أبو فهر السلفي
New member
- إنضم
- 26/12/2005
- المشاركات
- 770
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
كان من المفترض أن يكون موضوع هذا المقال هو مقترحات للتعامل مع معركة المفاهيم إلا أن حُزمة الأسئلة والاستشكالات التي وصلتني بعد المقال الأول قد استوجبت أن يكون هذا المقال جواباً هو بمنزلة تتميم القول في تحليل المعنى الذي تناولته في المقالة الأولى فأقول وبالله التوفيق:
(1)ما الذي جعل الربيع العربي إيذاناً بميلاد معركة المفاهيم؟
الواقع أن الجواب على هذا السؤال مهم جداً؛ لأن استفزاز الهمم للعمل فرع عن شعورها بالتحدي، ولا يمكنك أن تشعر بالتحدي الذي يتطلب استجابة لمعركة المفاهيم حتى تستوعب ما سنقبل عليه، فأذكر هاهنا أربعة أسباب:
أولاً: تجارب الثورات في العالم كله تنطق بما تُحدثه الثورة من حراك في جميع مجالات الفكر والإبداع، فالثورة توجد مجالاً في الفضاء المجتمعي يستفز الساكن والخامل للتحرك فهي أعمق وأشمل من أن تكتفي بالتأثير على الحالة السياسية.
ثانياً: السلطان عموماً والنظام القمعي خصوصاً له دور كبير في تنظيم حراك الأفكار وتحديد بوصلتها ؛ فهو يدعم منها ما يؤيد نظامه ويقمع أو يتجاهل منها ما ينابذه، وهو يسعى لإقامة تطاحن ما بين المنظومات الفكرية ولكنه تطاحن يخدم أسس عرشه فقط فمعارك المفاهيم التي تجري تحت سلطان مستقر عادلاً كان أو قمعياً يُعد السلطان عاملاً من العوامل التي تخرجها عن صورتها الطبيعية وتهذب منها كل ما يضر استقرار النظام الحاكم، وهذا في أغلب الأحيان يجعل هذه المعارك أقل عنفاً وأحياناً أقل ضرراً؛ لأن التوازنات ومقومات الشرعية التي يعتمد عليها الحاكم تجعله يضع ثقله كله من أجل أن تظل معارك المفاهيم داخل إطار معين وتحت مستوى معين وأن تكون هزائم كل طرف فيها وانتصاراته راجعة لمعاييره هو وإراراداته هو وليس لما مع كل طرف من أدوات النصر والهزيمة، وتخلص الصراع المفاهيمي من هذه اليد المقيدة يطلق طاقاته ويزيد في أورا معاركه.
ثالثاً: تخلق الثورات مساحة من الفراغ الفكري والسياسي يُشعل جذوة الطمع داخل المنظومات الفكرية ويُشعرها أن الفرصة قد حانت لحيازة مساحات من السلطة والتأثير أكثر مما بين أيديهم، مما يدفعها جميعاً للتحرك وبذل أقصى الجهد في عمليات التواصل والاستقطاب والدعوة وزيادة القاعدة الجماهيرية أو زيادة أدوات النفوذ والسلطة التي بين أيديها فإما أن تزيد في جمهورها وإما أن تزيد في نفوذها وقوتها المالية أو الإعلامية أو السياسية ما يعوضها عن نقص الجمهور؛ فالثورات فرصة لزيادة التسليح.
رابعاً: هذا السبب يختص بالثورات العربية الحالية وحاصله: أن عامين تقريباً منذ حدثت الثورات العربية ورغم وصول نخب إسلامية لسدة الحكم انفراداً أو مشاركة في ثلاث بلاد ثورية(مصر-تونس-ليبيا) ، وفي بلد غير ثوري(المغرب) = فإن الظاهر للعيان أن منظومة المفاهيم الغربية الليبرالية هي الغمامة المظللة لهذين العامين، وأن النخب الإسلامية التي وصلت للحكم نفسها قد وصلت من خلال نظم سياسية أنتجتها التجربة الليبرالية وفلسفتها ومهما قيل عن توافق أجزاء منها مع الشريعة إلا أن المُسَلم به لدى الجميع أن الموجود في الواقع هو المظلة الليبرالية ما يتوافق منها مع الإسلام وما لا يتوافق وأنه حتى الصياغات الدستورية التي خرجت والتي ستخرج ستحتوي على المفهوم الليبرالي أولاً ثم تقييده بالنص الشرعي لاحقاً، وربما يكون تقييداً جزئياً أو كلياً وربما يكون تقييداً مكتوباً في النص الدستوري أو في المدونات التفسيرية.
