فيصل العمري
New member
ألقى فضيلة الشيخ د محمد بن عبدالعزيز العواجي الأستاذ المشارك بقسم التفسير بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
محاضرة بعنوان أسباب الإنتفاع بآيات الله بمسجد علياء السويدي الأحد الماضي
ذكر فيها ثلاثة عناصر وهي
العنصر الأول: أسباب الانتفاع بالقرآن.
العنصر الثاني: أسباب الانتفاع بالآيات الأخرى.
العنصر الثالث : صفات المحسنين المتأثرين بما يسمعون ويشاهدون من آيات الله.
وذكر في العنصرالأول أسبابا :
الأول: حضور القلب عند سماع وقراءة القرآن:
قال ابن القيم عليه رحمة الله: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن: فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله وذلك أن تمام التأثير لمّا كان موقوفًا على:
1- مؤثر مقتضٍ.
2- ومحلٍ قابل.
3- وشرط لحصول الأثر.
4- وانتفاء المانع الذي يمنع منه.
الأمر الثاني: تفهم معاني الآيات وإنزالها على نفسه:
"وينبغي للتالي أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك، فإذا تلا قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ[سورة الأنعام 1]، فليعلم عظمته ويتلمح قدرته في كل ما يريد، وإذا تلا: أفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ[سورة الواقعة 58]، فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء كيف تنقسم إلى لحم وعظم،..وإذا تلا أحوال المعذبين فليستشعر الخوف من السطوة إن غفل عن امتثال الأمر.. وينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه المقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأن القصص لم يرد بها السمر بل العبر، فحينئذ يتلو تلاوة عبد كاتَبَهُ سيده بمقصود، وليتأمل الكتاب وليعمل بمقتضاه"( ).
وإن الأسباب التي تجعل العبد ينتفع بالقرآن المرتبطة بهذين الأمرين كثيرةٌ مبثوثةٌ في الكتاب والسنة وكلام العلماء الصالحين، ومنها على سبيل المثال مع الإجمال والاختصار:
1) أن يعلم أن القرآن كلام الله عزّ وجلّ .
2) الإيمان بالله تعالى .
3) أن يعلم أن الله أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها.
قال تعالى ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))[فصلت:42]، ولا يليق بالحكيم إلاّ الكلام لحكمةٍ تقتضي ذلك( ).
4) حياة القلب والأخذ بأسبابه:
كما قال تعالى:((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ))[ق:37]" فإن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو كذلك( ).
5) أن يحرص على الانتفاع بالقرآن في شتى وجوه الانتفاع:
"فقد أنزل الله القرآن:
1- للإيمان به.
2- وتعلمه وتلاوته.
3- وتدبره.
4- والعمل به.
5- وتحكيمه.
6- والتحاكم إليه.
7- والاستشفاء به من أمراض القلوب وأدرانها.
إلى غير ذلك من الحكم التي أرادها الله من إنزاله. ويحصل الهجر للقرآن من الشخص بقدر ما يحصل منه من الإعراض عن الانتفاع به بأي وجهٍ من الوجوه"( ).
6) تَفَهُم القرآن وتدبره:
ومما يعين على تدبر القرآن وفهم معانيه قراءة بعض التفاسير المختصرة المفيدة: كتفسير ابن كثير الدمشقي، ومختصراته كعمدة التفسير والمصباح المنير، وتفاسير الشيخ ابن سعدي. أو ما يُعنى بتفسيره الإجمالي: كالمصحف الميسر -طباعة مجمع الملك فهد، وزبدة التفسير مختصر فتح القدير للأشقر، وملخصه نفحة العبير من زبدة التفسير وغيرها، مع العناية باختيار الأسلم في مسائل الاعتقاد وتتبع معاني كلام الله.
ومجاهدة النفس والأخذ بأسباب التدبر: كمعرفة معاني الكلمات والقراءة بعيداً عن الشواغل، ونحو ذلك، حتى يتسنى له الانتفاع بما يقرأ( ).
7) أن يجتهد ما استطاع في الخشوع والخضوع لله عند قراءته:
قال النووي رحمه الله: "فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب. ق
8) الاستعاذة من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن. ليكون الشيطان بعيدا عن قلب المرء، وهو يتلو كتاب الله حتى يحصل له بذلك تدبر القرآن وتفهم معانيه، والانتفاع به؛ فإذا قرأته وقلبك حاضر حصل لك من معرفة المعاني والانتفاع بالقرآن ما لم يحصل لك إذا قرأته وأنت غافل، وجرب تجد.( ).
