مرهف
New member
- إنضم
- 27/04/2003
- المشاركات
- 511
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
- الإقامة
- ـ سوريا
- الموقع الالكتروني
- www.kantakji.org
http://www.nooran.org/O/29/29-3.htm
[align=center]د. مرهف السقا [/align]
[aيقصد بالتفسير العلمي: بيان معاني القرآن الكريم باستنباط مختلف العلوم الكونية والنفسية والعقلية، أو بتوظيف العلوم التطبيقية والبحثية والمعارف التجريبية الصحيحة بقدر الطاقة البشرية وفق القواعد الشرعية المقررة(1).
والمراد من هذا البحث وما سيأتي من بعده ـ إن شاء الله ـ، بيان الأصل الشرعي والتاريخي لما نسميه اليوم (التفسير العلمي للقرآن الكريم) بهذا المعنى الاصطلاحي السابق، ونفياً لتهمة بعض المتفيهقين لمن يشتغل بهذا الاتجاه بالتفسير بالضلال والتبديع، وتوجيهاً لمن يشتغل بالتفسير العلمي إلى ضبط عملهم التفسيري في إطار هذا التعريف، وفي ضوء منهج الأئمة المعتبرين.
لا يخفى حال العرب عند بدء نزول القرآن، وما يحملونه من معتقدات الجاهلية وتصوراتها ومفاهيمها الخرافية المخالفة للفطرة والعقل والحقيقة.. والتي تسرب معظمها عن طريق الاحتكاك بالروم والفرس وتلاقح العقول ببعضها، وتلقف العرب لعلوم الروم وفارس خاصة عن خلق الإنسان ونشأة الكون وغير ذلك، ومع ذلك فلم يبرع العرب إبان نزول القرآن وقبله إلا في ثلاثة أنواع من العلم: علم الأنساب وعلم الرؤيا وعلم الأنواء أو النجوم، وكانت براعتهم بالأنواء قاصرة على العرافة والاسترشاد في الجهات، وأما الطب فلم يبرعوا فيه، بل كان غالبهم يعتمد على التمائم والرقى والتنجيم(2).
والواقع أن طبيعة الحياة في المجتمع العربي قبل الإسلام كانت هي التي توجه العرب إلى العلوم التي تحتاجها هذه الحياة، فبراعتهم بالأنساب لأنها من ضروريات العصبية القبلية، ومعرفتهم بالنجوم وأنواع الكواكب ومطالع النجوم والقمر.. وما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة؛ لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على سبيل طريق تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدريب في العلوم(3).
فنزل القرآن والحالة هذه لينقل الناس من هذه التصورات الخرافية التي لا تتوافق مع الحقائق التي خلقها الله، ليهديهم إلى الجادة المستقيمة ويصحح لهم التصورات المنحرفة عن الإنسان والكون والحياة، ويعيد الفطرة التي انحرفت هذه التصورات إلى أصلها وصفائها، وينقلهم من مرحلة التبعية لغيرهم في العلوم والنظم، ولآبائهم في العادات والعبادات، إلى سدة الاستقلال بالعلوم والعقيدة والأخلاق، ليكونوا أصحاب حضارة مميزة.
فكانت الآيات المكية تنزل متضمنة ذكر الإنسان وما يتعلق بخلقه وأطواره وكرامته، والكون ونشأته، والخليقة من بدئها وفنائها ومآلها، والحياة في معناها وحقيقتها والغاية منها، والأرض وما فيها من نبات وتربة وقطع متجاورات.. وغير ذلك من الدواب والمخلوقات؛ بأسلوب يأمر العقل بالحركة والتحرر من التبعية والجاهلية وتقليد الآباء وموروثاتهم، وكانت هذه الحقائق التي يذكرها الله تعالى في كتابه تتمكن من قلوب وعقول المسلمين عقيدة وفهماً لتوسع مداركهم وتعزز إيمانهم في تعظيم الله وتوحيده.
