مشاريع الجابري في دراسة القرآن الكريم.. بحث علمي أم تشكيك في قالب البحث؟

ايت عمران

New member
إنضم
17 مارس 2008
المشاركات
1,470
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المغرب
بسم1​
نشرت جريدة هسبريس الإلكترونية المغربية على موقعها اليوم مقالا للأستاذ
[align=center]نبيل غزال[/align]أعجبني طرحه، فأحببت إطلاع أهل التخصص عليه في هذا الملتقى المبارك، بعد أن أرسلت رسالة للكاتب أستاذنه في نشره.
قال الكاتب:
[align=center]مشاريع الجابري في دراسة القرآن الكريم.. بحث علمي أم تشكيك في قالب البحث؟[/align]
"إن القارئ لكتب ومقالات محمد عابد الجابري يجب أن يقرأها وهو مستحضر لمرجعيته وفكره، مستصحبا لأقواله وتصريحاته التي تجلي بكل وضوح خطته ووجهة نظره في التغيير التي أفصح عنها في كتابه التراث والحداثة (ص:259) بقوله: "لا أرى أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة يحتمل ما يمكن أن نعبر عنه بنقدٍ لاهوتي.. لأنه لا الوضعية الثقافية والبنية الفكرية العامة المهيمنة، ولا درجة النضوجِ الثقافي لدى المثقفين أنفسهم تسمح بهذا النوعِ من الممارسة الفولتيرية، ولا السياسة تسمح. وبطبيعة الحال فالإنسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه، حتى يستطيع تغييره".
وانتقد: "من يرى أن من الواجبِ مهاجمة اللاعقلانية في عقر دارها"، واعتبر هذا خطأ، "لأن مهاجمة الفكر اللاعقلاني في مسلماته؛ في فروضه؛ في عقر داره، يسفر في غالب الأحيان عن: إيقاظٍ، تنبيهٍ، رد فعلٍ، وبالتالي تعميم الحوار بين العقل واللاعقل، والسيادة في النهاية ستكون خاضعةً للاعقل، لأن الأرضية أرضيته، والميدان ميدانه، والمسألة مسألة تخطيط".
والرجل ليس كغيره من العلمانيين ودعاة الحداثة، فهو بارع وله مهارة خاصة في التمويه والخداع والتلبيس.. لذا فهو لا يستعمل أبدا مصطلح العلمانية في كتبه وأبحاثه، بل يرفض استعمال هذا المصطلح، في حين يناضل بكل قوته من أجل تثبيت مفهومه وحمولته في الفكر المغربي وما يستتبع هذا التثبيت من محاربة للدين والتدين بمفهومهما الأصيل، وإحلال دين وتدين يتماشى مع مفهوم العلمانية، التي يستعيض عن مصطلحها بمصطلحات من قبيل العقلانية والديمقراطية.. لأن المجتمع عنده لم يستكمل عملية التهيئة اللازمة لقبول مثل هذا النوع من المصطلحات، وقد أقرَّ هو نفسه كما سبق أنه يمارس نوعاً مما أسماه بعض الباحثين (نفاقاً علمياً)، حين أشارَ إلى أنه لا يصرح بفكرته مراعاة لطبيعة العقل العربي الذي لا يتقبل النقد اللاهوتي حين تمسُّ المسلمات.
وقد وصف العلماني الآخر جورج طرابيشي مشروع الجابري بأنه "يتصدى للعقل الإسلامي في شبه حصان طروادة"، الذي يرنو إلى إفساد الإسلام من داخله.
وقد صدر مؤخراً عن مركز دراسات الوحدة العربية كتابٌ جديد للجابري بعنوان "فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول"، وهو جزء ثان -في قسمين- صدر بعد الجزء الأول: "مدخل إلى القرآن الكريم" والذي خصصه -حسب قوله- للتعريف بالقرآن الكريم.
وقد تضمن الجزء الأول فصلاً بعنوان "جمع القرآن ومسألة الزيادة فيه والنقصان"، جاء في (ص:232) منه: "ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمع زمن عثمان -أي القرآن- أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذكر في مصادرنا، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر، فالقرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ.." اهـ.
وفي (ص:231) قال -وهو يتحدث عن احتمال وقوع النقص في سورتي براءة والأحزاب-: "لقد اشتملت السورتان على نقدٍ داخليٍّ ومراجعة وحساب وكشف عورات -وخاصة سورة براءة-، لم يرد مثله في أية سورة أخرى. ولا نعتقد أن ما سقط منهما من الآيات -إذا كان هناك سقوط بالفعل-، يتعلق بهذا الموضوع، لأن ما احتفظت به السورتان كان عنيفاً وقاسياً إلى درجة يصعب معها -بالنظر إلى أسلوب القرآن في العتاب- تصور ما هو أبعد من ذلك"..
وقال: "وكل ما يمكن قوله -على سبيل التخمين لا غير- هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة هو القسم الأول منها، وربما كان يتعلق بذكر المعاهدات التي كانت قد أبرمت مع المشركين. ذلك أن سور القرآن، بخاصة الطوال منها، تحتوي عادة على مقدمات تختلف طولاً وقصراً مع استطرادات، قبل الانتقال إلى الموضوع أو الموضوعات التي تشكل قوام السورة".
ثم قال: "أما سورة الأحزاب، فيبدو أن ما سقط منها مبالَغ فيه.."
هذا هو أسلوب الجابري، أسلوب التشكيك في قالب "البحث العلمي" والعبارات الموهمة، (يبدو أن ما سقط منها مبالَغ فيه، ما يمكن قوله على سبيل التخمين لا غير، هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة.. وهكذا).
وقد رتب جزأه الثاني (فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول) على ما أسماه ترتيب النزول، وههنا أمر يجب التفطن له وهو:
إن كان العلماء قد اختلفوا في ترتيب السور على ثلاثة أقوال معروفة لا يكاد يخلو منها كتاب في علوم القرآن، وهي:
القول الأول: أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان باجتهاد من الصحابة. وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه.
القول الثاني: أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة.
وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء ولعله أمثل الآراء -كما قال صاحب مناهل العرفان-.
قال السيوطي ما نصه: "الذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال، ولا ينبغي أن يستدل بقراءة سور أولا على أن ترتيبها كذلك، وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء قبل آل عمران لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز" اهـ.
وقال الزرقاني رحمه الله في مناهل العرفان: والأمر على كل حال سهل حتى لقد حاول الزركشي في البرهان أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيا.
إلا أنه سواء كان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف، لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب.
إن النتيجة التي خرج بها الجابري في جزئه الثاني "من مصاحبة هذه التفاسير مدة من الزمن، مستعينا بالحاسوب وما يرتبط به من مكونات ووسائل تمكن مستعملها من الجولة في الكتب بسهولة، مهما كبر حجمها وتعددت مجلداتها.. هي أن المكتبة العربية الإسلامية تفتقد إلى تفسير يستفيد من عملية الفهم من جميع التفاسير السابقة ويعتمد ترتيب النزول".
وأضاف: "يمكن القول دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكنا عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري".
فعلا لأول مرة تمكنا فيها من رؤية مزيج من كتب تفسير أهل السنة وأهل الكلام والبدع، مزيجا وخليطا استحال تجانسه بين دعوة الحق ودعوة الباطل.
فمن تلبيساته في هذا القسم حشره -بعد ذكر مرويات حول الجن لها علاقة بالقرآن- أحاديث صحيحة بعضها في صحيح مسلم وبعضها في السنن في "جنس الإسرائيليات التي غصَّت بها كتب المفسرين"، وخلوصه بعد نقله كلاما طويلا للرازي في الموضوع إلى رأي المعتزلة الذين وصفهم -كعادة كافة العلمانيين- بـأنهم "ذووا الاتجاه العقلاني في فهم الدين الإسلامي"، إلى "أن الجن كالملائكة أجسام لطيفة وحية أي عضويات (Organismes) دقيقة جدا فيها حياة فهي أشبه بالكائنات الروحية ولكنها لا تستطيع القيام بأفعال شاقة، أما الأشاعرة فيتصورونها جواهر فردة، أي أجزاء لا تتجزأ (Substances Indivisibles) حاملة للأعراض كالحياة والحركة..إلخ، يخلق فيها الله القدرة على فعل الشاق وغير الشاق. اهـ.
ومعلوم عند كل باحث في مجال علوم القرآن والتفسير مآخذ العلماء والمحققين على تفسير الرازي "مفاتيح الغيب"؛ كتوسعه في ذكر مسائل علم الكلام، والفلسفة، والعلوم الطبيعية والرياضية، التي لا علاقة لها بموضوع التفسير إلا بشيء غير يسير من التكلف والتأويل البعيد، والتعرض لمثل هذه الأمور مما يجلُّ عنه كتاب الله سبحانه.
ومن بين المآخذ التي سجلها العلماء حول هذا التفسير ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: "وكان يُعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصِّر في حلِّها" وهذا ملاحظ بالفعل في هذا التفسير؛ إذ يورد الرازي شُبه المخالفين على غاية ما يكون الإيراد، حتى قيل: إنه يقرر مذهب خصمه تقريرًا بحيث لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة عليه.. لكنه عندما يعود لتقرير ما هو الحق في المسألة نجده يضعف، ولا يوفي الرد حقه. ولأجل هذا كان بعضهم يتهم الرازي في دينه، ويشكك في عقيدته"، ووصف بعض العلماء تفسيره فقال: "فيه كل شيء إلا التفسير".
فالجابري له أصل عرف به في جل كتبه، ظل وفيا له في مؤلفه الأخير أيضا، وهو سوقه ما يسعفه من روايات الفرق الضالة المنتسبة للإسلام، كالرافضة والمعتزلة والجهمية..، في سياق واحد مع دعوة أهل الحق -أهل السنة والجماعة-، من غير بيان أو إيضاح، ليَلبِس بذلك الحق بالباطل، وهو عين ما صرح به في كتابه التراث والحداثة (ص:260) بقوله: "يمكن أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء، يعني نستطيع بشكل أو بآخرَ استغلال الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين بعضهم مع بعضٍ، ونوظِّفَ هذا الحوار، لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطور الأمور، المسألة مسألة تطور".
لقد وصف الدكتور يوسف نور عوض كتاب الجابري بأنه نوع من الكتب التي يوهم القارئ بأنه يتحدث في أمور خطيرة ويتناولها بطريق علمية وموضوعية، ولكن المتأمل فيه يدرك أن الكتاب فارغ المضمون، وأنه مليء بالمغالطات والآراء غير العلمية بعكس الدعاية الكبيرة له.
وأن أمثاله -أصحاب اتجاه النقل المقصود به الهدم- يزعمون أنهم يناقشون قضايا المجتمع العربي الإسلامي من منظور علمي مع أنهم في الحقيقة يحاولون عمداً هدم الإسلام من الداخل، ذلك أن معظم الكتاب العرب الذين بدأوا يستخدمون هذا المنهج، لم يحاولوا في الواقع نقد المنهج ذاته بل استخدموه بأقصى درجات التطرف من أجل تفتيت كيان الأمة الثقافي. تارة تحت اسم (سوسيولوجيا المعرفة) وأخرى تحت اسم (سوسيولوجيا النقد).
وفي انتظار القسم الثالث الذي سيتناول فيه الجابري "تفسير" السور المدنية والتي لا مناص له فيها من الحديث عن جانب التشريع والحكم والسياسة وغيرها من الأمور، لا يحق لنا أبدا أن نلدغ من جحر مرارا متعددة، وأن نسمح لأي كان أن يشككنا في ديننا، أو يزعزع عقيدتنا في القرآن، ويخلط علينا الأمور ويلبسلها علينا".
وهذا رابط المقال في الجريدة المذكورة:
http://www.hespress.com/?browser=view&EgyxpID=19153
 