فواقع الحال: أن التيارات الإسلامية مضطرة لأن تعطي الغرب وأن تعطي أقلياتها الطائفية وأن تعطي النخب والأطياف السياسية العلمانية ما يرضيهم ويسكتهم، وهذا الذي يرضيهم ويسكتهم أكثر مادته منتزع من المنظومة المفاهيمية الغربية الليبرالية.
وأخطر من ذلك: أنه نتيجة للطبيعة الفكرية للتيارات الإسلامية التي وصلت للحكم : فإن شيئاً غير قليل من هذه المفاهيم الغربية يتم حشره في المفاهيم الإسلامية وزعم أنها منه وهو منها وذلك توسلاً بعمليات تأويلية غير منضبطة ، وساعد على زيادة الخلط المفاهيمي الدور التحريفي للمفاهيم والذي تمارسه بعض المؤسسات الدينية الرسمية كالأزهر للأسف الشديد.
ولذلك كتب أحد أهم المستشرقين المعتنين بالإسلام السياسي أوليفيه رواه مقالاً في اللوموند الفرنسية بعنوان: (الثورة ما بعد الإسلامية) يقول فيه:
(( إن ما نشهده حالياً هو تشتت المرجعية الإسلامية، وعجز التيارات الرافعة للشعار الإسلامي عن احتكار المشروعية الإسلامية، على الرغم من السمة الدينية الغالبة على المجتمع؛ فالبضاعة الإسلامية نفسها أصبحت شديدة التنوع، والسلطة التأويلية للنص لم تعد قائمة، ومسارات التدين غدت متعددة وغير محصورة في النمط السياسي)).
هذه أسباب أربعة تجعل الثورات العربية هي نقطة ميلاد أعنف معركة من معارك المفاهيم في التاريخ الحديث وترفع درجة التحدي لأعلى مؤشراتها فأين المستجيب؟!
(2)لماذا السلفية العلمية بالذات ؟
كان واضحاً في كلامي أني لم أجعلها الوحيدة المرشحة للقيام برفع الراية فكل اعتراض يُدخل غيرها لا محل له؛ لأني لم أمنع أصلاً دخول غيرها.
يبقى النظر في لم جعلتُها الرافع الرئيس لراية الحق في تلك المرحلة؟
بداية لابد من استبعاد الدافع الأيديولوجي؛ بمعنى أني لم أقل ذلك لأني من أبناء هذا التيار في الجملة؛ فأنا من أكثر الناس نقداً للتيار السلفي بجميع مكوناته، وقد ذكرت أسماء في معركة المفاهيم الأولى والثانية لا يذكرها من كان التحيز الإيديولوجي دافعه، بل قد ندمت على نسياني ذكر محمد باقر الصدر ومحمد سعيد رمضان البوطي وقد كان لهما دور مهم في المعركة الثانية بقطع النظر عن موقفنا من عقائدهم وأعمالهم.
فأرجو أن يكون واضحاً أني رشحت السلفية العلمية لهذا الدور لاعتبارات موضوعية بحته، وهي :
أولاً: ينبغي الاعتراف بصدق وواقعية غير متحيزة أن السلفية العلمية هي أكثر تيار إسلامي في الساحة الإسلامية العربية وغير العربية يشتغل بالعلم اشتغالاً تحركه الرغبة فيه وفي نشره؛ فالمقارنة في الساحة الأكاديمية هي لصالح التيار السلفي، فحتى الأزهر والذي يمكننا وصفه بأنه ممثل أكاديمي للأشعرية إذا وزنت ما فيه من السلفيين وأخرجت من يشتغل اشتغالاً علمياً أكاديمياً للدواعي الوظيفية فقط سترجح كفة السلفيين على كفة الأزاهرة الأشعريين ، بل إن الحالة العلمية الأزهرية لم تخرج بقوة عن نطاق الدواعي الوظيفية إلا من فترة قريبة جداً.
فأنا هنا لا أنفي التواجد غير السلفي في الساحة الأكاديمية بل أقول إننا إذا جعلنا محل المقارنة هو بين الأكاديميين الحاملين لأيديولوجيا وليسوا المقتصرين على الدواعي الوظيفية ستكون نسبة التواجد الأكاديمي السلفي أقوى خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا الساحة الأكاديمية السعودية، وما يصاحبها من أدوات نشر إعلامي ودعم اقتصادي.
