أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
[align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم
أرسل إلي الأخ الحبيب عبدالله بن علي بن فائع العسيري رسالة ضمنها بحثاً له عن إشكال أورده بعض المؤرخين والكتاب حول مدائن صالح الموجودة الآن قريباً من مدينة العلا شمال المدينة النبوية، وهذا نص رسالته:
( جرى في سالف الأيام المناقشة في وصف أبواب بنيان ديار ثمود الموجودة في طريق العلا عندنا شمال المدينة، حيث إنها لا تزيد عن أبواب ديارنا، وقد عرف عنهم ما قد عرف من ضخامة الأجسام، وهذا ما استشكله ابن خلدون، وتابعه جمع من أهل العلم على هذا الأشكال، وأجابوا عنه بأجوبة لا تخلو من التعقب والنظر ، ومن هؤلاء العلامة المحدث / محمد عبدالرزاق حمزة في تذييله على كتاب < القائد إلى تصحيح العقائد > للعلامة المعلمي <٢٥٥> حيث يقول :
( جاء في الحديث أن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا ، فما زال الخلق - أي من بنيه - يتناقض حتى صاروا إلى ما هم عليه الآن . استشكله ابن خلدون ، ونقل إشكاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري بأن ديار ثمود في الحجر لا تزيد أبوابها عن أبواب ديارنا وهم من القدم على ما يظهر أن يكونوا في نصف الطريق بيننا وبين آدم فكان على هذا يجب أن تطول أبدانهم عنا بنحو ثلاثين ذراعا، ولعل أهل الحفريات عثروا على عظام وجماجم قديمة جدا ولا يزيد طولها عن طول الناس اليوم ، وقد سمعت حل الإشكال من الشيخ عبيد الله السندي رحمه الله أن الطول المذكور في عالم المثال لا في عالم الأجسام والمشاهدة . فالله أعلم )
وتعقبه العلامة ناصر الدين الألباني فقال معلقا على هذا الموضع :
( قلت : هذا التأويل أشبه بتأويلات المتكلمين والمتصوفة ، وإني متعجب جدا من حكاية فضيلة الشيخ إياه وإقراره له ، واستشكال ابن خلدون إنما يصح على ما استظهره أن ثمود في نصف الطريق بيننا وبين آدم ، وهذا رجم بالغيب ، إذ لم يأت به نص عن المعصوم ، ولا ثبت مثله حتى الآن من الآثار المكتشفة ، بل لعلها قد دلت على خلاف ما استظهره ، فيبقى الحديث من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها دون أي استشكال ) انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
قلت : [ عبدالله بن فايع العسيري ] قد ظفرت بنص في هذه المسألة يكتب بماء العين إذ به يتجلى حقيقة الأمر وهو ما نقله الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في توضيح المشتبه {٨/٩٧} عن البرزالي أنه قال :
( ومدائن صالح التي بالقرب من العلا في طريق الحاج من الشام بلد إسلامي ، وصالح المنسوبة إليه من بني العباس بن عبدالمطلب ، وفيها قبور عليها نصائب تاريخها بعد الثلاثمائة ) انتهى
فهذا النص يفيد بأن الموضع المعروف الآن في بلدة العلا ليس حجر ثمود ، وإنما هي أبنية حدثت في زمن الإسلام ، وأن صالحاً المنسوبة إليه هذه المدائن ليس نبي الله عليه السلام، بل هو رجل من ذرية العباس بن عبدالمطلب، بدليل أن هناك قبور يرجع تأريخ نصائبها إلى ما بعد عام الثلاثمائة هجرية . فالذي يظهر أن هذه المدائن كانت بقرب حجر ثمود ، فلما فنيت وزالت أطلال الحجر ظن الناس أنها هذه المدائن .
