قضية المجاز قضية كبيرة تكلم العلماء الأعلام فيها بكلام كثير وأفردها بعضهم بالتصنيف
وقد بنى أهل الأهواء على المجاز كثيراً من بدعهم حتى عده الإمام ابن القيم رحمه الله طاغوتاً وعقد له باباً كبيراً في كتابه الماتع الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
وقد قربته ولخصته بكتاب أسميته: (المراقي الموصلة لفهم كتاب الصواعق المرسلة)
وأهل العلم وأئمة الهدى حينما تكلموا في هذه المسألة كانوا مجاهدين في سبيل الله عز وجل جهاداً علمياً بالبيان واللسان والبنان لإعلاء كلمة الله عز وجل والذب عن دينه ونفي انتحال المبطلين وتأويل المحرفين .
وقبل البيان أحب أن أنبه على أمرين مهمين جداً أدى إغفالهما ببعض طلاب العلم المتعجلين إلى الخروج بأقوال شاذة ومفاهيم غريبة في زمان قل فيه مراعاة القواعد العلمية في تناول مسائل العلم فحصلت فتن كثيرة أوهنت من الأمة ما أوهنت:
الأمر الأول: أن كلام العلماء في كتبهم ليس وحياً منزلاً من السماء بل هو بيان بشري يعتريه ما يعتريه من النقص البشري مع حرصهم الشديد على المقاربة والتسديد.
ولا أحد منهم يدعي الكمال المطلق في كلامه، ولا أحد يدعي العصمة.
وإنما قلت ذلك لأن بعض طلاب العلم يجري على كلام أهل العلم ما يجريه العلماء على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من القواعد الأصولية باستغراق العموم وإعمال مفهوم المخالفة والقياس عليه ونحو ذلك
ويحضرني في ذلك مثال لأحد طلاب العلم شرح رسالة نواقض الإسلام وأورد في شرحه نقلاً عن ابن القيم رحمه الله عدد فيه أمثلة للشرك الأصغر قال ابن القيم: (ومنه يسير الرياء)
فقال هذا الشارح: فيسير الرياء شرك أصغر بنص كلام ابن القيم رحمه الله وهذا يدل على أن كثير الرياء شرك أكبر مخرج عن الملة
ولما لم يبين الحد الفاصل بين يسير الرياء وكثيره أعملنا القاعدة التي تقول إن ما لم يرد تحديده في الشرع يحال في تحديده إلى العرف فالرياء الكثير عرفاً يخرج عن الملة
والرياء اليسير عرفاً لا يخرج عن الملة.
فاعجب لهذا الفهم، وتأمل أثره على المتلقين من الطلاب وسامعي ذلك الشرح عبر وسائل التسجيل.
وقد زارني هذا الشيخ وناقشته في كلامه هذا، ورجع عنه، ولمست منه إرادة الحق ولكنه تعجل وأخطأ في فهمه وحصلت له أخطاء أخرى من هذا النوع.
فابن القيم أراد بيسير الرياء الرياء في العبادات والذي يقابل يسير الرياء ليس كثيره وإنما هو عظيم الرياء فإن الكثير يقابل القليل واليسير يقابل العظيم
وهو لم يقل قليل الرياء، وعظيم الرياء هو الرياء في أصل الدين
فالذي لم يسلم إلا رياء كحال المنافين نفاقا اعتقادياً فهو كافر خارج عن الملة
وكذلك من أراد التقرب بعبادته إلى غير الله وأظهر أنه متقرب إلى الله عز وجل فهذا قد راءى في أصل الدين
فانظر كيف أدى به تعجله في فهم كلام ابن القيم رحمه الله، ثم إجراء القواعد الأصولية على كلامه إلى الخروج بنتائج خطيرة في فهم قضية التكفير التي هي من أخطر القضايا التي منيت بها الأمة الإسلامية.
الأمر الثاني: أن علم العقيدة لا يستقى من كتب الردود التي يرد بها الأئمة على المخالفين، فلا ينبغي لطالب العلم أن يتعلم علم العقيدة من كتب الردود وهو لم يطلب ذلك العلم من وجهه، وعلى الطريقة التي طلبها أهل العلم رحمهم الله، فإغفال هذا الأمر ربما يودي بطالب العلم في بعض المزالق الخطيرة لا سيما إذا صاحب ذلك اعتداد بالرأي والفهم، وجرأة على المناقشة والرد.
وقد حدثنا أحد مشايخنا عن الشيخ الجليل عبد الرزاق عفيفي رحمه الله أنه كان عنده أحد الطلاب يتابع أسئلة السائلين الذين يسألون الشيخ فإذا أجابهم الشيخ قال الطالب للشيخ: فإذا كان الحال كذا وكذا؟
يفترض افتراضات على أسئلة السائلين!
