د. أبو عائشة
New member
كثيراً ما توافق القارئ في كتب التفسير وإعجازه وفي كتابات البلاغيين عبارة : (العلة ) بمعنى السبب الباعث على اختيار لفظة ما دون أختها ومرادفتها أو الموجب لاختيار تعبير دون آخر ، بل شاع اسلوب التعليل في كتبهم حتى لا يكاد تفسير أو كتاب في علوم القرآن أو إعجازه يخلو من مثل هذا التعبير أو مشابهٍ له له نفس دلالته .ففي تفسير الطبري نجده يقول:
فإن قال: وما العلة التي أوجبت عليها الثباتَ على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية؟
و: وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في"السُّفهاء"، فشبيه بوجه دخولهما في"الناس" في قوله: ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك، والعلةُ في دخولهما في"السفهاء" نظيرتها في دخولهما في"الناس" هنالك، سواء.
وفي تفسير القرطبي (( 1 )):
ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب " يرجو " إلا بغير ألف إذا كان لواحد، لان العلة التي في الجمع ليست في الواحد.و (( 2 )) : كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة
و (( 3)) : قال الفراء: العلة الجالبة لهذه الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح
وفي تفسير البحر المحيط (( 4 )) : ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ ، وهؤلاء الخبر ، إلى عكس هذا
و (( 5 )) : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وفي معالم التنزيل (( 6 )): واختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله : ( لإيلاف)
وغير هذا كثير .
ولقد تختلف أقوالهم في تعليل التعبير الواحد بعلل شتى ، ولما كان تعليل كلام الله القرآن بهذه العلة أو تلك حكمٌ على أن مراد الباري عز وجلَّ ما يقوله المفسر نصاً ، وهذا أمرٌ يحتاج للتوقيف للقول به ؛ لذلك يستغْرِب بعض من لم يفهم عبارات الأوائل ومقاصدهم من مفسرينا رحمهم الله التساهل في إطلاق مثل هذه العبارات في طيات تفاسيرهم .
الأمر الذي دعاني ، في عجالة أرجو أن أعود لإتمامها قريباً ، للبحث في معنى العلة عموماً ومن ثم التطرق لمعناها عند أهل كل فنٍ وعلم ، مما يدفع هذه الشبهة عن مفسرينا رحمهم الله .
فـ ( العِلَّة ) لغةً بالكسر : المرض ، ( عُلَّ الإنسانُ ) بالبناء للمفعول : مَرِضَ ، ( يُعَلّ واعْتلَّ ) ، ومنهم من يبنيه للفاعل من باب ( ضرب ) ، فيكون المتعدي من باب ( قتل )( أعلَّه الله ُتعالى ) فهو مُعَلٌّ وعَلِيْلٌ ، و ( اعْتَلَّ ) : إذا مرِض ، و (رجلٌ عليلٌ ) : ذو علَّةٍ ، و ( أعلَّه ) : جعله ذا عِلَّة ، ومنه ( إعلالات الفقهاء ) ، و ( اعتلالاتهم ) ،
و ( عللته عللا ) من باب ( طلب ) : سقيته السقية الثانية ، و ( عل هو ، يعل ) من باب
( ضرب ) : إذا شرب ، و ( اعتلَّ ) : إذا تمسَّك بحجةٍ . (( 7 )) .
وجاء في القاموس المحيط : (( ولا تقل : ( معلول ) ، والمتكلِّمون يقولونها ، ولستُ منه على ثَلَجٍ ))(( 8 )) وجعله النووي لحناً ، وأيده السيوطي (( 9 )) ، بيد أنَّ صاحب
( المغرب ) ينقلها عن شيخه أبي علي (( 10 )) ، وفي المصباح : (( ( أعلَّه الله ) فهو :
( معلولٌ ) ، قيل : من النوادر التي جاءت على غير قياس . وليس كذلك ، فإنَّه من تداخل اللغتين ، والأصل ( أعلَّه الله ) ، فهو ( معل ) ، أو من ( عَلَّه ) ، فيكون على القياس . وجاء ( مُعَلٌّ ) على القياس ، لكنَّه قليل الاستعمال ))(( 11 )) ، وبهذا التقليل يندفع تجويد الحافظ العراقي والسيوطي لـ (معلّ ) (( 12 )) .
