بسم1
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
اسمحوا لي أن أبدي رأيي المتواضع راجياً تقبل الاختلاف بصدر رحب ، متمنياً عليكم قراءة ما سيكتب بتأنٍ وتركيز فأقول وبالله التوفيق:
لقد خلق الله للانسان إرادة حرة ليناط به اختيار الطريق إما طريق الخير أو الشر ، وهذه الميزة العظيمة اختص بها ربنا جل وعلا المكلفين من خلقه فكانت أمانة لا يقدر البعض عظمها وأهميتها جهلا وظلماً لنفسه.
والله جل وعلا لا يعاقب مقترف الذنب والسيئة إذا كان مجنونا أو في حال خارج التكليف وهو جل وعلا يرسل أنبياءه لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور والآيات في هذا المجال أكثر من أن تعد ، فلا يجوز نسبة سوق ابن آدم للكفر أو اجباره على إتيان المنكر الى الله تعالى فهو منزه عن ذلك الفعل ، وأن يقال أن الله يجبر الإنسان على فعل السوء لكي يدخله النار فهذا ينافي أبسط قواعد العدل الرباني ، ولو شاء جلت قدرته لأدخل الناس جميعا نار جهنم ولا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ، ولكنه جلت قدرته رحيم بعباده ماخلقهم أبداً ليعذبهم وما يدخل أحداً من خلقه في عذابه إلا وهو مستحقٌ معاندٌ مكذب ، ويكون فعله بإرادته الحرة وبدون إجبار أو إضلال.
وقد اضطربت افهام الناس حيال الآيات الكريمة التي تشتمل على الكيد والمكر والخداع ، تلك الصفات التي نسبها الله إلى نفسه ونسبها للمجرمين من خلقه ، فلما غاب المفهوم الصحيح لتلك المفردات وكيفية حصول المكر والكيد والخداع وماهيتها برزت تأويلات وتفسيرات تحمل نسبة السوء لله جل وعلا تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
وأنا هنا لن أخوض في معاني تلك المفردات فقد افردت بها بحثاً مؤصلاً مدعما بالآيات الكريمة لتبيان مفاهيم تلك الأفعال عند نسبتها لله جل وعلا يمكن لأخوتي الكرام الاطلاع عليها في المدونة بعنوان :
المكر والكيد والخداع والفرق بينها في التعبير القرآني .
ولكني سأكتفي بتوضيح مفهوم (
الكيد) لارتباطه (
بالإملاء) الذي هو موضع البحث في منشور اختنا المباركة فنقول وبالله التوفيق
الكيد : كل تَدْبِيرٍ لِفِعْلٍ خَفِيِّ أو ظَاهر يريدُ مِنهُ الكاَئِد دَفعُ المكيدِ أنْ يرتكبَ عملا ًسيئا ًأو جرماً وذنباً بإرادتهِ بدونِ جَبرٍ او إرغام.
فالشيطان الرجيم يوسوس للانسان ليدفعه لفعل الشر والمعصية لذلك كان فعل الشيطان كيداً ، والمرأة الخبيثة تستغل مفاتنها لتغوي المؤمن فيقع في السوء ولذلك سمي كيداً ، ذلك لأن نتيجة الكيد هو وقوع المكيد في المعصية ولنتتبع ذلك في البحث الذي تم نشره:
قلنا أن تعريف الكيد (مايجب الاصطلاح عليه) : كل تَدْبِيرٍ لِفِعْلٍ خَفِيِّ أو ظَاهر يريدُ مِنهُ الكاَئِد استفزاز و دَفعُ المكيدِ أنْ يرتكبَ فعلاً أو عملاً سيئاً أو جرماً وذنباً بإرادتهِ بدونِ جَبرٍ أو إرغام.