فلما لاحظ الشيخ طريقته تلك قال له: ما هكذا يطلب العلم!
وصدق رحمه الله
وأما بالنسبة لكلام الإمام الشنقيطي فهو صحيح لا غبار عليه.
وأنا أضرب له مثالاً :
لو سألت صبياً من طلاب المرحلة الابتدائية: ما الأسد؟
لأجابك بقوله: إنه حيوان
وكذلك لو سألته: ما النمر؟ وما الهر؟
وهذا من الأساليب التي يتضح بها المعنى بلا قيد كما أشار إليه الشيخ بقوله: (ولا مانع من كون أحد الإطلاقين لا يحتاج إلى قيد والثاني يحتاج إليه؛لأن بعض الأساليب يتضح فيها المقصود فلا يحتاج إلى قيد وبعضها لا يتعين المراد فيه إلا بقيد يدل عليه وكلاً منهما حقيقة في محله وقس على هذا جميع أنواع المجازات)
فهذا الصبي فهم المراد بهذه اللفظة عند إطلاقها في جملة مفيدة دون أن يقيد ذلك (بما يدل على أن المراد غيره)
ولو تأملت عبارة الشيخ هذه لكفتك عن تسطير هذا الاعتراض.
وعند إرادتك معنى الرجل الشجاع فيلزمك أن تجعل في الجملة ما يفيد المعنى الذي تريده وهو معنى قوله: (ومن أساليبها إطلاقه على الرجل الشجاع إذا اقترن بما يدل على ذلك)
ولعلي أضرب مثالاً آخر حتى يتضح مراد الشيخ أكثر
- جرى بيني وبين أحد طلاب العلم نقاقش حول قضية المجاز، وذكرت له كثرة اضطراب القائلين بالمجاز، وعدم اتفاقهم على ضابط محدد له يلتزمون فيه الطرد والعكس فللقائلين بالمجاز عدة أقوال في الضابط الذي يفرقون به بين الحقيقة والمجاز، وكلها مخرومة غير مستقيمة
- وإنما يرى أحدهم تطابق عدة أمثله على نسق واحد فيستنتج من ذلك ضابطاً يجعله قاعدة في التفريق بين الحقيقة والمجاز، ويبين خلل هذا الضابط بذكر عدة أمثلة لا تستقيم أبداً عليه
وكان من ضمن ما أوردته عليه قوله تعالى: (قال سنشد عضدك بأخيك) أحقيقة هو أو مجاز عندك؟
قال: بل هو قطعاً مجاز، ولا يجوز أن يكون حقيقة على ظاهره
قلت فما حقيقته عندك؟
قال: حقيقته، أنا سنربط أخاك على عضدك كما يربط الحبل ونشده على عضدك كما يشد الحبل!!!!
فنعيت عليه هذا الفهم!!
وقلت ألا تستحي أن تظن أن ظاهر كلام الله جل وعلا الذي هو محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يدل على هذا الهذيان، ثم تلتمس له أنت تأويلاً حتى تخرجه به من هذا المعنى الباطل
وهل فهم هذه الحقيقة أقحاح العرب وأساطين البلاغة والفصاحة الذين أنزل القرآن بلغتهم ولغتهم مستقيمة صحيحة لم يدخلها اللحن ؟!!
وأنت تعلم أن الله تعالى تحدى بهذا القرآن الذين كانوا حريصين على الطعن فيه
فلو كانت تلك حقيقته لو جدوا في ذلك ما يطعنون به عليه أشد الطعن ويسخرون به تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً
فحقيقته هو معناه الذي يفهمه المخاطب، وهو كذلك مجازه عند من يستعمل لفظ المجاز من العلماء
وهذا الهذيان الذي ذكرته ليس بشيء حتى يعد حقيقة أو يعد مجازاً
فهذا الرجل فهم من معنى الشد شد الحبل
والعضد العضد الحسي الذي هو العضو
فركب من المعاني المفردة التي تراد بتلك الألفاظ عند الإطلاق معنى عجيباً غريباً عند التركيب يسخر منه من يسمعه.
وهذه الطريقة توصل بها بعض أهل البدع إلى نفي بعض الصفات بصورة تدعو للضحك والسخرية فادعى أحدهم أن لقول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) خمسة عشر معنى، وانتقاء أحدها تحكم، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل الاستدلال به، وكلاماً نحو هذا
وهذه المعاني جمعها من معاني الألفاظ المفردة ثم ركبها (فعلى) لها عدة معاني وكذلك لفظة (العرش) وكذلك (استوى) وبتطبيق نظرية الاحتمالات تنتج لنا عدة معاني
فاعجب لهذا الفهم الذي يدعو للسخرية والامتعاض
وهذا الفهم ونحوه مما أدى بالشيخ رحمه الله إلى تأليف رسالته المسماه (منع جواز المجاز في كلام الله المنزل للتعبد والإعجاز)
أسأل الله تعالى أن يتقبله منه ويضاعف له المثوبة.
(اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)
قولك:
; قال:
...فغاية الأمر أن ما يسميه مثبتة المجاز حقيقة =سماه الشيخ (أسلوب لا يحتاج إلى قيد) وأن ما يسميه هم مجازاً سماه الشيخ (أسلوب يحتاج لقيد)فأي شئ هذا (!!!!)
بل إن قولهم حينئذ يكون أخف وأقرب....)
فعبارة الشيخ واضحة: (وإنما هي أساليب متنوعة بعضها لا يحتاج إلى دليل وبعضها يحتاج إلى دليل يدل عليه).
أي في تحديد المعنى المراد كما سبق شرحه.
وقوله قبلها: (وكل ما يُسميه القائلون بالمجاز مجازاً،فهو عند من يقول بنفي المجاز أسلوب من أساليب اللغة العربية،فمن أساليبها إطلاق الأسد مثلاً على الحيوان المفترس المعروف)
و(من) تبعيضية هنا
فقد استنتجت قاعدة من تمثيل الشيخ بهذا المثال لم يقلها الشيخ ولم يُرِدها، وكتابه كله في نفي هذا الأمر
فالشيخ ينفي وجود المجاز بالصورة التي ادعاها أولئك
فكيف يُدَّعي أن الشيخ يسمي (الأسلوب الذي لا يحتاج إلى قيد) حقيقة و(الأسلوب الذي يحتاج إلى قيد) مجاز؟
والقائلون بالمجاز لهم عدة أقوال في الضابط الذي يفرقون به بين الحقيقة والمجاز وهي غير منضبطة كما ذكر
منهم من يقول: الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً وزاد بعضهم في العرف الذي وقع به التخاطب لتدخل الحقائق الثلاث: اللغوية والشرعية والعرفية.
ومنهم من يقول: الحقيقة ما تبادر إلى الذهن من معنى اللفظ عند الإطلاق، والمجاز ما تبادر إلى الذهن غيره عند الإطلاق
ومنهم من يقول: الحقيقة هي اللفظ الذي يفهم المراد منه بغير قرينة، والمجاز هو ما يدل على المعنى المراد بقرينة.
ومنهم من يقول: المجاز هو ما يعرف بصحة نفيه؛ فإذا قلت محمد أسد، جاز لك أن تنفيه فتقول: ليس بأسد، وهذا يجعله بعضهم علامة المجاز.
ومنهم من يقول: الحقيقة هي اللفظ المطرد في جميع موارد استعماله، والمجاز يعرف بعدم اطراده في جميع موارد استعماله
فكلام الشيخ في هذا الموضع متوجه إلى من يفرق بين الحقيقة والمجاز بالقيد
ورد على الآخرين في مواضع أخرى.
وأنت قلت:
; قال:
(وإنما نقول : أن القول بأن هناك ألفاظ يفهم المراد منها بغير قرينة وألفاظ تحتاج للقرينة = خطأ كله...)
فسميت الدليل قرينة، وخطَّأت الشيخ دون أن تفهم كنه كلامه
فمعلوم لدى الطلاب المبتدئين في علم النحو أن اللفظة المفردة لا تسمى كلاماً ولا يفهم منها مراد حتى تكون في جملة مفيدة
وليس في كلام الشيخ ما يدل على ما سبق إلى فهمك
بل قوله: (فمن أساليبها إطلاق الأسد مثلاً على الحيوان المفترس المعروف وإنه ينصرف إليه عند الإطلاق وعدم التقييد بما يدل على أن المراد غيره)
جملة (بما يدل على أن المراد غيره) صفة مقيدة تفيد خلاف ما فُهم من كلام الشيخ
وقول الشيخ:
(ولا مانع من كون أحد الإطلاقين لا يحتاج إلى قيد والثاني يحتاج إليه؛لأن بعض الأساليب يتضح فيها المقصود فلا يحتاج إلى قيد وبعضها لا يتعين المراد فيه إلا بقيد يدل عليه وكلاً منهما حقيقة في محله)
فعبارة الشيخ: (لأن بعض الأساليب...) ولم يقل الألفاظ
ومن شروط الأسلوب أن يكون جملة مفيدة
فلا يسمى أي كلام أسلوباً حتى يكون جملة مفيدة.