كما تأتي أيضاً بمعنى ( السبب ) جاء في لسان العرب : (( (هذا علَّة لهذا ) ، أي : سَبَب ٌ، وفي حديث عائشة : (( فكان عبدُ الرحمن يضرب بِعلَّة الراحلة ، أي : بسببها ، يُظْهِرُ أنَّه يَضْرِب جَنْبَ البعير برجله وإنَّما يضْربُ رجلي ... ا.هـ (( 13 )) )) (( 14 )) ، وقيل : وهذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحي ؛ لأنَّ العلة سَبَبٌ في ثبوت الحكم في الفرع المطلوبِ إثباتُ الحكمِ له (( 15 )) .
و (العِلَّة ) لغةً في كتب ( الاصطلاحات ) : معنى يحلُّ بالـمحلِّ فيتغيَّر به حال الـمحلِّ ، ومنه سـمِّيَ المرضُ عِلَّةً ؛ لأنَّه بحلوله يتغيَّر الحال من القوَّة إلى الضعف (( 16 )) وزاد صاحب التعريفات : بلا اختيار (( 17 )) ، وذكر قولا آخر يعرِّفها بأنَّها : ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجا مؤثرا فيه (( 18 )) .
و ( العِلَّة ) في الشريعة : عبارة عمَّا يجب الحكم به معه (( 19)) .
وعند الأصوليين : المعرِّف للحكم . وقيل المؤثِّر بذاته بإذن الله . وقيل الباعث عليه و ( العلة القاصرة ) عندهم : هي التي لا تتعدَّى محلَّ النصِّ (( 20 ))
وهي عند المتكلمين وأصحاب الميزان : ما يتوقف عليه ذلك الشيء . وهي قسمان : ( عِلَّة الماهيَّة ) و ( علَّة الوجوب ) ، وفيها تقسيمات متشعبة (( 21 )) .
وعند الصوفيين : تنبيه الحقِّ لعبده بسببٍ وبغير سببٍ (( 22)) .
و ( العِلَّة ) في ( علم العروض ) : التغيير في الأجزاء الثمانية سواءٌ أكان في العروض أم الضرب (( 23)) .
وعند الـمُحَدِثِين (( سببٌ غامِضٌ قادِحٌ مع أنَّ الظاهِر السَّلامة منه ))(( 24)). و ( عِلل المتكلمين ) التي شَبَّه ابنُ جنيٍّ عللَ النحاةِ بها ، وصفَها هو نفسُه بأنَّها : إحالاتٌ على الحسِّ ، يحتجُّون فيها بِثِقلِ الحال أو خفَّتها على النَّفس ، على العكس من عِلَل الفقهاء ، برأيه ؛ لأنَّها إنَّما هي أعلامٌ وأماراتٌ لوقوع الأحكام ، ووجوهُ الحكمة فيها خفيَّة عنَّا ، غيرُ بادية الصفحة لنا (( 25)) .
وقول ابن جني المذكور آنفاً ( إنَّ عِلل النحاة أقربُ إلى عِلل المتكلمين منها إلى علل الفقهاء ) صحيحٌ عند من قال : إنَّ العلَّة هي المعرِّف للحكم ، أي : عَلمٌ عليه ، أو : أمارةٌ وعلامةٌ ؛ لذلك قالوا : متى ما وجد المعنى الـمُعلَّلُ به عُرِفَ الحكمُ ، إشارةً إلى أنَّ العلَّة غير مؤثرة حقيقةً ، وليست موجبةً للأحكام ، وهو اختيار البيضاوي وكثيرٍ من الأحنافِ وبعضِ الحنابلة (( 26 )) .