فإذا أتينا لساحة التعليم غير النظامي = فلا وجه للمقارنة حينها أصلاً بين السلفية وغيرها ؛ فإخواننا من الأشاعرة تواجدهم في التعليم غير النظامي قليل وبعضه حديث العهد جداً، والإخوان المسلمون قليلو الاهتمام بهذا الجانب أيضاً، والتيار السلفي المدخلي له اشتغال به ولكن داخل أطر معينة قد يستفاد منها لكن حولها من الشوك ما قد يعيق عن قيامهم بدور مؤثر في معركة المفاهيم.
وقد أنتج جميع ما سبق:
ثانياً: أن التيار السلفي العلمي هو التيار الذي يملك أكبر كم وكيف من الكوادر العلمية في جميع التخصصات وفي جميع المراحل السنية .
ثالثاً: الوعاظ هم الحلقة الثالثة من حلقات النشر الفكري وهم يقومون بدور شبيه جداً بدور الصحافة في التواصل مع العامة ونشر المفاهيم بينهم، ولا يمكن أن نجادل في أن أول الأسماء التي تسبق لذهنك عند استحضار أشهر الوعاظ في العالم الإسلامي هم من أبناء هذا التيار.
رابعاً: عدد المؤسسات (مجامع فقهية-روابط علماء-لجان إفتاء-هيئات تنسيقية-مراز بحثية-مواقع علمية ودعوية-دور نشر-جميعات أهلية) التي بين أيدي هذا التيار عدد كبير جداً ولا نحتاج لإحصاء لنقول أنه يفوق عدد المؤسسات التي يملكها أي تيار إسلامي آخر.
خامساً: أن بقاء هذا التيار بعيداً عن التحزب السياسي واكتفاءه بالدور العلمي والفكري يؤهله لحراسة المفاهيم دون اضطرار لما توجبه الحاجة والضرورة السياسية من تنازلات في القول والعمل، ولذلك يكون من الخطر أن يشتغل هذا التيار بالدفاع عن هذه التنازلات اشتغالاً يقود إلى تضييع بيان الحق وما هي العزيمة التي تركها السياسي للرخصة،وسأزيد هذه النقطة وضوحاً في المقال القادم، فبقاء هذا التيار بعيداً عن المجال السياسي يؤهله أولاً للقيادم بدور الناقد المعياري الذي تحتاجه جميع التصرفات العملية، كما أنه يؤهله للقيام بالحراسة المفاهيمية قيام من لا ينسيه الجوع أن الميتة محرمة وإن جاز أكلها اضطراراً.
للاعتبارات السابقة جعلت هذا التيار هو المرشح لحمل هذه الراية خاصة إن استمر في جهوده الدعوية والإصلاحية ولم يتورط في النشاط السياسي واكتفي فيه بالدعم دون المشاركة، وخاصة إذا تلافي جوانب قصوره ونقصه وتقصيره التي سنشير لها في المقال القادم.
(3)ما المقصود بالمفاهيم ؟
للمفهوم تعريف أختاره وهو أنه: موضوع تفكير يتم إنشاؤه داخل نظام تصوري كعامل نصي يسمح بتوصيف الواقع في مقولات تُعين دللة الكلمات التي يُشار بها للأشياء.
وله تعريفات أسهل من ذلك خاصة التي تستحضر المفهوم في سياق علم المنطق، ولكنها تعريفات كتعريف الحديث الصحيح بأنه (ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط....) فهذه تعريفات تقنية تؤدي وظيفة اصطلاحية ضيقة لكنها لا توضح الدور المهم الذي يقوم به الحديث الصحيح (مثلاً)في العملية الاحتجاجية الاستدلالية في العقائد والأحكام، فتعريف المفهوم الذي ذكرته يوضح الدور المهم الذي يقوم به المفهوم في الفكر الديني والفلسفي.
وبعيداً عن التعقيد السابق أقول : (الله- الرسول- الدين- الوحي- العبادة- الإيمان- الكفر- البدعة- المعصية- الطاعة- السنة-الجهاد – الولاء- البراء)
كل هذه كلمات ولهذه الكلمات منظومة تفسيرية هي المفهوم، وهي أجزاء من منظومة المفاهيم التي جاء بها الإسلام، وهذه المنظومة التي جاء بها الإسلام هي التي تتم مصارعتها بمنظومة مفاهيم جاهلية أو يهودية أو نصرانية أو ليبرالية أو اشتراكية ، وكل منظومة مفاهيم من هذه تريد أن تسود وتنتشر وأنت تريد لمنظومة المفاهيم التي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون لها السيادة والانتشار ومن هنا ينتج الصراع فتحدث المعركة.
وإلى المقال القادم بإذن الله..