الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد ..
فقد كنتُ وعدتُ بوقفاتٍ للمدارسةِ مع كتابِ : ((المقدمات الأساسية في علوم القرآن )) للشيخِ عبد الله بن يوسف الجُدَيع وفَّقه الله لكل خير وعافية .
وكنتُ قد سجَّلتُ بعض هذه الأسئلة والمُدارسات على نسختي بعد صدور الكتاب بسنة تقريباً .
وحال بيني وبين تقييدها مبكراً _ هنا _ كما وعدتُ من قبل ؛ انشغالي ببعض الأعمال العلمية من جهة ، ومن جهة اخرى أهم منها ؛ بُعْد الكتاب عني ؛ حتى طلبته من مكتبتي وأنا على بُعدٍ منها ؛ فلما جاء ؛ فما من بُدٍّ إلا بتسطير بعض ما سنح لي أثناء القراءة .
فأسأل المولى العلي القديم أن يفتح علينا وعليكم ، وأن يمنَّ على الجميع بوافر عِلْمه ، ومَزِيد فضله ، إنَّه سبحانه خير مسؤول .
غير أنَّ هذه المُدَارسة لا تُنْقِص من قيمة الكتاب ألبتة ، وحسبها أنها هي مدارسةٌ نُسجِّل ما امتاز به ونثني عليه ، وبعضها مما كان هو بحاجة لمزيد نظر ؛ لوجود المُشْكِل ، والبعض لطلب الاستفهام ، وهلمَّ جرَّاً جرَّا .
وأتمنى من الإخوة الفضلاء رُوَّاد هذا الملتقى المبارك المشاركة في إثراء الموضوع ، والفتح علينا بما فتح الله به عليهم ؛ فنستفيد ونفيد بحوله تعالى . ومن كان له سبيل إلى المؤلف ؛ فندعوه للمشاركة في هذه المدارسة ؛ فهو الأحق الأول في الجواب عن ذلك .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تنبيه :
جرى المؤلف وفقه الله لكل خير وعافية ، إلى تقييد ما ترجَّح عنده في علوم القرآن وقد جمع كل ذلك بأسلوب لغوي متين جميل ، وسهل ودقيق في فصول الكتاب _ ولو أنه في بعض المواطن كان الاختصار فيه غير كافٍ _ وكأنَّه متن في علوم القرآن .
بَيْد أنه لم يَعْزُ في بعض الفصول في مادته العلمية المبثوثة في كتابه إلى المصنفات والمراجع في مظانِّها ، ولعل ذلك يعود إلى منهجه في التحرير باختيار الصواب عنده _ وربما بدون تشتيت ذهن القارئ !_ ولكن الصواب في ذلك الإشارة إلى أصحابها _ وإن كان قد أشار في مواطن وترك مواطن _
وانظر على سبيل المثال ( فصل إعجاز القرآن ؛ فلم يشر إلا لمرجع واحد ! ) ومما امتاز به كتابه :
1) ضبط النص بالشكل . ( وليته ضبط الآيات بالرسم العثماني )
2) أنه استوعب التخريج للأحاديث والآثار بنَفَس حديثي محرر رائع جزاه الله خيراً .
3) أنه حين يقرر مسألة أو حكماً يسوقه بدليله ؛ وهذه ميزة نفيسة ليت كل من يصنف أن يرتكز عليها سيما في أمور الشريعة وأحكامها .
4) أنه صان كتاب جزاه الله خيراً من مجانبة الصواب في مسائل الاعتقاد ، وضبطها وقرَّرها ، وأبان عن ذلك فيمن وقع في الخطل وغير الحق .
وغيرها مما سيجده القارئ الكريم .
لكن فقد أبى الله العصمة إلا لكتابه ، ومن باب المدارسة ، فلعلي أقف مع بعض المواطن للمدارسة وبيان الصواب ، والله المعين وحده . وهو خير مسؤول .
_ أولاً : قال المؤلِّف غفر الله صـ ( 7 ) :
حين تكلم عن مباحث تتصل بإبراز إعجاز القرآن قال :
" وهذا ليس علماً تطبيقياً من علوم القرآن ، وقدمت بالتنبيه على أهمِّه ، والمقصود الاعتناء بالعلوم التأصيلية العامة التي سميتها بـ( المقدِّمات ) لتكون قاعدة لغيرها ، لا بالإنشاءات الأدبيَّة " أهـ
قال مُقَيِّدُه عفا الله عنه :
كيف يكون علم إعجاز القرآن ليس علماً تطبيقياً ؟!
