مع الشيخ عبد الرحمن الشهري في التعليق على تفسير البيضاوي

إنضم
16/11/2009
المشاركات
1,296
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
العمر
73
الإقامة
تارودانت-المغرب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه .
وبعد ، فكما تعلمون فإن الشيخ الدكتور عبد الرحمن الشهري ـ حفظه الله ـ له حلقات تفسيرية في التعليق على تفسير البيضاوي . وهي حلقات متميزة ، مصورة بواسطة الفيديو ، تتميز بما يضيفه الشيخ من معلومات كثيرة في التفسير وعلوم القرآن ، نظرا لثقافته الواسعة في هذا الميدان ، ونظرا لقراءاته الكثيرة التي عُرف بها في الوسط الثقافي بين العلماء .
وكطالب علم أرتأيت أن تكون هذه الحلقات مدار مناقشات علمية متنوعة قد تكون : استفسارا لقضية أو توضيحا لنقطة عالقة أو استدراكا على معلومة أو مناقشة قضية ... وهكذا .
والغرض من ذلك أن نجعل لحلقات الشيخ امتدادا في الملتقى ، وإثراء للدرس التفسيري بين طلاب العلم .
أرجو الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم ، وأن يمدنا بالقوة والتوفيق لما يحبه ويرضاه ، وأن يزيدنا علما وينفعنا بما علمنا ، إنه نعم الولي ونعم المجيب .
وبالله نستعين
 
بسم الله الرحمن الرحيم جزاك الله تعالى خيرا اخي الكريم..لو كانت الدروس مفرغة كتابة فيكون افضل وشكرا لك.
 
الدرس الثالث : الشطر المتبدئ من الدقيقة 23 و57 ثانية والمنتهي في الدقيقة 44 و26 ثانية .
يُصَدِّرُ الشيخ كلامه هكذا : " نبدأ على بركة الله في تفسير سورة الفاتحة " فوضح لنا منهج البيضاوي من خلال مقدمته :
بدأ الإمام البيضاوي تفسيره بمقدمة يمكن أن نسميها (علوم السورة) ، من خلالها يتبين لنا منهج البيضاوي : في هذه المقدمة تكلم عن ثلاث مسائل :
1 – تحدث عن اسم السورة وهي (الفاتحة)
2 – تحدث عن عدد آياتها وهي سبع آيات .
3 – تحدث عن أسماء سورة الفاتحة ، وسرد أربعة عشر اسما ، وزاد على ذلك أن علل التسمية .
ونجد البيضاوي لا يتحدث عن علوم القرآن ، بل هو يطبق علوم القرآن في تفسيره .
تفسير البيضاوي وجيز العبارة ، مرتب ترتيبا دقيقا ، من منهجه أنه يقدم الراجح عنده على غيره في ذكر الأقوال .
يتبع ..
 
مثال لتعليل الاسم :
يقول البيضاوي في تعليل اسم (أم القرآن) : " ... أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى والتعبد بأمره ونهيه ، وبيان وعده ووعيده ، أو على جملة معانيه من الحِكَم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء ."
ومن تعقيب الشيخ : أم الكتاب كأنها طلب الهداية ، وجاء القرآن كله تفصيلا لهذا الطلب . وسميت الفاتحة أم القرآن ؛ لأنها اشتملت على توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات ، فجمعت المعاني التي فرقت في القرآن الكريم .
مثال لتقديم الراجح من الأقوال :
يقول البيضاوي في الاستدلال على مكية سورة الفاتحة في إطار تعليل التسمية : " وتُثنى في الصلاة ، أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فُرضت الصلاة وبالمدينة حين حُولت القبلة . وقد صح أنها مكية لقوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87] ، وهو مكي بالنص ."
من تعقيب الشيخ : والقول بنزول الفاتحة مرتين رده جمهور العلماء . لا توجد سورة نزلت مرتين ، ولم يثبت . ولكن يرون أن بعضهم سمع هذه السورة في المدينة ، أو ذكرها له الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف فظن أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم للتو . والغالب أن هذا ممن دخل في الإسلام من المهاجرين رضي الله عنهم . وهذه السورة بالإجماع نزلت في مكة .
 
الأخ العزيز المثابر عبدالكريم عزيز وفقك الله وتقبل منك.
أشكرك على هذه المبادرة ، وسأكون أول المستفيدين والمتابعين والمشاركين في هذه المدارسة العلمية هنا.
 
الدرس الثالث ، من الدقيقة 44 و24 ثانية إلى 1 ساعة و 02 دقيقة :
يقول البيضاوي في البسملة : " {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} من الفاتحة ومن كل سورة ، وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي . وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده . وسئل محمد بن الحسن عنها فقال : ما بين الدفتين كلام الله تعالى . ولنا أحاديث كثيرة . "
من تعقيب الشيخ : هل البسملة آية من سورة الفاتحة أم لا ؟ وهذه المسألة فيها خلاف شديد بين العلماء . واتفق العلماء على أن البسملة ليست جزءا من سورة التوبة ، وهي جزء من آية .
البيضاوي شافعي المذهب ، وهذا هو قول الإمام الشافعي (البسملة جزء من كل سورة) وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما .
قدم البيضاوي القول الأول الذي يختاره وهو أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة إلا سورة التوبة فهي مستثناة . وذكر القول الثاني ، وهو قول قراء المدينة والبصرة والشام وفقهائها ، وذكر منهم الإمام مالك والأوزاعي ، أنها ليست آية من هذه السور . كيف تكون ليست آية من السورة ؟ ما هو توجيه قولهم ، وهم يقولون إنها آية . يقولون : ليست آية من السورة لكنها آية مستقلة . ولعل هذا هو القول الصحيح . ولكل منهم أدلته .
استشهد البيضاوي بحديثين ضعيفين لا يحتج بهما ، فلا يثبت هذا الاستدلال . والدليل الثاني عنده هو قوله : " والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى ، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين " فقد أجمع الصحابة أن ما بين الدفتين كلام الله ، ولذلك لم يكتبوا فيه فواصل السور ، ولم يكتبوا فيه عدد الآيات . فالعلماء كانوا يحرصون أن يجردوا القرآن الكريم من أي شيء غير القرآن ، خشية أن يظن من يأتي بعدهم أنه من القرآن . فما دام الصحابة رضوان الله عليهم جردوا القرآن الكريم من كل هذا ، وذكروا البسملة ، قال البيضاوي : هذا دليل على أن البسملة آية من السور .
والعلماء الذين قالوا بأنها ليست آية لم ينكروا هذا الدليل ، ولكن ليست على أنها آية من السورة ، وإنما على أنها آية مستقلة كانت تنزل للفصل بين السور .
من منهج المفسرين :
1 ـ يقول البيضاوي : " ولنا أحاديث كثيرة " من أنتم ؟ الشافعية ؛ لأن البيضاوي شافعي المذهب . وهذا أسلوب العلماء في المختصرات ، إذا قال (ولنا) ، أي المذهب الذي ينتمي إليه .
2 ـ معظم المفسرين يطيلون الحديث عن البسملة في هذا الموضع ثم لا يذكرونها بعد ذلك في بقية المواضع . وهذا منهج المفسرين في التأليف : إن المفسر إذا ناقش مسألة نحوية أو مسألة فقهية أو مسألة لغوية في موضع ، فإنه يُفَصِّل في الموضع الأول ثم يُهملها في بقية المواضع . بعض المفسرين يقول : وقد سبق الحديث . وبعضهم لا يشير إلى ذلك . بعض كتب التفسير المطولة تُحيل (القرطبي مثلا) . وبعض المحققين كذلك .
3 ـ مشروع ما زال ينتظر التنفيذ : فكرة تكشيف كتب التفسير الكبار المشهورة . بمعنى وضع فهرس تفصيلي للمسائل التفصيلية الموجودة في كتب التفسير بحيث يرجع طالب العلم إليه . على سبيل المثال : البسملة والحديث عن البسملة . فيقول انظر تفسير الطبري ، الجزء الأول ، صفحة كذا ، تفسير القرطبي ، صفة كذا ، تفسير البيضاوي ، صفحة كذا . نجد أحيانا الكلام على البسملة في منتصف التفسير أو في آخره فتكون قد سنحت فرصة ، فيذكر المفسر كلاما جيدا لا تجده في الموضع الذي تتوقعه .
4 ـ قاعدة من قواعد التفسير : إذا ثبت الحديث ، وكان نصّاً في معنى الآية ، فلا يُلتفت إلى غيره ، لا لأقوال الصحابة ، ولا لأقوال التابعين ، ولا لأقوال المفسرين .
إذا ثبت الحديث وصح . وليس المقصود بصحة الحديث أن يكون مرويا من البخاري ومسلم ، ولكن أن يكون مقبولا ؛ تنطبق عليه معايير القبول ويُحتج بمثله . إذا كان نصا في معنى الآية ، أي لا يحتمل معنى آخر ، وإنما يدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تفسير هذه الآية بالذات .
 
