معينات فهم القرآن في شهر القرآن

المستصفى

New member
إنضم
16/07/2006
المشاركات
48
مستوى التفاعل
0
النقاط
6

معينات فهم القرآن في شهر القرآن
أ. د. رمضان خميس الغريب

أرسل الله الرسل هداة للبشر إلى الحق، ودعاة لهم إلى الصدق، وأدلاّء لهم إلى صراط الله المستقيم، وأنزل الكتب لتكون للناس منارات هدى ومشاعل نور يفيئون إليها ويفيدون منها، ينعمون بخيرها، ويترسمون هديها، وينسجون على منوالها، والقرآن العظيم دستور الأمة الخالد ومعجزة الإسلام الكبرى، كلما اقترب المسلمون منه وعياً وسعياً، عزوا في الدنيا وسعدوا في الآخرة، وللقرآن معينات تعين على فهمه، وتيسر وعيه، نذكر هنا بعضها لا لنسردها سرداً، ولا لنقصها قصاًًً، ولا لنحكيها حكاية، بل لنضع برامج عملية للإفادة من تلاوة القرآن في شهر القرآن، وترشيداً لهذا الإقبال الماتع السار من المسلمين على القرآن والعودة إليه، ومن هذه المعينات مايلي:

فمن عايش القرآن بروحه وقلبه ولسانه ووعيه، أعطاه القرآن مذخوره وفتح له من كنوزه، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف. إن استصحاب القرآن الكريم في القلب والعقل، والتحاكم إليه في صغير الأمر وكبيره باب عظيم النفع من أبواب الإفادة من معاني القرآن الكريم، وهو علامة على حياة القلب، ويقظته، واستعداده للنفع، كالبلدة الآمنة الطيبة التي يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، أو(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )265 (البقرة)، يقول ابن القيم - رحمه الله -: «من الناس من يكون حي القلب، واعيه، تام الفطرة، فإذا فكر بقلبه، وجال بفكره، دله قلبه وعقله على صحة القرآن، وأنه حق، وشهد قلبه بما أمر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة، ( نور على نور ) (النور: 35)، فهذا نور الفطرة على نور الوحي، وهذا صاحب القلب الحي الواعي، يجمع بين قلبه الواعي وبين معاني القرآن، فيجدها كأنها قد كتبت فيه، فهو يقرؤها عن ظهر قلب، ومن الناس من يكون تام الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة، فيحتاج إلى شاهد يميز بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره، وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي، فطريق وصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام، وقلبه للتأمل والتفكر فيه، وتعقل معانيه، فيتعلم حينئذ أنه الحق»(1).

فيوضات وعطاءات
إن معايشة الإنسان للقرآن الكريم تفتح له مغاليق الفهم، وتيسر له سبل الوصول إلى مراد الله تعالى وكم من فقهاء ومفسرين عاشوا في ظلال القرآن الكريم في أتون المحن، فأثمرت تلك المعايشة والمخالطة ما لا يتيسر لغيرهم في بحبوحة الحياة، وذلك ما كان يذكره ابن القيم من حال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذ يقول: سمعته غير مرة يقول: «ما يصنع أعدائي بي، إن حبسوني فحبسي خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة في سبيل الله، أنا في صدري كتاب الله وسنة نبيه»(2)، وكم من علماء عاشوا محاور القرآن الكريم وهم في محنة من المحن، فكانت فيوضات وعطاءات دونها عطاء الكتاب والقرطاس، ولقد ذكر شيخنا العلامة الشيخ الغزالي - رحمه الله - أنه جمع محاور القرآن الكريم في ليالي بعض المحن التي مرت به وعاش فيها مع القرآن العظيم خلا له فأعطاه من فضله، وكان نتاج ذلك كتابه الرائع «المحاور الخمسة» في القرآن الكريم.
من هنا تَعيَّن على المسلم أن يعايش القرآن الكريم معايشة تبرز له معانيه، ويختلط بروحه، وعقله، وفهمه، ووعيه، حتى يصل من الخير إلى ما يريد، إن المعايشة تعين على استحضار الصورة التي يتناولها القرآن الكريم، فيرى أهل الجنان منعمين، وأهل النار معذبين موقوفين؛ لذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس حظاً في فهم القرآن الكريم، والانتفاع به، وذلك كما يقول شيخ الإسلام في مقدمته: «لما شاهدوه من القرائن والأحوال، التي اختصوا بها فحصل لهم الفهم التام، والعلم الصحيح»(3)، إن الذي يعايش القرآن الكريم في حله وترحاله، ويطوي معه الزمن في ليله ونهاره، فيسير في عمق الزمان مضياً واستقبالاً، ستفتح له كنوز من المعرفة لا يدركها إلا من ذاقها وخبرها، وعندئذ ستتحول حياته إلى حركة وعمل، وعطاء وبذل؛ لأنها ستضاء بمفاهيم القرآن، التي تشبعت بها، وتزن بموازين القرآن فلا تقدم إلا ما قدمه الله في كتابه، ولا تؤخر إلا ما أخره الله في كتابه.