جزاك الله خيرا..
ويراجع كتاب: الشبه الاستشراقية في كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور محمد عابد الجابري ـ رؤية نقدية ـ لعبد السلام البكاري، والصديق بوعلام.
ولعل الإخوة يتفضلون بالإفادة عن الكتب التي تناولت فكر الجابري بالنقد والدراسة.
 
قدمت في الماجستير بحثا صغير بعنوان ( القراءات عند الجابري من خلال كتابه المدخل)

وجمعت النصوص التي تعتبر (مثار إشكالية ) كالتي نقلها الكاتب ، وخرجت بأمر :

وهو أن الجابري في المرحلة الحالية إما :

1ـ أسلووب التشكيك والذي ينتظر من (يثيره ) مع الأيام ، أو على الأقل يجد له من

خلاله (مطعن ) أي (قنبلة موقوته ) .

2ـ وإما في مرحلة انتقالية إلى (تحسن تراجع ) عن كثير مما كان يتبناه ويراه ..

ولا عجب في ذلك فالرجل صاحب ذكاء وفطنة ونقد ... ونصوص أهل العلم فيها

من الإخلاص ما يجعل (مريض القلب ) يتشافى حين يقرأها ...

وبالتالي يختلف الحال في التعامل معه (بناء على ظني على حسب المرحلتين ) :

ففي الاجتمال الأول : يحسن جمع النصوص (التشكيكية ) والجواب عنها ونقدها .

وفي الاحتمال الثاني : الأفضل أن (يحتوى ) من قبل أهل العلم ويمد جسور صلة .