إن علم التفسير نشأ الرسالة الإسلامية، وبدأ ببدء نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الآيات المنزلة من عند الله تفتق مدارك العقل عند سامعيها العاقلين وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر للصحابة ما أشكل عليهم في فهم القرآن الكريم وما أجمل من هذه الآيات، ويعلمهم منهج استنباط المعارف القرآنية واستخراج الدر المكنون من علوم القرآن، وكان المصدر في ذلك الوحي من عند الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. عن مالك بن الحويرث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة، طار ماؤه في كل عرق وعصب منها فإذا كان يوم السابع، أحضر الله كل عرق بينه وبين آدم، ثم قرأ: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ|(الانفطار: 8)(4).
بل كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم للآيات المتحدثة عن مظاهر الكون والإنسان، وكانت المصدر الأول للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في فهم القرآن الكريم، والمطلع على كتب التفسير بالمأثور يجد الأمثلة في ذلك كثيرة(5).
ثم كان السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ من الصحابة والتابعين وتابعيهم يحثون على استنباط العلوم من القرآن الكريم، وتدبر آياته ومعرفة أوجه معاني ودلالات القرآن المرشدة لعلومه استناداً إلى أن هذا الكتاب المنزل من خالق كل شيء ما فرط في ذكر شيء مما خلقه تصريحاً أو تلويحاً أو استدلالاً بمنهج وأسلوب يسير بالإنسان في دروب الهداية والرشد، قال تعالى: }وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ| (الأنعام: 38)، ويقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن)(6).
ويقول مسروق ـ رحمه الله: (من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة)(7).
وذكر السيوطي في الإتقان أن ابن سراقة نقل في إعجاز القرآن عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال يوماً: ما من شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله، فقيل له: فأين ذكر الخانات؟! فقال: في قوله تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ| ( النور: 29)(8).
إن المطلع على تفسير السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ يجد فيه العجائب من استنباطهم لأنواع من العلوم صار لها تخصصات وفروع في زمننا بل منها علوم تقوم لها الدنيا وتقعد وهي تتحدث عنها ونحن كنا نمر عليها مرور الكرام عند قراءتها، وهذا التوفيق الذي وفقه السلف لم يكن من فراغ، وإنما لإخلاصهم في البحث عن مراد الله تعالى وحرصهم على سلامة المنهج في دراسة القرآن الكريم وتدبر آياته، إذ المصدر الذي عولوا عليه في ذلك هو تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، هذا مع معرفتهم باللغة العربية وأساليب العرب في الكلام وتقليب أوجه الدلالات اللغوية، إضافة لسعة المدارك الإيمانية ومعرفتهم لسنن الله تعالى في الكون والقرآن.
لقد وفق السلف الصالح من المفسرين كثيراً في شرحهم لمعنى الآيات مع أن حقائقها الكونية كانت محتجبة، ومعلوم أن المفسر الذي يصف حقائق وكيفيات الآيات الكونية في الآفاق والأنفس وهي محجوبة عن الرؤية في عصره قياساً على ما يرى من المخلوقات وفي ضوء ما سمع من الوحي، يختلف عن المفسر الذي كشفت أمامه الآية الكونية، فجمع ما سمع من الوحي وبين ما شاهد في الواقع(9).
ففي تفسير قوله تعالى: }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ| (المؤمنون: 12 ـ 14)، فقد نقل إلينا من أقوال السلف ـ رضي الله عنهم ـ الآتي: عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: (السلالة: صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد)(10)، ويقول ـ رحمه الله ـ في تفسير النشأة الأخرى للخلق: (خرج من بطن أمه بعدما خلق فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دله على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد إلى أن حبا إلى أن قام على رجليه إلى أن مشى إلى أن فطم، تعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام إلى أن بلغ الحلم إلى أن يتقلب في البلاد)(11).
وعن مجاهد في تفسير السلالة قال: (هو الطين إذا قبضت عليه خرج ماؤه من بين أصابعك)(12).
وعن عكرمة قال: (استل استلالاً)(13).
ولم يمنعهم ما ورد عن النبي من السنة في تفسير هذه الآيات من ذكر معان أخرى يحتملها نظم القرآن ولا يخرج عن مقتضى السنة وأصول اللغة ولا يضادها، فقد مر من قبل ما ورد عن النبي في تفسير قوله تعالى: }فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ| (الانفطار: 8)، وقد أثر عن السلف الصالح معان أخرى من ذلك ما ورد عن مجاهد أنه قال: (إما قبيحاً وإما حسناً، وشبه أب أو أم أو خال أو عم)(14).