وكيف لا يدخل في العلوم التأصيليَّة ؟! سبحان الله !
كيف هذا وقد قال بعض العلماء بوجوب تعلُّم علم الإعجاز والنظر فيه .
فيقول الإمامُ الباقلاني رحمه الله : " و قد كان يجوز ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته والدلالة على مكانه، فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه: من القول في الجزء، ودقيق الكلام في الأغراض، وكثير من بديع الإعراب، وغامض النحو، فالحاجة إلى هذا أمس والاشتغال به أوجب ". إعجاز القرآن للباقلاني ( 22 )
وقال السيد محمد رشيد رضا في تقديمه لكتاب ( إعجاز القرآن ) للرافعي رحمهما الله :
"فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعاً ، وهو من فروض الكفاية ، وقد تكلَّم فيه المفسرون ، وبُلغاء الأدباء والمتأنِّقُون" إعجاز القرآن للرافعي (20 )
ثم إن كان ليس علماً تطبيقياً ؛ فمن أي العلوم هو ؟
وما علاقة الإنشاءات الأدبية بعلم الإعجاز ؟
لا شك عند راقم هذه الأحرف ان هذا القول فيه مجانبة لصواب وفيه نظر ، عفا الله عن المؤلف .
_ ثانياً : القصة والمثل قال في صـ ( 7 ) أيضاً :
" فالقصة القرآنية والمثل في القرآن مثلاً مما يعرف من تفاصيل ذلك الفن ، ولا ينبغي إدراجه تحت المقدمات في علوم القرآن " أهـ .
قال مُقَيِّدُه عفا الله عنه :
فمما هو معلوم أن مواضيع علوم القرآن عبارة عن مسائل كلية تتصل بكتاب الله تعالى ، والواجب أن كل ما يتصل اتصالاً وثيقاً بكتاب الله تعالى يجب اعتباره عِلْماً قائماً بذاته ضمن علوم القرآن .
وقد قال بعض أهل العلم من ذوي الاختصاص في تعريف علوم القرآن أنه :
" علم يضم أبحاثاً كلية تتصل بالقرآن العظيم من نواحي شتى , يمكن اعتبار كل منها علماً متميزاً "
وعليه ؛ فالقصة مثلاً من أبرز هذه المواضيع ، والقصص في القرآن بلغ مكانة كبيرة قارب الربع تقريباً
؛ فكيف لا يكون من أصيل العلوم ؟ ويقال علم القصة القرآنية غدا من تفاصيله !
_ ثالثاً : في أسماء القرآن صـ ( 12 ) :
ذكر خمسة أسماء وهي ؛ الكتاب ، وكلام الله ، والفرقان ، والذِّكر ، والمصحف .
وذكر من نعوته الكثير ؛ مثل : هدى ، وشفاء ، ورحمة ، وموعظة ، وأحسن الحديث ، .. إلخ .
قال مُقَيِّدُه عفا الله عنه :
فما الضابط بين هذه الأسماء والنعوت ، وما وجه الدِّلالة في التفريق بينها ؟
سيَّما في تقديم اسم المصحف على غيره ، وتقديم غيره مما جاء به النص أولى وأقرب
ثم ما الذي ماز الذكر عن أحسن الحديث _ مثلاً _ في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }الحجر9
وبين قوله : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً .. }الزمر23
أكتفي بهذا القدر الان ، والبقية تاتي بحوله وقوته في موضوع ( تعريف السورة والآية )
لا شك أن المدارسة من طرق تثبيت العلم ، وهي تقتضي مشاركة الإخوة في القضية محل النقاش ، ولي بورك فيكم ملحوظات آمل النظر فيها :
الأولى : قمتم مشكورين بمناقشة رأي المؤلف في قوله عن إعجاز القرآن : ( وهذا ليس علماً تطبيقياً من علوم القرآن ) وخلصتم إلى كونه منها ، ولكن ليتكم ذكرتم ما المقصود بقوله ( علماً تطبيقياً ) ، كما أنكم وفقكم الله لم تذكروا الحجج على ما وصلتم إليه سوى أن بعض العلماء أوجب تعلمه ، وهل كل فن يجب تعلمه يكون من علوم القرآن .