ويمكن تقريب المعنى بقولنا : كاد الكائد وأوشك أن يقع في الخطيئة عامداً ولم يقع فيها فاستفز فعله المكاد فوقع في الخطيئة ، وعند العامة يسمونها المكايدة وهي الاستفزاز بعمل يهيج المفضي لارتكاب الخطأ فيرتكبه مدفوعا بما رآه فينجح الكيد عندئذٍ ويقع اللوم حينها على المكاد له وليس على الكائد.
والعجيب أن الكيد شواهده واضحة جداً ولكني لم أجد من عرّفه كما ينبغي ومن أول الاستدلالات التي تبين هذا التعريف وتؤيده في قوله تعالى:
{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [يوسف:33]
فيوسف عليه السلام يدعو الله جل وعلا أن يصرف كيدهن ، ولكن ما هو مقتضى كيدهن ؟، يكمن الخطر ليس في الكيد بل ما يقود إليه الكيد بأن يصبو إليهن ويكن من الجاهلين بارتكاب الفحشاء التي يكدن ليوسف حتى يرتكبها ، فتأسيسا على تعريف الكيد فالمكيد هو من يرتكب الخطيئة والجرم بفعل الكيد الذي يقوده لذلك ويوسف يعتصم بالله من أن ينجح كيد النساء بدفعه للفاحشة ويدعوه أن يصرف هذا الكيد عنه.
وفي كيد فرعون ضد موسى يقول الحق جل وعلا : { فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُثُمَّ أَتَىٰ } [طه:60] وكيده هو ما سيأتي به السحرة من خيالات وأعمال يقصدون من ورائها صرف الناس الإيمان واستمالتهم للكفر وتأليه فرعون من دون الله فهذا الكيد يقود لصد الناس وارتكابهم لجرم تكذيب الرسل وعبادة غير الله فصار كيدا كما عرفناه آنفا ثم يقول جل من قائل : { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ } [طه:64] وبالتالي فيتضح المراد انه حشد للعجائب والعظائم ليصلوا الى هذه النتيجة : { قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف:116] فالهدف هم الناس لكي يصدونهم عن دعوة موسى ويظهرونه بمظهر العاجز ومن ثم يكون الناس كفارا واقعين في الاثم الاعظم من جراء ذلك الكيد ، ثم يوحي الله جل وعلا مؤكدا على أن ما يراه كيد اريد منه صد الناس وليبطله الله أمر نبيه أن يلقي عصاه فقال جل وعلا : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } [طه:69] كيد ساحر ابرم لصد الناس وخداعهم لاقناعهم بارتكاب الكفر برسالة موسى.
ويقول الحق جل جلاله:
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [غافر:25]
أي عندما جاءهم موسى بالحق والتوحيد قالوا بقتل من يؤمن لموسى “كيدا” ابتزازا له ليتراجع هو عن دعوته ، وليرتكب من آمن به الكفر به خوفا من قتل أبنائهم واستحياء نسائهم وسبيهن ، ولدفعهم للكفر برب لم ينفعهم حين جائهم البأس “في زعم عدوهم وظنه”، ويتفق مع نفس معنى الكيد الذي ذكرناه وهو عمل يستفز به المكيد لارتكاب الاثم والخطيئة.
ويقول سبحانه وتعالى :
{ فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف:28]
(كيدكن) ما جهدتن فيه من عمل لتوقعن من اردتن في الفحشاء ، وكيد النساء أعظم الكيد فأدواته اكثر الادوات تأثيرا في دفع من يواجههن لارتكاب الاثم فلديهن مفاتنهن وكلامهن يغوين به كل ذي لب الا من رحم الله لذلك قال عنه الله (عظيم) في حين قال (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) فلا يعدو كيد الشيطان ان يكون خيالات ووسوسة تزول بالاستعاذة بالله منه ، وسمي كيدا لأنه لايضر ولكن يدفع من يخضع لوساوسه ان يرتكب المحرم فيكون بذلك كيدا ، وبالطبع لا يصح ان يسمى مكرا ولا خداعا، ومن ضيق الأفق أن يأتي من يقول أن الله يحكي كلام عزيز مصر ولا يلزم صحة ذلك ، فنقول ان ذلك يحتمل الاخبار والاقرار ، وإلا لو لم يكن لها مكان لما أوردها الله جل وعلا في كتابه فلا يذكر شئ في كتاب الله عبثاً او حشواً تنزه جلت قدرته عن ذلك.