ويرجع هذا عندي إلى أسباب منها :
أنها لما طالت المدة على الناس ونُسي العلم في شأنها وكان بنيان هذه المدائن بهذه العظمة والبهاء مع قرب موضعها من الحجر سببا لحصول هذا الغلط والوهم ، وعلى أثره انبنى الإشكال الذي أورده ابن خلدون ومن جاء بعده من أهل العلم ، ولا يقال إنه لا يعقل أن يتتابع أهل العلم عصورا مديدة على هذا الغلط دون أن يعرفو حقيقة الأمر ، إذ من عرف حال الناس الخاصة والعامة منهم في إهمال الأحوال والشؤون التاريخية فيما هو أهم من هذه المسألة لا يستكبر خفاء حقيقة الأمر كل هذه المدة ، فإنها قد تخفى عليهم أحداث وأمور قريبة العهد منهم، وما ذلك إلا ما شكاه الموفق أبوالحسن ابن أبي بكر الخزرجي في مقدمة تأريخ اليمن، قال ما نصه : ( حداني على جمعه - أي تأريخه هذا - ما رأيت من إهمال الناس لفن التأريخ مع شدة احتياجهم إليه وتعويلهم في كثير من الأمور عليه .. الخ )؛ فإذا كان إهمال الناس لأمور وأحوال هي من شأن عصرهم فمن باب أولى أن يكون التفريط فيما بعد زمانه وتوار عن الأنظار مكانه ، والحال في هذا يصدق فيه ما قال بعضهم :
[align=center]فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ¤ وأين مكاني ما عرفن مكانيا [/align]
ولم يقف الأمر عند حد الإهمال فقط، بل تفاقم الأمر ببعض الخواص ومن أكابر أهل العلم في زمانه بأن يتطرق للتنقيص للتأريخ وأهله ، وكان هذا سببا لقيام الحافظ السخاوي بتأليف كتابه / الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ .
وليس هذا مني تزيدا في الكلام، ولكن بيانا للأسباب التي أدت للغلط في الحقائق التأريخية حتى من قبل أهل العلم الذين لم يعنوا بهذا الفن ، فإما يرفضه بعضهم بالكلية ، أو يأخذونه على هناته ويقبلون كل ما جاء فيه من غير تحرير لماينقلون ، وهذا لا يقل عن سابقه في حيدته عن السبيل السوية ، وقد عقد العلامة المؤرخ ابن خلدون فصلا جليلا في مقدمته الشهيرة ، اسماه :
< فضل علم التأريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها > قال فيه < ٩ > :
{ وحتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه - أي فن التأريخ - في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات و المغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة و قواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أوسمينا ... الخ ).
وهذا ما حدا بالعلامة / محمد بن سليمان آل بسام أن يكتب ترجمة خاصة في شيخه / عبدالرحمن السعدي في تحقيقه لكتاب الشيخ السعدي التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب ، حيث قال في مقدمة هذه الترجمة :
( فقد اطلعت على تراجم لشيخنا عبدالرحمن بن ناصربن عبدالله آل سعدي ، فوجدت فيها بعض الأخطاء في أمور أتيقنها ولا شك فيها ، وأمور أخرى يترجح عندي مخالفتها للواقع ، فأحببت أن أضع له ترجمة موجزة ، متحريا فيها الواقع ) فانظروا كيف وقع الإختلاف بين أهل العلم في ترجمة رجل هم تلاميذ له وحصلت المعاينة له فكيف الحال مع من غبر .
وهذه دار الأرقم بن أبي الأرقم وشهرتها حصلت في الإسلام بحيث كان النبي صلى عليه وسلم يختبأ فيها هو وأصحابه ، يقول العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في مجموع فتاواه ورسائله (١/١٥٨) بعد أن نقل النقول عن أهل العلم في موضعها : { وهذا كله على تسليم كون الدار المعروفة اليوم بدار الأرقم هي دار الأرقم في الواقع ، وفي النفس من ذلك شيء ، لأمرين : وذكر الأمرين رحمه الله } .
ومثل ذلك ما اشتهر في قبور الأنبياء في بعض البلدان ، وقد تسمع أن قبور بعضهم في عدة بلدان كما هو الحال في قبر نبي الله أيوب عليه السلام فتجده في اليمن وتجده في عمان وتجده في الشام ، وحقيقة الحال ما قاله العلامة محدث المدينة / حماد الأنصاري رحمه الله كما في المجموع في ترجمته {١/٣٢٠} :
( ومن الجدير بالذكر أن علماء السلف أجمعوا على أنه لا يعرف قبر نبي بعينه إلا قبر نبينا عليه الصلاة والسلام كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في قاعدة التوسل والوسيلة وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) .