وعن عكرمة قال: (إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير)(15).
ومن الأمثلة أيضاً ما ورد في تفسير قوله تعالى: }وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ| (الحجر: 21) يقول ابن عباس: (ما نقص المطر منذ أنزله الله، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى) ثم قرأ هذه الآية(16)، ومثل ذلك ورد عن ابن مسعود(17) والحسن(18).
ويقول الحكم بن عتبة ـ رضي الله عنه ـ: (ما من عام بأكثر مطراً من عام ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان في البحر)(19).
وهكذا فالأمثلة على ذلك كثيرة وكتب التفسير بالمأثور ـ كما ذكرت سابقاً ـ غنية بالأمثلة، وإنك لتجد في بعض ما أوردته من المأثور من التفسير أصبح أقرب للثوابت العلمية في وقتنا كإحصاء هطول الأمطار مع تعقد آلية إحصائها(20)، هذا مع عدم وجود فكرة إحصاء هطول الأمطار في بال أحد من الأمم في عصرهم ولا يملكون الدراية التجريبية لها.
الهوامش:
(1) منهج التفسير العلمي وتطبيقاته في سورة النحل، مرهف سقا ص39 رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة أم درمان، بإشراف الأستاذ الدكتور نور الدين عتر.
(2) انظر تفصيل حال ا لعلوم عند العرب قبل الإسلام وصدره: الملل والنحل للشهرستاني 3/83 إلى 89 ط مصر، وما كتبه محمد فؤاد الناكري في مقدمة دراسته لكتاب: (في بيان الحاجة إلى الطب والأطباء ووصاياهم) للعلامة قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي ت 710هـ من ص12 إلى ص38، فقد أعطى نظرة تاريخية للطب وعلومه في الجاهلية والإسلام، ط الإمارات الأولى.
(3) انظر: الاتجاهات الفكرية في التفسير د. الشحات السيد زغلول ص107 إلى ص109، ط الهيئة المصرية العامة، ثانية 1397، 1977.
(4) أخرجه الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات بإسناد جيد كما قال السيوطي في الدر المنثور 6/630، مطبعة الأنوار مصر، ومما يدخل في معنى حديث مالك بن الحويرث أيضاً ما أخرجه ابن جرير 30/56 ط الميمنية، والبخاري في التاريخ وابن المنذر وابن شاهين وابن قانع والطبراني وابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي 6/359 عن علي بن رباح عن أبيه أن النبي قال له: ما ولد لك؟ قال: يا رسول الله! ما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية؟! قال : فمن يشبه؟ قال: يا رسول الله من عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه!! فقال النبي عندها: مه!، لا تقولن هذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، فركب خلقه في صورة من تلك الصور، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار: 8)، قال: سلكك) وفي رواية: (من نسلك ما بينك وبين آدم). والحديث من طريق مطهر بن الهيثم عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن جده، ومطهر هذا شيخ يروي عن موسى بن علي، قال ابن حبان في المجروحين 3/26: (روى عنه أبو همام الوليد بن شجاع، منكر الحديث يأتي عن موسى بن علي ما لا يتابع عليه وعن غيره من الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات). قال ابن كثير: (وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث مطهر بن الهيثم به، وهذا الحديث لو صح لكان فيصلاً في هذه الآية، لكن إسناده ليس بالثابت..) تفسير ابن كثير ص1404، ثم قال ابن كثير: (ولكن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: (هل لك من إبل؟) قال: نعم، قال: (فما لونها؟) قال: حمر!، قال: فهل فيها من أورق؟، قال: نعم! قال: فأنى أتاها ذلك؟، قال: عسى أن يكون نزعة عرق! قال: (وهذا عسى أن يكون نزعة عرق). وهذا الحديث يمكننا اعتباره من شواهد معنى الحديث السابق وحديث مالك بن الحويرث. والله أعلم.