ويقول جل من قائل :
{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [آل عمران:120]
فشرط النجاة من الكيد هو الصبر والتقوى ، وهي أعمال قلبية تفضي للحماية من الوقوع في الشر والإثم وهو المراد من قوله (كيدهم) فلو كانت غير ذلك كالقتل لكان مكرا ، فالصبر يفضى الى الحصانة من الوقوع في ما يعصم منه بالصبر كالشهوات ، والتقوى يفضي إلى الحصانة من الوقوع في ما يعصم منه بالتقوى كالفرقة والاثم والوقوع في الحرام ، ويتجلى هذا المعنى في ما وقع ليوسف عليه السلام فما جنبه كيد امرأة فرعون الا التقوى والصبر فهيأ الله له النجاة بهما وهذا متفق مع الآية الكريمة ، ولوتفحصنا هذا المقطع لوجدنا الله جل وعلا (لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) أي محيط بكيدهم الذي يحيكونه لكم وانتم لا تحيطون به ولا تعلمونه فبتقواكم وصبركم تفشلون كيدهم لأنكم لا تحققون مرادهم فتقعون في الاثم والخطيئة.
ومن أمثلة كيد الكافرين اثارة نزعات الجاهلية والعنصرية بين الصحابة من الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا لولا أن عاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكوا حتى اخضلوا لحاهم والكائد بذلك اوقعهم في الخطيئة أو كاد.
ويقول جل شأنه:
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:76]
وكيد الله ليوسف هو دفعه ليوسف أن يتهم بريئا بالسرقة فما كان يوسف ليرتكب هذا الأمر بأن يدس صواع الملك في رحل أخيه ، ثم ينادى بتهمة السرقة فهذا العمل في ظاهره عمل شر ولكن الله كاد ليوسف ليفعل هذا الفعل ويرتكبه لعلم سبق لديه جل وعلا بما يؤول إليه الأمر وسبق أن قلنا أن توفر أركان الفعل يصنفه ويسمه فتوفرت اركان الكيد هنا فسمي كيدا ولكن علم الله بما كان وماهو كائن جعله يدفع عبده يوسف لفعل ذلك يستنقذ أخيه ويضمن مجيء ابيه بتقدير الله جل وعلا وبعظيم لطفه بيوسف وأبيه وأخوته ، والله يخبرنا بذلك حتى لا يأتي آت يثرب على فعل يوسف بأنه اتهم بريئا بالسرقة وأخذ مظلوماً بذنب لم يفعله فيخبرنا الله أن فعله كان كيدا من الله ليوسف وإلا فهو كنبي معصوم لا ينبغي له فعل ذلك وإنما علم الله بما يقتضيه التدبير افضى لامضاء مشيئته بهذا الوجه ، ولكي لا يقول قائل ويثير شبهة في عصمة الانبياء فيقول كيف يكون ذلك من نبي ، فيكون الرد عليه أن الله جلت قدرته كاد ليوسف ودفعه ليفعل ذلك والفعل لحكمته جل وعلا وليس مبادرة من يوسف أن يفعل هذا ، إذن فالكيد وقع من الله على يوسف فدفعه ليتهم اخوته فيقول تعالى : ( كِدْنَا لِـيُوسُفَ) فاللام هنا هي ذات اللام في قول يعقوب لابنه ( فيكيدوا لـك كيدا) فيكون يوسف مقصد الكيد في كلا الحالتين ولكن كيد اخوته لم ينجح وكيد النسوة لم ينجح (بمعنى الكيد المؤدي لارتكاب الفعل) ولكن كيد الله جرى على يوسف فاتّهم اخوته.