جزاك الله تعالى خيرا شيخ عبدالكريم..بالنسبة لقول الشيخ(واتفق العلماء على ان البسملة ليست جزءا من سورة التوبة وهي جزء من آية) اعتقد ان القول يشوش على القارئ ﻹن التوبة لم تسبق بالبسملة...ولم افهم ما بعدها(وهي جزء من آية)..والسلام.
 
من تعقيب الشيخ : هل البسملة آية من سورة الفاتحة أم لا ؟ وهذه المسألة فيها خلاف شديد بين العلماء . واتفق العلماء على أن البسملة ليست جزءا من سورة التوبة ، وهي جزء من آية .
العلماء اختلفوا في مسألة البسملة :
فإذا كان منهم من يقول إن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة إلا سورة التوبة . معنى هذا الكلام أن البسملة ليست جزءا من سورة التوبة . ويقولون كذلك إن البسملة جزء من آية في سورة النمل .
وإذا كان الآخرون يقولون : إن البسملة ليست جزءا من سورة التوبة ، وهي جزء من آية في سورة النمل
تبين لنا أنهم متفقون على أن البسملة ليست جزءا من سورة التوبة ، وهي جزء من آية في سورة النمل عند قوله تعالى : {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}[النمل:30]
والله أعلم وأحكم
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...اما بعد...اعتقد ان القول ان العلماء اتفقوا ان التوبة لم تٌسبق
بالبسملة...افضل من القول المذكور...والله تعالى اعلم.

 
إذا عرفنا أن العلماء متفقون على أن (البسملة ليست جزءا من سورة التوبة) ساعدنا ذلك على فهم من قال : (البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة) ، فنعرف أن سورة التوبة مستثناة كما أكد الشيخ في الدرس . لأن من الأقوال من يقول إن سورة (براءة) نُسخ أولها فسقطت معه البسملة .
أما فيما يخص حجة القول الثاني فيقول سيد طنطاوي (ت:1431 ه) في تفسيره: " ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقالوا : إنها آية فذة [مستقلة] من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها ، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة ، لما اختلف الناس في ذلك ، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط ."

والله أعلم وأحكم
 
كتب مقترحة من الشيخ في الدروس الثلاثة الأولى :
ـ الكتاب المقرر في الدروس : تفسير البيضاوي المسمى : (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) تحقيق : محمد صبحي بن حسن حلاق و الدكتور محمود أحمد الأطرش ، دار الرشيد ـ بيروت
ـ التفسير ورجاله ، للشيخ محمد الفاضل ابن عاشور
ـ حاشية البيضاوي لعبد الحكيم السيالكوني
ـ حاشية البيضاوي لشهاب الدين الخَفاجي
ـ معجم المفسرين لعادل نويهض
ـ طبقات المفسرين للسيوطي
ـ طبقات المفسرين للداودي
ـ القراءات الشاذة وتوجيهها في تفسير القاضي البيضاوي ، تحقيق وتعليق : محمد غياث الجنباز
ـ تهذيب اللغة للأزهري
ـ الصحاح للجوهري
ـ المجمل لابن فارس
ـ المحكم لابن سيده
ـ الجرومية لابن أجروم
ـ قطر الندى لابن هشام
ـ تعجيل الندى بشرح قطر الندى للفوزان
ـ أسماء سور القرآن الكريم ، للشيخ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشايع
 
يقول البيضاوي : " والباء متعلقة بمحذوف تقديره : بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء . وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له ، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه . أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه ، وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها} وقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنه أهم وأدل على الاختصاص ، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة ، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعاً ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» ، وقيل الباء للمصاحبة ، والمعنى متبركاً باسم الله تعالى اقرأ ، وهذا وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ، ويحمد على نعمه ، ويُسأل من فضله ، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح ، لاختصاصها بلزوم الحرفية والجر ، كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء . "
من تعقيب الشيخ : البيضاوي هنا مزج مسائل النحو مع مسائل الصرف مع مسائل البلاغة . مسألة التقديم والتأخير هو باب واسع في العربية ، وهو تقديم ما أصله التأخير . فإذا حصل اختلاف في الترتيب فقدموا المفعول به على الفاعل كما هو هنا : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فهذه لعلة بلاغية . قدم المفعول به للدلالة على الاختصاص ، بمعنى لا نعبد إلا إياك . والعلماء يقولون {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فيه دلالة على التوحيد . سورة الفاتحة تضمنت أنواع التوحيد ، وهنا توحيد العبادة .
وكذلك في قوله تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ} ، قُدم المعمول وهو حرف الجر والاسم المجرور للدلالة على التبرك والتعظيم . قال البيضاوي : " وتقديم المعمول ههنا أوقع " يعنى أشد وقعا ودلالة كما في قوله تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها} وقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . ثم علله بأربع علل :
1 ـ لأنه أهم (البدء باسم الله )
2 ـ أدل على الاختصاص ، أي : لا باسم غيره
3 ـ وأدخل في التعظيم ، أي : تعظيم اسم الله تعالى ، والبدء به وتقديمه .
4 ـ وأوفق للوجود ، يعني : أنه أكثر مطابقة للوجود ؛ فإن الله تعالى وذاته موجودة قبل كل ما يمكن أن يستعان بها عليه .
قال المفسر : " فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة " ، فالراجح عنده أن يقول باسم الله أقرأ . بسم الله أقرأ : هل الباء هنا للاستعانة أم هي للمصاحبة أم هي للتبرك أم هي للالصاق ؟ هذه أقوال قالها علماء البلاغة في دلالة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} .
قال البيضاوي : وقيل للمصاحبة . والمعنى : متبركا باسم الله تعالى أقرأ . وهذا وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ، ليعلموا كيف يُتبرك باسمه ويُحمد على نعمه ، ويُسأل من فضله " . أي أن سورة الفاتحة تعليم من الله لعباده ، كيف يُسمون وكيف يحمدون وكيف يشكرون .
فائدة : بعض المسائل التي يناقشها المفسرون ، قد يُظن أنه استطراد لا حاجة إليه ، لكن هذه المسائل لطلاب العلم مهمة ، والتدقيق فيها مفيد ومهم ويكشف لطالب العلم حقائق ودقائق لا ينتبه إليها غيره . وكان الإمام الشافعي رحمه الله ربما رأى مللاً من طلابه ، عندما يدقق في بعض المسائل ، فقال كلمة مشهورة نقلها عنه أصحاب التراجم ، قال : إذا طلبتم العلم فدققوا فيه ، فإنكم محتاجون إليه يوما .
كتاب مقترح : شذا العرف في فن الصرف ، للشيخ أحمد الحملاوي
 