فلا شك أن ما نقله ابن ناصر الدين عن البرزالي في شأن مدائن صالح يعتبر نقلاً عزيزاً يحل إشكالا طالما أشكل على الأكابر.
وفي الحقيقة أن من تأمل الشكل المعماري لهذه المدائن وجد أنها تأخذ من نمط العمران العباسي ونظائرها في العراق كثير ، فإنهم قد جلبوا أمهر البنائين ووقع في دولتهم من الحضارة مالم يسبقوا إليه ، ولا شك أن كمال الصنائع إنما يحصل بكمال الحضارة وكثرتها بكثرة الطالب لها ، والسر في حصول هذه المباني العظيمة ، ما قاله ابن خلدون في مقدمته في فصل صناعة البناء < ٤٠٩ > :
{وقد يعرف صاحب هذه الصناعة - أي صناعة البناء - أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الأرتفاع ، وأمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله وكذلك في جر الأثقال بالهندام؛ فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفا فيتم المراد من ذلك بغير كلفة ، وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة متداولة بين البشر ، وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية ، وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني وليس كذلك وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه؛ فتفهم ذلك، والله يخلق ما يشاء سبحانه } انتهى كلامه والله الموفق . ) انتهت رسالة الأخ عبدالله زاده الله علماً وتوفيقاً.
[line][/line]
قال أبومجاهدالعبيدي: ولما قرأت الرسالة السابقة رجعت إلى كتاب "معجم الأمكنة الوارد ذكرها في القرآن الكريم للأستاذ سعد بن جنيدل، فوجدته قد ذكر في تعريفه بـ"الحجر" كلاماً قريباً مما قرره صاحب الرسالة السابقة - مع أن كاتبها لم يطلع على شيئ من ذلك قبل بحثه لهذه المسألة كما أفادني-.
جاء في الكتاب المذكور: ( وقد كتب حمد الجاسر بحثاً بعنوان: "ليس الحجر مدائن صالح" قال فيه: يطلق الناس الآن اسم مدائن صالح على الوادي الواقع شمال مدينة العلا، المعروف باسم "الحجر" - بكسر الحاء المهملة واسكان الجيم وبالراء - ذي الآثار التي تناولها الباحثون بالدراسات الوافية.
والواقع أن إطلاق ذلك الاسم على هذا الوادي خطأ وقع فيه الناس منذ عهد قديم، وتوضيح ذلك:
أ- أن الحجر هو الوادي الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وورد النهي عن الشرب ما مائه سوى بئر الناقة التي كانت معروفة إلى عهد قريب، لأن هذا الوادي كانت منازل قوم غضب الله عليهم فأهلكهم قبل ظهور الاسلام بعصور مجهولة.
وهذا الوادي لا يزال معروفاً باسم "الحجر" عند سكان جهاته، وعند غيرهم، لا خلاف في ذلك.
ب- وفي جنوب مدينة العلا بنحو 55 كيلاً آثار عمران قديم، من أسس بناء ومجاري مياه وآثار زراعة، يطلق على موضعها الآن اسم غريب هو "المابيات" جمع مابيه - بالميم المفتوحة بعدها ألف فباء موحدة مكسورة فهاء- وهذا الاسم حادث، فقد كان الموضع في القرن السابع الهجري وما قرب منه يعرف باسم مدينة صالح، ثم مدائن صالح.
وله قبل ذلك اسم آخر، أرجح أن "الرحبة" الوارد في كثير من كتب الرحلات ومعجمات الأمكنة، فنسي اسم الرحبة، واسم مدينة صالح - أو مدائن صالح - وعرف باسم وادي العطاس على ما جاء في رحلة ابن بطوطة، الذي مر بهذا الموضع في عشر الثلاثين من القرن الثامن، مع أن الوادي كان معروفاً باسم وادي الديدان، الذي نجد له في الكتب الأعجمية وما عرب منها صوراً غريبة "ددان" و "دادان" و"ديدان".
ج- وادي الديدان الذي تقع فيه مدينة صالح التي عرفت باسم "مدائن صالح" ليس متصلاً من حيث الجوار بوادي الحجر الذي قرر العلماء أخيراً عدم سكناه، بل يفصل بينهما مسافة من الأرض تقارب خمسين كيلاً، بل تزيد.