لو سأل سائل وقال أن الله جل وعلا قال : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِين) (يوسف:5) فهل وقع كيد من إخوة يوسف على أخيهم؟ فأقول إن في هذا المفهوم إثبات للفروق بين اللفظتين فإن قال قائل نعم جرى كيد إخوة يوسف على أخيهم (للخلط لديه بين مفهومي الكيد والمكر) فإن تفنيد ذلك أنه يلزم أن يكون يوسف قد تجاهل أمر أبيه وعصا أمره في – أول السورة – فوقع عليه الكيد وهذا لا يستقيم مع نبوته وصلاحه وطاعته وبره لوالديه وعصمته من النقائص ، فنقول أن يوسف أطاع أمر والده ولم يجاوزه البتة فكتم أمر الرؤيا عن إخوته فلم يحدث منهم الكيد ليوسف حيث لم تذكر السورة أن كيدا وقع ليوسف ونجح إلا كيد الله له حين أتهم إخوته بما لم يرتكبوه (سرقة صواع الملك) بكيد الله له (كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) ( أما كيد النسوة وسوى ذلك الكيد فوقع ولكن لم ينجح ولا ينبغي له أن ينجح فإن الله صرف عنه كل كيد فلم يحدث منه ارتكاب إثم ومعصية ، فلم يذكر أن إخوته كادوا له بل مكروا به ، فالمكر وقع كما يبين لنا الله جل وعلا في قوله تعالى (ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) )يوسف:102)
{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } [الأنبياء:57]
وهذا المثال من أجمل وأقوى الأمثلة على دقة معنى الكيد كما ذكرنا ، فالخطاب هنا موجه من ابراهيم إلى قومه او بعض قومه يتوعد بأن يكيد اصنامهم أي يدفعها لارتكاب خطيئة ، ويقول قائل كيف وهي اصنام لا حول لها ولا قوة ، اقول هذه حجة ابراهيم عليه السلام ليقود اهل الضلال ليفيقوا من اوهامهم ويعلموا حقيقة اصنامهم ، فلم يعيروه بالا ليقينهم ان الاصنام لا يمكن ان يكيدها احد لأنها لا تسمع ولا ترى ، فلم يدفعهم توعد ابرهيم عليه السلام للتفكير ، فتعدى ذلك وقام بتحطيم اصنامهم وصورها على انها نجاح لكيده دفع كبيرهم ان يحطم باقي الاصنام ( اي يرتكب الصنم المكاد له الجرم بنفسه) وعلق الفأس في رقبته فالله جل وعلا يقول:
{ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء:58]
وهنا يجدر بنا أن نعجب من جرأة هذا النبي الكريم في الحق وكيف لم يكتفي بالمحاجة باللسان بل تعدى ذلك للفعل لعلهم يستفيقون ، وبالفعل صدموا بآلهتهم محطمة ماعدا كبيرهم وكأنه اعمل كيده لهم ودفع كبيرهم ان يحطم البقية ويرتكب هذه الجريمة ، وقوله عليه السلام (وتالله لأكيدن اصنامكم)حديث موجه لهم ولذلك عندما رأوا ما رأوا قالوا (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)اي سمعوه حينما توعد اصنامهم بالكيد ، ولكن لم يتوعد أن يقوم بشئ بل يدفع الاصنام لترتكب ما ارتكبت فأتوا به فقال (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) فهم يسألونه لما سبق من توعده لآلهتهم ولعلمهم بأنها لا تستطيع أن تفعل ذلك من تلقاء نفسها ، فحاجهم ابراهيم عليه السلام بأن أشار عليهم أن يسألون من سلم من الاصنام ووجد الفأس معلقا برقبته فلعله هو من ارتكب ذلك الجرم ، ليس سخرية منهم ولكن صدمهم بجوابه فرجعوا إلى أنفسهم فأدركوا أنهم ضالون بعبادتهم لأصنام لا تدفع عن نفسها عدوا ولا تملك ضرا لبعضها البعض فكيف يرجى منها نفع أو ضر؟.