(5) انظر مثلاً تفسير الآية 11 من سورة الحج في الدر المنثور للسيوطي 4/378، وكذلك انظر كتاب هدي القرآن الكريم إلى معرفة العوالم والتفكر في الأكوان للمحدث المفسر الشيخ عبدالله سراج الدين ـ رحمه الله ـ، فإني أعتبره من أنفس كتب التفسير التي ينطبق عليها مصطلح (التفسير العلمي) واتبع فيه المؤلف ـ رحمه الله ـ منهجاً منضبطاً يمكن اعتباره نادرة بين كتب التفسير في موضوعه والله أعلى ويصلح أن يكون هذا الكتاب مثالاً للتفسير العلمي عند السلف الصالح أيضاً الذي سنتحدث عنه.
(6) أخرجه سعيد بن منصور كما في الإتقان 2/226 ط دار الفكر بيروت.
(7) أخرجه ابن أبي شيبة في المنصف 7/148 تحقيق كمال يوسف الحوت ط مكتبة الرشد الريال أولى 1409، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/68 ط الرسالة 1413هـ.
(8) الإتقان 2/126.
(9) انظر: قواعد وأسس أبحاث الإعجاز العلمي على موقع هيئة الإعجاز العلمي.
(10) أخرجه ابن جرير 20/73 تحقيق أحمد شاكر ط الرسالة أولى، وابن المنذر وابن أبي حاتم انظر الدر المثور 5/7.
(11) أخرجه ابن جرير 19/18 ط الرسالة.
(12) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 5/7.
(13) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 5/7.
(14) ابن جرير 30/55، وعبد ابن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور 6/360.
(15) ابن جرير 30/56، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور 6/360.
(16) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم أنظر الدر المنثور 4/107.
(17) أخرجه ابن جرير 14/13 و 14، والخرائطي في مكارم الأخلاق ص103 رقم (486).
(18) أخرجه أبو الشيخ كما في الدر المنثور 1/40.
(19) أخرجه ابن جرير 14/14، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور 4/107.
(20) انظر كتاب: الركام المزني والظواهر الجوية في القرآن الكريم من ص205، إلى ص212، تأليف صلاح الدين عارف جنيد تقديم جودت سعيد وبسام مهمندار، الخبير في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية ط مطبعة الزرعي في دمشق أولى 1999
[align=center]د. مرهف السقا [/align]
[aيقصد بالتفسير العلمي: بيان معاني القرآن الكريم باستنباط مختلف العلوم الكونية والنفسية والعقلية، أو بتوظيف العلوم التطبيقية والبحثية والمعارف التجريبية الصحيحة بقدر الطاقة البشرية وفق القواعد الشرعية المقررة(1).
والمراد من هذا البحث وما سيأتي من بعده ـ إن شاء الله ـ، بيان الأصل الشرعي والتاريخي لما نسميه اليوم (التفسير العلمي للقرآن الكريم) بهذا المعنى الاصطلاحي السابق، ونفياً لتهمة بعض المتفيهقين لمن يشتغل بهذا الاتجاه بالتفسير بالضلال والتبديع، وتوجيهاً لمن يشتغل بالتفسير العلمي إلى ضبط عملهم التفسيري في إطار هذا التعريف، وفي ضوء منهج الأئمة المعتبرين.
لا يخفى حال العرب عند بدء نزول القرآن، وما يحملونه من معتقدات الجاهلية وتصوراتها ومفاهيمها الخرافية المخالفة للفطرة والعقل والحقيقة.. والتي تسرب معظمها عن طريق الاحتكاك بالروم والفرس وتلاقح العقول ببعضها، وتلقف العرب لعلوم الروم وفارس خاصة عن خلق الإنسان ونشأة الكون وغير ذلك، ومع ذلك فلم يبرع العرب إبان نزول القرآن وقبله إلا في ثلاثة أنواع من العلم: علم الأنساب وعلم الرؤيا وعلم الأنواء أو النجوم، وكانت براعتهم بالأنواء قاصرة على العرافة والاسترشاد في الجهات، وأما الطب فلم يبرعوا فيه، بل كان غالبهم يعتمد على التمائم والرقى والتنجيم(2).
