بالصاد وهو لغة قريش والثابت في الإمام . وجمعه سُرُط ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث . والْمُسْتَقِيم المستوي والمراد به طريق الحق ، وقيل : هو ملة الإسلام" .
من تعليق الشيخ : لاحظوا كيف يفسر ، وأنا أحرص على هذا حتى نتعلم التفسير ونتعلم المنهج . قال هنا " والصراط " تكلم عنه من الناحية اللغوية ، ما هو الصراط ؟ نحن نقرأ الصراط بالصاد ، وهناك قراءتان أخريان : السراط بالسين والزراط بإشمام الصاد زايا . وهذه قراءة خلاَّد عن حمزة .
الإشمام هو خلط حرف بحرف ، وهذه موجودة في العربية . يقول البيضاوي : " والسراط : من سرط الطعامَ إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة " السراط هو الطريق ، والعرب تسمي الطريق أكثر من اسم ، يقولون : طريق وسبيل وسراط . فما الفرق : يطلقون الطريق على كل طريق سواء كان مطروقا أو غير مطروق . فإذا كان مطروقا بكثرة سُمي سبيلا . فإذا كان مستقيما سُمي سراطا . ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ . فما فائدة المستقيم التي جاءت بعده ؟ يقول البيضاوي : " والْمُسْتَقِيم المستوي " . لاحظوا كيف تجدون المفسرين مثل تفسير البيضاوي ، هو تفسير مختصر لكنه دقيق العبارة . فإذا كان الصراط هو المستقيم فقد أفادتنا كلمة المستقيم فائدة جديدة ، فقد يكون مستقيما ولكنه وعر . قال : لا ، المستقيم ، مستو ، ممهد ، سهل . السراط في اللغة العربية مأخوذ من سرط . وسرط الطعام : ابتلعه ، إذا أكله بِشَرَهٍ . فكأن الطريق التي تمشي فيه يسترط الذين يمرون فيه كما يفعل الرجل باللقم . لاحظوا أصل الاشتقاق في مادة السراط . قال : " ولذلك سمي لقماً لأنه يلتقمهم " . اللقم في اللغة العربية هو الطريق أيضا . يقول العرب للطريق السالك المستقيم لقم . نفس الفكرة : سراط كأنه يسترطهم ، ولقم كأنه يلتقمهم .

يتبع ...
 
قال البيضاوي : " والصِّراطَ من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق " . لماذا ؟ قال حتى يكون فيها إطباق . السين ليس فيها إطباق ، والطاء فيها إطباق ، والطاء في آخر السراط فيها إطباق . فقلبت السين صادا حتى تتناسب الصاد والطاء في الإطباق . هذا كله كلام في فقه اللغة . وما هي حروف الإطباق ؟ أربعة : الصاد والضاد والطاء والظاء . ما هو الإطباق ؟ الإطباق هو رجوع اللسان إلى الخلف . يقول ابن الجزري في الجزرية : وَصَادُ ضَادٌ طَاءُ ظَاءٌ : مُطْبَقَة ..... وَفِرَّ مِنْ لُبّ : الحُرُوفُ الْمُذْلَقَة . مطبقة : اللسان يُطبِق على الحَنَك عندما يَنطقها . كيف يُطبق على الحنك ؟ قالوا : يرجع اللسان إلى الخلف قليلا ويرتفع حتى يُصبح الحنك كأنه طبق على اللسان . وهذه معاني دقيقة سبق إليها المسلمون ، وهي علم الأصوات . ولم يستطع العلماء إلى اليوم أن يُضيفوا الجديد في مخارج الحروف وفي صفاتها . ونصيحة مني : عندما تُدَرِّسُون التجويد للطلاب فابدؤوا بدراسة صفات الحروف ومخارجها . لا تفعلوا كما يفعل أكثر الناس الآن - حتى الكتب الصغيرة المختصرة التي تُدرس للطلاب اليوم – يبدؤون بالإظهار والإدغام والإخفاء ، أحكام النون الساكنة والتنوين ، ثم في الأخير صفات الحروف ومخارجها . وربما ينتهي الفصل فيحذفونها . فيشعر الطلاب أنها غير مهمة . وهي مهمة جدا . وبالمناسبة فصفات الحروف ومخارجها تُدرس بثلاث جهات : تُدرس في التجويد لمن يقرأ القرآن ، وهي الأصل . وعلماء التجويد هو الذين سبقوا إليها ؛ سبقوا اللغويين وغيرهم . الجهة الثانية : تُدرس في اللغة العربية ، في مادة الصوتيات ؛ معامل خاصة بالصوتيات : مخارج الحروف وصفاتها . وتدرس في كلية اللغات والترجمة . فاللغة لا تقوم إلا بها . العلماء قد شَرَّحوا الحنجرة وعرفوا مخارج الحروف ، كل حرف والصفات التي يتصف بها .

يتبع ...
 
وهذه السورة بالإجماع نزلت في مكة .
في دعوى الاجماع نظر ، كيف وقد ذكر الاختلاف معظم المفسرين ومنهم البيضاوي ذاته !!
تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 35)
سورة فاتحة الكتاب سبع آيات كوفية وهي مدنية ويقال مكية
تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/ 15)
روي عن مجاهد أنه قال: سورة فاتحة الكتاب مدنية، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية. ويقال: نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة
تفسير البغوي - (1/ 70)
وهي مكية على قول الأكثرين، وقال مجاهد: مدنية، وقيل: نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة، ولذلك سميت مثاني
الهداية الى بلوغ النهاية (1/ 77)
سورة الحمد مكية في قول ابن عباس.
وقيل: بل هي مدنية. وهو قول مجاهد.

تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 101)
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، قَالَهُ (9) ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ، قَالَهُ (10) أَبُو هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ. وَيُقَالُ: نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِمَكَّةَ، وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ
 
عودة
أعلى