الثانية : يحسن عدم مقابلة الرأي بالسؤال والاستنكار الدال على بعد هذا القول ، فالمسائل المطروحة ليست من الاعتقاد وإنما هي مجال اجتهاد في علوم القرآن فلا يقال مثلاً : ( وكيف لا يدخل في العلوم التأصيليَّة ؟! سبحان الله ! ) . فالمسألة لا تقتضي في نظري كل هذا التعظيم .
الثالثة : مدار النقاش بينكم وبين المؤلف هو تحرير معنى ( علوم القرآن ) فلو تكرمتم ببيانه كما ترون ومن ثمَّ بيان ما يدخل فيه ، فهذا هو أصل الحديث ، وقد ترون دخول فن بناء على نظرتكم لمعنى ( علوم القرآن ) ويرى المؤلف عدم دخوله لنظرته المختلفة لمعنى هذا المصطلح .
أشكر الشيخين الفاضلين على مرورهما الكريم ، وسعدت بمناقشة الأخ الكريم الشيخ فهد وفقه الله ، وكم يسعدني هذا وربي ؛ فإن هذه الاستشكالات مما تزيد في البحث والتنقيب مما يدفع نحو الصواب إن شاء الله .
بيد أني أقول أيها الشيخ الكريم ، قد أشرتُ في المشاركة الأولى ، أن هذه المدارسة بعضها بحاجة لنظر ، ويكفي ذكر نص في المسألة يُشكل على ما ذهب إليه المؤلف وفقه الله _ وقد يكون مشكل لقولي _ وأحياناً استفهم ؟
وتارة أرد بالبرهان والدليل ؟ وحسب هذهالمدارسات أنها أجود ما عندنا ؛ فإن جاءنا اجود منها قلنا به حمدنا الله على صوابه والحمد لله .
ومن أجل هذا دعيت الأفاضل من أمثالكم _ ومن له سبيل إلى المؤلف وفقه الله _ ليشاركنا في الجواب عما استشكلنا عليه وأقمنا الاستفهام لأجله ؛ فيزيد بالجواب وضوحاً ، إذ لا يغني توضيح موضِّحٍ غير المؤلف مهما علت منزلته وهو باقٍ فوق هذه المعمورة ؛ خشية أن يحمَّل قوله ما لايحتمل ، أو أن نقوِّله ما لم يقل ؛ لذا كان ما ذكرت .
ولا مانع ألبتة من ان يدلي أهل الفضل برأيهم ، ولكن الفيصل في المدارسة للمؤلِّف وفقه الله ، ولنا الاستفادة من بعضنا االبعض .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ، ودمتم على الخير أعواناً
( وننتظر جواب المؤلف لحين ) او أجبنا بما يفتح الله به علينا ، وهو خير الفاتحين .
====== متابعة المدارسة :
_ رابعاً : قال المؤلِّف غفر الله له صـ ( 13 ) :
" السورة ؛ قيل في معناها أقوال أعدلها ما يأتي :
الأول : يقال ( سورة ) للمنزلة من البناء ؛ فسميت ( السورة ) من القرآن بذلك ؛ لأنها منزلة بعد منزلة ، مقطوعة عن الأخرى ... " أهـ .
قال مقيِّدُه _ عفا الله عنه _ :
ما ذكره المؤلف وفقه الله من الأقوال ، وإن كانت قيلت ؛ ولكن قوله الآنف الذكر (أعدلها ) يُشعر بأنه مايز بينها ، ونظر فيها ؛ فهُدِي إلى الأعدل وِفْق تحريره المشار إليه في طليعة كتابه وفي تقدمته إذ قال هناك وفقه الله : ( تحرير مقدمات .. ولكن بمنهج محرر .. إذ لو كنا مجرد نَقَلة لكان الإبقاء على مؤلفات الأقدمين أولى من تكلّف التصنيف ) إلخ ما قاله وفقه الله
فأمَّا القول في أن السورة بمنزلة البناء فهذا قاله أبو عبيدة ولكن ردَّه بعض أهل اللغة ، ولم يرتضيه ؛ منهم العلامة الأزهري رحمه الله إذ يقول في تهذيبه مادة ( سور ) :
" " وأما السُّوْرة من القرآن ؛ فإن أبا عبيدة زعم أنه من سورة البناء. "
ثم قال :
وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم ( 1 ) : أنه ردّ على أبي عبيدة قوله وقال : إنما تُجمع فُعْلة على فعْل _ بسكون العين _ إذا سبق الجمع الواحد ، مثل صُوفة وصُوف.