لكنَّ من الفقهاء والأصوليين من قال بأنَّها الوصف المؤثِّر في الأحكام ، وعبارة الغزالي واضحةٌ في المعنى : (( و ( العِلَّة ) في الأصل : عبارة عمَّا يتأثَّر المحل ُّبوجوده ؛ ولذلك سُمِّيَ ( المرضُ ) علَّةً ، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق ))(( 27)).
ويبدو أنَّ ابن جني ، رحمه الله تعالى ، اعتمد في حكمه السابق على الحدِّ الأوَّل ، وإلا فإنَّ الغزاليَّ نفسه قال عن علل الفقهاء : (( وهي كالعلل العقلية في الإيجاب ، إلا أنَّ إيجابها بجعل الشارع إياها موجِبة لا بنفسها )) (( 28)) ، وقد يُعْتَذَرُ لكلام ابن جني هنا بأنَّ مقصد الغزالي أنَّ وجود العلة يستلزِم وجود المعلول عندها لا بها ، أي : إنَّ الإيجاب غير الوجوب ، ولكن لا يستقيم هذا الاعتذار مع تعريف المعتزلة للعلة ( وابن جني معتزلي ) فقد قالوا : (( العِلَّة : هي الوصف المؤثِّر بذاته في الحكم )) (( 29 )) ، فالعِلَّة عند فقهاء المعتزلة موجِبةٌ للحكم ؛ لذلك قال الشيخ جلال الدين الدواني ، ناقلاً عن المعتزلة :
(( قالوا : للفِعْلِ في نفسه ، مع قطعِ النظرِ عن الشرعِ ، جِهَةُ حُسْنٍ أو قُبْحٍ ...))(( 30 )) ، وبهذا يترجَّح أنَّ ابن جني تحدَّث عن تعليلات الأحناف ، بدليل عبارتِه : ( إنـَّما هي أعلامٌ وأمارات لوقوعِ الأحكام ) .
ومـمَّا جعلني أستفيض في طرح هذا المشكل ، ما قد يُسْتَشْعَر من القول بأنَّ عِلَّة التعبير التي تشيع في كلام المفسرين ، قد لا تكون هي المقصودة في التعبير ، أو هي تقوُّلٌ على الله عزَّ وجلَّ وحاكمة ٌعلى المقصد ، ولا دليل غير الحسِّ على أنَّ المراد من التعبير هذا الاختيار أو ذاك ، وهذا صحيح ٌ لو اعتُقِد عند القول بالعلَّة أنَّها الموجِبة للتعبير ، ولكنَّ ظاهر عبارات المفسرين على معنى العلَّة عند البيضاوي وغالبية الأحناف وبعض الحنابلة ، من أنَّ القول بالعلَّة هو علامةٌ أو أمارةٌ على الحكم لا موجِبٌ له .
ومعنى ( الخفاء ) يكاد يقترن بدلالة لفظة ( العلة ) كما أشار ابن جني وهو يُشبه مصطلح ( الغموض ) الوارد في حدِّ الـمحدِّثين للعلَّة . بل قيل فيه : ( وكلُّ من جاء بعد ابن الصلاح وعرَّف الـمُعلَّ اشترط فيه خفاء العلة ....) (( 31 )) ، الأمر الذي يـمكِّنني من القول : إنَّ لفظ ( العلل) الذي يكثر ذكره في مباحث المفسرين والبلاغيين ، مزيداً على ( التعبير القرآني ) ، ليس مصطلحاً يحمِل في مفهومه ما حملته هذه المصطلحات ، بل هو باقٍ على دلالته اللغوية ، استُعمِل كثيراً في كتب القدماء ، تارةً باسم ( العلَّة ) (( 32 )) ، وأخرى بالفعل ( علَّلَ )(( 33 )) ، وثالثة بتسمية ( النكته )(( 34 )) ، ولكن بقي يتعلق كما تعلق غالب هذه المصطلحات بالمعنى الغامض ، وما يُـبحث عنه ليكون سبباً في هذا التعبير أو ذاك ، ولـمَّا كان المفسِّر باحثاً عن إعجاز القرآن ، مفتِّشاً عنه ، كان ديدنه الغوص إلى غوامض التعابير ، ومخفيِّ المعاني ؛ ليقول به سبباً وعلَّةً لاختيار هذه اللفظة أو تلك ، ومجيء التركيب على هذا النحو أو ذاك ، ومقصد بحثه ليس الحكم بنصِّـيَّة العلَّة في التعبير ، بل قد لا يُعْنى بعلَّة النَّصِّ على جهة الإثبات ، بقدر اهتمامه بالعلَّة التي يقولها المفسِّر وبحثِهِ فيها ؛ لأنَّها شكَّلت نشاطاً لغويا وأدبياً يمكن أن يفيد منه الدرسُ اللغوي .