معاينة ما يقرأ
ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من عاش العيش الحقيقي مع القرآن الكريم، ولا يصل الإنسان إلى هذه الصورة إلا بمعاينة ما يقرأ ومعايشة ما يتلو، حتى يصير ما يقرؤه حياً أمامه، سواء أكان ذلك في عالم الغيب أم في عالم الشهادة، وهذا ما عبر عنه حجة الإسلام الإمام الغزالي بمنزلة التأثر، ووصفه بقوله: «وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة، بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد، يتصف به قلبه من الحزن، والخوف، والرجاء، وغيره.. فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته، كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر، كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يطأطأ خضوعاً لجلاله، واستشعاراً لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله - عز وجل - كذكرهم لله - عز وجل - ولداً وصاحبة يخفض صوته، ويكسر في باطنه حياء؛ لقبح مقالتهم، وعند وصف الجنة - ينبعث بباطنه؛ شوقاً إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها، ولما قال رسول الله [ لابن مسعود: «اقرأ على»، قال: فافتتحت سورة النساء، فلما بلغت {فّكّيًفّ إذّا جٌئًنّا مٌن كٍلٌَ أٍمَّةُ بٌشّهٌيدُ $ّجٌئًنّا بٌكّ عّلّى هّؤٍلاءٌ شّهٌيدْا >41<}(النساء)، رأيت عينيه تذرفان بالدمع، فقال لي: «حسبك الآن»(4)، وهذا لأن مشاهدة تلك الحالة استغرقت قلبه بالكلية، ولقد كان في الخائفين من له أحوال في سماع الآيات، فمثل هذه الأحوال تخرجه عن أن يكون حاكياً في كلامه، فإذا قال: ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (يونس)، ولم يكن خائفاً كان حاكياً، وإذا قال: ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير 4 ) (الممتحنة)، ولم يكن حال التوكل والإنابة، كان حاكياً، وإذا قال: ( وّلّنّصًبٌرّنَّ عّلّى مّا آذّيًتٍمٍونّا وّعّلّى اللَّهٌ فّلًيّتّوّكَّلٌ المتوكلون 12 (إبراهيم)، فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه، حتى يجد حلاوة التلاوة؛ فإن لم يكن بهذه الصفات، ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات كان حظه من التلاوة حركة اللسان(5)، وضرب الإمام مثلاً لمن يقرأ القرآن ولا يعايشه بقلبه، ولا يحياه بحسه وروحه، بالذي يقرأ كتاب مليكه، الذي يأمره بإعمار مملكته، وهو ممعن في تخريبها، ومدمن لقراءة الكتاب، وكأن الإمام بذلك يعاين أحوال عموم المسلمين، إلا من رحمه الله، فيقول: «ومثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره، مثال من يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات، وقد كتب إليه في إعمار مملكته، وهو مشغول في تخريبها، ومقتصر على دراسة كتابه، فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء، واستحقاق المقت، وصوَّر معايشة الجيل الأول وعنايتهم بهذه المخالطة بينهم وبين القرآن الكريم بقوله: «لقد كان شغل الصحابة رضوان الله عليهم في الأحوال والأعمال، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرين ألفاً من الصحابة، لم يحفظ القرآن منهم إلا ستة، اختلف في اثنين منهم، وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين، وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم، ولما جاء واحد ليتعلم القرآن فانتهى إلى قوله - عز وجل -: ( فّمّن يّعًمّلً مٌثًقّالّ ذّرَّةُ خّيًرْا يّـرّهٍ (7) وّمّن يّعًمّلً مٌثًقّالّ ذّرَّةُ شّــرْا يّــرّهٍ (8)(الزلزلة)، قال: يكفي هذا، وانصرف، فقال صلى الله عليه وسلم: «انصرف الرجل وهو فقيه» (6).

إن المراد من المعايشة أن يصل القارئ والسامع إلى درجة التواصل الحقيقي مع القرآن الكريم، فيحس بإحساسه، ويشعر بشعوره، وينظر إلى مقاصده وغاياته، ويدنو إلى أهدافه ومتطلباته، ساعتها تكون رسالة القرآن في الحياة قد وصلت إلى الأحياء، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

الهوامش
(1) انظر الفوائد: صـ10، 11 بتصرف يسير، ط: مكتبة نذار مصطفى الباز، ط الثانية 1425هـ/ 2004 م. (2) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب: ص 74،73 لابن القيم، ط: دار الكتاب، بيروت لبنان، ط أولى 1425هـ 2004م. (3) مقدمة في أصول التفسير: صـ 140، ط: دار المؤيد، ط أولى 1423هـ/ 2002م. (4) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، ج4 صـ 192 من حديث عبدالله بن مسعود، ط: دار ابن كثير، بيروت، لبنان، ط الثانية، ت: مصطفى البغا. (5) الإحياء: 1/ 400، 401 (6) الحديث ذكره ابن حبان في صحيحه، ج3 صـ50 بلفظ مقارب.