والله أعلم
 
ليس دفاعا عن الجابري-القسم الأول

ليس دفاعا عن الجابري-القسم الأول


[align=center]مثلما أنتج المغرب العربي عظماء ومجددين كابن حزم وابن رشد وابن خلدون من يُعدون من مفاخر الإنسانية لا مفاخر أمة الإسلام وحدها فقد أنتج هدميين رجوعيين كابن عربي وغيره.
واليوم قد أنتج للأمة ثلاثة مفكرين كبارا هم محمد عابد الجابري وعبدالله العروي ومحمد أركون الجزائري، وهؤلاء ، شأن كثير من الفلاسفة، يتميزون بفهم كبير للكليات ولكنهم كثيرا ما يقعون في سوء فهم للجزئيات ، مردّه إلى أنهم ليسوا عرباً في أصل نشأتهم اللغوية، فالجابري قال في كتابه (حفريات في الذاكرة من بعيد) إنه نشأ في بيئة بربرية ثم تعلم العربية في طفولته. ومعروف عن العروي أنه تعلم العربية على كبر وكذلك أركون.
وحين يكون الشأن شأن المسائل العلمية وشأن الأفكار الكبرى والتجريدية فإن في الفرنسية غنية عن العربية وكذلك في اللغات الحية كاللغات الأوربية. لكن حين يتعلق الأمر بتفسير النصوص القرآنية وفهمها فإن الأمر يعتمد على الوحدة التفسيرية/
صغرى(كلمة)[مرجعها/ علم الصرف والمعجم] أو (أكبر) كالجملة[مرجعها الإضافي علم النحو والبلاغة]
أو (أكبر) كالفقرة والمنزلة [مرجعها الإضافي التاريخ(أي أسباب النزول) والبلاغة، ]،
ومعلوم لدى علماء اللسانيات -وما أنا إلا قارئ لهم- أن الحضارة هي أكبر وحدة دلالية وأن الكلمة هي أصغر وحدة دلالية، ولما كان الفلاسفة (وليس أدل من الجابري والعروي وأركون عليهم في الثقافة العربية المعاصرة) يهتمون بمجموع العلوم الإنسانية من أجل نقد الفكرة كانوا من أهل الشأن حين تكون الوحدة الدلالية هي الحضارة أو ما قاربها كالثقافة وكالدولة وكعلاقة السياسي بالثقافي وكالفكر النظري في مرحلة تاريخية معينة ، وكمصادر العلوم الطبيعية ومدى تأثير اليهودية والفلسفة الإغريقية في الحضارة العربية.
ولما كان هؤلاء المفكرون يجيدون بعض اللغات العالمية كالإنكليزية والفرنسية والألمانية كانوا على اطلاع بما يكتبه المختصون بالحركة الفكرية في القرون الإسلامية الثلاثة الأولى كالكتابين القيمين اللذين لا غنى عنهما لباحث جاد يريد فهم حقيقة المعتزلة ونشوء علم الكلام والقضايا الفكرية الكبرى التي شغلت الإسلاميين في القرنين الثاني والثالث الهجريين/ وهما كتاب مونتكمري واط وكتاب جوزيف فان إس عن تاريخ الفكر الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى، ولا سيما كتاب جوسف فان إس لاستيعابه وشموله.
لذلك فإن المفسر حين يكون المعنى متوقفا على وحدة دلالية صغرى كالكلمة فإنه يعود إلى المعجم، أو ينتقد المعجم نفسه إذا توفرت له نصوص وشواهد تجعله يرجح دلالة على أخرى من بين احتمالات الكلمة.
كأن يستطيع الفصل في معنى الحيق هل هو (النزول والحصول) أم (الإحاطة)؟
وحين يكون المعنى متوقفا على تركيب من عدة كلمات يكون مرجعه (علم النحو) القابل أيضا للنقد والترجيح وإعادة الطرح والتصنيف شأن أي عمل بشري، ولاشك أن كتابات سيبويه وابن جني ومن لخص علمهما كابن هشام ما تزال المراجع الأولى للنحو العربي.
وحين يكون المعنى متوقفا على التاريخ، أي حين يحيل النص إلى حدث ليس موجودا فيه لكنه ضروري لفهم الدلالة ، مثل قوله تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فما الذي صرف دلالة (لا جناح ) من التخيير إلى الوجوب؟ فإن مرجع المفسر هو كتب التاريخ (كالتفاسير الموسوعية وكتب السير والحديث[الصحاح والسنن والمسانيد] )
وحين يكون المعنى متوقفا على وحدة دلالية أكبر كالدولة، وآليات التدوين، والحضارة ،وعلاقة الشفاهي بالكتابي ،وقدرة الخط على حفظ النص، ونقد قدرة الذاكرة البشرية على الحفظ ،وخصائص العقل الشفاهي والكتابي فإن حاجة المفسر إلى الفلاسفة والمختصين بالعلوم الإنسانية تبرز في هذه المرحلة أكثر من غيرها. والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها كان أحق بها

لقد قرأت هذا المقال الناقد للمفكر المغربي الجابري فرأيته ينم عن قصور كبير في فهم مرامي الجابري ، وسأحاول أن أكون موضوعيا قدر المستطاع ، وأحسب القارئ سيلمس ذلك واضحا ، ولا سيما أني قد قدّمت (مكامن) ضعف هذا النوع من الأساتذة ألا وهو الجزئيات، أي المفردة والجملة، وأشرت إلى مكامن قوتهم وهو الوحدات الكبرى.
ونحن هنا في ملتقى أهل التفسير كان من أصحابنا من استفاد من الفلسفة وعلم الكلام كالرازي ومن استفاد من التاريخ كالطبري ومن وظف التأويل الذي لا يصمد أمام أي نقد فلسفي موضوعي ككثير من تفاسير أهل الأهواء، فقد رأيت من النصيرية من فسر (ذاالكفل) بأنه أبو طالب لأنه كفل طفولة النبي، وفي مذهب الفرس يسمى أبو طالب عمران، خلافا للتاريخ الذي سماه عبدمناف، لكي يمكن إسقاط اسمه على (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وءال عمران على العالمين)، وهم اليوم لا يشعرون بخجل حين يقتطعون جزءا من آية (إنما يريد الله ليُذهب عنكم االرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ليُسقطوها على من يقصرون اسم أهل البيت عليه بناءً على برمجتهم العاطفية.
الزبدة أن هذا الموضوع وأمثاله ليس جديدا ولن يكون جديدا على أهل التفسير
وليس الجابري ولا أركون ولا العروي إلا مسلمون قادهم وعيهم وتفكيرهم إلى ما يظنون أنه الحقّ، وعلينا أن نبذل وسعنا في تأييد أو تفنيد أطروحاتهم بقدر طاقتنا.
وقد ارتأيت أن أورد المقال فقرة فقرة في القسم الثاني الذي سيأتي لاحقاً،وأعلق عليه بلون مختلف، عسى أن أكون قد قربت الفجوة بين من يريدون الحفاظ على الإيمان حتى ولو باغتيال العقل ! وبين من يريدون الحديث عن العقل حتى ولو بـ"ـتجاهل" ضرورة الإيمان.

وأترك للقارئ الحكم والله وليّ التوفيق

[/align]
 

[align=center]وقد ارتأيت أن أورد المقال فقرة فقرة في القسم الثاني الذي سيأتي لاحقاً،وأعلق عليه بلون مختلف، عسى أن أكون قد قربت الفجوة بين من يريدون الحفاظ على الإيمان حتى ولو باغتيال العقل ! وبين من يريدون الحديث عن العقل حتى ولو بـ"ـتجاهل" ضرورة الإيمان.

وأترك للقارئ الحكم والله وليّ التوفيق

[/align]

ما زلنا ننتظر يا دكتور.
 
ليس دفاعا عن الجابري - القسم الثاني

ليس دفاعا عن الجابري - القسم الثاني


تعليق على هامش مقال نُشر في الانترنت عن بعض كتب الجابري، وقد حملني على كتابة التعليق ما لا أرتضيه لأحد أن ينتقد النيات ويشكك في الدوافع بدلا من النقد العلمي .والنقد العلمي له مبادئ معروفة وهي تتبع المصادر وتوثيق النصوص وبيان الضلال في فهمهما بحسب مبادئ منطق المعرفة العلميةـ وليس من العلم في شيء أن يُنتقد شخصُ الكاتب أو تُبتسر أقواله أو أن توضع النتيجة سلفا ثم يُشرع بإيراد النصوص لتتسويغها، وهذا مع الأسف ما يفعله كثير من الناس اليوم، نعوذ بالله من الخذلان.وقد تكون دوافع كاتب المقال نبيلة والغالب أنها كذلك فهو يدافع عن الدين وربما كنا نتبنى موقفه ذات يوم لكن تبين لنا فيما بعد أن علينا أن نكون أهدأ وأكثر اتهاما لفهومنا فبل أن ننتقد الناس.
وسيرى القارئ أني لا أجعل من الجابري إماما ولا حبرا بحرا بل هو أستاذ ذو قدرة تحليلية قفز بالفكر العربي خطوة إلى الأمام، ولا غنى لمثقف عربي عما كتب، لكن ذلك لا يعني أنه لم يرتكب أخطاء ولم يتسرع في استنتاج أو يقع في سوء فهم، لكن كفى المرء نبلاً أن تُعدّ معايبه.
وإذا كان التدين مسألة شخصية (وقل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، إلا أنه في العلم والفكر والبحث على الإنسان أن يكون نزيها مخلصا لمبادئ العقل والعلم، وهذا ما كان عليه الجابري بدلالة أبحاثه التي بين أيدينا. وعليه فلا نرتضي للمتدينين أن يردوا عليه أيديولوجيًّا لأنه لا يعادي الدين ولا يحارب الإسلام بل يكون الرد عليه بالحجة والبرهان دون تشكيك في نواياه ومقاصده ودوافعه، وهذا أوان الشروع في المقصود


بسم الله الرحمن الرحيم
نشرت جريدة هسبريس الإلكترونية المغربية على موقعها اليوم مقالا للأستاذ
[align=center]نبيل غزال أعجبني طرحه، فأحببت إطلاع أهل التخصص عليه في هذا الملتقى المبارك، بعد أن أرسلت رسالة للكاتب أستاذنه في نشره.[/align]


أشكُر الأخ آيت عمران على إيراده المقال وعلى حُسن خلقه في مراسلة الكاتب واستئذانه قبل نشره في المنتدى، وإن كان نشرُه في الشبكة يسمح له باقتباسه في المنتدى دون إذن، لكنه التزم ما لا يلزم فدل على احتياطه وتبصّره.