9) عدم تقديم شيء بين يدي كلامه سبحانه.ومن ذلك حسن الأدب بخفض الصوت عند سماع كلامه.
10) الاستماع للقران والإنصات له:
في صلاة وغير صلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه
11) إن حسن الأداء هو طريق الانتفاع بالقرآن.
12) مدارسة القرآن وعلومه:
بأن يحضر حلقات العلم ليستفيد ويتذاكر مع إخوانه الذين يرجو أن يكون عندهم علم حتى يستفيد من علمهم، وحتى يضم ما لديهم من العلوم النافعة إلى ما لديه من العلم، فيحصل له بذلك خير كثير ويحصل له بذلك الفقه في الدين، والبعد عن صفات المعرضين والغافلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)( )( ).
والخلاصة: قال ابن القيم رحمه الله :فإذا حصل المؤثر وهو: القرآن، والمحل القابل وهو: القلب الحي، ووجد الشرط وهو: الإصغاء، وانتفى المانع وهو: اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر؛ حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر"( ).
العنصرالثاني
أسباب الانتفاع بالآيات الأخرى
إنّ أسباب الانتفاع والاتعاظ قد جمعها الله في أمرين جمعا أسباب الانتفاع بالقرآن:
وهما
حضور القلب عند سماع وقراءة القرآن مع تفهم معاني الآيات وإنزالها على نفسه. ومع ذلك فقد أقام الحجة على خلقه بآياته الكونية- أفقية ونفسية أيضاً، ولذا نجد في الآيات ذكراً للأسباب التي تجعل العبد ينتفع بالآيات الأفقية والنفسية.
وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما.
وإن من أعظم أسباب الضلال عدم تدبر القرآن وترك التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله. قال تعالى : ((وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ 0 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 0 أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ 0 أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 0 مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يعْمَهُونَ ))[الأعراف: 182 – 186]
ولذا فإن ما تضمنته آيات الكتاب عموماً في هذا الباب يحتاج للنظر من وجهين:
أولاً: لا تنفع الموعظة إلا لمن آمن بالله وخافه ورجاه:
"آمن بالله وخافه ورجاه كما قال الله تعالى: (( إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ )) [سورة هود 103] وأصرح من ذلك قوله تعالى: (( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ )) [سورة ق45].
ومن أخص ذلك الإيمان بالوعد والوعيد وتذكره فإنه شرط كذلك في الانتفاع بالعظات والآيات والعبر، يستحيل حصوله بدونه.
1- وتستبصر العبرة بثلاثة أشياء : ( بحياة العقل، ومعرفة الأيام، والسلامة من الأغراض)
أ- فحياة العقل: هي صحة الإدراك وقوة الفهم وجودته وتحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به وهو نور يخص الله به من يشاء من خلقه. وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه ووجوده وعدمه يقع تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم، ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين.
ومن تجارب السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة أن من أدمن: [يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت]( )، أورثه ذلك حياة القلب والعقل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جداً وقال لي يوماً: لهذين الاسمين -وهما الحي القيوم- تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم وسمعته يقول: من واظب عليها أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر [يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث]( ) حصلت له حياة القلب ولم يمت قلبه( ).
ومن علم عبوديات الأسماء الحسنى والدعاء بها وسر ارتباطها بالخلق والأمر وبمطالب العبد وحاجاته؛ عرف ذلك وتحققه، فإن كل مطلوب يُسْأل بالمناسب له. فتأمل أدعية القرآن والأحاديث النبوية تجدها كذلك.
ب- وأما معرفة الأيام: فيحتمل أن يريد به أيامه التي تخصه وما يلحقه فيها من الزيادة والنقصان ويعلم قصرها وأنها أنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَسٍ منها يقابله آلاف آلاف من السنين في دار البقاء، فليس لهذه الأيام الخالية قط نسبة إلى أيام البقاء والعبد منساق زمنه وفي مدة العمر إلى النعيم أو إلى الجحيم وهي كمدة المنام لمن له عقل حي وقلب واع، فما أولاه أن لا يصرف منها نَفَساً إلا في أحب الأمور إلى الله فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه في ما لا ينفعه؟! فكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟! فالله المستعان ولا قوة إلا به.