[line]
(( 1)) ينظر : تفسير القرطبي 14 / 15 .
(( 2)) ينظر : تفسير القرطبي 17 / 103.
(( 3)) ينظر : تفسير البغوي 4 / 336.
(( 4)) ينظر : تفسير البحر المحيط 1 / 377 .
(( 5)) ينظر : تفسير البحر المحيط 4 / 356 .
(( 6)) ينظر : معالم التنزيل 8 / 191 .
(( 7)) ينظر : القاموس المحيط ( علل ) .
(( 8)) القاموس المحيط ( علل ) .
(( 9)) ينظر :التقريب مع التدريب ( 1/251) ، وتدريب الراوي ( 1/251) .
(( 10)) ينظر : المغرب ( علل ) .
(( 11)) المصباح المنير ( علل ) .
(( 12)) ينظر : شرح التبصرة (1/ 225) .
(( 13)) ينظر : صحيح مسلم ( 2/880) .
(( 14)) اللسان ( علل ) ، وينظر : الصحاح ( علل ) .
(( 15)) ينظر : مباحث العلة في القياس عند الأصوليين (69) .
(( 16)) ينظر : التعاريف ( 1 / 522-523 ) ، و التعريفات ( 1 / 201) ، والتوقيف على مهمات التعاريف 1/523).
(( 17)) ينظر: التعريفات ( 1 / 201) .
(( 18)) ينظر: المصدر نفسه ، المكان نفسه .
(( 19)) ينظر: المصدر نفسه ، المكان نفسه .
(( 20)) ينظر : منهاج الوصول (3/ 37) ، ونشر البنود (2/ 129) ، وشرح الكوكب المنير ( 48) ، وشفاء الغليل (2 -21) ، ونهاية السول (3/39) ، والتعاريف (1/ 523) ، والتوقيف على مهمات التعاريف ( 1 / 523) .
(( 21)) ينظر : التعاريف ( 1 / 523) ، والتعريفات ( 1 / 202) ، التوقيف على مهمات التعاريف ( 1 / 523) .
((22 )) ينظر : التعاريف(1/ 523) ، والتوقيف على مهمات التعاريف ( 1 / 523) .
((23 )) ينظر : الوافي في علم العروض والقوافي ( 132) ، والتعريفات ( 1 / 201) .
((24 )) التقريب مع التدريب ( 1/252) .
((25 )) ينظر : الخصائص ( 1/48) ، وعلل الإعراب والحركات الإعرابية ( 57) .
((26 )) ينظر : إرشاد الفحول (207 ) وحاشية الإزميري ( 2/298-299) .
((27 )) شفاء الغليل (20-21) ، وينظر : المستصفى (1/ 59-60).
((28 )) شفاء الغليل ( 569 ).
((29 )) ينظر : البحر المحيط في أصول الفقه ( 3/165) ، ونهاية السول (3/39) .
((30 )) حاشية الكلنبوي ( 2/ 213-214).
((31 )) أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء (13) .
((32 )) ينظر : تفسير البيضاوي ( 2/ 152) ، والقرطبي ( 4/271) ، والطبري ( 4/148) والثعالبي (4/212) ،و فتح القدير (2/288) .