د- أما كيف نشأ الخطأ؛ فهو أن الحجر كان من منازل قوم النبي صالح عليه السلام، فكذبوه فأهلكهم الله، ونجا صالح والذين آمنوا معه، وقد ذكر الله خبرهم في سور من القرآن الكريم، ومنها سورة الحجر؛ ففي الآية الحادية والثمانين منها: { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)} [الحجر : 80 - 83].
وقد بقيت آثار القوم في البيوت المنحوتة في الجبال، وفي الآبار المحفورة في الوادي، وفي غيرها؛ فكان المسافرون الذين يذهبون من الحجاز إلى الشام أو من يمرون بهذه الجهات يشاهدون تلك الآثار، ويتناقلون أخبارهم من الكتب أو من الرواة، وكثير من رواة الأخبار ومدونيها لا يلتزمون الدقة وتحري الصواب فيما ينقلون أو يكتبون، فوقع الخلط بين الآثار الواقعة شمال مدينة العلا في وادي الحجر، وهي آثار سابقة، وبين الآثار الواقعة جنوب مدينة العلا، وهي مما حدث في صدر الإسلام. وساعد على وقع الخلط أن الموضع الأخير جنوب العلا كان يعرف بمدينة صالح، وهو رجل مسلم من بني العباس، ومدينته هذه كانت قائمة إلى القرن الرابع الهجري، وأن الموضع الأول الذي هو الحجر الواقع شمال العلا عرف سكانه بقوم صالح، وعرفت إحدى آباره ببئر ناقة صالح، وعرف موضع بأحد جباله بمسجد صالح - أي المكان الذي كان يتعبد فيه -. ومن هنا أطلق على الحجر خطأ اسم ("مدائن صالح"... إلخ) . انتهى
قلت: وقد وقع في هذا اللبس متأخروا المفسرين، حيث يعرفون "الحجر" بمدائن صالح" كما فعل ابن عاشور وغيره.
والله أعلم.
[/align]
أرسل إلي الأخ الحبيب عبدالله بن علي بن فائع العسيري رسالة ضمنها بحثاً له عن إشكال أورده بعض المؤرخين والكتاب حول مدائن صالح الموجودة الآن قريباً من مدينة العلا شمال المدينة النبوية، وهذا نص رسالته:
( جرى في سالف الأيام المناقشة في وصف أبواب بنيان ديار ثمود الموجودة في طريق العلا عندنا شمال المدينة، حيث إنها لا تزيد عن أبواب ديارنا، وقد عرف عنهم ما قد عرف من ضخامة الأجسام، وهذا ما استشكله ابن خلدون، وتابعه جمع من أهل العلم على هذا الأشكال، وأجابوا عنه بأجوبة لا تخلو من التعقب والنظر ، ومن هؤلاء العلامة المحدث / محمد عبدالرزاق حمزة في تذييله على كتاب < القائد إلى تصحيح العقائد > للعلامة المعلمي <٢٥٥> حيث يقول :
( جاء في الحديث أن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا ، فما زال الخلق - أي من بنيه - يتناقض حتى صاروا إلى ما هم عليه الآن . استشكله ابن خلدون ، ونقل إشكاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري بأن ديار ثمود في الحجر لا تزيد أبوابها عن أبواب ديارنا وهم من القدم على ما يظهر أن يكونوا في نصف الطريق بيننا وبين آدم فكان على هذا يجب أن تطول أبدانهم عنا بنحو ثلاثين ذراعا، ولعل أهل الحفريات عثروا على عظام وجماجم قديمة جدا ولا يزيد طولها عن طول الناس اليوم ، وقد سمعت حل الإشكال من الشيخ عبيد الله السندي رحمه الله أن الطول المذكور في عالم المثال لا في عالم الأجسام والمشاهدة . فالله أعلم )
وتعقبه العلامة ناصر الدين الألباني فقال معلقا على هذا الموضع :
( قلت : هذا التأويل أشبه بتأويلات المتكلمين والمتصوفة ، وإني متعجب جدا من حكاية فضيلة الشيخ إياه وإقراره له ، واستشكال ابن خلدون إنما يصح على ما استظهره أن ثمود في نصف الطريق بيننا وبين آدم ، وهذا رجم بالغيب ، إذ لم يأت به نص عن المعصوم ، ولا ثبت مثله حتى الآن من الآثار المكتشفة ، بل لعلها قد دلت على خلاف ما استظهره ، فيبقى الحديث من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها دون أي استشكال ) انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