مناقشة : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} هي جزء من آية في سورة النمل . وهو اتفاق بين العلماء جميعا . يقول تعالى : {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}[النمل:30 ـ 31] . وهو كتاب من سليمان إلى ملكة سبأ .
يقول سيد قطب في تفسيره : " ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم . مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته .
وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم . ومطلوب فيه أمر واحد : ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا ، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه . "
ومعنى هذا أن سليمان عليه السلام أرسل كتابا إلى ملكة سبأ ، ابتدأه بالبسملة ، فما معنى ذلك ؟ في نظري أن الكتاب رغم إرساله من سليمان عليه السلام ، فإنه باسم الله الرحمن الرحيم ، أي أن الدعوة الموجهة إليها هي في الأصل باسم الله ، فهو نبي الله ، أي الله هو الذي أمره بذلك .
وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم ، فالله تعالى يقول : {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}[البينة:2 ـ 3]
يقول الطبري (ت:310 ه) : " تلك البينة { رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُو صُحُفا مُطَهّرَةً } يقول : يقرأ صحفا مطهرة من الباطل { فِيها كُتُبٌ قَيّمَةٌ } يقول : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فيها خطأ ، لأنها من عند الله . "
ويقول الشيخ أبو بكر جابر الجزائري : " كتب من عند الله قيمة ، أي مستقيمة لا انحراف فيها عن الحق ، ولا بعد عن الهدى ، والمراد من الصحف المطهرة القرآن الكريم . "
وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجده يتألف من سور ، كل سورة ابتدأها الله بالبسملة إلا سورة التوبة . فالسور هي كتب من الله في الصحف التي هي القرآن الكريم . وهي 113 كتابا باعتبار أن سورتي الأنفال والتوبة هما كتاب واحد من جزأين (سورة الأنفال وسورة التوبة) .
فإذا كان ذلك كذلك ـ وهو اجتهاد شخصي ـ طرحته للمناقشة فقط ، مع العلم أنني أتكلم عن الكتب الخاصة بالوحي ـ فالبسملة بهذا المفهوم هي أكبر من كونها : باسم الله أقرأ . بل هي دلالة واضحة على أن القرآن من عند الله ، أنزله جبريل عليه السلام باسم الله الرحمن الرحيم . وأن البسملة تحمل ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى التي تدل على الألوهية المطلقة لله الواحد الأحد ، كما تدل على صفات الرحمة في الدنيا والآخرة . وبهذا فالبسملة تحمل معاني ودلالات أكبر من تلك التي ذُكرت في التفاسير .
لذلك نجد الكتب التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك على هذه الشاكلة :
(بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد عبد الله ورسوله إلى ....) ، وكل هذه الكتب مصدرة بالبسملة ، لأنه إذا كان القرآن وحي من الله باللفظ والمعنى ، فالسنة وحي من الله بالمعنى . وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم هي في الأصل كتب من الله لهؤلاء ليدخلوا إلى الإسلام . وهذا ما يؤكد هذا التصور .
وبهذا أستطيع أن أقول : إن البسملة من حيث كونها كلمة قرآنية هي جزء من سورة الفاتحة ومن كل سورة . ومن حيث معناها فهي مستقلة بالمعنى الذي تحمله في كل سور القرآن .
والله أعلم وأحكم .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...اما بعد..وجاء في تفسير التحرير والتنوير لإبن عاشوررحمه الله تعالى-
(
وقال عمر بن أبي ربيعة


لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ألا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
أي قالت بسم الله فرقا منه ، فأصل بسمل قال : بسم الله ، ثم أطلقه المولدون(من اهل اللغة يقصد الفعل بسمل) على قول : بسم الله الرحمن الرحيم ، اكتفاء واعتمادا على الشهرة وإن كان هذا المنحوت(بسمل) خليا من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمن الرحيم ، فشاع قولهم : بسمل ، في معنى قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هلل مصدر هو الهيللة وهو مصدر قياسي لفعلل .

واشتق منه اسم فاعل(المبسمل) في بيت عمر بن أبي ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول . ورأيت في شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب في باب الأذان عن المطرز [ ص: 138 ] في كتاب " المواقيت " : الأفعال التي نحتت من أسمائها سبعة : بسمل في بسم الله ، وسبحل في " سبحان الله " ، وحيعل في " حي على الصلاة " ، وحوقل في " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، وحمدل في " الحمد لله " ، وهلل في " لا إله إلا الله " ، وجيعل إذا قال " جعلت فداك " ، وزاد الطيقلة في " أطال الله بقاءك ، والدمعزة في " أدام الله عزك " .

ولما كان كثير من أئمة الدين قائلا بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور .

وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث : الأول في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا . الثاني في حكم الابتداء بها عند القراءة . الثالث في تفسير معناها المختص بها . )
وهنا مسألة مهمة....وهي ماهو إختيار اهل العلم الذين يعملون في تفسير(التفسير بالمأثور) الذي طال إنتظارنا إليه...ونسأل الله تعالى
ان يٌعينهم ويفتح عليهم..والله أعلم.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين...اما بعد الشيخ الكريم عبد الكريم...ارجو المعذرة ربما أغضبتك
بمشاركتي معك...أرجو من حضرتكم الاستمرار...وجزانا الله تعالى وإياكم خيرا...
 
الفاضل البهيجي . لا عليك أخي . فكما تعلم أن هذه التغطية أردت منها أن تكون فضاء لمجالسة الشيخ عبد الرحمن الشهري ـ حفظه الله ـ والاغتراف من دروسه العلمية الممتعة في التعليق على تفسير البيضاوي ؛ وذلك بصفتي طالب علم ، أشاطر بعض الأفكار مع غيري ، مما يسعدني أن تكون المدارسة مجالا مفتوحا لكل المهتمين ، شريطة أن لا يخرج النقاش عن موضوع المدارسة .
وبهذه المناسبة أحث الطلبة المهتمين ، بالإدلاء بأفكارهم حتى نستطيع أن نعطي لهامش الدروس نوعا من إعادة القراءة التي تجعل من التغذية الراجعة قيمة مضافة ، نستفيد منها جميعا إن شاء الله تعالى .
مع فائق التقدير والاحترام
 
{بِسْمِ اللَّهِ}
من تعقيبات الشيخ في الدرس الرابع : الاسم هل هو المسمى أم لا ؟
الاسم إذا أريد به اللفظ فغير المسمى ، وإذا أريد به المعنى فهو عينه .
لا يمكن أن تسبح الذات ، إلا بالاسم الدال عليه .
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}[الأعلى:1] ، هل المقصود بها سبح ربك أو سبح اسم ربك . هل الاسم هو المسمى أو اللفظ الدال على المسمى . فيقولون سبح اسم ربك أي سبح ربك . لكن هنا أمر بتسبيح الاسم للدلالة على أنه إذا أمرك بتسبيح الاسم ، فتسبيح المسمى من باب أولى . فكما أنه يجب نتزيه الله سبحانه وتعالى ـ وهو ذات المسمى ـ عن كل صفات النقص ، فكذلك يجب التأدب مع أسمائه ، وهي الألفاظ الدالة على ذلك .
الاسم هنا يدل على كل أسماء الله الحسنى ، وليس المقصود اسم واحد . والدليل على ذلك أن المفرد المضاف يدل على العموم في اللغة العربية .
من بديهيات أهل السنة والجماعة : إثبات الأسماء والصفات لله تعالى التي أثبتها هو لنفسه في القرآن الكريم ، أو أثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم . ولا يمكن أن نثبت لله اسما أو صفة من غير هذين الطريقين (طريق الوحي) .
وهذا المنهج يقي من الخلل الذي يوجد في كتب المتكلمين في التفسير وغيره .
هذه القضايا لا مجال للعقل فيها ؛ لأننا لا نعرف ذاته سبحانه وتعالى حتى نعرف الصفات التي وصف بها نفسه . وهذا شيء طبيعي وعقلاني .
فالصحيح أن منهج أهل السنة والجماعة هو العقلاني ، وأن منهج المشبهة والمعطلة هو المجافي للعقل .
بعض المصطلحات شوهت الصورة الصحيحة : يقولون بأن المعتزلة يقدمون العقل على النقل . فهم لا يقدمون العقل ؛ لأن العقل لا يتعارض مع النقل . إنهم يقدمون الهوى والانحرافات الفكرية . العقل لا مدخل له في هذه القضايا ، فالطريقة القرآنية هي الطريقة العقلانية .
 
للاستئناس : مقتطف من بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية
1 ـ الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم :
" قالوا : قال تعالى : {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} وإنما عبدوا مسمياتها . والجواب : أنه كما قلتم إنما عبدوا المسميات ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة ؛ فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها وليس لها من الألوهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى . فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها . وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها فيقال ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه . وكمن سمى التراب خبزا وأكله يقال : ما أكلت إلا اسم الخبز بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه وما الحكمة ثَم إلا مجرد الاسم فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى . "
2 ـ الفرق بين (اسم) و (باسم)
" فإن قيل : فما الفائدة في دخول الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ولم تدخل في قوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} قيل التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر ويراد به ذلك مع الصلاة وهو ذكر وتنزيه مع عمل ولهذا تسمى الصلاة تسبيحا فإذا أريد التسبيح المجرد فلا معنى للباء لأنه لا يتعدى بحرف جر لا تقول سبحت بالله وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة أدخلت الباء (...) وتأمل قوله تعالى {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} [الأعراف:206] فكيف قال ويسبحونه لما ذكر السجود باسمه الخاص فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه "
 
استنتاج للمناقشة : تأملات في البسملة
أول سورة نزلت على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي سورة العلق :
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1]
فالبسملة وردت قبل الأمر بالقراءة ، وهذا يعني أن معناها الأول وارد قبل : بسم الله أقرأ .
المعنى الأول مرتبط بالذي نزَّل القرآن الكريم ، يقول تعالى : {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}[فصلت:2]
هذه الآية - وهي الوحيدة في شكلها – تدل على أن القرآن من عند الله الرحمن الرحيم ؛ لذلك كانت البسملة أول كلام من الله إلى الناس في القرآن الكريم .
وبعد البسملة ، يأتي الأمر بالقراءة باسم الرب الخالق الذي هو الله . فتكون القراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، أي باسم الله أقرأ .
خلاصة : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} ، هي من الرب بأن القرآن من عند الله الرحمن الرحيم . وهي من العبد ، أقرأ باسم الله الرحمن الرحيم .