ويحتمل أن المراد بالأيام أيام الله التي أمر رسله بتذكير أممهم بها كما قال تعالى: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )) [سورة إبراهيم 5] وقد فُسِّرَت أيام الله بنعمه، وفسرت بنقمه من أهل الكفر والمعاصي، وأيامه تعم النوعين، وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه ونعمه التي ساقها إلى أوليائه، وسميت هذه النعم والنقم الكبار المتحدث بها أياماً لأنها ظرف لها، تقول العرب فلان عالم بأيام العرب وأيام الناس أي: بالوقائع التي كانت في تلك الأيام.
فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العِبَر وبحسب معرفته بها تكون عبرته وعظته .
ج- أما السلامة من الأغراض: وهي: متابعة الهوى. والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء. فإن اتِّباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم، فلا تحصل بصيرة العبرة معه البتة، والعبد إذا اتَّبع هواه فسد رأيه ونظره، فأرته نفسه الحَسَن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل؛ فأنى له الانتفاع بالتذكر والتفكر أو بالعظة.
2- وإنما تجتنى ثمرة الفكرة بثلاثة أشياء: أحدها: قصر الأمل، والثاني: تدبر القرآن، والثالث: تجنب مفسدات القلب"( ).
3- "وأما أفعاله ومخلوقاته- سبحانه- ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده، والغائب من جنس الشاهد، وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات، كما قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ،فلو لم يكن الغائب من أفعاله تعالى نظيرا للشاهد لم يجز رده،...!! فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد، حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها، يا سبحان الله أيما أبلغ في عقل الإنسان!! إبداع الإنسان بعد عدمه؟ أم إبداع طينته التي خُلق منها بعد عدمها؟؟ فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه، أفليس ذلك أعظم من إبداع تراب أو ماء بعد عدمه؟ والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق آدم آخر المخلوقات، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة( )، ومن خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلق نفسه، ولا ما خلق قبله، كما قال تعالى: (( ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا )) [الكهف:51] وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده"( ).
4- "وكل ما خلقه مما فيه شر جزئي إضافي ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك، مثل إرسال موسى إلى فرعون فانه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه وذلك شر بالإضافة إليهم، لكن حصل به من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة والاعتبار بقصة فرعون ما هو خير عام فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به وقال تعالى بعد ذكر قصته: (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى )) [سورة النازعات 26].
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم شقي برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب وهم الذين كذبوه و أهلكهم الله تعالى بسببه ولكن سَعُد بها أضعاف هؤلاء"( ).
ثانياً: والأسباب التي تجعل العبد ينتفع بالآيات الأفقية والنفسية كثيرةٌ مبثوثةٌ في الكتاب والسنة وكلام العلماء الصالحين، ومنها على سبيل المثال مع الإجمال والاختصار:
1) تذكر ما أنعم الله عليه به من النعمة:
فيجب أن يتذكر المؤمن بأس الله، وشدة انتقامه ممن لم يشكر نعمته.
2) تذكر وقائع الله في الأمم السالفة:
3) الصبر والشكر:
قال الله تعالى: (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )) [لقمان:31] فـ(الصبار) الكثير الصبر، فلا بد من الصبر قبل الاعتبار ليكون نافعاً. و(الشكور) الكثير الشكر.
وإنما خص الشكور والصبور بالاعتبار بالآيات وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات، فكأنها ليست لغيرهم
4) اليقين:
فإنه يورث الانتفاع بالآيات والبراهين( ). ونحن نشاهد الإنسان الذي عنده يقين راسخ إذا مر بآية من الآيات الكونية، أو مر بآية من الآيات الأرضية، إذا شاهد مكانا للمعذبين؛ فإنه يرق قلبه، وتتمالكه مشاعر كثيرة لا يستطيع أن يعبر عنها، ولربما دمعت عينه وبكى، فالآيات إنما تؤثر وتحرك نفوس أصحاب اليقين، أما أهل الغفلة، فإنهم لا ينتفعون بها؛
5) الإيمان:
"فالإيمان أكبر ما يكون تأثيرا في الانتفاع بآيات الله عز وجل؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم"( ). ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين، فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان، على العمل بمقتضياته ولوازمه، التي منها التفكر في آيات الله، والاستنتاج منها ما يراد منها، وما تدل عليه، عقلا وفطرة، وشرعاً"( ).