المصدر :مجلة المجتمع
 
يسر الله أمركم ....و فرج همكم

على هذا المقال ...الذي أنار العقل بأمور كثيرة ..قد غفل عنها
بارك الله فيكم
 
(2 من 3) حضور القلب والمدارسة وحُسن التلاوة

(2 من 3) حضور القلب والمدارسة وحُسن التلاوة

من معينات فهم القرآن الكريم وأسس الإفادة منه «حضور القلب»، فكيف يفتح القرآن كنوزه لقلبٍ غافلٍ غير يقظان، أو لاهٍ مشغول عن عطائه وفيضه.. إن القلب إذا حضر عند سماع القرآن، أو تلاوته وقراءته، فُتحت أمامه مغاليق الفهم، وتبدّد لديه كسف الظلام، فإذا بنور القرآن يسري في عقله وقلبه وروحه ودمه؛ فيجعله إنساناً آخر؛ إنساناً قرآنياً يتحرك بالقرآن في شغله ومحياه، ومصبحه وممساه.. تتماسك أمامه القيم، ولا تنفلت من بين يديه المعايير، وقد كان للسلف الصالح مع القرآن أحوالٌ تحتاج منّا إلى وقفات؛ حيث كانوا وقّافين عند كلام الله، حضورَ قلبٍ، ويقظةَ فؤاد.

وقد ذُكر في قوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بِقوَّة}(مريم:12)؛ أي بجد واجتهاد، وأخذه بالجد: أن يكون مجرداً له عند قراءته، منصرف الهمة إليه عن غيره، وقد قيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن، هل تحدث نفسك بشيء؟ فقال: أو شيئاً أحب إليَّ من القرآن حتى أحدث به نفسي؟ وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية، وهذه الصفة تتولد عن صفة التعظيم لكلام الله تعالى؛ فإن المعظِّم للكلام الذي يتلوه يستبشر به، ويستأنس له ولا يغفل عنه، وفي القرآن ما يستأنس به القلب، إن كان من يتلوه أهلاً له، فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره وهو في متنزهٍ عنه؟! والذي يتفرج في المتنزهات لا يفكر في غيرها، فقد قيل: «إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرائس وديابيج ورياضاً وخانات، فإذا دخل القارئ الميادين، وقطف من البساتين، ودخل المقاصير، وشهد العرائس، ولبس الديابيج، وتنزه في الرياض، وسكن غرف الخانات، استغرقه ذلك، وشُغل به عما سواه، فلم يعزب قلبه، ولم يتفرق فكره»(1).. وهو توصيف راقٍ من «حُجّة الإسلام» لحضور القلب ويقظته، وعدم مبالاته بما سوى القرآن أو الاعتناء بما عداه.

المدارسة
وهي صورة من صور الرغبة في تفهُّم القرآن الكريم، والوقوف على حروفه وحدوده، واستنباط حكمه وأسراره، وقيمه ومعانيه، وهذا ما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ورغّب فيه بقوله: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلا غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده». والمدارسة لون من ألوان اختزال الفكر، واستدعاء المعاني والاجتماع على مائدة قرآنية واحدة، يقطف منها أصحاب ثقافات متعددة، يأخذون منها ما تطيب به نفوسهم، وتصح به عقولهم، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتدارسون القرآن، ويعيشون حوله بل به.. وما أسئلة عمر الفاروق رضي الله عنه لأصحابه عن معنى «التخوف» ومفاد سورة «النصر» وغيرها منا ببعيد. فهذه المدارسة تعين على توقد الذهن، وحضور العقل، وتكامل الفكر؛ حتى يفيد المتدارسون للقرآن أكبر فائدة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الدراسة صلاة»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «تذاكُر العلم بعض ليلة أحبُّ إلي من إحيائها»، ونُقل عن ابن القيم قوله: «ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها، فالمذاكرة بها لقاح العقل»(2). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدارس أصحابه، فهذه أمنا عائشة - رضي الله عنها- تدارس النبي صلى الله عليه وسلم وتسأله، فعن ابن أبي مليكة أن: «عائشة كانت لا تسمع شيئاً لا تفهمه إلا راجعت فيه حتى تفهمه»، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسب عُذِّب»، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: فقلتُ أليس الله تعالى يقول: {فّأّمَّا مّنً أٍوتٌيّ كٌتّابّهٍ بٌيّمٌينٌهٌ (7) فّسّوًفّ يٍحّاسّبٍ حٌسّابْا يّسٌيرْا (8)}(الانشقاق)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما ذلك العرض، وليس أحد يُناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب». يقول ابن حجر في الفتح: «وفي الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تفهُّم معاني الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضجر من مراجعة العلم، وفيه جواز المناظرة ومقابلة السُّنة بالكتاب، وقد وقع ذلك لغير عائشة» (3).