(( 33)) ينظر : تفسير فتح القدير ( 5/468) ، وزاد المسير ( 1/89) ، وتفسير أبي السعود ( 7/ 141) .]
(( 34)) ينظر : تفسير البيضاوي ( 2/95) ، وتفسير أبي السعود ( 2/161) ، وفتح القدير ( 1/137) .
فإن قال: وما العلة التي أوجبت عليها الثباتَ على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية؟
و: وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في"السُّفهاء"، فشبيه بوجه دخولهما في"الناس" في قوله: ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك، والعلةُ في دخولهما في"السفهاء" نظيرتها في دخولهما في"الناس" هنالك، سواء.
وفي تفسير القرطبي (( 1 )):
ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب " يرجو " إلا بغير ألف إذا كان لواحد، لان العلة التي في الجمع ليست في الواحد.و (( 2 )) : كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة
و (( 3)) : قال الفراء: العلة الجالبة لهذه الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح
وفي تفسير البحر المحيط (( 4 )) : ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ ، وهؤلاء الخبر ، إلى عكس هذا
و (( 5 )) : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وفي معالم التنزيل (( 6 )): واختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله : ( لإيلاف)
وغير هذا كثير .
ولقد تختلف أقوالهم في تعليل التعبير الواحد بعلل شتى ، ولما كان تعليل كلام الله القرآن بهذه العلة أو تلك حكمٌ على أن مراد الباري عز وجلَّ ما يقوله المفسر نصاً ، وهذا أمرٌ يحتاج للتوقيف للقول به ؛ لذلك يستغْرِب بعض من لم يفهم عبارات الأوائل ومقاصدهم من مفسرينا رحمهم الله التساهل في إطلاق مثل هذه العبارات في طيات تفاسيرهم .
الأمر الذي دعاني ، في عجالة أرجو أن أعود لإتمامها قريباً ، للبحث في معنى العلة عموماً ومن ثم التطرق لمعناها عند أهل كل فنٍ وعلم ، مما يدفع هذه الشبهة عن مفسرينا رحمهم الله .
فـ ( العِلَّة ) لغةً بالكسر : المرض ، ( عُلَّ الإنسانُ ) بالبناء للمفعول : مَرِضَ ، ( يُعَلّ واعْتلَّ ) ، ومنهم من يبنيه للفاعل من باب ( ضرب ) ، فيكون المتعدي من باب ( قتل )( أعلَّه الله ُتعالى ) فهو مُعَلٌّ وعَلِيْلٌ ، و ( اعْتَلَّ ) : إذا مرِض ، و (رجلٌ عليلٌ ) : ذو علَّةٍ ، و ( أعلَّه ) : جعله ذا عِلَّة ، ومنه ( إعلالات الفقهاء ) ، و ( اعتلالاتهم ) ،
و ( عللته عللا ) من باب ( طلب ) : سقيته السقية الثانية ، و ( عل هو ، يعل ) من باب
( ضرب ) : إذا شرب ، و ( اعتلَّ ) : إذا تمسَّك بحجةٍ . (( 7 )) .
وجاء في القاموس المحيط : (( ولا تقل : ( معلول ) ، والمتكلِّمون يقولونها ، ولستُ منه على ثَلَجٍ ))(( 8 )) وجعله النووي لحناً ، وأيده السيوطي (( 9 )) ، بيد أنَّ صاحب
( المغرب ) ينقلها عن شيخه أبي علي (( 10 )) ، وفي المصباح : (( ( أعلَّه الله ) فهو :
( معلولٌ ) ، قيل : من النوادر التي جاءت على غير قياس . وليس كذلك ، فإنَّه من تداخل اللغتين ، والأصل ( أعلَّه الله ) ، فهو ( معل ) ، أو من ( عَلَّه ) ، فيكون على القياس . وجاء ( مُعَلٌّ ) على القياس ، لكنَّه قليل الاستعمال ))(( 11 )) ، وبهذا التقليل يندفع تجويد الحافظ العراقي والسيوطي لـ (معلّ ) (( 12 )) .
كما تأتي أيضاً بمعنى ( السبب ) جاء في لسان العرب : (( (هذا علَّة لهذا ) ، أي : سَبَب ٌ، وفي حديث عائشة : (( فكان عبدُ الرحمن يضرب بِعلَّة الراحلة ، أي : بسببها ، يُظْهِرُ أنَّه يَضْرِب جَنْبَ البعير برجله وإنَّما يضْربُ رجلي ... ا.هـ (( 13 )) )) (( 14 )) ، وقيل : وهذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحي ؛ لأنَّ العلة سَبَبٌ في ثبوت الحكم في الفرع المطلوبِ إثباتُ الحكمِ له (( 15 )) .
و (العِلَّة ) لغةً في كتب ( الاصطلاحات ) : معنى يحلُّ بالـمحلِّ فيتغيَّر به حال الـمحلِّ ، ومنه سـمِّيَ المرضُ عِلَّةً ؛ لأنَّه بحلوله يتغيَّر الحال من القوَّة إلى الضعف (( 16 )) وزاد صاحب التعريفات : بلا اختيار (( 17 )) ، وذكر قولا آخر يعرِّفها بأنَّها : ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجا مؤثرا فيه (( 18 )) .
و ( العِلَّة ) في الشريعة : عبارة عمَّا يجب الحكم به معه (( 19)) .
وعند الأصوليين : المعرِّف للحكم . وقيل المؤثِّر بذاته بإذن الله . وقيل الباعث عليه و ( العلة القاصرة ) عندهم : هي التي لا تتعدَّى محلَّ النصِّ (( 20 ))
وهي عند المتكلمين وأصحاب الميزان : ما يتوقف عليه ذلك الشيء . وهي قسمان : ( عِلَّة الماهيَّة ) و ( علَّة الوجوب ) ، وفيها تقسيمات متشعبة (( 21 )) .
وعند الصوفيين : تنبيه الحقِّ لعبده بسببٍ وبغير سببٍ (( 22)) .
و ( العِلَّة ) في ( علم العروض ) : التغيير في الأجزاء الثمانية سواءٌ أكان في العروض أم الضرب (( 23)) .
وعند الـمُحَدِثِين (( سببٌ غامِضٌ قادِحٌ مع أنَّ الظاهِر السَّلامة منه ))(( 24)). و ( عِلل المتكلمين ) التي شَبَّه ابنُ جنيٍّ عللَ النحاةِ بها ، وصفَها هو نفسُه بأنَّها : إحالاتٌ على الحسِّ ، يحتجُّون فيها بِثِقلِ الحال أو خفَّتها على النَّفس ، على العكس من عِلَل الفقهاء ، برأيه ؛ لأنَّها إنَّما هي أعلامٌ وأماراتٌ لوقوع الأحكام ، ووجوهُ الحكمة فيها خفيَّة عنَّا ، غيرُ بادية الصفحة لنا (( 25)) .
وقول ابن جني المذكور آنفاً ( إنَّ عِلل النحاة أقربُ إلى عِلل المتكلمين منها إلى علل الفقهاء ) صحيحٌ عند من قال : إنَّ العلَّة هي المعرِّف للحكم ، أي : عَلمٌ عليه ، أو : أمارةٌ وعلامةٌ ؛ لذلك قالوا : متى ما وجد المعنى الـمُعلَّلُ به عُرِفَ الحكمُ ، إشارةً إلى أنَّ العلَّة غير مؤثرة حقيقةً ، وليست موجبةً للأحكام ، وهو اختيار البيضاوي وكثيرٍ من الأحنافِ وبعضِ الحنابلة (( 26 )) .
لكنَّ من الفقهاء والأصوليين من قال بأنَّها الوصف المؤثِّر في الأحكام ، وعبارة الغزالي واضحةٌ في المعنى : (( و ( العِلَّة ) في الأصل : عبارة عمَّا يتأثَّر المحل ُّبوجوده ؛ ولذلك سُمِّيَ ( المرضُ ) علَّةً ، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق ))(( 27)).