وسورة البناء وسورٌ، فالسُّور جمع سبق وُحدانه في هذا الموضع جمعُهُ ، قال الله تعالى: ( فضُرِبَ بينهم بسور له باب باطنه فيه الرَّحمة ) فأما سورة القرآن ؛ فإن الله جل وعز جمعها سُوَراً؛ مثل غُرفة وغرف، ورتبة ورُتب، وزُلفة وزُلف، فدلَّ على أنه لم يجعلها من سُور البناء؛ لأنها لو كانت من سور البناء لقال: فاتو بعشر سُوْرٍ، ولم يقل " بعَشْرِ سُوَر " والقُرَّاء مجمعون على سُور، وكذلك اجتمعوا على قراءة سُورٍ في قولهم: ( فضُرِبَ بينهم بسُوْر ٍ) ولم يقرأ بسوَرٍ فدلَّ ذلك على تميُّز سورة من سور القرآن عن سورة من سور البناء .
وكأنَّ أبا عبيدة أراد أن يؤيِّد قوله في الصُّور أنه جمع صورة ؛ فأخطأ في الصُّور والسُّورِ، وحَرَّف كلام العرب عن صيغته، وأدخل فيه ما ليس منه ."
فإذا عُلِم هذا ؛ فما الصواب في تعريف السورة :
" قال أبو الهيثم : والسُّورة من سور القرآن عندنا: قِطعة من القرآن سبق وُحدانها جمعها كما أن الغُرفة سابق للغُرف.
وأنزل الله جل وعز القرآن على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً بعد شيء، وجعله مفصَّلا، وبيَّن كلَّ سُورة منها بخاتمتها وبادئتها، وميّزها من التي تليها. ( 2 )
قلتُ ( الأزهري ) : وكأنَّ أبا الهيثم جعل السُّورة من سور القرآن من أسأَرْتُ سُؤْراً: أي أفصلتُ فضلا ؛ إلا أنها لما كثُرت في الكلام وفي كتاب الله تُرك فيها الهمز كما تُرك في الملك وأصله مَلأَك، وفي النبيّ وأصله الهمز.
وكان أبو الهيثم طوّل الكلام فيهما ردّاً على أبي عبيدة ؛ فاختصرت منه مجامع مقاصده، وربما غيّرت بعض ألفاظه والمعنى معناه "
ثم شرع الأزهري في بيان بعض معاني السورة .فانظرها هناك .
أهـ بتصرف يسير .
==================
( 1 ) أبو الهيثم هو الرازي كما ترجم له الأزهري في مقدمته ( 1/ 26 ) وقال كل ما نقلته عن أبي الهيثم فهو مما أفادنيه أبو الفضل المنذري .
( 2 ) فالراجح _ عند الراقم والعلم عند الله _ في معنى السورة في مادة ( سور ) : الجمع والإحاطة .
_ خامساً : قال المؤلِّف وفقه الله صـ ( 18 ) :
في فصل الإعجاز .
فقد ذكر أربعة من أنواع الإعجاز ، فعدَّ ؛ اللُّغوي ، والإخباري ، والتشريعي ، والعلمي ، وقد قال في طليعة الفصل وفقه الله : " يعسُر أن تُحدَّ وجوه الإعجاز في القرآن الكريم ؛ فكل شيء منه لا نظير له ؛ فهو باهر في ألفاظه وأسلوبه ...إلخ "أهـ .
قال مُقَيِّدُه عفا الله عنه :
أولاً لا بُدَّ من تعريف المعجزة ؛ فنقول : المعجزة : هي أمرٌ خارقٌ للعادةِ ، مقرونٌ بالتحدِّي ، سالمٌ من المعارضة ، يُظهره الله على يد رسله ( 1 )
وجلُّ من تكلم في مبحث الإعجاز كان يغفل في تعداد أنواع الإعجاز عن هذا التعريف .
ولو دقِّق في التعريف ومحترزاته ؛ لكان الأجدر أن ينحصر في وجه واحدٍ لا غير ، ذلكم هو الأعجاز البياني ، وأن تكون باقي الأنواع الأخرى من باب الدلائل المبرهنة على أنه من عند الله تعالى .