6) النظر إلى ما حوله، ولاسيما ما يحتاجه:
قال تعالى: (( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ))[الأنعام:99] "فهذه من الأشجار الكثيرة النفع، العظيمة الوقع، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار والنوابت.. والكل ينتفع به العباد، ويتفكهون، ويقتاتون، ويعتبرون، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به، فقال: چﯘچ نظر فكر واعتبار چﯙ ﯚچ أي: الأشجار كلها، چﯛ ﯜ ﯝچ أي: انظروا إليه، وقت إطلاعه، ووقت نضجه وإيناعه، فإن في ذلك عبرا وآيات، يستدل بها على رحمة الله، وسعة إحسانه وجوده، وكمال اقتداره وعنايته بعباده"( ).
7) العقل:
قال الله تعالى: (( لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ))[البقرة:164 والرعد:4 والنحل:12 والروم:24]
"والمراد بقوم يوقنون، وبقوم يعقلون واحد، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون، أي: يعلمون دلالة الآيات. والمعنى: أن المؤمنين والذين يُوقنون: يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من خالق وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً.
فالذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على الآيات لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض، وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل"( ).
ولكن ما هي صفات هؤلاء المحسنين المتأثرين بما يسمعون ويشاهدون من آيات الله؟
العنصر الثالث
صفات المحسنين المتأثرين بما يسمعون ويشاهدون من آيات الله :
أولاً: إقامة الصلاة:
فهم يؤدون الصلاة على وجهها، في وقتها، أداء كاملاً، تتحقق به حكمتها وأثرها في الظاهر والباطن، فيتم الأنس فيها بالله، ويتذوق المصلي حلاوة طاعته حتى يتعلق القلب بالصلاة، وتُقَوِّم سلوك الفرد في الحياة.
ثانياً: إيتاء الزكاة:
"وهذه الصفة تحقق استعلاء النفس على شحها الفطري وإقامة نظام لمجتمع مسلم يرتكز عل التكافل والتكامل والتعاون، يجد المحروم فيه الثقة والطمأنينة، ومودة القلب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان"( ).
ثالثاً: اليقين بالآخرة:
إن المتأثرين بآيات الله يحصل لهم يقين بما عند الله من الخير والرحمة وحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، ولذلك ينتج عن هذا اليقين: يقظة القلب، وتطلعه إلى ما عند الله، وترفعه عن متاع الحياة الدنيا، ومراقبة الله القليل والكثير، وفي السر والعلن.
رابعاً: الاستسلام لله سبحانه وتعالى:
فإن من أسلم أمره كله لله، وتوجه إليه وحده وأحسن العمل والظن والقول، فهذا هو حقيقة الإيمان الكامل الذي وصف في بداية السورة بالإحسان، ويكرر الوصف مرة أخرى، مدحا لهم فهم يستمسكون بالعروة الوثقى فلا يلتفتون لنداء ضُلال آبائهم وأجدادهم ولا أبنائهم، ولا لنداء الشيطان الذي لو اتبعوه لجرهم ودفعهم إلى عذاب عظيم.
خامساً: الصبر والشكر:
فهؤلاء الصنف قوم تأثروا بآيات الله فعرفوا الله وآمنوا بالله وتلقوا عن الله وعن رسول الله واستسلموا لمنهج الله وصبروا عليه وشكروا الله عليه، فنتج عن ذلك هداية جعلت لهذا العلم وهذا التأثر أثراً على القلب والجوارح، وذلك بالطمأنينة وبالعمل.
وهذه المحاضرة جزء من بحث موضوعي لفضيلة الشيخ بعنوان - أقسام الناس في التأثر بآيات الله المتلوة والمشاهدة ، دراسة موضوعية في آيات سورة لقمان - موجود بالملف المرفق .....................عسى الله أن يبارك شيخنا ويطيل عمره
محاضرة بعنوان أسباب الإنتفاع بآيات الله بمسجد علياء السويدي الأحد الماضي
ذكر فيها ثلاثة عناصر وهي
العنصر الأول: أسباب الانتفاع بالقرآن.
العنصر الثاني: أسباب الانتفاع بالآيات الأخرى.
العنصر الثالث : صفات المحسنين المتأثرين بما يسمعون ويشاهدون من آيات الله.
وذكر في العنصرالأول أسبابا :
الأول: حضور القلب عند سماع وقراءة القرآن:
قال ابن القيم عليه رحمة الله: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن: فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله وذلك أن تمام التأثير لمّا كان موقوفًا على:
1- مؤثر مقتضٍ.
2- ومحلٍ قابل.
3- وشرط لحصول الأثر.
4- وانتفاء المانع الذي يمنع منه.
الأمر الثاني: تفهم معاني الآيات وإنزالها على نفسه:
"وينبغي للتالي أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك، فإذا تلا قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ[سورة الأنعام 1]، فليعلم عظمته ويتلمح قدرته في كل ما يريد، وإذا تلا: أفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ[سورة الواقعة 58]، فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء كيف تنقسم إلى لحم وعظم،..وإذا تلا أحوال المعذبين فليستشعر الخوف من السطوة إن غفل عن امتثال الأمر.. وينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه المقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأن القصص لم يرد بها السمر بل العبر، فحينئذ يتلو تلاوة عبد كاتَبَهُ سيده بمقصود، وليتأمل الكتاب وليعمل بمقتضاه"( ).
وإن الأسباب التي تجعل العبد ينتفع بالقرآن المرتبطة بهذين الأمرين كثيرةٌ مبثوثةٌ في الكتاب والسنة وكلام العلماء الصالحين، ومنها على سبيل المثال مع الإجمال والاختصار:
1) أن يعلم أن القرآن كلام الله عزّ وجلّ .
2) الإيمان بالله تعالى .
3) أن يعلم أن الله أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها.
قال تعالى ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))[فصلت:42]، ولا يليق بالحكيم إلاّ الكلام لحكمةٍ تقتضي ذلك( ).
4) حياة القلب والأخذ بأسبابه:
كما قال تعالى:((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ))[ق:37]" فإن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو كذلك( ).
5) أن يحرص على الانتفاع بالقرآن في شتى وجوه الانتفاع:
"فقد أنزل الله القرآن:
1- للإيمان به.
2- وتعلمه وتلاوته.
3- وتدبره.
4- والعمل به.
5- وتحكيمه.
6- والتحاكم إليه.
7- والاستشفاء به من أمراض القلوب وأدرانها.
إلى غير ذلك من الحكم التي أرادها الله من إنزاله. ويحصل الهجر للقرآن من الشخص بقدر ما يحصل منه من الإعراض عن الانتفاع به بأي وجهٍ من الوجوه"( ).
6) تَفَهُم القرآن وتدبره:
ومما يعين على تدبر القرآن وفهم معانيه قراءة بعض التفاسير المختصرة المفيدة: كتفسير ابن كثير الدمشقي، ومختصراته كعمدة التفسير والمصباح المنير، وتفاسير الشيخ ابن سعدي. أو ما يُعنى بتفسيره الإجمالي: كالمصحف الميسر -طباعة مجمع الملك فهد، وزبدة التفسير مختصر فتح القدير للأشقر، وملخصه نفحة العبير من زبدة التفسير وغيرها، مع العناية باختيار الأسلم في مسائل الاعتقاد وتتبع معاني كلام الله.
ومجاهدة النفس والأخذ بأسباب التدبر: كمعرفة معاني الكلمات والقراءة بعيداً عن الشواغل، ونحو ذلك، حتى يتسنى له الانتفاع بما يقرأ( ).
7) أن يجتهد ما استطاع في الخشوع والخضوع لله عند قراءته:
قال النووي رحمه الله: "فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب. ق
8) الاستعاذة من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن. ليكون الشيطان بعيدا عن قلب المرء، وهو يتلو كتاب الله حتى يحصل له بذلك تدبر القرآن وتفهم معانيه، والانتفاع به؛ فإذا قرأته وقلبك حاضر حصل لك من معرفة المعاني والانتفاع بالقرآن ما لم يحصل لك إذا قرأته وأنت غافل، وجرب تجد.( ).