والواقع أن طبيعة الحياة في المجتمع العربي قبل الإسلام كانت هي التي توجه العرب إلى العلوم التي تحتاجها هذه الحياة، فبراعتهم بالأنساب لأنها من ضروريات العصبية القبلية، ومعرفتهم بالنجوم وأنواع الكواكب ومطالع النجوم والقمر.. وما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة؛ لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على سبيل طريق تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدريب في العلوم(3).
فنزل القرآن والحالة هذه لينقل الناس من هذه التصورات الخرافية التي لا تتوافق مع الحقائق التي خلقها الله، ليهديهم إلى الجادة المستقيمة ويصحح لهم التصورات المنحرفة عن الإنسان والكون والحياة، ويعيد الفطرة التي انحرفت هذه التصورات إلى أصلها وصفائها، وينقلهم من مرحلة التبعية لغيرهم في العلوم والنظم، ولآبائهم في العادات والعبادات، إلى سدة الاستقلال بالعلوم والعقيدة والأخلاق، ليكونوا أصحاب حضارة مميزة.
فكانت الآيات المكية تنزل متضمنة ذكر الإنسان وما يتعلق بخلقه وأطواره وكرامته، والكون ونشأته، والخليقة من بدئها وفنائها ومآلها، والحياة في معناها وحقيقتها والغاية منها، والأرض وما فيها من نبات وتربة وقطع متجاورات.. وغير ذلك من الدواب والمخلوقات؛ بأسلوب يأمر العقل بالحركة والتحرر من التبعية والجاهلية وتقليد الآباء وموروثاتهم، وكانت هذه الحقائق التي يذكرها الله تعالى في كتابه تتمكن من قلوب وعقول المسلمين عقيدة وفهماً لتوسع مداركهم وتعزز إيمانهم في تعظيم الله وتوحيده.
إن علم التفسير نشأ الرسالة الإسلامية، وبدأ ببدء نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الآيات المنزلة من عند الله تفتق مدارك العقل عند سامعيها العاقلين وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر للصحابة ما أشكل عليهم في فهم القرآن الكريم وما أجمل من هذه الآيات، ويعلمهم منهج استنباط المعارف القرآنية واستخراج الدر المكنون من علوم القرآن، وكان المصدر في ذلك الوحي من عند الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. عن مالك بن الحويرث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة، طار ماؤه في كل عرق وعصب منها فإذا كان يوم السابع، أحضر الله كل عرق بينه وبين آدم، ثم قرأ: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ|(الانفطار: 8)(4).
بل كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم للآيات المتحدثة عن مظاهر الكون والإنسان، وكانت المصدر الأول للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في فهم القرآن الكريم، والمطلع على كتب التفسير بالمأثور يجد الأمثلة في ذلك كثيرة(5).
ثم كان السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ من الصحابة والتابعين وتابعيهم يحثون على استنباط العلوم من القرآن الكريم، وتدبر آياته ومعرفة أوجه معاني ودلالات القرآن المرشدة لعلومه استناداً إلى أن هذا الكتاب المنزل من خالق كل شيء ما فرط في ذكر شيء مما خلقه تصريحاً أو تلويحاً أو استدلالاً بمنهج وأسلوب يسير بالإنسان في دروب الهداية والرشد، قال تعالى: }وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ| (الأنعام: 38)، ويقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن)(6).
ويقول مسروق ـ رحمه الله: (من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين وعلم الدنيا والآخرة فليقرأ سورة الواقعة)(7).
وذكر السيوطي في الإتقان أن ابن سراقة نقل في إعجاز القرآن عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال يوماً: ما من شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله، فقيل له: فأين ذكر الخانات؟! فقال: في قوله تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ| ( النور: 29)(8).
إن المطلع على تفسير السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ يجد فيه العجائب من استنباطهم لأنواع من العلوم صار لها تخصصات وفروع في زمننا بل منها علوم تقوم لها الدنيا وتقعد وهي تتحدث عنها ونحن كنا نمر عليها مرور الكرام عند قراءتها، وهذا التوفيق الذي وفقه السلف لم يكن من فراغ، وإنما لإخلاصهم في البحث عن مراد الله تعالى وحرصهم على سلامة المنهج في دراسة القرآن الكريم وتدبر آياته، إذ المصدر الذي عولوا عليه في ذلك هو تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، هذا مع معرفتهم باللغة العربية وأساليب العرب في الكلام وتقليب أوجه الدلالات اللغوية، إضافة لسعة المدارك الإيمانية ومعرفتهم لسنن الله تعالى في الكون والقرآن.