والله أعلم وأحكم
 
تذكير :
يقول الطبري (ت:310 ه) : " وأما تأويل قول الله : {الله} فإنه على معنى ما رُوِيَ لنا عن عبد الله بن عباس (ت:68 ه) : هو الذي يألهه كل شيء ، ويعبده كل خلق . "
وهذا التأويل هو رد على من ادعى أن اسم (الله) جامد ، غير مشتق .
ويقول ابن القيم (ت:751 ه) موضحا معنى الاشتقاق : " لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله . وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر ، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة . "

والله أعلم وأحكم
 
البيضاوي لا ينسب الشواهد الشعرية .
من القضايا التي أثارها الشيخ أن البيضاوي لا ينسب الشواهد الشعرية . نظرا لمنهجية الاختصار التي سار عليها . وهذه تعتبر نقطة سلبية في التفسير ؛ لأن هذا الشاهد الذي جئت به كدليل تستدل به ، هذا الدليل لا يُقبل في كل حال . ولكن يُقبل في حال دون حال . فيُقبل إذا عرفنا أن عصر الشاعر من عصور الاحتجاج . إذا كان الشاهد مجهول القائل ومجهول العصر أيضا ، وربما يكون في العصر العباسي ، فنقول هذا لا يحتج به في اللغة ونرده ؛ لأن الأدلة التي نستدل بها ومناهج الاستدلال عند المفسرين لها ضوابط . من الضوابط هنا أن يكون الشاعر ممن يُحتج بشعره .
لأنه قد دخل في شعر المتأخرين من الشعراء كثير من الألفاظ غير العربية ، مثل : المتنبي وأبي تمام وبشار بن برد ، فهؤلاء لا يحتج العلماء بشعرهم في اللغة وفي النحو .
الشعراء الذين يُحتج بهم : شعراء الجاهلية بالإجماع ، وشعراء العصر الإسلامي ، وشعراء الدولة الأموية إلى سنة 145 هجرية تقريبا . وهم جعلوا هذا التاريخ حدا فاصلا ؛ لأنه التاريخ الذي توفي فيه الشاعر إبراهيم بن هرمة .
هذا حد فاصل بين من يحتج بشعره وبين من لا يحتج بشعره . وهذا الحد لا بد منه لحفظ فصاحة اللغة . وذلك للمحافظة على نقاء اللغة التي يحتج بها ، خاصة في القرآن الكريم وفي تفسيره .
وقد تتبعت هذا الموضوع فوجدت الطبري على سبيل المثال احتج بأكثر من 2600 شاهد شعري ليس فيها إلا ستة شواهد فقط خرجت عن هذا الشرط ، استشهد فيها لشعراء في هذا التاريخ : المنطقة الغامضة 176 ، 170 ، 166 . ثم لم يحتج بشعرهم فقط ، وإنما جاء بهم بعد الاحتجاج بشعر الفرزدق وشعر جرير والناس الذين لا خلاف في الاحتجاج بهم ، مما يدل على أن هذه مسألة واضحة ومحسومة في الاستشهاد على لغة القرآن الكريم . كل ذلك من أجل المحافظة على سلامة اللغة عندما يُقال : وهذه اللفظة مثلا في القرآن الكريم تدل على كذا ، والدليل على ذلك قول جرير أو الفرزدق أو قول حسان بن ثابت أو قول فلان .
هذا يعتبر وثيقة مهمة جدا في بيان غريب القرآن الكريم .
 
{الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}
يقول البيضاوي : " والرَّحْمن الرَّحِيم اسمان بنيا للمبالغة من رحم ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة : رقة القلب ، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها . وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات . "
من تعقيب الشيخ : الرحمة : رقة في القلب هو تعريف اجتهادي . وإن وافقنا على هذا التعريف فهو يوافق صفة المخلوق . وهذه لا يمكن أن نثبتها لله سبحانه وتعالى .
فنحن نثبت لله صفة الرحمة على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى . نحن نقول بأن صفات الله تعالى لا تُشبَّه بصفات المخلوقين ؛ لأن الله سبحانه يقول : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
يقول البيضاوي : " وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات . " يعني بقوله : أن رحمة الله سبحانه وتعالى هي إرادة الخير بالمخلوق ، حتى يُنفون عنه الصفة . ننفي الصفة ونثبت أثر هذه الصفة التي هي إرادة الخير .
هذا الأسلوب في التعامل مع الصفات خطأ ، منهج خاطئ . إننا عندما نتحدث عن صفات الله تعالى فإننا نتحدث عن صفات لذات مجهولة . فنحن نُسلِّم ونقول : مادام الله وصف نفسه بهذه الصفات فنحن نثبتها له من غير تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل .
 
يقول البيضاوي : " و{ ٱلرَّحْمَـٰنُ } أبلغ من { ٱلرَّحِيمِ } ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكَبَّار وكِبَار ، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتبار الكيفية ، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ، لأن النعم الأخروية كلها جسام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة ،
من تعليق الشيخ : وعلى كل حال ، هذا كله اجتهاد من المفسرين للتفريق بين الرحمن والرحيم . بعضهم يقول : الرحمن للمؤمنين والكافرين ؛ لأن دلالة الرحمن أوسع ، والرحيم للمؤمنين خصوصا ؛ لأنها خاصة بالمؤمنين في الآخرة . ومنهم من يقول : لا ، الرحمن ، رحمن الدنيا والآخرة ؛ لأن النعم التي ينعم بها على المؤمنين في الآخرة كلها نعم عظيمة وجليلة ، وأما في الدنيا فإن النعم فيها العظيم كالإيمان والإسلام والهداية ، وفيها النعم الحقيرة التي دون ذلك . وكل هذا هو اجتهاد من العلماء في التفريق بين الرحمن والرحيم . وهناك أقوال أخرى للتفرقة بين هاتين اللفظتين .
يقول البيضاوي : " وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، لتقدم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها ، والقدرة على إيصالها ، والداعية الباعثة عليه ، والتمكن من الانتفاع بها ، والقوى التي بها يحصل الانتفاع ، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره . أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها ، فيكون كالتتمة والرديف له . أو للمحافظة على رؤوس الآي . "
من تعليق الشيخ : العلماء يقولون الرحمن من الأسماء التي اختص الله بها مثل لفظ الجلالة (الله) ، ولا يجوز لأحد أن يصف نفسه بهذا الوصف ، وهو مختص به . ويقول بأنه قدمه لنفس السبب الذي قُدم من أجله لفظ الجلالة . هذا هو التوجيه الأول .
ويقول بأن كل هذه المعاني التي يدل عليها الرحمن من اللطف والشفقة وإيصال النعم إلى آخره ،كلها مختصة بالله سبحانه وتعالى ، ولذلك جاء لفظ الرحمن مباشرة بعد لفظ الجلالة .
وتوجيه آخر ، لذكر الرحمن قبل الرحيم : الرحمن ، الرحمة العامة . والرحيم ، الرحمة الواصلة . الرحمة العامة لأننا قلنا : رحيم الدنيا والآخرة ، وتشمل المؤمنين والكافرين . أما الرحيم ، رحيم الآخرة الذي يوصل رحمته لمن يستحقها من عباده المؤمنين . يقول : الرحمن ذو الرحمة العامة ، والرحيم ذو الرحمة الواصلة .
والتعليل الأخير الذي ذكره البيضاوي : أو للمحافظة على رؤوس الآي (الفواصل القرآنية) . وهذا التعليل يذكره المفسرون كثيرا ، وهو تعليل ضعيف .
 