قلت : [ عبدالله بن فايع العسيري ] قد ظفرت بنص في هذه المسألة يكتب بماء العين إذ به يتجلى حقيقة الأمر وهو ما نقله الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في توضيح المشتبه {٨/٩٧} عن البرزالي أنه قال :
( ومدائن صالح التي بالقرب من العلا في طريق الحاج من الشام بلد إسلامي ، وصالح المنسوبة إليه من بني العباس بن عبدالمطلب ، وفيها قبور عليها نصائب تاريخها بعد الثلاثمائة ) انتهى
فهذا النص يفيد بأن الموضع المعروف الآن في بلدة العلا ليس حجر ثمود ، وإنما هي أبنية حدثت في زمن الإسلام ، وأن صالحاً المنسوبة إليه هذه المدائن ليس نبي الله عليه السلام، بل هو رجل من ذرية العباس بن عبدالمطلب، بدليل أن هناك قبور يرجع تأريخ نصائبها إلى ما بعد عام الثلاثمائة هجرية . فالذي يظهر أن هذه المدائن كانت بقرب حجر ثمود ، فلما فنيت وزالت أطلال الحجر ظن الناس أنها هذه المدائن .
ويرجع هذا عندي إلى أسباب منها :
أنها لما طالت المدة على الناس ونُسي العلم في شأنها وكان بنيان هذه المدائن بهذه العظمة والبهاء مع قرب موضعها من الحجر سببا لحصول هذا الغلط والوهم ، وعلى أثره انبنى الإشكال الذي أورده ابن خلدون ومن جاء بعده من أهل العلم ، ولا يقال إنه لا يعقل أن يتتابع أهل العلم عصورا مديدة على هذا الغلط دون أن يعرفو حقيقة الأمر ، إذ من عرف حال الناس الخاصة والعامة منهم في إهمال الأحوال والشؤون التاريخية فيما هو أهم من هذه المسألة لا يستكبر خفاء حقيقة الأمر كل هذه المدة ، فإنها قد تخفى عليهم أحداث وأمور قريبة العهد منهم، وما ذلك إلا ما شكاه الموفق أبوالحسن ابن أبي بكر الخزرجي في مقدمة تأريخ اليمن، قال ما نصه : ( حداني على جمعه - أي تأريخه هذا - ما رأيت من إهمال الناس لفن التأريخ مع شدة احتياجهم إليه وتعويلهم في كثير من الأمور عليه .. الخ )؛ فإذا كان إهمال الناس لأمور وأحوال هي من شأن عصرهم فمن باب أولى أن يكون التفريط فيما بعد زمانه وتوار عن الأنظار مكانه ، والحال في هذا يصدق فيه ما قال بعضهم :
[align=center]فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ¤ وأين مكاني ما عرفن مكانيا [/align]
ولم يقف الأمر عند حد الإهمال فقط، بل تفاقم الأمر ببعض الخواص ومن أكابر أهل العلم في زمانه بأن يتطرق للتنقيص للتأريخ وأهله ، وكان هذا سببا لقيام الحافظ السخاوي بتأليف كتابه / الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ .
وليس هذا مني تزيدا في الكلام، ولكن بيانا للأسباب التي أدت للغلط في الحقائق التأريخية حتى من قبل أهل العلم الذين لم يعنوا بهذا الفن ، فإما يرفضه بعضهم بالكلية ، أو يأخذونه على هناته ويقبلون كل ما جاء فيه من غير تحرير لماينقلون ، وهذا لا يقل عن سابقه في حيدته عن السبيل السوية ، وقد عقد العلامة المؤرخ ابن خلدون فصلا جليلا في مقدمته الشهيرة ، اسماه :
< فضل علم التأريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها > قال فيه < ٩ > :
{ وحتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه - أي فن التأريخ - في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات و المغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة و قواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أوسمينا ... الخ ).