وهنا على هامش ما افضينا اليه فائدة في فعل ابراهيم عليه السلام في تركه اكبر الاصنام ليستقر في اذهانهم ما عبر عنه جل وعلا بقوله تعالت ذاته ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) فيصور تصارع الآلهة حتى يقودهم الى التوحيد ايمانا بإله واحد وهنا صورة عظيمة من صور الدعوة وما يجب أن يكون عليه الداعيه من الذكاء والفطنة في ايصال فكرته بكل السبل الخلاقة التي تدفع الناس لاعمال عقولهم وافهامهم فيما أمامهم
قال الحق جل وعلا :
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيمَتِينٌ (183) [الأعراف]
ويقول سبحانه في موضع آخر:
(43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) [القلم]
فكلا الموضعين يشتركان فيما يلي : (تكذيب يتبعه استدراج وإملاء ) ومن السياق حدد طبيعة الكيد المتين بأنه الاستدراج والإملاء وهنا نرى الكيد وكيف يتمثل [الإملاء] في تكريس معنى الكيد كما تم تعريفه الذي سبق بأن
الكيد: كل تَدْبِيرٍ لِفِعْلٍ خَفِيِّ أو ظَاهر يريدُ مِنهُ الكاَئِد دَفعُ المكيدِ أنْ يرتكبَ عملا ًسيئا ًأو جرماً وذنباً بإرادتهِ بدونِ جَبرٍ او إرغام.
والإملاء هنا هو الزيادة من كل شيء الزيادة في الرزق بالإمداد بكل أسباب الدنيا والزيادة في العمر [فتمتليء] مخازنهم بالمال والطعام كما لم يكن من قبل ويزاد ويمد لهم في أعمارهم وهنا قد علم الله أن أولئك القوم لا خير فيهم فتوعدهم [بالإملاء] فيزداد عجبهم بكفرهم وثقتهم بصحة منهجهم فيزدادون كفراً ومن أمثلة الإملاء والاستدراج أن يفتح عليهم أبواب الدنيا حتى يقولون [لو أن دعوى الرسول حق لقطع عنّا ربه الرزق بل هو يفيض ويزداد] فيزدادون يقينا بصواب فعلهم ويزدان الكفر في أعينهم .
وهنا متانة كيد الله مقابل وهن ما سواه من كيد المخلوقين ، فأولئك الكافرين إذا وقفوا بين يدي الله يحاجون عن أنفسهم فإنه لا يستقيم أن يحتجوا بتدفق الرزق عليهم على كفرهم وتكذيبهم فكيف يحتج المسيء بإحسان المحسن إليه ؟ بل يكون حجة عليهم بأنه رغم كفرهم فقد آتاهم الله من خير الدنيا فيكون الرد على هؤلاء { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ }[الأحقاف:20] فمدد الله لخلقه ورزقه غير محظور ولا مشروط بإيمان ولا بكفر فيقول جلت قدرته { كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء:20] ، فلا حجة لهم على الله تعالت ذاته فقد ارسل اليهم واقام الحجة عليهم ولم يعاملهم بسوء ما عندهم ويحرمهم رزقه وخيراته وبرغم ذلك بارزوه بالمزيد من الإلحاد والإصرار الشديد على الكفر.