تطبيقات تفسيرية على هامش الدرس :
ذكرت مفردة (الرحمن) في القرآن الكريم 48 مرة ، وذكرت مفردة (الرحيم) 34 مرة .
ومن خلال الاستقراء تبين ما يلي :
1 – لفظ (الرحمن) يأتي بعد اسم الجلالة ، مثل قوله تعالى : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:1]
2 – الرحمن من الأسماء التي اختص الله بها مثل لفظ الجلالة (الله) ، مثل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ }[الإسراء:110]
3 – اقتران لفظ (الرحمن) بالملائكة وبخلق السموات والأرض وبالعرش وبالناس جميعا وبإمساك الطير ، وبالتالي فهذا اللفظ جاء عاما في القرآن الكريم .
4 – لفظ (الرحيم) جاء بعد لفظ (الرحمن)
5 – اقترن (الرحيم) بالتوبة وبالمغفرة وبالعزة وبالبر في حق المؤمنين ؛ فالله رحيم بعباده المؤمنين لا يعذبهم بعد التوبة ؛ لأنه يتوب عليهم ويغفر لهم ويُهلك عدوهم ويحسن إليهم .
وبهذا نقول ما قاله المفسرون بأن (الرحمن) ، الرحمة العامة ؛ لأنها تشمل جميع المخلوقات . بينما (الرحيم) ، الرحمة الواصلة ؛ لأن الله يوصل رحمته لمن يستحقها من عباده المؤمنين . فالرحمن ذو الرحمة العامة ، والرحيم ذو الرحمة الواصلة . وهذا المعنى نجده في قوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:156]
يقول سيد قطب : " ...بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه ، والذي لا يدرك البشر مداه . . فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله !
( فسأكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، والذين هم بآياتنا يؤمنون ) . "

والله أعلم وأحكم
 
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
يقول البيضاوي : " الحمد : هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها ، والمدح : هو الثناء على الجميل مطلقاً . تقول حمدت زيداً على علمه وكرمه ، ولا تقول حمدته على حسنه ، بل مدحته وقيل هما أخوان . والشكر : مقابلة النعمة قولاً وعملاً واعتقاداً ، قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ــــــــــــــــــ يدي ولساني والضمير المحجبا "​
من تعليق الشيخ : الجميل الاختياري هو الجميل الذي يتلبس به الإنسان اختيارا ، كحسن الخلق . فتقول : حمدت فلانا على حسن خلقه ؛ لأنه هو الذي تلبس بحسن الخلق : التواضع ، الكرم ونحو ذلك .
أما المدح فهو الثناء على الجميل الاختياري وغير الاختياري . فتقول حمدت فلانا لتواضعه ، ومدحت فلانا لجماله ؛ لأن الجمال ليست صفة اختيارية ، وإنما هي موهبة من الله سبحانه وتعالى ، لذلك تقول : مدحته على جماله .
هذا هو التفريق الذي يفرقه العلماء بين المدح وبين الحمد . وأن الحمد أخص ، فهنا أنت تحمد الله سبحانه وتعالى على الجميل الاختياري ـ على رحمته وعلى نعمه وكرمه سبحانه وتعالى ـ الذي يظهر أثره فيك .
وقيل هما أخوان . يعني المدح والحمد .
والشكر مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا . فالشكر هو أن تقابل النعمة بشكرها بلسانك أو شكرها بفعلك أو بشكرها بقلبك . هذا كله يقال له الشكر . ويستدلون على ذلك بقول زهير :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ـــــــــــــــــــــ يدي ولساني والضمير المحجبا​
يقول : جميلكم الذي أسديتموه لي أفادكم بثلاثة أشياء مني : شكري لكم بيدي وشكري لكم بلساني وشكري لكم بقلبي .
 
وجهة نظر قابلة للتقويم :
تباينت التفاسير حول مفردة (الحمد) ، لكنها تصب في اتجاه واحد ، حيث يمكن جمعها في تعريف جامع :
الحمد : هو الشكر خالصا على نعم الله المحمود ، وثناء عليه ، وإخبار بمحاسنه ، ووصف له بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم .

والله أعلم وأحكم
 
لي نظر في التعريف
اولا: في طوله وتكرار فصوله، من ثناء واخبار ووصف.
وثانيا: ان تعريف الحمد اولا بالشكر مشكل، الا على القول بانه تعريف بالجزء والتضمن بطريق الرسم لا المطابقة والحد الجامع، ويتخرج على قول الطبري انهما بمعنى، وقد رده ابن عطية وغيره بان الراجح ان الحمد ثناء على الذات والصفات والشكر على الافعال والهبات.
 
العفو اخي الكريم
فلك ان تحد الحمد بالثناء الكامل وهو لابن عطية، وهناك من قيده باللسان على الجميل الاختياري وفيه نظر، وهناك من قيده بما ذكرتم من المحبة والتعظيم ليفارق المدح وهو متجه وقد يدخل في قيد الكمال.
 
الحمد هو الثناء على المحمود بكمال صفاته والشكر الخالص على نعمه مع المحبة والتعظيم
أقول : قُدِّم الثناء على المحمود بكمال صفاته ؛ لأن الله حمد نفسه ، يقول ابن تيمية : " والرب – سبحانه وتعالى – إذا حمد نفسه فذكر أسماءه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الجميلة ، وأحب نفسه المقدسة فكان هو الحامِد والمحمود والمُثْني والمُثنَى عليه والمُمَجِّد والمُمَجَّد والمُحِب والمحبوب كان هذا غاية الكمال الذي لا يستحقه غيره ولا يوصف به إلا هو "
وثُني بالشكر الخالص لله تعالى ، وهو شكر باللسان لله تعالى لا يشاركه أحد ؛ لأن نعمه لا تحصى .
وشكر المحمود هو إخبار بمحاسنه ووصف له بصفات الكمال . يقول البيضاوي :"وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم . إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه ."
والمحبة والتعظيم هما شرطان أساسيان ليكون الإنسان حامدا .

والله أعلم وأحكم
 
يقول البيضاوي : " والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر . ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه . "
أثناء تعليق الشيخ تطرق إلى موضوعين :
1 – القراءة الشاذة ، 2 – الفرق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية .
الموضوع الأول : كلمة (الحمدُ) مرفوع ، أصلها النصب (الحمدَ لله) وقد قُرئ به ، فعلا وهي قراة شاذة .
عندما نقول قراءة شاذة ، ليس ذما لها ، وإنما هو اصطلاح . والقراءة الشاذة هي القراءة التي خالفت ركنا من أركان القراءة الصحيحة .
القراءة الصحيحة لها ثلاثة أركان :
1 – صحة الإسناد
2 – موافقة اللغة أو النحو
3 – موافقة رسم المصحف
هذه الشروط إذا توفرت في قراءة ، قلنا : قراءة صحيحة . وأما إذا اختل شرط من هذه الشروط الثلاثة أو شرط منها ، فإنها تكون قراءة شاذة . لكن لا يعنى ذلك أننا لا نحتج بها ولا نستشهد ، بل نحتج بها ونستشهد .
الموضوع الثاني : قاعدة من قواعد اللغة : الاسم يدل على الاستمرار ، والفعل يدل على التجدد والحدوث .
إذا قلت زيد منطلق . أنت وصفت زيدا بأنه منطلق ، تماما كما تقول : زيد طويل أو زيد كريم . فإنك تصفه بصفة ثابتة وراسخة فيه . وهذا هو معنى الاستمرار في الجملة الاسمية .
أما إذا قلت زيد ينطلق ، فإنك تصفه بفعل يتلبس به . والفعل يدل على التجدد والحدوث ، ويدل على أنه ليس صفة ثابتة فيه ، وإنما هو شيء عالق وينتهي . ولذلك يقولون : دلالة الجملة الاسمية أبلغ من دلالة الجملة الفعلية .
ولذلك تميز إبراهيم عليه الصلاة والسلام على الملائكة في سورة الذاريات ، كما قال تعالى : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25)}[الذاريات:24-25] . هم قالوا سلاما : جملة فعلية ، أي : نسلم عليك سلاما . فعبروا بالجملة الفعلية التي تدل على التجدد والحدوث . فرد عليهم بجواب الجملة الاسمية : سلام . أي : سلام عليكم . التي تدل على الاستمرار وعلى الثبوت . فكان هو في رده أكرم منهم في سلامهم .
وهذه القاعدة هي نفسها التي تكلم عنها البيضاوي ، فكانت قراءة الضم (الحمدُ لله) أبلغ من قراءة النصب (الحمدَ لله) ؛ لأن الاسم يدل على الاستمرار ، وأن هذه الصفة صفة الحمد ، صفة ثابتة راسخة مستقرة .
 