وهذا ما حدا بالعلامة / محمد بن سليمان آل بسام أن يكتب ترجمة خاصة في شيخه / عبدالرحمن السعدي في تحقيقه لكتاب الشيخ السعدي التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب ، حيث قال في مقدمة هذه الترجمة :
( فقد اطلعت على تراجم لشيخنا عبدالرحمن بن ناصربن عبدالله آل سعدي ، فوجدت فيها بعض الأخطاء في أمور أتيقنها ولا شك فيها ، وأمور أخرى يترجح عندي مخالفتها للواقع ، فأحببت أن أضع له ترجمة موجزة ، متحريا فيها الواقع ) فانظروا كيف وقع الإختلاف بين أهل العلم في ترجمة رجل هم تلاميذ له وحصلت المعاينة له فكيف الحال مع من غبر .
وهذه دار الأرقم بن أبي الأرقم وشهرتها حصلت في الإسلام بحيث كان النبي صلى عليه وسلم يختبأ فيها هو وأصحابه ، يقول العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في مجموع فتاواه ورسائله (١/١٥٨) بعد أن نقل النقول عن أهل العلم في موضعها : { وهذا كله على تسليم كون الدار المعروفة اليوم بدار الأرقم هي دار الأرقم في الواقع ، وفي النفس من ذلك شيء ، لأمرين : وذكر الأمرين رحمه الله } .
ومثل ذلك ما اشتهر في قبور الأنبياء في بعض البلدان ، وقد تسمع أن قبور بعضهم في عدة بلدان كما هو الحال في قبر نبي الله أيوب عليه السلام فتجده في اليمن وتجده في عمان وتجده في الشام ، وحقيقة الحال ما قاله العلامة محدث المدينة / حماد الأنصاري رحمه الله كما في المجموع في ترجمته {١/٣٢٠} :
( ومن الجدير بالذكر أن علماء السلف أجمعوا على أنه لا يعرف قبر نبي بعينه إلا قبر نبينا عليه الصلاة والسلام كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في قاعدة التوسل والوسيلة وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) .
فلا شك أن ما نقله ابن ناصر الدين عن البرزالي في شأن مدائن صالح يعتبر نقلاً عزيزاً يحل إشكالا طالما أشكل على الأكابر.
وفي الحقيقة أن من تأمل الشكل المعماري لهذه المدائن وجد أنها تأخذ من نمط العمران العباسي ونظائرها في العراق كثير ، فإنهم قد جلبوا أمهر البنائين ووقع في دولتهم من الحضارة مالم يسبقوا إليه ، ولا شك أن كمال الصنائع إنما يحصل بكمال الحضارة وكثرتها بكثرة الطالب لها ، والسر في حصول هذه المباني العظيمة ، ما قاله ابن خلدون في مقدمته في فصل صناعة البناء < ٤٠٩ > :
{وقد يعرف صاحب هذه الصناعة - أي صناعة البناء - أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن وإجراء المياه بأخذ الأرتفاع ، وأمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله وكذلك في جر الأثقال بالهندام؛ فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رفعها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفا فيتم المراد من ذلك بغير كلفة ، وهذا إنما يتم بأصول هندسية معروفة متداولة بين البشر ، وبمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية ، وأن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني وليس كذلك وإنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه؛ فتفهم ذلك، والله يخلق ما يشاء سبحانه } انتهى كلامه والله الموفق . ) انتهت رسالة الأخ عبدالله زاده الله علماً وتوفيقاً.
[line][/line]
قال أبومجاهدالعبيدي: ولما قرأت الرسالة السابقة رجعت إلى كتاب "معجم الأمكنة الوارد ذكرها في القرآن الكريم للأستاذ سعد بن جنيدل، فوجدته قد ذكر في تعريفه بـ"الحجر" كلاماً قريباً مما قرره صاحب الرسالة السابقة - مع أن كاتبها لم يطلع على شيئ من ذلك قبل بحثه لهذه المسألة كما أفادني-.