ولو عدنا لتعريف كيفية (مكر الله) آنفا وقلنا أن غفلة الماكر عن تدبير الله وانتقامه جعله في مكان الممكور به فكان فعله جلت قدرته مكراً لتوفر اركان المكر فيه ولكن الله لم يفعل كالماكر ويستتر في فعله ولكن كفر الماكر هو ما جعله في غفلة عن انتقام الله ، وكذلك الكيد فإن الله لم يرد اضلال عباده إذ يكيد لهم ولم يدفعهم للكفر بإملاءه واستدراجه لهم بل سوء طويتهم وانفسهم الأمارة سولت لهم أن كفرهم لم يمنع عنهم الرزق او ينزل بهم الرجز والعذاب بل زاد رزقهم وصلحت حياتهم فأمنوا العقاب واستمتعوا بالدنيا فكان كفرهم عملهم ارتكبوه عامدين غير مدفوعين إليه او مرغمين عليه فكانت أركان الكيد متوفرة في فعل الله تجاههم فكأنك ترى فعل الله وعطائه لهم دفعهم لفعل السوء والجرم فكان شبيه بتفسير المكر وتأويله فكان ذلك العمل الذي يرى من جهة المؤمن استدراجا يستلزم الانتباه والحذر من عقوبة قد تنتظر من صب عليه الرزق عليه ، وللكافر دليل تسول به نفسه بصحة ما هو عليه من كفر.
أما كيد الإنسان لنظيره فليس بمتين ، فالمرأة مثلا بمفاتنها تغوي الرجل فيرتكب المحرم بدون جبر أو إرغام وذلك كيد ولكن على تلك الكائدة تَبِعَةٌ إذ [كادت] بحرام لتوصل المكيد لارتكاب الفاحشة ، ثم أنها وقعت فيها أيضاً. فكيد الله واستدراجه واملاءه لاعداءه وجاحدي ربوبيته لا يكون بدفعه لخلقه للكفر ابداً فذلك لا يستقيم مع عدله ورأفته بخلقه ورسالاته لهم بل يكون بصورته التي اوضحناها وما يتفق معها .
وفي قوله جلت ذاته [سنستدرجهم من حيث لا يعلمون] لا يعني من حيث لم تقم عليهم فيه حجة وليس لديهم عليه من الله برهان بل قوله [لا يعلمون] يعني انتفاء العلم لرفضهم له وكفرهم به وردهم لما جائهم وليس استغلالا لجهل وقعوا فيه، وإلا فالاستدراج بالصورة تلك لمن هم [يعلمون] أي المؤمنين عندما يبتعدون عن المنهج السليم ويستزلهم الشيطان فيرون الإملاء وزيادة القوة والرزق برغم المعصية يردهم ويذهلهم عن انحرافهم فيعون أنهم مستدرجون لأنهم ممن [يعلمون] فإن يسر الله ووفق نكصوا من زلتهم وتابوا إلى بارئهم وإلا فقد نجح الكيد أن ظنوا إنما كان الرزق والإملاء غفلة من ربهم تعالى وجل عن ذلك ، فأتاهم الله من حيث [اعلمهم] فرفضوا العلم ، أتاهم من حيث لم يحتسبوا أي مما لا يتوقعون إذ كيف يتوقع الجاحد أن من دعاه لعبادته يرد على كفره بالعطاء ؟ وجحوده بسعة الرزق ؟؟ فعدم علمه يوازي عدم إيمانه وظنه أن سلوك الاله كسلوك البشر يغضب كغضب البشر فيمنع رزقه وخيراته عن عباده.