ويبدو أنَّ ابن جني ، رحمه الله تعالى ، اعتمد في حكمه السابق على الحدِّ الأوَّل ، وإلا فإنَّ الغزاليَّ نفسه قال عن علل الفقهاء : (( وهي كالعلل العقلية في الإيجاب ، إلا أنَّ إيجابها بجعل الشارع إياها موجِبة لا بنفسها )) (( 28)) ، وقد يُعْتَذَرُ لكلام ابن جني هنا بأنَّ مقصد الغزالي أنَّ وجود العلة يستلزِم وجود المعلول عندها لا بها ، أي : إنَّ الإيجاب غير الوجوب ، ولكن لا يستقيم هذا الاعتذار مع تعريف المعتزلة للعلة ( وابن جني معتزلي ) فقد قالوا : (( العِلَّة : هي الوصف المؤثِّر بذاته في الحكم )) (( 29 )) ، فالعِلَّة عند فقهاء المعتزلة موجِبةٌ للحكم ؛ لذلك قال الشيخ جلال الدين الدواني ، ناقلاً عن المعتزلة :
(( قالوا : للفِعْلِ في نفسه ، مع قطعِ النظرِ عن الشرعِ ، جِهَةُ حُسْنٍ أو قُبْحٍ ...))(( 30 )) ، وبهذا يترجَّح أنَّ ابن جني تحدَّث عن تعليلات الأحناف ، بدليل عبارتِه : ( إنـَّما هي أعلامٌ وأمارات لوقوعِ الأحكام ) .
ومـمَّا جعلني أستفيض في طرح هذا المشكل ، ما قد يُسْتَشْعَر من القول بأنَّ عِلَّة التعبير التي تشيع في كلام المفسرين ، قد لا تكون هي المقصودة في التعبير ، أو هي تقوُّلٌ على الله عزَّ وجلَّ وحاكمة ٌعلى المقصد ، ولا دليل غير الحسِّ على أنَّ المراد من التعبير هذا الاختيار أو ذاك ، وهذا صحيح ٌ لو اعتُقِد عند القول بالعلَّة أنَّها الموجِبة للتعبير ، ولكنَّ ظاهر عبارات المفسرين على معنى العلَّة عند البيضاوي وغالبية الأحناف وبعض الحنابلة ، من أنَّ القول بالعلَّة هو علامةٌ أو أمارةٌ على الحكم لا موجِبٌ له .
ومعنى ( الخفاء ) يكاد يقترن بدلالة لفظة ( العلة ) كما أشار ابن جني وهو يُشبه مصطلح ( الغموض ) الوارد في حدِّ الـمحدِّثين للعلَّة . بل قيل فيه : ( وكلُّ من جاء بعد ابن الصلاح وعرَّف الـمُعلَّ اشترط فيه خفاء العلة ....) (( 31 )) ، الأمر الذي يـمكِّنني من القول : إنَّ لفظ ( العلل) الذي يكثر ذكره في مباحث المفسرين والبلاغيين ، مزيداً على ( التعبير القرآني ) ، ليس مصطلحاً يحمِل في مفهومه ما حملته هذه المصطلحات ، بل هو باقٍ على دلالته اللغوية ، استُعمِل كثيراً في كتب القدماء ، تارةً باسم ( العلَّة ) (( 32 )) ، وأخرى بالفعل ( علَّلَ )(( 33 )) ، وثالثة بتسمية ( النكته )(( 34 )) ، ولكن بقي يتعلق كما تعلق غالب هذه المصطلحات بالمعنى الغامض ، وما يُـبحث عنه ليكون سبباً في هذا التعبير أو ذاك ، ولـمَّا كان المفسِّر باحثاً عن إعجاز القرآن ، مفتِّشاً عنه ، كان ديدنه الغوص إلى غوامض التعابير ، ومخفيِّ المعاني ؛ ليقول به سبباً وعلَّةً لاختيار هذه اللفظة أو تلك ، ومجيء التركيب على هذا النحو أو ذاك ، ومقصد بحثه ليس الحكم بنصِّـيَّة العلَّة في التعبير ، بل قد لا يُعْنى بعلَّة النَّصِّ على جهة الإثبات ، بقدر اهتمامه بالعلَّة التي يقولها المفسِّر وبحثِهِ فيها ؛ لأنَّها شكَّلت نشاطاً لغويا وأدبياً يمكن أن يفيد منه الدرسُ اللغوي .