[align=center]
وقد وعدت أن أكتب تعليقا على المقال لأن موضوعه عن كاتب ملأ الدنيا وشغل الناس وهو الدكتور محمد عابد الجابري حفظه الله، ونبدأ بالعنوان[/align]
.

قال الكاتب:
[align=center]مشاريع الجابري في دراسة القرآن الكريم.. بحث علمي أم تشكيك في قالب البحث؟[/align]
لم أفهم ماذا عنى الكاتب بقوله (بحث علمي أم تشكيك في قالب البحث) في بداية الأمر لأن عليه أن ورود حرف الجر (في) بعد كلمة تشكيك يوهم القاري أن التشكيك قد كان في البحث على حين أنه يقصد (تشكيك على هيئة بحث)
"إن القارئ لكتب ومقالات محمد عابد الجابري يجب أن يقرأها وهو مستحضر لمرجعيته وفكره، مستصحبا لأقواله وتصريحاته التي تجلي بكل وضوح خطته ووجهة نظره في التغيير التي أفصح عنها في كتابه التراث والحداثة (ص:259) بقوله: "لا أرى أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة يحتمل ما يمكن أن نعبر عنه بنقدٍ لاهوتي.. لأنه لا الوضعية الثقافية والبنية الفكرية العامة المهيمنة، ولا درجة النضوجِ الثقافي لدى المثقفين أنفسهم تسمح بهذا النوعِ من الممارسة الفولتيرية، ولا السياسة تسمح. وبطبيعة الحال فالإنسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه، حتى يستطيع تغييره".
وانتقد: "من يرى أن من الواجبِ مهاجمة اللاعقلانية في عقر دارها"، واعتبر هذا خطأ، "لأن مهاجمة الفكر اللاعقلاني في مسلماته؛ في فروضه؛ في عقر داره، يسفر في غالب الأحيان عن: إيقاظٍ، تنبيهٍ، رد فعلٍ، وبالتالي تعميم الحوار بين العقل واللاعقل، والسيادة في النهاية ستكون خاضعةً للاعقل، لأن الأرضية أرضيته، والميدان ميدانه، والمسألة مسألة تخطيط".




اقتبس الكاتب هنا نصين مختلفين للجابري ووضعهما في سياق مقدمته التي يريد أن يستنتج منها "فهمـ"ـه للنية "غير" الحسنة الكامنة خلف كتابات مواطنه. فالنص الأول

[لا أرى أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة يحتمل ما يمكن أن نعبر عنه بنقدٍ لاهوتي.. لأنه لا الوضعية الثقافية والبنية الفكرية العامة المهيمنة، ولا درجة النضوجِ الثقافي لدى المثقفين أنفسهم تسمح بهذا النوعِ من الممارسة الفولتيرية، ولا السياسة تسمح. وبطبيعة الحال فالإنسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه، حتى يستطيع تغييره".] لا يدل كما ذهب الكاتب إلى تعمد التقيّة و"إضمار السوء"، بل دلالته واضحة من مفكر يعتمد التحليل والنقد الفلسفي الحر منهجاً وطريقة، فقد قضى عمره أستاذا في الفلسفة مشاركا في كل الندوات التي تُعقد عن التراث محاولا فهمه وتفهيمه. ولا أظن من بين القراء من يجهل كثرة القيود السياسية والاجتماعية والفكرية أمام كل مفكر عربي. كل ما في نص الجابري أعلاه شيئان ضروريان أولهما أنه يستحيل على الكاتب أو الفيلسوف أو الفاعل الاجتماعي أن يغير واقعا دون أن يكون في داخله، فلا تغيير من برج عاجي. و"المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". ولكن العيش داخل مجتمع يقتضي أخذ مستواه الفكري والقيمي بالحسبان، وأن يسعى جهه أن لا يصطدم بالبنى الفاعلة فلا يسبح ضد التيار ولا يستثير المخيال الجماهيري. وليس من باب نقد العرب او المسلمين أن تقول إن حرية التعبير وابداء الرأي هي في بلاد الغرب خير منها في بلادنا، فإن هذا لا ينتطح فيه كبشان.
فكلمة الجابري توصيف مستبصر ونصيحة ثمينة لكل مصلح، وهي تدل على صدق الرجل لا على نفاقه وإضماره نية السوء ضد الأمة فهذا أقل ما يقال فيه إنه إبعاد للنجعة.
والنص الثاني ورد عند الجابري في سياق مختلف، ذلك أن الجابري نصح المفكرين العرب نصيحة من ذهب، فلا يرتاب عاقل أن واجب المثقف والفيلسوف المفكر أن ينتصر للعقلانية لكنه الأستاذ الجابري هنا ينصحهم أن لا يهاجموا اللامعقول لأنه سيثير من المشاكل أكثر مما يحل، ولأن اللامعقول شعري ينتصر على الواقعي حتماً.
وهذا من عبقرية الجابري ولا ريب.
جرب أن تبدأ مع الشيعي بأن تنكر اللامعقول، أن تبدأ بأن تقول إن (صاحب الزمان خرافة) أو لا وجود لقائم "’آل محمد، الإمام الحجة ابن الحسن"، سينفر منك مباشرة ويتهمك بأنك لا "تحب آل البيت" وأنك "ناصبي"، على حين أن الاعتقاد بوجود هذا الكائن الخرافي هو قتل للدين والعقل معاً. لكن الجابري ينصح الذين يريدون نشوء عقلانية واقعية بين المسلمين أن يتسموا بالهدوء ويعد النظر وتعليم الفيزياء والعلوم حتى تنشأ العقلانية فيكتشفوا بأنفسهم استحالة وجود مثل هذا الكائن الخرافة.
وهو طريق طويل لكن لا يوجد غيره أمام الإصلاح السلمي الهادئ.
ولأن الأستاذ الجابري خير من يمثل المهتمين بتحليل التراث فإنه أعلم وأدرى من غيره بكثرة البنى اللامعقولة التي ظهرت فيه والتي يتطلب تحليلها أن تخوض معارك فكرية شرسة مع الناطقين باسمها.
وبرغم أننا ننتمي إلى أهل السنة وهم أكثر المسلمين وأقلهم لا معقول إلا أن التعصب وردود الفعل فيما بينهم قد أنتجت تجاذبات وإضافات ليست من كيان الدين في عصر الصحابة، وهذه البنى الحادثة لها من ينطق باسمها ويستميت دفاعا عنها، فينصحنا الأستاذ الجابري بحق أن ننشغل ببيان المعقول دون أن نقابل بينه وبين اللامعقول. وهذه عبارة عامة قد حملها الكاتب على أسوأ محمل
.