جاء في الكتاب المذكور: ( وقد كتب حمد الجاسر بحثاً بعنوان: "ليس الحجر مدائن صالح" قال فيه: يطلق الناس الآن اسم مدائن صالح على الوادي الواقع شمال مدينة العلا، المعروف باسم "الحجر" - بكسر الحاء المهملة واسكان الجيم وبالراء - ذي الآثار التي تناولها الباحثون بالدراسات الوافية.
والواقع أن إطلاق ذلك الاسم على هذا الوادي خطأ وقع فيه الناس منذ عهد قديم، وتوضيح ذلك:
أ- أن الحجر هو الوادي الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وورد النهي عن الشرب ما مائه سوى بئر الناقة التي كانت معروفة إلى عهد قريب، لأن هذا الوادي كانت منازل قوم غضب الله عليهم فأهلكهم قبل ظهور الاسلام بعصور مجهولة.
وهذا الوادي لا يزال معروفاً باسم "الحجر" عند سكان جهاته، وعند غيرهم، لا خلاف في ذلك.
ب- وفي جنوب مدينة العلا بنحو 55 كيلاً آثار عمران قديم، من أسس بناء ومجاري مياه وآثار زراعة، يطلق على موضعها الآن اسم غريب هو "المابيات" جمع مابيه - بالميم المفتوحة بعدها ألف فباء موحدة مكسورة فهاء- وهذا الاسم حادث، فقد كان الموضع في القرن السابع الهجري وما قرب منه يعرف باسم مدينة صالح، ثم مدائن صالح.
وله قبل ذلك اسم آخر، أرجح أن "الرحبة" الوارد في كثير من كتب الرحلات ومعجمات الأمكنة، فنسي اسم الرحبة، واسم مدينة صالح - أو مدائن صالح - وعرف باسم وادي العطاس على ما جاء في رحلة ابن بطوطة، الذي مر بهذا الموضع في عشر الثلاثين من القرن الثامن، مع أن الوادي كان معروفاً باسم وادي الديدان، الذي نجد له في الكتب الأعجمية وما عرب منها صوراً غريبة "ددان" و "دادان" و"ديدان".
ج- وادي الديدان الذي تقع فيه مدينة صالح التي عرفت باسم "مدائن صالح" ليس متصلاً من حيث الجوار بوادي الحجر الذي قرر العلماء أخيراً عدم سكناه، بل يفصل بينهما مسافة من الأرض تقارب خمسين كيلاً، بل تزيد.
د- أما كيف نشأ الخطأ؛ فهو أن الحجر كان من منازل قوم النبي صالح عليه السلام، فكذبوه فأهلكهم الله، ونجا صالح والذين آمنوا معه، وقد ذكر الله خبرهم في سور من القرآن الكريم، ومنها سورة الحجر؛ ففي الآية الحادية والثمانين منها: { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)} [الحجر : 80 - 83].
وقد بقيت آثار القوم في البيوت المنحوتة في الجبال، وفي الآبار المحفورة في الوادي، وفي غيرها؛ فكان المسافرون الذين يذهبون من الحجاز إلى الشام أو من يمرون بهذه الجهات يشاهدون تلك الآثار، ويتناقلون أخبارهم من الكتب أو من الرواة، وكثير من رواة الأخبار ومدونيها لا يلتزمون الدقة وتحري الصواب فيما ينقلون أو يكتبون، فوقع الخلط بين الآثار الواقعة شمال مدينة العلا في وادي الحجر، وهي آثار سابقة، وبين الآثار الواقعة جنوب مدينة العلا، وهي مما حدث في صدر الإسلام. وساعد على وقع الخلط أن الموضع الأخير جنوب العلا كان يعرف بمدينة صالح، وهو رجل مسلم من بني العباس، ومدينته هذه كانت قائمة إلى القرن الرابع الهجري، وأن الموضع الأول الذي هو الحجر الواقع شمال العلا عرف سكانه بقوم صالح، وعرفت إحدى آباره ببئر ناقة صالح، وعرف موضع بأحد جباله بمسجد صالح - أي المكان الذي كان يتعبد فيه -. ومن هنا أطلق على الحجر خطأ اسم ("مدائن صالح"... إلخ) . انتهى
قلت: وقد وقع في هذا اللبس متأخروا المفسرين، حيث يعرفون "الحجر" بمدائن صالح" كما فعل ابن عاشور وغيره.
والله أعلم.
[/align]