[line]
(( 1)) ينظر : تفسير القرطبي 14 / 15 .
(( 2)) ينظر : تفسير القرطبي 17 / 103.
(( 3)) ينظر : تفسير البغوي 4 / 336.
(( 4)) ينظر : تفسير البحر المحيط 1 / 377 .
(( 5)) ينظر : تفسير البحر المحيط 4 / 356 .
(( 6)) ينظر : معالم التنزيل 8 / 191 .
(( 7)) ينظر : القاموس المحيط ( علل ) .
(( 8)) القاموس المحيط ( علل ) .
(( 9)) ينظر :التقريب مع التدريب ( 1/251) ، وتدريب الراوي ( 1/251) .
(( 10)) ينظر : المغرب ( علل ) .
(( 11)) المصباح المنير ( علل ) .
(( 12)) ينظر : شرح التبصرة (1/ 225) .
(( 13)) ينظر : صحيح مسلم ( 2/880) .
(( 14)) اللسان ( علل ) ، وينظر : الصحاح ( علل ) .
(( 15)) ينظر : مباحث العلة في القياس عند الأصوليين (69) .
(( 16)) ينظر : التعاريف ( 1 / 522-523 ) ، و التعريفات ( 1 / 201) ، والتوقيف على مهمات التعاريف 1/523).
(( 17)) ينظر: التعريفات ( 1 / 201) .
(( 18)) ينظر: المصدر نفسه ، المكان نفسه .
(( 19)) ينظر: المصدر نفسه ، المكان نفسه .
(( 20)) ينظر : منهاج الوصول (3/ 37) ، ونشر البنود (2/ 129) ، وشرح الكوكب المنير ( 48) ، وشفاء الغليل (2 -21) ، ونهاية السول (3/39) ، والتعاريف (1/ 523) ، والتوقيف على مهمات التعاريف ( 1 / 523) .
(( 21)) ينظر : التعاريف ( 1 / 523) ، والتعريفات ( 1 / 202) ، التوقيف على مهمات التعاريف ( 1 / 523) .
((22 )) ينظر : التعاريف(1/ 523) ، والتوقيف على مهمات التعاريف ( 1 / 523) .
((23 )) ينظر : الوافي في علم العروض والقوافي ( 132) ، والتعريفات ( 1 / 201) .
((24 )) التقريب مع التدريب ( 1/252) .
((25 )) ينظر : الخصائص ( 1/48) ، وعلل الإعراب والحركات الإعرابية ( 57) .
((26 )) ينظر : إرشاد الفحول (207 ) وحاشية الإزميري ( 2/298-299) .
((27 )) شفاء الغليل (20-21) ، وينظر : المستصفى (1/ 59-60).
((28 )) شفاء الغليل ( 569 ).
((29 )) ينظر : البحر المحيط في أصول الفقه ( 3/165) ، ونهاية السول (3/39) .
((30 )) حاشية الكلنبوي ( 2/ 213-214).
((31 )) أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء (13) .
((32 )) ينظر : تفسير البيضاوي ( 2/ 152) ، والقرطبي ( 4/271) ، والطبري ( 4/148) والثعالبي (4/212) ،و فتح القدير (2/288) .
(( 33)) ينظر : تفسير فتح القدير ( 5/468) ، وزاد المسير ( 1/89) ، وتفسير أبي السعود ( 7/ 141) .]
(( 34)) ينظر : تفسير البيضاوي ( 2/95) ، وتفسير أبي السعود ( 2/161) ، وفتح القدير ( 1/137) .