والرجل ليس كغيره من العلمانيين ودعاة الحداثة، فهو بارع وله مهارة خاصة في التمويه والخداع والتلبيس.. لذا فهو لا يستعمل أبدا مصطلح العلمانية في كتبه وأبحاثه، بل يرفض استعمال هذا المصطلح، في حين يناضل بكل قوته من أجل تثبيت مفهومه وحمولته في الفكر المغربي وما يستتبع هذا التثبيت من محاربة للدين والتدين بمفهومهما الأصيل، وإحلال دين وتدين يتماشى مع مفهوم العلمانية، التي يستعيض عن مصطلحها بمصطلحات من قبيل العقلانية والديمقراطية.. لأن المجتمع عنده لم يستكمل عملية التهيئة اللازمة لقبول مثل هذا النوع من المصطلحات، وقد أقرَّ هو نفسه كما سبق أنه يمارس نوعاً مما أسماه بعض الباحثين (نفاقاً علمياً)، حين أشارَ إلى أنه لا يصرح بفكرته مراعاة لطبيعة العقل العربي الذي لا يتقبل النقد اللاهوتي حين تمسُّ المسلمات.
كشف الكاتب هنا عن أنه لم يقرأ تحليل الأستاذ الجابري لمصطلح علمانية تحليلا مستفيضا عند حديثه الرائع عن العلاقة بين العروبة والإسلام.
ينطلق كاتب المقال من خلفية دينية وهذه مزية لولا أنه يظن أنه لا يوجد "علماني " أو "دنيوي" نزيه. وهو بلا شك مخطئ أيما خطأ. فالجابري يختلف عن سواه من العلمانيين ليس فيما ذهب إليه ظن الكاتب بل في كونه نزيها ومن هنا جرأته وقوة تحليله. وأسباب الأمانة أربعة ليس الدين إلا أحدها، هي على هذا النحو:
-عقلي، كأن يفكر الإنسان أن لا يسرق لأنه سينكشف أمره كما انكشف سواه، فيقرر أن يكون أمينا لأنه أسلم له وأرد عليه بخير
-اجتماعي، يخاف المرء على سمعة العائلة، أن يقال ابن فلان فعل كيت وكيت
-ديني، أن يخاف من الله ، ويفكر بالحساب والعقاب
-جمالي، أن يفكر بجمال أن يفي الناس بوعودهم وأن يحترموا أشياء الآخرين وأن يكون كل شيء كما ينبغي أن يكون.

وفي البحث العلمي تهمنا الأمانة كثيرا مهما كان سببها، والأمين لأي سبب (عقلي،أو اجتماعي،أو ديني ، أو جمالي ،) أنفع للعلم والفهم من المتدين غير الأمين، أو المتدين قصير النظرة "المرائي بالشيوخ" على قول الغزالي، أو المتشبع بما لم يُعط، أو المتزبب وهو حصرم!

فقد قال جمال الدين الأفغاني رحمه الله في كتابه الرد على الدهريين، إن الدهريين في الغرب تجد عندهم على إلحادهم حبا لبلادهم وأوطانهم ولبني جنسهم عى خلاف الدهريين عندنا، وهكذا يمتاز دهري الشرق على دهري الغرب بالخسة والنذالة بعد الكفر والزندقة.
ويبدو أن الحديث عن هذه النقطة بعينها يستلزم تفصيلا.
كان الجابري منذ ابتداء مسيرته بعد الدكتوراه قد تأمّل مليا في سبب تقدم الغرب علميا وتأخر المسلمين وهم كانوا حملة الحضارة والفكر العلمي فيما يسميه الغربيون في تاريخهم بالقرون الوسطى، وجاءه تأمله ذلك من تفكره عشر سنين في مقدمة العلامة ابن خلدون الخالدة. فاهتدى بفكره الثاقب إلى ما قرره في مقدمة الجزء الأول من كتابه "دراسات في الإيبسستيمولوجيا المعاصرة- الفكر الرياضي " أن الفلسفة القديمة كانت في مجملها فلسفة في الوجود والفلسفة الحديثة فلسفة في المعرفة، وأن للعقل حدودا يعرفها لا تفرض عليه من خارجه كما يحاول "المؤمنون" بل إنه أوعى بقصوره وقدرته المحدودة بالحواس فقط. ولذلك قرر الجابري أن يترك لمن شاء أن يبدد قدراته العقلية خارج حدود الواقع المحسوس وأن يستغل عقله في التفكير به داخل مجاله. ولذلك قدم الجابري للإنسان العربي بعقل عربي كتبه القيمة في تقريب ماضيه منه، وبيان عقلانية تراث حوّمت به كتب الأدب وخيال الإنسان الجامح خارج حدود العقل. وقد كان الجابري ذكيا سار على قول النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم"الحكمة ضالة المؤمن" فاستفاد من كل مايجعله يفهم موضوعه مهما كان انتماؤه.
فكون الجابري لا يرى العقل العربي في مرحلته التاريخية المعاصرة مهيئاً لمصطلح علمانية يعدّ بُعْدَ نظَر لديه ولا يعد دليلا على "نفاقه".
وما أرى الكاتب الشاب إلا متحاملا على مواطنه الشيخ تحاملا لا مسوغ له.

وقد وصف العلماني الآخر جورج طرابيشي مشروع الجابري بأنه "يتصدى للعقل الإسلامي في شبه حصان طروادة"، الذي يرنو إلى إفساد الإسلام من داخله.
حاول طرابيشي أن يتسلق على مشروع أثنى عليه إبان صدوره، ثم كان معه كما قالوا في وصف النقاد / إنهم عجزوا عن حفر بئر عذب كالشعراء الكبار فقاموا بتلويثها.

وقد صدر مؤخراً عن مركز دراسات الوحدة العربية كتابٌ جديد للجابري بعنوان "فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول"، وهو جزء ثان -في قسمين- صدر بعد الجزء الأول: "مدخل إلى القرآن الكريم" والذي خصصه -حسب قوله- للتعريف بالقرآن الكريم.
وقد تضمن الجزء الأول فصلاً بعنوان "جمع القرآن ومسألة الزيادة فيه والنقصان"، جاء في (ص:232) منه: "ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمع زمن عثمان -أي القرآن- أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذكر في مصادرنا، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر، فالقرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ.." اهـ.
الجابري أستاذ مختص بالفلسفة وله قدرة تحليلية هائلة إذا قورن بنظرائه من العرب بدا عبقريا ، وكتابه "نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي" الذي نشر فيه مجموع دراسات شارك بها في مناسبات متفرقة جمعها موضوع واحد ، يعدّ هذا الكتاب فنحا في الدراسات العربية عن التراث الفكري، وفيه استخدم منهجا موفقا حيث فصل بين المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي، ولولا هذا الإجراء المنهجي لما تمكن الجابري وتمكنا عن طريقه أن نفهم الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل والفكر العربي الفلسفي على الإطلاق. لقد استطاع الجابري أن يضع الفلاسفة في مكانهم الطبيعي من تاريخ الفكر العربي الذي هو بنية من بنى تاريخ العلم والفكر الإنسانيين.
وهو ليس مختصا بالقرآن ولا بالعلوم الشرعية ولكنه جاء إليها من اهتمامه بالفكر العربي وتحليله، وتعد العلوم الشرعية عنصرا رئيسا في بنيته، ولا ننسى أنه هو من كشف أن الشافعي هو من رسخ آلية القياس في العقل العربي.
لكن الجابري قد كبرت سنه وقد أدى رسالته كأستاذ ناجح في الفلسفة لم يتطفل على اختصاصه ولم يتشبع بما لم يعط ولم يحاول أن يتسلق على أكتاف الآخرين، ورأى أن الدراسات القرآنية هي كما وصف هو القراءة السلفية للتراث بأنها "التراث يكرر نفسه"
فشمر عن ساعده ليقتحم غمارا لم ينفق فيه طفولته ولم يتعمق فيه من البداية، لكنه كما قلت يظل ذا قدرة تحليلية عظيمة ومنهجية محترمة فحاول أن يكتب تفسيرا للقرآن لكنه استهله بمقدمة أو مدخل استفز مشاعر الكثيرين ومنهم صاحب المقال.
وأنا شخصيا لم يعجبني كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم" بل أراه أضعف ما كتب الجابري، وعن منهجه في التفسير فقد ابتدأ بمحاولة دراسة النص مرتبا وفق النزول لا وفق الترتيب الذي سار عليه المسلمون منذ عهد عثمان على الأقل.
وهذه محاولة لا يعاب عليها فهي جائزة شرعا لأنها إجراء لفهم الكتاب لا غير،
وأما قوله إن جمع الصحابى للقرآن أمر يجوز عليه الخطأ فهو عمل بشري، فما ينكر أنه قول جريء لكنه تذكير بأن الكمال لله وحده.
ويجدر بنا أن نذكر أن القرآن قد مر بطريقين إلينا الأول من الله تعالى إلى رسوله بواسطة جبريل فهذه من أنكرها فقد كفر لقوله تعالى عمن قال عن القرآن إنه "قول البشر سأصليه سقر". وأما طريق القرآن من النبي إلينا كيف حفظه أصحابه وتدارسوه وتلوه وتعبدوا به وكتبوه وعلى ماذا كتبوه وكيف جمعوه ومتى طور الخط العربي ليصبح قادرا على نقل النص وأين توجد أقدم النسخ من المصحف في أي متاحف العالم ومكتباته العامة وهل اختلفت في هجاء بعض كلماته أم اتفقت على جميعه، إلى غير ذلك فهذا كله فعل بشري، قابل للصواب والوهم غير أنا لا نشك أن الله تعالى قد رعاه ومن على المسلمين بأن شرح صدور الخلفاء الأول أن ينتدبوا لجمعه خير حفاظه وكتبته.
ونحن نقبل كل نقد علمي لتاريخ جمع القرآن على أن يتجرد للحقيقة التاريخية ويتعب عليها.
وقصارى ما قام به الجابري وما يستطيع أصلا أن يقوم به هو التالي
أن يلخص ما قيل في الموضوع في كتب علوم القرآن الجامعة ككتاب السيوطي
أن يعتمد بعض اللمسات التاريخية للمختصين بتاريخ القرآن كنولدكة
أن يجتهد رأيه في الجمع بين نصوص من الصعب أن يجمع بينها دون تفكير

وهو وإن فعل كل ذلك إلا أننا لا نرتضي منه استخدام غير مصطلحات علوم القرآن لنفس الفكرة، فقوله سقط من سورة الأحزاب كذا ، كان الأجدر أن يقول (ما نسخ لفظه)
لا سقط.
ومثل هذه الهنات هي التي جلبت عليه سخط الناس أو بعضهم.

لكن يظل لعمله قيمة وهي أنه قرب الدراسات القرآنية إلى أوساط كثير ممن كان بينهم وبين العلوم الشرعية حاجز نفسي إما لتربيتهم في الغرب أو لعيشهم بعيدا عن الدين
، وعمله إضافة لا بأس بها إلى مجال العلوم الدينية.

وفي (ص:231) قال -وهو يتحدث عن احتمال وقوع النقص في سورتي براءة والأحزاب-: "لقد اشتملت السورتان على نقدٍ داخليٍّ ومراجعة وحساب وكشف عورات -وخاصة سورة براءة-، لم يرد مثله في أية سورة أخرى. ولا نعتقد أن ما سقط منهما من الآيات -إذا كان هناك سقوط بالفعل-، يتعلق بهذا الموضوع، لأن ما احتفظت به السورتان كان عنيفاً وقاسياً إلى درجة يصعب معها -بالنظر إلى أسلوب القرآن في العتاب- تصور ما هو أبعد من ذلك"..
وقال: "وكل ما يمكن قوله -على سبيل التخمين لا غير- هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة هو القسم الأول منها، وربما كان يتعلق بذكر المعاهدات التي كانت قد أبرمت مع المشركين. ذلك أن سور القرآن، بخاصة الطوال منها، تحتوي عادة على مقدمات تختلف طولاً وقصراً مع استطرادات، قبل الانتقال إلى الموضوع أو الموضوعات التي تشكل قوام السورة".
ثم قال: "أما سورة الأحزاب، فيبدو أن ما سقط منها مبالَغ فيه.."

هذه اقتطافات مستلة من أسيقتها ، لأنها تتجاهل أنها فهوم الجابري لروايات لم يقم باختلاقها بل حاول فهمها، نعم ردها كثيرون لأنهم لم ينطلقوا من رؤية أوسع قدمت لها قبل قليل، لكنه غير ملزم بها. والحق يقال أن تعليله لرد رواية النقص في سورة الأحزاب قد كان فيه موفقا كل التوفيق بل إنه سحب البساط من تحت من يريد أن يستغل الرواية مجددا في المستقبل.

ونحن لا ننكر أن أسلوب الجابري في كتابه الآنف الذكر يجعل إمكانية أن يفوت جامعي القرآن شيءٌ منه على خلاف اعتقاد الجم الغفير من المسلمين ، لكن القول بجواز أن يكون فات من جمع القرآن شيء منه لا يُخرج القائل به من الملة إذا كان ظنه قد جاءه من فهمه للنصوص المروية في هذا الشأن.

ونحن نعلم أن المصاحف العثمانية قد تضمنت ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، وأما أن تكون فُقدت قطع من القرآن بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ما نستبعده بل هو عندنا من المنسوخ لفظا وحكما أو من المنسوخ لفظا فقط كـ"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وأما المنسوخ حكما فقط كـ"فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت" فهو مشهور معروف.
وأما من ظن أن قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتانى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ...) إنما هو آيتان التصقتا وكانت في الأصل (وإن خفتم ألا تقسسطوا في اليتانى [فافعلوا شيئا يتعلق بهم]) وأن صدر الآية الثانية [كذا] فانكحوا ما طاب لكم ..قد فقد من النص إبان الجمع، فهو من الظنون . ولم أر الجابري تطرق لها.
هذا هو أسلوب الجابري، أسلوب التشكيك في قالب "البحث العلمي" والعبارات الموهمة، (يبدو أن ما سقط منها مبالَغ فيه، ما يمكن قوله على سبيل التخمين لا غير، هو أن يكون الجزء الساقط من سورة براءة.. وهكذا).
وقد رتب جزأه الثاني (فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول) على ما أسماه ترتيب النزول، وههنا أمر يجب التفطن له وهو:
إن كان العلماء قد اختلفوا في ترتيب السور على ثلاثة أقوال معروفة لا يكاد يخلو منها كتاب في علوم القرآن، وهي:
القول الأول: أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان باجتهاد من الصحابة. وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه.
القول الثاني: أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة.
وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء ولعله أمثل الآراء -كما قال صاحب مناهل العرفان-.
قال السيوطي ما نصه: "الذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال، ولا ينبغي أن يستدل بقراءة سور أولا على أن ترتيبها كذلك، وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء قبل آل عمران لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز" اهـ.
وقال الزرقاني رحمه الله في مناهل العرفان: والأمر على كل حال سهل حتى لقد حاول الزركشي في البرهان أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيا.
إلا أنه سواء كان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف، لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب.

قد تبين أن الجابري قام بإجراء روي مثله عن علي أنه كان له مصحف على ترتيب النزول، وحتى لو لم يكن له سلف لكان صنيعه جائزا لأنه تفسير ومحاولة تقريب للفهم وليس إعادة كتابة للمصحف، وحتى لو حاول مسلم أن يجمع مصحفا بحسب ترتيب النزول لنفسه أو لطلابه من الأجل الفهم لكان عمله جائزا، وغير الجائز أن يقوم بذلك لتلاوة التعبد والختمة المعهودة فلا يجوز مخالفة ما استقر عليه الأمر إلا كما تقدم والله أعلم.
وعن آراء جمعه وما تنشرح به صدور بعض الناس فلعله لا تنشرح به صدور غيرهم..
إن النتيجة التي خرج بها الجابري في جزئه الثاني "من مصاحبة هذه التفاسير مدة من الزمن، مستعينا بالحاسوب وما يرتبط به من مكونات ووسائل تمكن مستعملها من الجولة في الكتب بسهولة، مهما كبر حجمها وتعددت مجلداتها.. هي أن المكتبة العربية الإسلامية تفتقد إلى تفسير يستفيد من عملية الفهم من جميع التفاسير السابقة ويعتمد ترتيب النزول".
وأضاف: "يمكن القول دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكنا عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري".
فعلا لأول مرة تمكنا فيها من رؤية مزيج من كتب تفسير أهل السنة وأهل الكلام والبدع، مزيجا وخليطا استحال تجانسه بين دعوة الحق ودعوة الباطل.
هي على العموم محاولة جائزة لم يبتدعها الجابري أكثر مواءمة لطريقة العقل في الفهم/ فالزمن من المقولات التي لا يعقل شيء بدونها، وترتيب القرآن حسب نزوله لغرض الفهم هو وإن خالف ترتيبه لغرض التعبد لكنه يُقبل ًوهو ما لم يدّع الجابري خلافه.

وأما قول الكاتب مزيج من أهل الكلام والبدع فأمر يمثل وجهة نظر غير ملزمة لسوى القائلين بها، فأهل الكلام مسلمون وحتى أهل البدع مسلمون ننكر عليهم ومنهم ما نعلمه يقينا ابتداعا في الدين لا ما خالف مدرستنا أو مذهبنا أو طريقة تفكير آبائنا.
ومن المضحك أن نريد من أستاذ فلسفة أن يصبح سنيا وفقط، بل نكتفي منه أن يكون مسلما ولعل ذلك هو الأصوب لنا جميعا
.


من تلبيساته في هذا القسم حشره -بعد ذكر مرويات حول الجن لها علاقة بالقرآن- أحاديث صحيحة بعضها في صحيح مسلم وبعضها في السنن في "جنس الإسرائيليات التي غصَّت بها كتب المفسرين"، وخلوصه بعد نقله كلاما طويلا للرازي في الموضوع إلى رأي المعتزلة الذين وصفهم -كعادة كافة العلمانيين- بـأنهم "ذووا الاتجاه العقلاني في فهم الدين الإسلامي"، إلى "أن الجن كالملائكة أجسام لطيفة وحية أي عضويات (Organismes) دقيقة جدا فيها حياة فهي أشبه بالكائنات الروحية ولكنها لا تستطيع القيام بأفعال شاقة، أما الأشاعرة فيتصورونها جواهر فردة، أي أجزاء لا تتجزأ (Substances Indivisibles) حاملة للأعراض كالحياة والحركة..إلخ، يخلق فيها الله القدرة على فعل الشاق وغير الشاق. اهـ.
ومعلوم عند كل باحث في مجال علوم القرآن والتفسير مآخذ العلماء والمحققين على تفسير الرازي "مفاتيح الغيب"؛ كتوسعه في ذكر مسائل علم الكلام، والفلسفة، والعلوم الطبيعية والرياضية، التي لا علاقة لها بموضوع التفسير إلا بشيء غير يسير من التكلف والتأويل البعيد، والتعرض لمثل هذه الأمور مما يجلُّ عنه كتاب الله سبحانه.
ومن بين المآخذ التي سجلها العلماء حول هذا التفسير ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: "وكان يُعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصِّر في حلِّها" وهذا ملاحظ بالفعل في هذا التفسير؛ إذ يورد الرازي شُبه المخالفين على غاية ما يكون الإيراد، حتى قيل: إنه يقرر مذهب خصمه تقريرًا بحيث لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة عليه.. لكنه عندما يعود لتقرير ما هو الحق في المسألة نجده يضعف، ولا يوفي الرد حقه. ولأجل هذا كان بعضهم يتهم الرازي في دينه، ويشكك في عقيدته"، ووصف بعض العلماء تفسيره فقال: "فيه كل شيء إلا التفسير".
فالجابري له أصل عرف به في جل كتبه، ظل وفيا له في مؤلفه الأخير أيضا، وهو سوقه ما يسعفه من روايات الفرق الضالة المنتسبة للإسلام، كالرافضة والمعتزلة والجهمية..، في سياق واحد مع دعوة أهل الحق -أهل السنة والجماعة-، من غير بيان أو إيضاح، ليَلبِس بذلك الحق بالباطل، وهو عين ما صرح به في كتابه التراث والحداثة (ص:260) بقوله: "يمكن أن نمارس النقد اللاهوتي من خلال القدماء، يعني نستطيع بشكل أو بآخرَ استغلال الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين بعضهم مع بعضٍ، ونوظِّفَ هذا الحوار، لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطور الأمور، المسألة مسألة تطور".


هنا يظهر التفاوت الكبير بين وعيين وموقفين من التاريخ هما موقف الجابري وموقف كاتب المقال الذي نعلق عليه لأنه يمثل رأي شريحة من شرائح المجتمع.
إن مرجعية الجابري هي العقل ومرجعية الكاتب هي خليط من الآراء خلال ألف سنة بشرط صدورها عن كيان مختلف المشارب مترامي الأطراف .
وأهل السنة في القرن الثاني كانوا هم الأمة ، ولذلك كان منهم من أيد زيد بن علي ومنهم من ثار مع بني العباس حين دعوا إلى الرضا من آل محمد ومنهم من اعتزل، ولكن ما نسميه اليوم أهل السنة هو تيار بدا بالتشكل بأن جعل من نفسه خصما للمعتزلة ، والمعتزلة من الأمة لا يجوز إخراجهم منها ولا الحكم على مجموعهم بجملة واحدة، بل كان منهم الصالحون ومنهم العلماء الفضلاء ومنهم دون ذلك، فهل يريد كاتب المقال من أكبر أستاذ فلسفة في الوطن العربي أن يكون مصنفا داخل تيار نشأ في التاريخ!!
بل إن أحسن تعريف للمعتزلة هو تعريف الجابري نفسه بأنهم "مجموعة مثقفين اتفقوا على خمسة أصول هي العدل والتوحيد والوعد والوعيد والمنزلة بين بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
لو كان ذلك ممكنا لدعوناه إلى حظيرتك ولكن صدقني يا أخ أن هذا غير ممن بحكم الضرورة.
وأما حشرك لاسم الرافضة مع المعتزلة فهذا من التعصب الصادّ عن الحق فإنه لا يوجد إنسان في التاريخ عرّى الرافضة فكريا كما فعل الجابري حيث اكتشف أصل فكرهم الهرمسي وحدد حدود الغنوص في كتابه بنية العقل العربي بما لا مزيد عليه.
ولو كانت الحياة فكرا فقط، لما قامت للرافضة بعد الجابري قائمة، ولكن الحياة كتل سياسية تقوم بإنفاق أموال طائلة لبناء مؤسساتها ووسائل إعلامها لنشر أيديولوجياتها . ولا ننكر أن الجابري لا يُقرأ جيدا بين تلاميذ المؤسسة السنية التقليدية بل يقرؤه الأكاديميون وخريجو المدارس الحكومية، ذلك أن العلوم العقلية مهملة عند المؤسسة التقليدية فهي تمارس العلم بعقل فطري بسيط ، لا بعقل رياضي ذي أصول تجريبية علمية كما يفعل العالم المتقدم، ولذلك لم تقم كتابات الجابري بتطويرها المرتجى رغم أنّه يبدأ مع قارئه من الصفر ويمتلك قدرة عجيبة على تسلسل الأفكار كأنه مبرمج محترف، فهو لا يقفز إلى النتيجة حتى يعرض مراحل تدرج الفكرة لتؤدي إليها، وهذه قدرة لا يمتلكها كثير من المفكرين. ونحن اليوم كما يقول الدكتور نبيل علي "أن مطالب اللحاق بركب هذا العصر أوضحت مدى العجز الذي يعانيه العقل العربي في مواجهة التعقد الشديد الذي أصبح السمة الغالبة للمجتمع الإنساني المعاصر، وأبرزت مدى قصور أدواتنا الذهنية ووسائلنا التقنية في مواجهة ظاهرة الانفجار المعرفي التي تتفاقم حدتها يوما بعد يوم" فنحن بحاجة إلى مفكرين وفلاسفة نزيهين لا يعلم حجمها إلا الله.