وغير أن بعض العلماء المتأخرين ذهب إلى أنه لا يُشترط في تعريف المعجزة ( قيد التحدِّي ) (2)
وللجواب عن هذا الذين ذهبوا إليه ليس هذا محله .
وأما راجح المسألة عند الراقم فيما يظهر والعلم عند الله ؛ فهو الإعجاز البياني .
" فلقد اختلفت أقوال العلماء في أوجه الإعجاز القرآني ، وتعددت آراؤهم ، فمنهم من يذكر وجهاً واحداً ويقصر إعجاز القرآن عليه ، ومنهم من يعدد عدة أوجه ، وكل ذلك كما ذكرنا آنفاً يعود لكل عالم وكيف يُوظِّف ما فتح الله عليه في خدمة كتاب ربه ، حتى أوصلها بعضهم –كما ذكر السيوطي في مُعْتَركِهِ - إلى ثمانين وجهاً.
والصواب من القول ، أنَّ هذا ليس حصراً لوجوه الإعجاز ، ولكن هو غاية ما هُدِِيَ إليه العلماءُ من القول ، ومما أفاء الله عليهم من العلم ، ومصداق ذلك قوله تعالى : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ }[ الحج : 24 ]
فإذا عُلِمَ ذلك ، فالذي يتوجَّهُ الآن أنْ يقال ، أنَّ وجه الإعجاز ؛ إنما هو " الإعجاز البياني " وحَسْبُ هذا الوجه أنَّ كافة العلماء قد اتفقوا عليه ، ولا يُعلم له معارضٌ أو من نَفَى إعجازه ، بخلاف باقي الأوجه ؛ فقد تناولتها الأراء بالنَّقدِ والاعتراض .
وهذا ابن الجزري رحمه الله يقول في إثبات هذا الوجه الإعجازي : " أنه مع ما اشتمل عليه من البلاغة والفصاحة والذوق والملاحة إلى غير ذلك ، أن كل حرف من حروفه ، وكل كلمة من كلماته لا يصلح أن يكون في مكانها وموضعها الذي وقعت فيه غيرها ، وهذا شيء لا يدركه إلا من وهبه الله ذهناً ثاقباً ، وقدماً في الإدراك راسخاً ، وممارسة لعلوم البلاغة ، وتحقيقاً لأسرار كلام العرب ، وتدقيقاً من ضروب فنون الأدب ، ولا يوصل إلى ذلك إلا بإنعام النظر في المعاني والبيان ، ولا يقف على كُنْهِهِ من تطبع القول بالتفنن فإنه عصا العميان ، وهذا مما أهمله أهل التفسير ، لأن الوقوف على غايته عسير ".(3 )
وقال حازم القرطاجي رحمه الله في مناهج البلغاء : " وجه الإعجاز في القرآن ، من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها ، في جميعه استمراراً لا يوجد له فَترة ،ولا يقدرُ عليه أحدق من البشر . وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع إنحائها في العالي منه إلا الشيء اليسير المعدود ، ثم تعترض الفترات الإنسانية ؛ فينقطع طيب الكلام ورونقه ؛ فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه ، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه "(4)
وقال القاضي عِياض رحمه الله قولة فائقة الحُسْن والبيان ، في كلام ربِّنا المنَّان ، إذ يقول : "فلم يزل r يقرعهم أشد التَّقريع ، ويوبِّخهم غاية التوبيخ ، ويسفِّه أحلامهم ، ويحطَّ أعلامهم ، ويشتِّت نظامهم ، ويذم آلهتهم وإياهم ، ويستبيح أرضَهم وديارَهم وأموالهم ، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته ، مُحْجِمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتَّشغِيب بالتكذيب ، والإغراء بالافتراء ، وقولهم : إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤثر، وسِحْرٌ مُستمر ، وإفْكٌ افتراه ، وأساطير الأولين ، والمباهتة والرضى بالدَّنِيئة كقولهم : قلوبنا غُلْف ، وفي أكنّّةٍ مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، ولا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوا فيه لعلكم تغلبون، والادعاء مع العجز بقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، وقد قال لهم الله "ولن تفعلوا" فما فعلوا ولا قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كُشف عُوارُه لجميعهم ، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم ، وإلا فَلَمْ يَخفَ على أهل الميْزِ منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ، ولا جنس بلاغتهم ، بل ولّوا عنه مدبرين ، وأتوا مذعنين من بين مهتد وبين مفتون ، ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [ النحل : 90 ]
قال : والله إن له لحلاوة ، وإنَّ عليه لطَلاوة ، وإنَّ أسفله لمغدق ، وإنَّ أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر .
وذكر أبو عبيد أنَّ أعرابياً سمع رجلا يقرأ : { فاصْدَعْ بِمَا تًؤْمَرْ } [ الحجر :94 ] فسجد وقال : سجدتُ لفصاحته .
وسمع رجلاً آخر يقرأ :{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } [ يوسف : 80 ]
فقال : أشهد أنَّ مخلوقاً لا يَقْدِر على مثل هذا الكلام" أهـ (5).
وذا الإمام الخطَّابي رحمه الله ؛ فبعد أن ذكر الأوجه وأجاب عنها قال : " اعلم أن القرآن إنما صار معجزاً ؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعاني" (6).
وقال ابن عطية رحمه الله بعد أن ذكر هذا الوجه : "والذي عليه الجمهور والحذَّاق وهو الصحيح في نفسه أنَّ التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه. } فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله{ فوجه إعجازه أن الله أحاط بالكلام كله عِلْما ، فأي لفظة تصلح أن تَلِي الأولى ، وتُبَيِّن المعنى بعد المعنى كانت كما وردت في القرآن الكريم .
فلو نُزِعتْ منه لفظة ، ثم أُدِير لسان العرب في أن يوجد أحسنَ منها لم يوجد ، ونحن تَبَيَّنَ لنا البراعةُ في أكثره، ويخفى علينا وجهُها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام " (7)
غير أن من أهم ما يجب أن يعتني به دارس الإعجاز ويقف عنده طويلاً ذاك الفصل الذي سطَّرته يَراعُ أبي فهر رحمه الله في تقدمته لكتاب العالم الكبير مالك بن نبي رحمه الله في كتابه الفائق
( الظاهرة القرآنية ) إذ يقول رحمه الله :
" ولا مناص لمتكلم في إعجاز القرآن من أن يتبين حقيقتين عظيمتين ، وأن يفصل بينهما فصلاً ظاهراً لا يلتبس ، وأن يُميِّز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما. أولاهما: أنَّ إعجاز القرآن كما يدل عليه لفظه وتاريخه ، إنما هو تحدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك ؛ فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون ، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله ، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب ، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان.
ثانيهما : أنّ إثبات دليل النبوة ، وتصديق دليل الوحي ، وأن القرآن من عند الله ، لا يكون شيء منها يدل على أن القرآن معجز ، ولا أظن أن قائلاً يستطيع أن يقول إن التوراة والإنجيل والزبور كتب معجزة ، بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن ، من أجل أنها كتب منزلة من عند الله ، ومن البيّن أن العرب قد طُولبوا بأن يعرفوا دليل نبوة رسول الله e، ودليل صدق الوحي الذي يأتيه ، بمجرد سماع القرآن نفسه ، لا بما يجادلهم به ؛ فالقرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة ، أما صحة النبوة فليست برهاناً على إعجاز القرآن " .
ثم قال رحمه الله : "والخلْطُ بين هاتين الحقيقتين ، وإهمالُ الفَصْل بينهما في التطبيق والنظر وفي دراسة إعجاز القرآن ؛ قد أفضى إلى تخليطٍ شديدٍ في الدراسة قديماً وحديثاً " (8).
وقال رحمه الله أيضاً : " إن الإعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه ، وأن ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان فيه من ذلك كله يعد دليلاً على أنه من عند الله تعالى " (9)
وانظر بتوسُّعٍ كبير ، ما كتبه شيخنا العلامة الدكتور صلاح الخالدي جزاه الله في كتابه : " إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرَّباني " ففيه كبير فائدة .
فإنَّ القرآن في جملته معجزة على وجه الحقيقة ، ولا يمكن لأحدٍ مهما أُتِيَ من عِلْمٍ أن يذكر السبب الذي أعجز أفذاذ العرب عن أنْ يأتوا بمثله .