لقد أشكل علي أمر في ما رأيت من تعريف مفردة “الكيد” وأعيد هنا تعريف الكيد حيث قلنا أنه : كل تَدْبِيرٍ لِفِعْلٍ خَفِيِّ أو ظَاهر يريدُ مِنهُ الكاَئِد استفزاز و دَفعُ المكيدِ أنْ يرتكبَ فعلاً أو عملاً سيئاً أو جرماً وذنباً بإرادتهِ بدونِ جَبرٍ أو إرغام. وكلما تلمسنا طريقنا في محاولة مقارنة سياق الآيات التي تحوي مفردة الكيدفإننا نجد بالفعل أن الكيد لا يخرج عن هذا التعريف فهو لا يتغير بتغير السياق أو القصة بل تراه متسقا منطبقا مع المعنى ، وقلنا “مثلا” أن “كيد ساحر” ينطبق على محاولة فرعون حشد السحرة لصرف الناس عن الإيمان فيرتكبون الكفرفكان بالفعل كيدا وليس شيئا آخر (حسب التعريف)، وتفحصنا “وتالله لأكيدن أصنامكم” وتبين لنا كيف أن الكيد الذي يتوعد إبراهيم بفعله ليس تحطيمها بل “زعمه” انه سيدفع الأصنام لتقتتل بينها وتركب ما دفعها إبراهيم إليه ثم حطمها عدا أكبرها وعلق الفأس في رقبته ليوهمهم بأن كيده ونجح وأوقع بين الأصنام العداوة “فكاد لها” والى آخر تلك المعاني والحجج واللفتات الرائعة ، ولكني عندما وصلت متتبعا مستقرئا والأمور تتسق وتتضح حتى وصلت لقوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
ووجه الإشكال أن الكيد هنا يبدو للوهلة الأولى أنه تحطيم الكعبة المشرفة وتدنيس الحرم المقدس (كما اتفق عليه جل مفسرينا رحمهم الله) فكيف يستقيمالكيد بمعناه الذي ذكرناه ومقتضى الآيات؟ ، ثم أني رجعت للتفاسير فوجدت بالفعل فسر الكيد بأنه حملة مهاجمة الكعبة المشرفة فصار إلى تضليل ودمرهم الله فأوقف كيدهم وهنا أقوال المفسرين رحمهم الله تعالى:
فالقرطبي رحمه الله يقول في جامعه : قوله تعالى : ألم يجعل كيدهم في تضليل أي في إبطال وتضييع ; لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي ، والبيت بالتخريب والهدم .
الطبري رحمه الله قال : ( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) يقول : ألم يجعل سعي الحبشة أصحاب الفيل في تخريب الكعبة ( في تضليل ) يعني : في تضليلهم عما أرادوا وحاولوا من تخريبها .
البغوي رحمه الله قال : ( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) ” كيدهم ” يعني مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة . وقوله : ” في تضليل ” عما أرادوا ، وأضل كيدهم حتى لم يصلوا إلى الكعبة ، وإلى ما أرادوه بكيدهم . قال مقاتل : في خسارة ، وقيل : في بطلان .
وفي التفسير الكبير يقول الأندلسي رحمه الله : ( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) وإبطال ، يقال : ضلل كيدهم إذا جعله ضالا ضائعا ، وقيل لامرئ القيس : الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه ، أي ضيعه ، وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه ، وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله الكعبة بأن أرسل عليهم طيرا جاءت من جهة البحر ، ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء ، وقيل : خضراء على قدر الخطاف
والشوكاني في فتح القدير يفسرها : ألم يجعل كيدهم في تضليل أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها في تضليل عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوه بكيدهم ، والهمزة للتقرير كأنه قيل : قد جعل كيدهم في تضليل ، والكيد : هو إرادة المضرة بالغير ، لأنهم أرادوا أنيكيدوا قريشا بالقتل والسبي ، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب .
ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير يقول: ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول .
هذه الجمل بيان لما في جملة ألم تر كيف فعل ربك من الإجمال ، وسمى حربهم كيدا ; لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس ، وإنما هو تعلة تعللوا بها لإيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حج القليس في صنعاء فيتنصروا .أو أريد بكيدهم بناؤهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء .
والكيد : الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه .
والتضليل : جعل الغير ضالا ، أي : لا يهتدي لمراده ، وهو هنا مجاز في الإبطال وعدم نوال المقصود ; لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر .
وظرفية الكيد في التضليل مجازية ، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة [ ص: 549 ] الشديدة ، أي : أبطل كيدهم بتضليل ، أي : مصاحبا للتضليل لا يفارقه ، والمعنى : أنه أبطله إبطالا شديدا ، إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم . وهذا كقوله تعالى : وما كيد فرعون إلا في تباب أي : ضياع وتلف ، وقد شمل تضليل كيدهم جميع ما حل بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب .
وجملة وأرسل عليهم طيرا أبابيل يجوز أن تجعل معطوفة على جملة فعل ربك بأصحاب الفيل ، أي : وكيف أرسل عليهم طيرا من صفتها كيت وكيت ، فبعد أن وقع التقرير على ما فعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيرا بما حل بهم من نقمة الله تعالى ، لقصدهم تخريب الكعبة ، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله – صلى الله عليه وسلم – بدينه في ذلك البلد ، إجابة لدعوة إبراهيم – عليه السلام – فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم ، كان فيه جزاء لهم ، ليعلموا أن الله مانع بيته ، وتكون جملة ألم يجعل كيدهم في تضليل معترضة بين الجملتين المتعاطفتين .
ويجوز أن تجعل وأرسل عليهم عطفا على جملة ألم يجعل كيدهم في تضليل فيكون داخلا في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل ، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطلا لكيدهم وكونه عقوبة لهم ، ومجيئه بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله : ألم يجعل كيدهم في تضليل قلب زمانه إلى المضي لدخول حرف ( لم ) كما تقدم في قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى في سورة الضحى ، فكأنه قيل : أليس جعل كيدهم في تضليل .
وعندما تفحصت معنى الآيات على وجه غير ما ذكره المفسرين رحمهم الله وجدت أن معنى الكيد هنا لا يخرج عن المعنى الذي قررناه في هذا المقال في دلالات أربع:
أولا : أن الكعبة وحجارتها لا قيمة لها أمام الكفر بالله والاعتقاد بسواه وهدمها في حد ذاته لا يرقى في جسامته وخطورته لحدث كانصراف الناس عن عبادة الله والتوجه اليه.
ثانيا: لو أبعدنا النظر وأعملنا الفكر لوجدنا أن فعل أبرهة الحبشي لم يكن غاية ولا هدفاً له بل وسيلة أراد من خلالها تحقيق هدفه وهو “دفع الناس لاستبدال الحج إلى كنيسة القليس في اليمن بدلا من التوجه لعبادة الله في بيته المحرم” وبالتالي إضلالهم وتحويلهم للشرك بعد الإيمان.
ثالثا: أن سنة الله تتمثل في الجزاء من جنس العمل فكان كيده في تضليل كما أراد إضلال العباد عن الحج إلى بيت الله تعالى.
رابعا: أنه قصد أن يقدسه العرب حين يحطم الكعبة فيعتقدون ببطلان ما هم عليه واستبدال حجهم الأول بالحج الى اليمن رغبة واقتناعا بدون إرغام أو إجبار.
وهنا يستجد من هذه الدلالات نظرة جديدة بعد طبع معنى الكيد على سورة الفيل بمعناها الذي اعتقدنا صحته ليس في هذه السورة الكريمة فقط بل في كل مفردات الكيد في القرآن الكريم.
وهنا وجب علي أن أنوه بأن ابرز من تلمس المعنى الصحيح للكيد في سورة الفيل كان ابن عاشور رحمه الله برغم انه لم يعرفه بالتعريف الدقيق ولكنه قال:
أو أريد بكيدهم بناؤهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء .
فكان هذا الوجه هو الأصح المتفق مع التعريف الثابت للكيد والله اعلم.
وأخيراً وتلخيصاً لما سبق ، فالإملاء هو إمهال الكافر المعاند وفتح أبواب الخير عليه حتى يظن بأن الله الذي يدعى اليه لا وجود له يمعن في الكفر والعناد ، ليس لأن الله قذف في قلبه فكرة الكفر ليعذبه بل لأن نفسه الخبيثة سولت له أن إمهال الله له يعني غيابه وعدم قدرته على عقاب اعداءه ، فتقوم عليه حجة مضاعفة يقول تعالى:
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) المدثر
إن كنت أصبت فالفضل له وحده دون سواه ، وإن كنت أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم