عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 138
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
هذه مقالة للدكتور رضوان السيد الأستاذ بالجامعة اللبنانية حول كتابة محمد عابد الجابري لكتابه في تفسير القرآن على حسب ترتيب النزول ، فيها بعض الفوائد .
تنبهتُ إلى تغيّر الاستراتيجيات البحثية والكتابية لدى المفكّر الراحل محمد عابد الجابري، عندما بدأ يكتب سلسلة من المقالات الأسبوعية في صحيفة الاتحاد الظبيانية حول القرآن. وقد أثارت بعض تلك المقالات ردوداً واستفهامات وتساؤلات، دفعتْني لمناقشته في الفكرة ذاتها. فالحق أن هذا الرأي أو ذاك في ترتيب السُوَر القرآنية أو الآيات ضمن السور، أو الناسخ والمنسوخ، أو القراءات القرآنية، كل ذلك كانت له سوابق قديماً وحديثاً. ولذا فما كانت تلك الآراء (المجموعة في صعيد واحد للمرة الأولى) هي التي دفعتني للاعتقاد بأن استراتيجيات الكتابة لدى الجابري قد تغيرت. وإنما الذي دفعني إلى ذلك الاعتقاد أن الجابري وعلى مدى ربع قرن، ظل يؤكد أنه ليس مصلحاً دينياً، ولا يريد إنشاء علم كلام جديد، ولذا فهو – بخلاف الأستاذ محمد أركون – لن يخوض في القرآن قِدَماً أو بنية. بل إن المصحف الذي بين أيدينا هو الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان بين الدفتين، ولا شك في وحدة النص، ولا في مقاصده الكبرى، وإلا فإننا نكون ماضين في آثار المستشرقين، الذين تعاملوا ويتعاملون مع النص القرآني وكأنما هو ليس نصاً ولا وحدة أو بنية. المهم إنني صادفتُ المفكر الجابري مرة في أبو ظبي، ومرة في لبنان، وسألته عن الأمر، ولماذا قرر المضيّ في هذا السبيل الذي سبق أن قال بتجنّبه؟ وظن الجابري أولا إن رأيه في أسباب النزول أو في الناسخ والمنسوخ لم يعجبني، لكنني شرحتُ له أن ذلك ليس من قصدي، وإنما القصدُ اختبار هل تطور أو تغير رأْيُهُ في مسألة القرآن والنص القرآني بنيةً ووحدة. ونفى الجابري ذلك، وذكّرني بأن النص الذي أذكُرُه من إحدى مقالاته قد ورد فيه أيضا أن التفسير القرآني، يجوز بل يجبُ فيه الاجتهاد، وليس من الضروري التقيُّد بآراء المفسرين الكلاسيكيين. فقد بدأ العملُ التفسيري للقرآن أيام الصحابة (عبدالله بن عباس)، وازدهر أيام التابعين، ولو كان الأمر محرّماً لما حاوله الصحابة، ولما ظهرت مئات التفاسير عبر العصور، سالكة مختلف المناهج والمناحي.