جمع في خلاصة :
يقول البيضاوي : " وقرئ الحمدِ للهِ باتباع الدال اللام ، وبالعكس تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة "
قال ابن جني في كتابه (المحتسب في توجيه شواذ القراءات) : قراءة أهل الباديةِ الحمدُ لُلَّه مضمومة الدال واللام ، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة إبراهيم ابن أبي عبلة الحمد لله مكسورتان ، ورواها أيضاً لي قراءة لزيد بن علي ، وللحسن البصري . وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال . "
إذن ، (الحمد لله) قرئت على أربعة أوجه :
الحمدُ لِله : جملة اسمية
الحمدَ لِله : جملة فعلية
الحمدِ لِله : باتباع الدال اللام في الكسر كأنهما كلمة واحدة
الحمدُ لُله : باتباع اللام الدال في الرفع كأنهما كلمة واحدة .

والله أعلم وأحكم
 
سؤال موجه للشيخ :
يقول البيضاوي : " { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل . "
فما المقصود بكلامه : " ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل "
مع فائق التقدير والاحترام
 
يقول البيضاوي : " { رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل . وقيل : هو نعت من رَبَّه يربه فهو رب ، كقولك نم ينم فهو نم ، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه . ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله : { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ } . والعالم اسم لما يعلم به ، كالخاتم والقالب ، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى ، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده ، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم . وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع . وقيل : عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعْلَمُ بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ، ولذلك سوى بين النظر فيهما ، وقال تعالى : {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَاتُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] . "
من تعليق الشيخ : الرب في اللغة العربية هو المربي والمصلح . يقول العربي : ربى الصحفة إذا أصلحها [والصحفة كالقصعة ، والجمع صحاف . يقول تعالى في الآية 71 من سورة الزخرف : {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ}]
قاعدة مضطردة : الله تعالى لا يذكر لفظ (الرب) في القرآن الكريم إلا وهو مقترن بالرحمة .
و{رب العالمين} فيه إشارة إلى رحمته بنا سبحانه وتعالى ، وأنه هو الذي رباهم بنعم ، وهو الذي أكرمهم شيئا فشيئا .
و(العالمين) : كل ما سوى الله سبحانه وتعالى بدليل قوله تعالى : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24)}[الشعراء:23 – 24]
فالجن عالم والإنس عالم وكل المخلوقات عوالم . والله سبحانه وتعالى رب هذه العوالم كلها .
وقيل المقصود بالعالمين الملائكة والعقلاء من الناس ، ويدخل من سواهم تبعا لا أصالة .
وقيل عُني به الناس هاهنا ؛ فإن كل واحد منهم عالم ، من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض . فقوله {رب العالمين} أي رب الناس . لماذا يسمي الله سبحانه كل واحد من الناس عالم ، قال لأن الإنسان في الحقيقة هو في نفسه عالم مليئ بالأسرار ، وفيه كل ما في العالم الكبير . كما يقول أحد الشعراء الصوفية ، يصف الإنسان قال : وتزعم أنك جرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر . وكما قال الله تعالى : {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21] .
 
قاعدة مضطردة : الله تعالى لا يذكر لفظ (الرب) في القرآن الكريم إلا وهو مقترن بالرحمة .
اخي الكريم مع الاحترام الكبير، فهذا الاطلاق وهذه الكلية بهذا الاقتران غير مسلم في جميع موارد اللفظة التي قاربت الالف الا على تمحل وتكلف، اما النص على الرحمة مقترنة بالرب فلا يطرد، وكذلك في غير المقترن، والا ماتقول في و قل يجمع بيننا ربنا، وايضا: مما يعترض به على هذه الكلية ما تقدم من اطلاقات الرب وانها تاتي بمعنى الملك والسيد والمصلح وغيرهما فمعنى الملك تقترن به العزة والحكمة في الغالب.
 
يقول الراغب الأصفهاني : " الرَّبُّ في الأصل : التربية ، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حدّ التمام ، يقال رَبَّهُ ، وربّاه ورَبَّبَهُ ... ولا يقال الرّبّ مطلقا إلا لله تعالى المتكفّل بمصلحة الموجودات ، نحو قوله : {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}[سبأ:15] . وعلى هذا قوله تعالى : {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً}[آل عمران:80] ... ويقال: رَبُّ الدّار ، ورَبُّ الفرس لصاحبهما ، وعلى ذلك قول الله تعالى : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}[يوسف:42] ، وقوله تعالى : {ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ} [يوسف:50] . "
واقتران (الرب) بالرحمة العامة والخاصة في سورة الفاتحة ، له دلالة قوية على أن الله رب العباد يتعهد عباده بالتربية التي تقتضي الرحمة بكل أنواعها : الرحمة العامة الشاملة لجميع خلقه والرحمة الخاصة بعباده المؤمنين .
يقول النيسابوري في تفسيره : " في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة : الله ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، المالك . كأنه يقول: خلقتك أولا فأنا الله ، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن ، ثم تُبْتَ فغفرتُ لك فأنا الرحيم ، ثم أُجازيكَ بما عملتَ فأنا مالك يوم الدين "
فالربوبية والرحمة متلازمان ؛ لأن الله رب كل شيء ورحمته وسعت كل شيء . يقول تعالى : {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام:164] ، ويقول تعالى : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] .
لذلك فصفة الربوبية تقتضي صفة الرحمة ، فهي من مستلزماتها .

والله أعلم وأحكم
 
كتب مقترحة من طرف الشيخ في الدرسين الرابع والخامس :
غريب القرآن ، لابن قتيبة
كتاب البسملة ، لأبي شامة المقدسي
موقف ابن تيمية من الأشاعرة ، عبد الرحمن بن صاالح المحمود
دراسات في فقه اللغة ، الدكتور صبحي الصالح
الصاحبي في فقه اللغة وسَنَن العرب في كلامها ، لأحمد بن فارس
 
حديث في المنهج

حديث في المنهج

يقول البيضاوي : " وقرئ { رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بالنصب على المدح أو النداء . أو بالفعل الذي دل عليه الحمد ، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها . "
من تعليق الشيخ : ما زلنا نتتبع كلام البيضاوي المفصل في تحليله لهذه الآية .
وأسلوب التفسير عنده هو الأسلوب التحليلي الذي يتحدث عنه علماء علوم القرآن . والمقصود به ، الوقوف عند كل عبارة من عبارة الآيات أو كل لفظة ، وتحليلها تحليلا يليق بها . أحيانا يكون تحليلا لغويا ؛ فيتكلم عن معناها في غريب القرآن ، وأحيانا يكون تحليلا بلاغيا ، وأحيانا يكون فقهيا وأحيانا يكون أصوليا ، ونحو ذلك . البيضاوي يسير على هذا المنهاج ويحاول أن يستقصي الحديث عن كل مفردة .
فعندما يتحدث عن كلمة (رب) هنا ، يقول بأن لها قراءة من القراءات المروية بالفتح : {ربَّ العالمين} لها ثلاثة إعرابات :
الأول : أن تكون منصوبة على المدح (أمدح ربَّ العالمين)
الثاني : أن تكون منصوبة على النداء (يا رب العالمين)
الثالث : منصوبة بالفعل الذي دل على الحمد (وأحمد ربَّ العالمين)
وهذه التقديرات النحوية هي باب من أبواب العلم كما تعلمون ، وهو علم النحو .
لا حظوا ـ أيها الإخوة ـ كيف يوظف البيضاوي أدوات التفسير في بيان الآيات ، فهذه مهمة جدا .
قد تكون هذه الأشياء التي نتعلمها في هذا الدرس أهم من بيان الآيات نفسها ؛ لأن التفسير تجدنه في بيان معاني الكلمات ، وتجدون هذه المعاني في مثل التفسير الميسر المختصر الذي يبين لك المقصود . ولكن نحن نريد أن نزيد على ذلك ؛ أن نبين كيف نفسر ، وليس فقط أن نفهم الآيات . نبين كيف نتعامل مع الآيات ، كيف نتعامل مع الأدوات .
 
حديث في المنهج (تابع)

حديث في المنهج (تابع)

سبب وضع النحو هو الحفاظ على القرآن الكريم وعلى لغة القرآن . وأصبحت اللغة العربية لغة مقدسة منذ أن نزل القرآن الكريم . فدارت علوم الآلة حول هذه اللغة الشريفة ، حفاظا على القرآن الكريم ؛ ولذلك نشأ النحو ونشأت البلاغة والمعاجم والعلوم الأخرى المساعدة . وجاء المفسرون بعد ذلك فوظفوا هذه العلوم في فهم القرآن الكريم . لذلك ، فعلم التفسير هو توظيف لهذه العلوم في التفسير . ونحن لسنا متعبدين بطريقة معينة وترتيب معين في بيان القرآن الكريم . ولذلك تلاحظون البيضاوي كيف أنه جاء إلى تفسير الزمخشري ، وإلى تفسير الرازي ، وإلى مفردات الراغب وقيل تفسيره ، فحاول أن يقرأ هذه التفاسير ويلخصها ويضيف عليها من معلوماته ومعرفته في أصول الفقه وفي غيرها ، فخرج لنا بهذه الطريقة ؛ فهو يحاول أن يركز المعلومات حول كل آية ويرتبها بطريقة أو بأخرى ، ونحن نتلمس المنهجية من خلال صنيعه .
 
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
يقول البيضاوي : " {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى : {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:19] . وقرأ الباقون : مَلِكِ. وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}[غافر:16] . ولما فيه من التعظيم .
من تعليق الشيخ : تحدث عن {مالك يوم الدين} ، فبدأ ببيان القراءات . وطبعا فيها قراءتان متواترتان ، وفيها قراءات شاذة . القراءات المتواترة هي القراءات التي ذكرها : قراءة عاصم والكسائي ويعقوب . وهؤلاء من القراء العشرة . هؤلاء الثلاثة قرأوا : {مالك يوم الدين} . وقرأ الباقون {ملك} . ويقصد بالباقين قراءة أهل الحرمين ؛ وهم : قراءة نافع المدني وقراءة ابن كثير المكي . وهؤلاء هما قراء الحرمين ، ويشار إليهم في كتب القراءات بالحرَمِيَّيْن . وطبعا ابن كثير المكي أحد القراء السبعة ليس هو صاحب التفسير كما يظن البعض . وإنما إسماعيل بن كثير صاحب التفسير متأخر ، دمشقي ، توفي رحمه الله سنة 774 هجرية . أما عبد الله بن كثير صاحب القراءات فهو من المتقدمين رحمه الله تعالى . البيضاوي يختار ويوجه القراءات ، كما فعل قبل قليل . قدم توجيه الألف {مالك} ثم اختار بدون ألف {ملك} وقال : وهو المختار . فهل يجوز للبيضاوي أن يختار ويفضل قراءة متواترة على قراءة متواترة أخرى ؟ هل يعنى هذا أنه يرفض القراءة الأخرى ؟ الجواب : لا .
الاختيار بين القراءات كان منهجا للعلماء المتقدمين . كانوا يختارون قراءة من القراءات ثم تنسب إليهم . نحن الآن عندما نقول قراءة حفص ، فهل حفص هو الذي ابتدعها ؟ الجواب : لا . وإنما نسبت إليه نسبة اشتهار وانتشار ، باعتبار أنه هو الذي قرأ بها فقط . حفص هو الذي اشتهر بإقراء هذه الرواية الصحيحة التي ثبتت . فهو الذي تفرغ وتصدى لتدريسها . والصحيح أن كل القراءات الثابتة الصحيحة قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل بها الوحي . ولا مدخل للقياس ولا الاجتهاد في باب القراءات . وبذلك لا يجوز رد قراءة من القراءات الصحيحة الثابتة ، سواء كانت من القراءات العشرة أو السبعة . ولذلك ستأتي عندنا في بعض المواضع عند البيضاوي انتقاده لبعض القراء السبعة ، وهذا تصرف خاطئ يقلد هو فيه الزمخشري قبله . وهو أنهم يردون قراءة حمزة في بعض المواقف . وهذا منهج غير صحيح وغير مقبول ، وقد رده العلماء وأجمعوا على خطئه .
وفي توجيه القراءتين : توجيهه لمالك : استشهد بقوله تعالى : {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:19] . يوم القيامة ، لا أحد من الخلق يملك لنفسه شيئا ، فانتفت عنه صفة مالك .
ثم في توجيهه لملك ، استشهد بقوله تعالى : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}[غافر:16] . آية تنزع الملكية عن الأفراد ، فدل على أنه لا مِلكية لأحد غير الله سبحانه وتعالى ، وأيضا لا مُلك لأحد غير الله سبحانه وتعالى : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}[غافر:16] . وقال : ولما في ذلك من التعظيم : يقصد أن {ملك يوم الدين} أشد تعظيما لـ : {مالك يوم الدين} . هذا من وجهة نظره .
 
يقول البيضاوي : " والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من المِــلك . والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من المـــُلك . "
من تعليق الشيخ : ثم أخذ البيضاوي يفسر الآن . فما معنى مالك ، وما معنى ملك ؟
قال : والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من المــِلك ، كما نقول نحن : مالك البيت ، ومالك الأرض ، ومالك السيارة ، فهو يتصرف في مِلكه كيف يشاء . الصحيح أنه لا أحد يتصرف في مِلكه كيف يشاء ، ولكن يتصرف في حدود ما أباحه له الشرع . بل وأيضا في حدود ما أتاحه له القانون . سواء كان في بلد إسلامي أوغير إسلامي . حتى لو كنت تملك البيت ، هل تملك أن تبني عشرة أدوار في حي لا يبني أهله إلا دورين مثلا . ما الذي يمنعك وأنت تملك هذا البيت ، القانون : البلدية ، وأنظمة البلدية . فحتى ملكيتك فهي ملكية محدودة . وقس على ذلك . قال : مأخوذة من المِلك . مَلَكَه يملِكه مِلْكاً ، بمعنى : حازه وأصبح له . قال : والمَلِكُ هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الـــمُلك ، مأخوذ من الـــمُلك . إذن ، هذا هو الفرق بين مالك وملك .
نحن نقول دائما في القراءات وفي توجيهها : إن القراءتين كالآيتين المستقلتين . فنحن نقول : مالك يوم الدين وملك يوم الدين ، المعنيان كلاهما صحيح ، ويَعْضُدُ بعضهما بعضا . فالله سبحانه وتعالى هو مالك يوم الدين وهو ملك يوم الدين . إذا نظرت لهاتين الصفتين في الدنيا ، تجد أن الملك أعظم من المالك .
فالملك لا يحق له أن يتصرف في بيتك شرعا إلا بإذنك أنت . وأنت المالك لهذا البيت ، هل تستطيع أن تتصرف فيه بشيء يخالف رأي الملِك ، إذا كان يخالف مصلحة أو نحو ذلك . تلاحظ أن المسألة فيها تداخل: هناك مزايا للمالك ليست موجودة للملك، وهناك مزايا للملك ليست موجوة للمالك .
فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بهما معاً ، حتى تجتمع له كل مزايا هاتين الصفتين . فهذا هو الصحيح في هذه الآية .
 
ولابن عطية في المعنى من تحريره
واحتج من قرا ملك بان: لفظة ملك اعم من لفظة مالك، اذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا، والملك يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف الا عن تدبير الملك.
وتتابع المقسرون على سرد هذه الحجة، وهي عندي غير لازمة، لانهم اخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة الى ما هو المملوك وفيه الملك؛فاما اذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك ابلغ.
وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد فهو مالكه وملكه، والقراءتان حسنتان.
 