ولله درُّ الخطَّابي رحمه الله يوم قال : " قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً ، وذهبوا فيه كل مذاهب من القول ، وما وجدناهم بَعْدُ صدرُوا عن رِيِّ ؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته ؛ فأما أن يكون قد بقيت في النفوس بقية بكونه معجزا للخلق ممتنعا عليهم الإتيان بمثله على حال فلا موضع لها ."(10)
وإذا كانت المعجزة خَرْقٌ للعادة ، فلَمْ يخرق القرآنُ عادةً عربية غير نظمِهِ وبيانِهِ . كما يقول الإمام السيوطي رحمه الله ، فكذلك أيضاً إذا كانت المعجزة مقرونة بالتحدي ؛ فلم يتحدَّ الله الخلق إلا بالإتيان بمثله في الألفاظ والمعاني . " ( 11 )
*********
سادساً : قال المؤلف وفقه الله ( 28 )
تحت النوع الثالث من أنواع الإعجاز (( التشريعي ) قال : " ويكمن فيما اودعه الله في كتابه من القوانين التي تشهد في استقامتها وعدلها وصلاحها لكل زمان أنها من عند الله " أهـ .
قال مُقَيِّدُه عفا الله عنه :
يكثر كثيرٌ من الكتَّاب عبارة ( القرآن صالح لكل زمان ومكان ) وقد أشرت في مشاركة سابقة ، إلى أن هذا العبارة من العبارات الخاطئة في كتاب ربنا تعالى _ ( وسأفرد مشاركة مستقلة بعنوان : ( مصطلحات خاطئة في التفسير )
فإن كلمة ( صالح ) فعلها ( صَلَحَ ) ، وهذا ما لا ينبغي ان يطلق على كتاب الله تعالى .
بينما الصواب في القول أن يقال ( مُصْلِحٌ ) وفعلها ( أَصْلَحَ ) حتى تعطي إضافة جديدة وزيادة في المعنى ، كما كانت الزيادة في المبنى .
إضافة إلى أن الكلمة الأولى ( صالح ) فإنها تفيد أن القرآن الكريم قد أُخضِعَ لقوانين الزمان فكان صالحاً ومتمشِّياً معها فكان صلاحه أنه متساير معها .
وما لهذا نزل الكتاب ؛ بل إن الله أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليكون هو المصلح لكافة شؤونهم وحياتهم ومعاشهم ومهيمناً على كل شيء من امور العباد. وقد قال عز من قائل : { الَر * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ إبراهيم : 1] ( 12 )
وإلى مدارسة قادمة في باب كيفية إنزال القرآن الكريم .
والله أعلم وأحكم
_____________
( 1 ) انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/69)، والإتقان للسيوطي (2/1001) ومباحث في إعجاز القرآن للدكتور مصطفى مسلم ( 18 ) وعلوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير للدكتور محمد صفاء الشيخ ( 2 / 377) والواضح في علوم القرآن للدكتور مصطفى البُغا ( 151 ) وعلوم القرآن وإعجازه لللدكتور عدنان زرزور ( 475 ) وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر للقنوجي رحمه الله ( 103 ) ومذكرة التوحيد للعلامة الراحل عبد الرزاق عفيفي رحمه الله ( 60 ) وانظر في بيان التعريف النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( 1/ 170 ) فإنه مهم .
( 2 ) انظر : مناهل العرفان للزرقاني ( 1/ 66 ) إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني لشيخنا الدكتور صلاح الخالدي ( 18) وقريباً منه إعجاز القرآن الكريم للدكتور فضل عباس ( 20 ) .
( 3 ) كفاية الألمعي (220)
( 4 ) معترك الأٌقران ( 1/ 28 )
( 5 ) الشفا ( 1/ 261 )
( 6 ) بيان إعجاز القرآن (23)
( 7 ) المحرر الوجيز لابن عطية ( 1/ 59 )
( 8 ) من مقدمة محمود شاكر رحمه الله لكتاب الظاهرة القرآنية .لمالك بن نبي رحمه الله . فصل في إعجاز القرآن (17) بتصرف
( 9 ) المرجع السابق (24)
( 10) بيان إعجاز القرآن (21)
( 11 ) ( الإكليل في بيان إعجاز التنزيل) ( 22 ) لراقمه ( مخطوط ) بإشراف أستاذنا الدكتور مسموع احمد أبو طالب الشربيني حفظه الله
( 12 ) من فوائد أستاذنا الدكتور المفضال مسموع أحمد الشربيني حفظه الله في الدراسات العليا في كلية الدعوة وأصول الدين .