بيد أن الجابري عندما نشر تفسيره في ثلاثة مجلدات، ما اقتصر على الاجتهاد، أياً يكن شذوذه أو تفرده، بل سارع في تفسيره الذي سماه «التفسير الواضح» إلى القيام بالعملية التأويلية على أساس «ترتيب النزول». وهذا الأمر بالذات أدعى إلى ألاّ يكون التفسير واضحاً على الإطلاق – ثم إنه يهدد النص القرآني بنيةً ووحدةً وإِنْ بطرائق غير مباشرة، فقد اعتمد الجابريُّ على كتب علوم القرآن («الإتقان» للسيوطي على الخصوص)، كما اعتمد على ما يردُ في عناوين السُور وأحاديث أسباب النزول من أن هذه الآية أو تلك مكية بينما السورة مدنية أو العكس. وحين لم يجد شيئاً من ذلك يمكن الاستنادُ إليه، اعتمد على أحاديث أسباب النزول – وأكثرها ضعيف بمقاييس المحدّثين – ليضع هذه الآية هنا وتلك هناك قبل البدء بتفسيرها أو تفسيرهما. بل انه أحيانا ارتأى أن بين الآيات في سورة كذا، والآيات في سورة كذا وحدة تقتضي وضعهُما في سياق واحد في الترتيب والتفسير. وقلت في البداية إن الأمر يمكن فهمُهُ باعتباره تفسيراً للقرآن بالقرآن، وهو أعلى درجات التفسير. ثم تنبهتُ إلى أن النص بذلك لا يعود نصاً، وهو يخالف أبسط قواعد البنيوية واللسانيات. وإذا كان قد فعل ذلك بقصد الوضوح أو الإيضاح، فإن هذه الطريقة تزيدُ من غموض النص (الذي لم يعد نصاً)، وتحوله إلى مجموعة ضخمة من المفردات والفقر المتناثرة، شأن ما فعله الفيلولوجيون من المستشرقين بالقرآن وبخاصة الألماني نولدكه. لكن نولدكه كان يكتب «تاريخاً» للقرآن عام 1859، عندما كانت الطريقة الفيلولوجية مسيطرة، وكانت التاريخانية علم العلوم! وهو أمر لا يتفق أبداً مع مبادئ الفهم عند الجابري الذي يعتبر النص بنية ذهنية ولفظية وشعورية. والنص القرآني ليس كذلك فقط، بل هو أيضا بنية شعرية وشعائرية في منتهى الدقة والانضباط بعد عصور متطاولة من القراءة الشعائرية والأخرى التأويلية، بحيث ما عاد يمكن البدء بفهمه من طريق تحطيم البنية، وليس استبدال بنية بأخرى مثلاً. وما كان عبد القاهر الجرجاني عابثاً عندما اكتشف أن إعجاز القرآن في نظْمه وليس في مفرداته.
عندما ذهبتُ إلى جامعة توبنغن في ألمانيا الاتحادية للدراسة عام 1973 كان رودي بارث، أستاذ الدراسات الإسلامية في المعهد الشرقي في الجامعة قد تقاعد. وكان بارث قد ترجم القرآن إلى الألمانية في جزء، وخصص جزءين آخرين لكتابة تفسير له بالألمانية أيضا. وأكمل المشروع بكتابة جزء في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) سمّاه: «محمد والقرآن» (ترجمتُه إلى العربية عام 2008). المهم إنني رأيتُهُ يوماً في مكتبه القديم في المعهد، وسألتُه مازحاً: لماذا لم تفسّر القرآن على أساس أسباب النزول وترتيب النزول؟ وابتسم قائلاً: ما حاولتُ ذلك، لأن أوتو برتزل الألماني، وريتشارد بل البريطاني، قد حاولا ذلك وفشلا، ودعْك من أسباب النزول، ومن ترتيبات المكي والمدني والناسخ والمنسوخ. فهذه التقسيمات «علوم» ظهرت في ما بعد، ونص القرآن أنصَع من دون أسباب نزول وترتيبات نزول !
كان الأستاذ الجابري قال : إن التحطيمات التي يراد إحداثها في النص القرآني، لا تزيدنا معرفة، وهي لن تحقق أي اكتشاف. لكنه فسّر القرآن أخيرا، وسمّاه «التفسير الواضح»، فيبقى أن يُثْبت المتلقّون لهذه الرسالة من القراء إنهم اكتشفوا بهذه الطريقة عوالم قرآنية لا نعرفُها قدَّمها إليهم الأستاذ الجابري، أو قدّمها ريتشارد بل داعية قراءة القرآن بحسب ترتيب النزول.
لقد رحل الأستاذ الجابري تاركاً حوالي الأربعين كتاباً. وهو المفكر العربي الأكثر شعبية في أوساط الشباب في العالم العربي. وقد ختم كفاح حياته بتفسير للقرآن، فأسأل الله سبحانه أن يتقبله منه قبولاً حسناً، وإنما الأعمال بالنيات.
المصدر
تنبهتُ إلى تغيّر الاستراتيجيات البحثية والكتابية لدى المفكّر الراحل محمد عابد الجابري، عندما بدأ يكتب سلسلة من المقالات الأسبوعية في صحيفة الاتحاد الظبيانية حول القرآن. وقد أثارت بعض تلك المقالات ردوداً واستفهامات وتساؤلات، دفعتْني لمناقشته في الفكرة ذاتها. فالحق أن هذا الرأي أو ذاك في ترتيب السُوَر القرآنية أو الآيات ضمن السور، أو الناسخ والمنسوخ، أو القراءات القرآنية، كل ذلك كانت له سوابق قديماً وحديثاً. ولذا فما كانت تلك الآراء (المجموعة في صعيد واحد للمرة الأولى) هي التي دفعتني للاعتقاد بأن استراتيجيات الكتابة لدى الجابري قد تغيرت. وإنما الذي دفعني إلى ذلك الاعتقاد أن الجابري وعلى مدى ربع قرن، ظل يؤكد أنه ليس مصلحاً دينياً، ولا يريد إنشاء علم كلام جديد، ولذا فهو – بخلاف الأستاذ محمد أركون – لن يخوض في القرآن قِدَماً أو بنية. بل إن المصحف الذي بين أيدينا هو الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان بين الدفتين، ولا شك في وحدة النص، ولا في مقاصده الكبرى، وإلا فإننا نكون ماضين في آثار المستشرقين، الذين تعاملوا ويتعاملون مع النص القرآني وكأنما هو ليس نصاً ولا وحدة أو بنية. المهم إنني صادفتُ المفكر الجابري مرة في أبو ظبي، ومرة في لبنان، وسألته عن الأمر، ولماذا قرر المضيّ في هذا السبيل الذي سبق أن قال بتجنّبه؟ وظن الجابري أولا إن رأيه في أسباب النزول أو في الناسخ والمنسوخ لم يعجبني، لكنني شرحتُ له أن ذلك ليس من قصدي، وإنما القصدُ اختبار هل تطور أو تغير رأْيُهُ في مسألة القرآن والنص القرآني بنيةً ووحدة. ونفى الجابري ذلك، وذكّرني بأن النص الذي أذكُرُه من إحدى مقالاته قد ورد فيه أيضا أن التفسير القرآني، يجوز بل يجبُ فيه الاجتهاد، وليس من الضروري التقيُّد بآراء المفسرين الكلاسيكيين. فقد بدأ العملُ التفسيري للقرآن أيام الصحابة (عبدالله بن عباس)، وازدهر أيام التابعين، ولو كان الأمر محرّماً لما حاوله الصحابة، ولما ظهرت مئات التفاسير عبر العصور، سالكة مختلف المناهج والمناحي.