الفاضل مخلص البورقادي ، أشكرك على مرورك .
كلام ابن عطية جاء على الصيغة التالية : " واحتج من قرأ «ملك» بأن لفظة «ملك» أعم من لفظة «مالك» ، إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا . والملك الذي يدبر المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك . وتتابع المفسرون على سرد هذه الحجة وهي عندي غير لازمة ، لأنهم أخذوا اللفظتين مطلقتين لا بنسبة إلى ما هو المملوك وفيه الملك . فأما إذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك فالمالك أبلغ ، مثال ذلك أن نقدر مدينة آهلة عظيمة ثم نقدر لها رجلا يملكها أجمع أو رجلا هو ملكها فقط إنما يملك التدبير والاحكام ، فلا شك أن المالك أبلغ تصرفا وأعظم ، إذ إليه إجراء قوانين الشرع فيها ، كما لكل أحد في ملكه ، ثم عنده زيادة التملك ، وملك الله تعالى ليوم الدين هو على هذا الحد ، فهو مالكه وملكه ، والقراءتان حسنتان. "
فابن عطية يرد حجة من قال بأن ملك أبلغ من مالك . لأنهم ذكروا اللفطتين مطلقتين . ولهذا لا بد من ذكر نسبة أحدهما للآخر ، وعند ذلك يتضح الأمر .
والنسبة المذكورة جاءت في المثال المضروب : إذا كان الملك يملك المدينة كلها ، فهي له ويتصرف فيها كيف يشاء ، فالملك أبلغ من المالك .
وإذا كانت المدينة آهلة بالسكان الذين لهم حق الملكية ، وكان على رأسهم ملك يدبر أمر هذه المدينة فقط ، فالمالك أبلغ من الملك .
إذن هناك فرق بين ملك يملك ، وملك لا يملك ، لكنَّ القراءتين معاً تدلان على أن الله ملك يوم الدين ومالكه . وكما أشار الشيخ سابقا أن القراءتين كالآيتين المستقلتين ، لا يمكن إقصاء إحداهما على حساب الأخرى ، بل يكون التكامل بينهما ، حيث يكون معناهما متكاملا . وهذا هو التوجيه الصحيح ، حتى تكون القراءة في خدمة المعنى القرآني .

والله أعلم وأحكم
 
كلام ابن عطيه هو ماذكرت اولا واقتصرت فيه على مهمه مع حذفه مثاله؟
اما النسبة: فقد ذكرها واثبتها في قوله فاما اذا كانت نسبة الملك هي نسبة المالك.
وتوجيه الشيخ، هو نص ابن عطية في قوله: والقراءتان حسنان، و في تقريره انه اذا تساوت النسبتان فمالك ايضا يستلزم انه ملك، كما ان الملك مالك، فملكه ليوم الدين على هذا الحد فهو مالكه وملكه.
 
توضيح لا بد منه :
صيغة " القراءتان حسنتان" ليست هي قاعدة : " القراءتان كالآيتين المستقلتين "
لأن الصيغة الأولى عند بعض المفسرين قد يتبعها استثناء مثل : والأولى أبين أو والثانية أفصح أو غير ذلك مما يدل على التفضيل أو الاختيار .
بينما القاعدة : " القراءتان كالآيتين المستقلتين" فإنها تدل على أن لكل قراءة معنى مستقل ، والجمع بينهما يكون في خدمة تفسير الآية ، دون التمييز بين القراءة الأولى والثانية .

والله أعلم وأحكم
 
القول بان كل قراءة تستلزم معنى الاخرى، اولى من القول: ان القراءاتان كالايتين المستقلتين
 
يقول الشنقيطي في تفسيره : " اعلم أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين ، كما هو معروف عند العلماء "
وفي إطار تفسير قراءة بأخرى ، باعتبار أن القرآن يفسر بعضه بعضا ، إليك تطبيق هذه القاعدة من تفسير الشنقيطي :
"وَفِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
وَالْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى : {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا إِشْعَارٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مُلْكِ اللَّهِ وَمُلْكِ الْعِبَادِ ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَلِكِ الْمُطْلَقِ وَالْمَلِكِ النِّسْبِيِّ ، إِذِ الْمَلِكُ النِّسْبِيُّ لَا يَمْلِكُ ، وَالْمَلِكُ الْمُطْلَقُ ، فَهُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ، وَالَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ .
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُهُ ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ ، وَلَا يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ ، وَهَذَا هُوَ شِعَارُ الْعَبْدِ فِي الرُّكْنِ الْخَامِسِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ، حِينَ يُهِلُّ بِالتَّلْبِيَةِ : إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ . "
 
يقول البيضاوي : " وقرئ مَلْكِ بالتخفيف ومَلَكَ بلفظ العمل . ومالكاً بالنصب على المدح أو الحال ، ومالكٌ بالرفع منوناً ، ومضافاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ومَلِكٌ مضافاً بالرفع والنصب . ويوم الدين يوم الجزاء ..."
من تعليق الشيخ : ثم ذكر البيضاوي رحمه الله قراءات أخرى شاذة :
(مَلْك) بالتخفيف .
(مَلَكَ) بلفظ العمل .
(مالكاً) بالنصب على المدح أو الحمد .
(مالكٌ) بالرفع منونا ومضافا (خبر لمبتدأ محذوف)
(مالكٌ) مضافا بالرفع والنصب .
تلاحظون البيضاوي : في الأول ، بدأ في توجيه القراءات ، ثم ذكر لنا الاختيار ، ثم الفرق بين (مالك) و (ملك) ، ثم القراءات الضعيفة التي رُويت في (مالك) ، ثم بدأ في التفسير ، قائلا : " ويوم الدين يوم الجزاء "
 
يقول البيضاوي : " ويوم الدين يوم الجزاء ومنه «كما تدين تدان» وبيت الحماسة :
ولم يَبْقَ سِوَى العدوا.......... نِ دِناهُمْ كما دَنُوا
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، ومعناه ، ملك الأمور يوم الدين على طريقة : {وَنَادَى أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ}[الأعراف:44]
أوله الملك في هذا اليوم ، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة . "
من تعليق الشيخ : (كما تدين تدان) ، وهذا يسمى مثلا ؛ مثل من أمثال العرب . والمفسرون يستشهدون بالأمثال . ومعناه كما تفعل وتقدم للناس ، سوف يجازونك بمثله .
وبيت الحماسة ، يقصد بالحماسة ديوان الحماسة ؛ فهو مختارات شعرية صنفه أبو تمام (ت:231 ه) . عندما جاء إلى قوله تعالى {مالك يوم الدين} ، استشهد على أن دان بمعنى جازى .
ويقول البيضاوي : أضاف اسم الفاعل للظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع ، بمعنى (مالكٌ يومَ الدين ) ، فكأن الله سبحانه وتعالى يظهر ملكه ظهورا عظيما في ذلك اليوم . ولذلك عندما يقول الله سبحانه وتعالى {لمن الملك اليوم) يسكت الخلائق أجمعين ، ولا يجيب أحد . {لله الواحد القهار} . لأن الملك الحقيقي يظهر ظهورا حقيقيا في ذلك اليوم .
كقولهم : ياسارق الليلة أهل الدار ، ومعناه ملك الأمور يوم الدين على طريقة { ونادى أصحاب الجنة} . الله سبحانه وتعالى سماهم أصحاب الجنة ، كأنهم يملكونها للإشارة على شدة استنفاعهم وتلذذهم بملذاتها ، وإلا فهم لا يملونها . الملك لله سبحانه وتعالى ، وكذلك {مالك يوم الدين} كأنه لكمال ملكه في ذلك اليوم لا يصح أن يوصف بالملكية غيره . قال : أو له الملك على وجه الاستمرار . فما زال هنا يوجه القراءات التي ذكرها .
لاحظوا – أيها الإخوة – أهمية اتقان المصطلحات النحوية والبلاغية في فهم المختصرات في التفسير وفي غيره ؛ لأن الذي يضع هذه المختصرات – البيضاوي مثلا – يفترض في من يقرأ كتابه هذا أن يكون متقنا لهذه العلوم المساعدة في التفسير .
 
يقول البيضاوي : " وقيل: الدِّينِ الشريعة ، وقيل : الطاعة . "
من تعليق الشيخ : البيضاوي يسير على نفس المنهجية . فبعد أن استوفى المعنى الراجح الصحيح ، ذكر الأقوال الضعيفة التي قيلت بلفظ التمريض " وقيل : الدين الشريعة ، وقيل : الطاعة "
تلاحظون في التفسير تُرْوَى أحيانا أقوال لَا حَظَّ لها من النظر . الذي فسر {مالك يوم الدين} بالشريعة، ما هو دليله إلا مجرد دلالة الدين في اللغة ، لكنها تُروى . نحن نتحدث عن تراث موجود .
في الحقيقة لو أعملنا القواعد والأصول لما ذكرنا مثل هذه الأقوال في كتب التفسير ؛ لأن السياق لا يساعد عليها . وليس صحيحا – وأنت تفسر – أن تذكر كل ما تحتمله اللغة ، ولذلك وُضِعت قاعدة من قواعد التفسير المهمة : (ليس كل ما صح لغة صح حمل القرآن عليه) .
 
عودة
أعلى