لقد وصف الدكتور يوسف نور عوض كتاب الجابري بأنه نوع من الكتب التي يوهم القارئ بأنه يتحدث في أمور خطيرة ويتناولها بطريق علمية وموضوعية، ولكن المتأمل فيه يدرك أن الكتاب فارغ المضمون، وأنه مليء بالمغالطات والآراء غير العلمية بعكس الدعاية الكبيرة له.





إذا كان المقصود هو كتابه مدخل إلى دراسة القرآن فلا اعتراض كبير لي على ذلك لأني قد قدمت أنه أضعف كتب الجابري على الإطلاق. وإذا كان المقصود مشروعه نقد العقل العربي أو كتب الجابري الأخرى فهو كقول رجل المتنبي غير شاعر !!



وأن أمثاله -أصحاب اتجاه النقل المقصود به الهدم- يزعمون أنهم يناقشون قضايا المجتمع العربي الإسلامي من منظور علمي مع أنهم في الحقيقة يحاولون عمداً هدم الإسلام من الداخل، ذلك أن معظم الكتاب العرب الذين بدأوا يستخدمون هذا المنهج، لم يحاولوا في الواقع نقد المنهج ذاته بل استخدموه بأقصى درجات التطرف من أجل تفتيت كيان الأمة الثقافي. تارة تحت اسم (سوسيولوجيا المعرفة) وأخرى تحت اسم (سوسيولوجيا النقد).
وفي انتظار القسم الثالث الذي سيتناول فيه الجابري "تفسير" السور المدنية والتي لا مناص له فيها من الحديث عن جانب التشريع والحكم والسياسة وغيرها من الأمور، لا يحق لنا أبدا أن نلدغ من جحر مرارا متعددة، وأن نسمح لأي كان أن يشككنا في ديننا، أو يزعزع عقيدتنا في القرآن، ويخلط علينا الأمور ويلبسلها علينا".
وهذا رابط المقال في الجريدة المذكورة:

لا يجوز مصادرة جهود الرجل بهذه الطريقة وإن كان الكاتب ما يزال شابا ،ولا يجب أن يبعث اي كتاب يتناول تاريخ جمع القرآن أي شك في قلب المسلم ، فالقرآن كلام الله تعالى حفِظ لنا بجهود الصحابة وأبنائهم وأحفادهم جيلا عن جيل بحسب قدرة التاريخ على الحفظ على أتم ما يُمكن. وحتى لو لم يتمكن التاريخ من حفظ آية أو آيتين فإن معنى ذلك أن الله تعالى لم يشأ أن تدوّن. وهو القائل إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فالله تعالى قد حفظه لنا بالهيئة التي أراد وتمت بها مشيئته ولله الحمدُ والمِنة.

إن الجابري رجل مجدد وهو بلا شك رجل (دنيوي) لأنه قد اختار هذا الطريق لكنه ليس
ضدّ الإسلام ولا ضدّ الدين، بل هو مفكّر وأستاذ متمرس ما نشك في نزاهته وتواضعه وأنه قد اختطّ طريقا ينفع الأمة ، لكن هل سينفعه عند الله؟ برغم أنه ليس من واجبنا ذلك لكنا نرجو الله أن يُحسن خاتمته وأن يجعل موته على لا إله إلا الله محمد رسول الله.
 
مع إجلالي للدكتور عبد الرحمن ، فإن إجلالي لوقت القراء الفضلاء أكثر من أن أنتزعه منهم لقراءة ما عزمت الرد به على الدكتور ، وقد ضمن -رده- عظائم المغالطات و الاغلوطات ، و أس ذلك كله انبهاره بالجابري و أمثاله لسبب أو آخر، و معذرة عن هذا الوقت المنتزع، و الله وحده ولي التوفيق.
 
اعزم ورد ياسيدي فقراءة دندنتك التي هي من الشهادة على الناس لهي احلي عندنا من اي شيء الا الذكر، فمراغمة طواغيت الفكر افضل من مراغمة طواغيت الحكم
فلنكتب شهادتنا على الناس كما يكتبون همزهم ولمزهم ليل نهار ويصنعون الكتب الضخمة من اجل تضييع الدين والامة والاولاد والارواح والاموال والحضارة
اكتب حتى تكثر كتابة الحق فالوحي انقطع وبقى اعلان اثار النبوة وسرد حقيقتها ، في كل جيل،في مواجهة حتمية لابد منها، فالوقت وقت الكتابة على الكتابة لنفي الخبث وتثبيت الحق والحقائق
 
يوجد رسالة ماجستير بعنوان:
قراءة التراث في العصر الحاضر: محمد عابد الجابري أنموذجاً_ عرض وتقييم.
للطالبة: وفاء بنت عبد الكريم اليامي..
 
من خلال قراءة سريعة في ما كتبه ناقدي الجابري يجد القارئ ضعف التناول وضعف الاحاطة بفكر الجابري وتجزئة فكره والبحث بشكل مسرف في مواطن تكون تهمة له قبل السعي في البحث عن الحق عنده..
لا بد من مراجعة آلية النقد عندنا لكي نخرج بفوائد جمة..
 
حقيقة وإلتفاته

حقيقة وإلتفاته

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوتي الأحبة أود أن أضيف إلى ما تقدم به الأخوة في تعليقاتهم على هذا المقال الرائع والموضوعي بتقديري المتواضع.. ما يأتي:
أولا: يجب أن نتذكر أن الرازي تراجع في آخر عمره عن معظم آراءه، وهذه "موضة" درج عليها من تعرضوا للإسلام وثوابته بسوء عن قصد أو غير قصد، والله أعلم بناواياهم التي لا شك أن تختلف من شخص لآخر.
ثانياً: الحكمة في معالجة إشكالية محمد عابد الجابري ومن سبقه ولحقه أو سيتابع نهجه، هو أن نسعى لإيجاد منهج علمي يضمن مناقشة ثوابت وخلافيات الإسلام نقاشاً علمياً بقوالب علمية جديدة لا تسيئ لديننا الحنيف وتحقق في ذات الوقت بغية العلم في التحقق من المعلومات المعروضة بأدلتها السليمة والقاطعة، وحبذا لو تمكنا أيضاً من وضع آليات وقواعد ثابته لتطوير هذا المنهج عبر الزمن كلما تطورت أساليب المشككين والمسيئين على اختلاف نواياهم ومقاصدهم...
مع بالغ تقديري
 
مع إجلالي للدكتور عبد الرحمن ، فإن إجلالي لوقت القراء الفضلاء أكثر من أن أنتزعه منهم لقراءة ما عزمت الرد به على الدكتور ، وقد ضمن -رده- عظائم المغالطات و الاغلوطات ، و أس ذلك كله انبهاره بالجابري و أمثاله لسبب أو آخر، و معذرة عن هذا الوقت المنتزع، و الله وحده ولي التوفيق.
أشكرك أخي محمد بن الحسن على احترامك وتقديرك ولكن علينا أن نجتهد فيما نظن أنه خير وأنفع للأمة ولولا ظني الراجح أن كتابات الراحل الجابري رحمه الله وقد كنت كتبت ذلك الردّ وهو ما يزال حيّاً فيها خير كثير لطالب العلم لما كتبت ما كتبت، فإن درب العلم طويل وإن تقدير الوقت مختلف بين الناس. وددت أنكم أفرغتم شيئا مما ضننتم به عنا في المسألة. وجزاكم الله خيراً
 
عودة
أعلى