بيد أن الجابري عندما نشر تفسيره في ثلاثة مجلدات، ما اقتصر على الاجتهاد، أياً يكن شذوذه أو تفرده، بل سارع في تفسيره الذي سماه «التفسير الواضح» إلى القيام بالعملية التأويلية على أساس «ترتيب النزول». وهذا الأمر بالذات أدعى إلى ألاّ يكون التفسير واضحاً على الإطلاق – ثم إنه يهدد النص القرآني بنيةً ووحدةً وإِنْ بطرائق غير مباشرة، فقد اعتمد الجابريُّ على كتب علوم القرآن («الإتقان» للسيوطي على الخصوص)، كما اعتمد على ما يردُ في عناوين السُور وأحاديث أسباب النزول من أن هذه الآية أو تلك مكية بينما السورة مدنية أو العكس. وحين لم يجد شيئاً من ذلك يمكن الاستنادُ إليه، اعتمد على أحاديث أسباب النزول – وأكثرها ضعيف بمقاييس المحدّثين – ليضع هذه الآية هنا وتلك هناك قبل البدء بتفسيرها أو تفسيرهما. بل انه أحيانا ارتأى أن بين الآيات في سورة كذا، والآيات في سورة كذا وحدة تقتضي وضعهُما في سياق واحد في الترتيب والتفسير. وقلت في البداية إن الأمر يمكن فهمُهُ باعتباره تفسيراً للقرآن بالقرآن، وهو أعلى درجات التفسير. ثم تنبهتُ إلى أن النص بذلك لا يعود نصاً، وهو يخالف أبسط قواعد البنيوية واللسانيات. وإذا كان قد فعل ذلك بقصد الوضوح أو الإيضاح، فإن هذه الطريقة تزيدُ من غموض النص (الذي لم يعد نصاً)، وتحوله إلى مجموعة ضخمة من المفردات والفقر المتناثرة، شأن ما فعله الفيلولوجيون من المستشرقين بالقرآن وبخاصة الألماني نولدكه. لكن نولدكه كان يكتب «تاريخاً» للقرآن عام 1859، عندما كانت الطريقة الفيلولوجية مسيطرة، وكانت التاريخانية علم العلوم! وهو أمر لا يتفق أبداً مع مبادئ الفهم عند الجابري الذي يعتبر النص بنية ذهنية ولفظية وشعورية. والنص القرآني ليس كذلك فقط، بل هو أيضا بنية شعرية وشعائرية في منتهى الدقة والانضباط بعد عصور متطاولة من القراءة الشعائرية والأخرى التأويلية، بحيث ما عاد يمكن البدء بفهمه من طريق تحطيم البنية، وليس استبدال بنية بأخرى مثلاً. وما كان عبد القاهر الجرجاني عابثاً عندما اكتشف أن إعجاز القرآن في نظْمه وليس في مفرداته.
عندما ذهبتُ إلى جامعة توبنغن في ألمانيا الاتحادية للدراسة عام 1973 كان رودي بارث، أستاذ الدراسات الإسلامية في المعهد الشرقي في الجامعة قد تقاعد. وكان بارث قد ترجم القرآن إلى الألمانية في جزء، وخصص جزءين آخرين لكتابة تفسير له بالألمانية أيضا. وأكمل المشروع بكتابة جزء في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) سمّاه: «محمد والقرآن» (ترجمتُه إلى العربية عام 2008). المهم إنني رأيتُهُ يوماً في مكتبه القديم في المعهد، وسألتُه مازحاً: لماذا لم تفسّر القرآن على أساس أسباب النزول وترتيب النزول؟ وابتسم قائلاً: ما حاولتُ ذلك، لأن أوتو برتزل الألماني، وريتشارد بل البريطاني، قد حاولا ذلك وفشلا، ودعْك من أسباب النزول، ومن ترتيبات المكي والمدني والناسخ والمنسوخ. فهذه التقسيمات «علوم» ظهرت في ما بعد، ونص القرآن أنصَع من دون أسباب نزول وترتيبات نزول !
كان الأستاذ الجابري قال : إن التحطيمات التي يراد إحداثها في النص القرآني، لا تزيدنا معرفة، وهي لن تحقق أي اكتشاف. لكنه فسّر القرآن أخيرا، وسمّاه «التفسير الواضح»، فيبقى أن يُثْبت المتلقّون لهذه الرسالة من القراء إنهم اكتشفوا بهذه الطريقة عوالم قرآنية لا نعرفُها قدَّمها إليهم الأستاذ الجابري، أو قدّمها ريتشارد بل داعية قراءة القرآن بحسب ترتيب النزول.
لقد رحل الأستاذ الجابري تاركاً حوالي الأربعين كتاباً. وهو المفكر العربي الأكثر شعبية في أوساط الشباب في العالم العربي. وقد ختم كفاح حياته بتفسير للقرآن، فأسأل الله سبحانه أن يتقبله منه قبولاً حسناً، وإنما الأعمال بالنيات.
المصدر