لقد وفق السلف الصالح من المفسرين كثيراً في شرحهم لمعنى الآيات مع أن حقائقها الكونية كانت محتجبة، ومعلوم أن المفسر الذي يصف حقائق وكيفيات الآيات الكونية في الآفاق والأنفس وهي محجوبة عن الرؤية في عصره قياساً على ما يرى من المخلوقات وفي ضوء ما سمع من الوحي، يختلف عن المفسر الذي كشفت أمامه الآية الكونية، فجمع ما سمع من الوحي وبين ما شاهد في الواقع(9).
ففي تفسير قوله تعالى: }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ| (المؤمنون: 12 ـ 14)، فقد نقل إلينا من أقوال السلف ـ رضي الله عنهم ـ الآتي: عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: (السلالة: صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد)(10)، ويقول ـ رحمه الله ـ في تفسير النشأة الأخرى للخلق: (خرج من بطن أمه بعدما خلق فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دله على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد إلى أن حبا إلى أن قام على رجليه إلى أن مشى إلى أن فطم، تعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام إلى أن بلغ الحلم إلى أن يتقلب في البلاد)(11).
وعن مجاهد في تفسير السلالة قال: (هو الطين إذا قبضت عليه خرج ماؤه من بين أصابعك)(12).
وعن عكرمة قال: (استل استلالاً)(13).
ولم يمنعهم ما ورد عن النبي من السنة في تفسير هذه الآيات من ذكر معان أخرى يحتملها نظم القرآن ولا يخرج عن مقتضى السنة وأصول اللغة ولا يضادها، فقد مر من قبل ما ورد عن النبي في تفسير قوله تعالى: }فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ| (الانفطار: 8)، وقد أثر عن السلف الصالح معان أخرى من ذلك ما ورد عن مجاهد أنه قال: (إما قبيحاً وإما حسناً، وشبه أب أو أم أو خال أو عم)(14).
وعن عكرمة قال: (إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير)(15).
ومن الأمثلة أيضاً ما ورد في تفسير قوله تعالى: }وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ| (الحجر: 21) يقول ابن عباس: (ما نقص المطر منذ أنزله الله، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى) ثم قرأ هذه الآية(16)، ومثل ذلك ورد عن ابن مسعود(17) والحسن(18).
ويقول الحكم بن عتبة ـ رضي الله عنه ـ: (ما من عام بأكثر مطراً من عام ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان في البحر)(19).
وهكذا فالأمثلة على ذلك كثيرة وكتب التفسير بالمأثور ـ كما ذكرت سابقاً ـ غنية بالأمثلة، وإنك لتجد في بعض ما أوردته من المأثور من التفسير أصبح أقرب للثوابت العلمية في وقتنا كإحصاء هطول الأمطار مع تعقد آلية إحصائها(20)، هذا مع عدم وجود فكرة إحصاء هطول الأمطار في بال أحد من الأمم في عصرهم ولا يملكون الدراية التجريبية لها.
الهوامش:
(1) منهج التفسير العلمي وتطبيقاته في سورة النحل، مرهف سقا ص39 رسالة دكتوراه مقدمة لجامعة أم درمان، بإشراف الأستاذ الدكتور نور الدين عتر.
(2) انظر تفصيل حال ا لعلوم عند العرب قبل الإسلام وصدره: الملل والنحل للشهرستاني 3/83 إلى 89 ط مصر، وما كتبه محمد فؤاد الناكري في مقدمة دراسته لكتاب: (في بيان الحاجة إلى الطب والأطباء ووصاياهم) للعلامة قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي ت 710هـ من ص12 إلى ص38، فقد أعطى نظرة تاريخية للطب وعلومه في الجاهلية والإسلام، ط الإمارات الأولى.
(3) انظر: الاتجاهات الفكرية في التفسير د. الشحات السيد زغلول ص107 إلى ص109، ط الهيئة المصرية العامة، ثانية 1397، 1977.