صدق الطلب
ولاشك أن صدق القلب والإخلاص والإلحاح في طلب الفهم طريق موصِّل إلى المراد، فإنهم قالوا: مَنْ أكثر من الطَّرق أوشك أن يُفتح له، قال شيخ الإسلام «ابن تيمية» يرحمه الله: «من تدبر القرآن طالباً الهدى فيه تبين له طريق الحق»(4)، ولِمَ لا والقرآن لا يرضى بأن يكون له من الناس فضل الأوقات، ولا فضل العزمات، وإنما يرضى بأن تعطيه كلك حتى يكشف لك عن بعض كنوزه وعطاياه.. ومن صدق الطلب إدامة النظر فيه، والتفكر في كلماته ومراميه.

سلامة التلاوة
إن سلامة التلاوة طريق إلى سلامة الفهم، وإتقان الأداء باب موصِّل إلى التدبر والتفكر، والترسل في القرآن بترتيل وترتيب معين من معينات الفهم، ولأمرٍ ما كان جبريل - عليه السلام - يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي تُوفِّي فيه صلى الله عليه وسلم عارضه بالقرآن مرتين.. ولذلك، قال السيوطي في إتقانه: إن «التحقيق يكون للرياضة والتعلم والتمرين، والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط»(5).
ولاشك أن الترسل في القراءة والتمهل بها يعين على فهم القضية المترابطة، والمعنى الواحد الذي لا يكتمل إلا باكتمال جزئياته، وقد استحب العلماء الترتيل لأنه معين على الفهم، كما ذكر «حُجّة الإسلام» ذلك في إحيائه وهو يعدد آداب القراءة، فيقول: «الخامس: الترتيل، وهو مستحب في هيئة القرآن؛ لأن المقصود من القراءة التفكر، والترتيل معين عليه، ولذلك نعتت أم سلمة -رضي الله عنها- قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً، حرفاً». وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما أحبُّ إليَّ من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيراً».. وسُئل مجاهد عن رجليْن دخلا في الصلاة وكان قيامهما واحداً، إلا أن أحدهما قرأ البقرة فقط والآخر القرآن كله، قال: «هما في الأجر سواء». كما أن القراءة بترتيب تعين أيضاً على الفهم والتدبر، وذلك للترابط الموضوعي الذي هو لون من ألوان الإعجاز القرآني، فإن كل آية مع أختها تمثل ربطاً بديعاً ورصفاً محكماً يضيع جماله بتقطيعه، وكل آية مع أختها لُحمة واحدة؛ تمهد السابقة للاحقة، وتؤكد اللاحقة على السابقة في تناغم واتساق، وكذلك ترتيب السور بعضها بعد بعض لحكمة وغاية، حتى قال الإمام النووي يرحمه الله: «الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب، وسواء قرأ في الصلاة أو في غيرها.. ويُستحَّب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها، ودليل هذا ترتيب المصحف، إنما جُعل هذا لحكمة ينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشروع باستثنائه؛ كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة، وفي الثانية سورة الإنسان ونحو ذلك»(6).
هذا وقد سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على منهاجه في الترسل والتريث في القراءة والترتيب كذلك، حتى أنكر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه على «نهيك بن سنان» سرعته في القراءة حين قال: قرأت المفصَّل البارحة، فقال ابن مسعود: هذّاً كهذِّ الشعر.
وخلاصة القول: إن الترسل في القراءة يؤدي إلى ضبط معانيها وإدراك أهدافها، والترتيب فيها يؤدي إلى ترابط أهدافها وظهور مقاصدها واتضاح معانيها واكتمال فكرتها في ذهن القارئ والسامع.

الهوامش
(1) إحياء علوم الدين: ج1، ص 394 و395، بيروت، ط أولى 1424هـ -2004م. (2) مفتاح دار السعادة: ص217. (3) فتح الباري: ج1، ص197، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ. (4) مجموع الفتاوى: ج3، ص137. (5) الإتقان: 1/100 المكتبة الثقافية، بيروت، بدون تاريخ. (6) التبيان في آداب حملة القرآن: ص62 و63.
 
عودة
أعلى