(4) أخرجه الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات بإسناد جيد كما قال السيوطي في الدر المنثور 6/630، مطبعة الأنوار مصر، ومما يدخل في معنى حديث مالك بن الحويرث أيضاً ما أخرجه ابن جرير 30/56 ط الميمنية، والبخاري في التاريخ وابن المنذر وابن شاهين وابن قانع والطبراني وابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي 6/359 عن علي بن رباح عن أبيه أن النبي قال له: ما ولد لك؟ قال: يا رسول الله! ما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية؟! قال : فمن يشبه؟ قال: يا رسول الله من عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه!! فقال النبي عندها: مه!، لا تقولن هذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، فركب خلقه في صورة من تلك الصور، أما قرأت هذه الآية في كتاب الله (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار: 8)، قال: سلكك) وفي رواية: (من نسلك ما بينك وبين آدم). والحديث من طريق مطهر بن الهيثم عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن جده، ومطهر هذا شيخ يروي عن موسى بن علي، قال ابن حبان في المجروحين 3/26: (روى عنه أبو همام الوليد بن شجاع، منكر الحديث يأتي عن موسى بن علي ما لا يتابع عليه وعن غيره من الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات). قال ابن كثير: (وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث مطهر بن الهيثم به، وهذا الحديث لو صح لكان فيصلاً في هذه الآية، لكن إسناده ليس بالثابت..) تفسير ابن كثير ص1404، ثم قال ابن كثير: (ولكن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: (هل لك من إبل؟) قال: نعم، قال: (فما لونها؟) قال: حمر!، قال: فهل فيها من أورق؟، قال: نعم! قال: فأنى أتاها ذلك؟، قال: عسى أن يكون نزعة عرق! قال: (وهذا عسى أن يكون نزعة عرق). وهذا الحديث يمكننا اعتباره من شواهد معنى الحديث السابق وحديث مالك بن الحويرث. والله أعلم.
(5) انظر مثلاً تفسير الآية 11 من سورة الحج في الدر المنثور للسيوطي 4/378، وكذلك انظر كتاب هدي القرآن الكريم إلى معرفة العوالم والتفكر في الأكوان للمحدث المفسر الشيخ عبدالله سراج الدين ـ رحمه الله ـ، فإني أعتبره من أنفس كتب التفسير التي ينطبق عليها مصطلح (التفسير العلمي) واتبع فيه المؤلف ـ رحمه الله ـ منهجاً منضبطاً يمكن اعتباره نادرة بين كتب التفسير في موضوعه والله أعلى ويصلح أن يكون هذا الكتاب مثالاً للتفسير العلمي عند السلف الصالح أيضاً الذي سنتحدث عنه.
(6) أخرجه سعيد بن منصور كما في الإتقان 2/226 ط دار الفكر بيروت.
(7) أخرجه ابن أبي شيبة في المنصف 7/148 تحقيق كمال يوسف الحوت ط مكتبة الرشد الريال أولى 1409، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/68 ط الرسالة 1413هـ.
(8) الإتقان 2/126.
(9) انظر: قواعد وأسس أبحاث الإعجاز العلمي على موقع هيئة الإعجاز العلمي.
(10) أخرجه ابن جرير 20/73 تحقيق أحمد شاكر ط الرسالة أولى، وابن المنذر وابن أبي حاتم انظر الدر المثور 5/7.
(11) أخرجه ابن جرير 19/18 ط الرسالة.
(12) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 5/7.
(13) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 5/7.
(14) ابن جرير 30/55، وعبد ابن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور 6/360.
(15) ابن جرير 30/56، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور 6/360.
(16) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم أنظر الدر المنثور 4/107.
(17) أخرجه ابن جرير 14/13 و 14، والخرائطي في مكارم الأخلاق ص103 رقم (486).
(18) أخرجه أبو الشيخ كما في الدر المنثور 1/40.
(19) أخرجه ابن جرير 14/14، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور 4/107.
(20) انظر كتاب: الركام المزني والظواهر الجوية في القرآن الكريم من ص205، إلى ص212، تأليف صلاح الدين عارف جنيد تقديم جودت سعيد وبسام مهمندار، الخبير في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية ط مطبعة الزرعي في دمشق أولى 1999