9) عدم تقديم شيء بين يدي كلامه سبحانه.ومن ذلك حسن الأدب بخفض الصوت عند سماع كلامه.
10) الاستماع للقران والإنصات له:
في صلاة وغير صلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه
11) إن حسن الأداء هو طريق الانتفاع بالقرآن.
12) مدارسة القرآن وعلومه:
بأن يحضر حلقات العلم ليستفيد ويتذاكر مع إخوانه الذين يرجو أن يكون عندهم علم حتى يستفيد من علمهم، وحتى يضم ما لديهم من العلوم النافعة إلى ما لديه من العلم، فيحصل له بذلك خير كثير ويحصل له بذلك الفقه في الدين، والبعد عن صفات المعرضين والغافلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)( )( ).
والخلاصة: قال ابن القيم رحمه الله :فإذا حصل المؤثر وهو: القرآن، والمحل القابل وهو: القلب الحي، ووجد الشرط وهو: الإصغاء، وانتفى المانع وهو: اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر؛ حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر"( ).
العنصرالثاني
أسباب الانتفاع بالآيات الأخرى
إنّ أسباب الانتفاع والاتعاظ قد جمعها الله في أمرين جمعا أسباب الانتفاع بالقرآن:
وهما
حضور القلب عند سماع وقراءة القرآن مع تفهم معاني الآيات وإنزالها على نفسه. ومع ذلك فقد أقام الحجة على خلقه بآياته الكونية- أفقية ونفسية أيضاً، ولذا نجد في الآيات ذكراً للأسباب التي تجعل العبد ينتفع بالآيات الأفقية والنفسية.
وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما.
وإن من أعظم أسباب الضلال عدم تدبر القرآن وترك التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله. قال تعالى : ((وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ 0 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 0 أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ 0 أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 0 مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يعْمَهُونَ ))[الأعراف: 182 – 186]
ولذا فإن ما تضمنته آيات الكتاب عموماً في هذا الباب يحتاج للنظر من وجهين:
أولاً: لا تنفع الموعظة إلا لمن آمن بالله وخافه ورجاه:
"آمن بالله وخافه ورجاه كما قال الله تعالى: (( إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ )) [سورة هود 103] وأصرح من ذلك قوله تعالى: (( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ )) [سورة ق45].
ومن أخص ذلك الإيمان بالوعد والوعيد وتذكره فإنه شرط كذلك في الانتفاع بالعظات والآيات والعبر، يستحيل حصوله بدونه.
1- وتستبصر العبرة بثلاثة أشياء : ( بحياة العقل، ومعرفة الأيام، والسلامة من الأغراض)
أ- فحياة العقل: هي صحة الإدراك وقوة الفهم وجودته وتحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به وهو نور يخص الله به من يشاء من خلقه. وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه ووجوده وعدمه يقع تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم، ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين.
ومن تجارب السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة أن من أدمن: [يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت]( )، أورثه ذلك حياة القلب والعقل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جداً وقال لي يوماً: لهذين الاسمين -وهما الحي القيوم- تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم وسمعته يقول: من واظب عليها أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر [يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث]( ) حصلت له حياة القلب ولم يمت قلبه( ).
ومن علم عبوديات الأسماء الحسنى والدعاء بها وسر ارتباطها بالخلق والأمر وبمطالب العبد وحاجاته؛ عرف ذلك وتحققه، فإن كل مطلوب يُسْأل بالمناسب له. فتأمل أدعية القرآن والأحاديث النبوية تجدها كذلك.
ب- وأما معرفة الأيام: فيحتمل أن يريد به أيامه التي تخصه وما يلحقه فيها من الزيادة والنقصان ويعلم قصرها وأنها أنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَسٍ منها يقابله آلاف آلاف من السنين في دار البقاء، فليس لهذه الأيام الخالية قط نسبة إلى أيام البقاء والعبد منساق زمنه وفي مدة العمر إلى النعيم أو إلى الجحيم وهي كمدة المنام لمن له عقل حي وقلب واع، فما أولاه أن لا يصرف منها نَفَساً إلا في أحب الأمور إلى الله فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه في ما لا ينفعه؟! فكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟! فالله المستعان ولا قوة إلا به.
ويحتمل أن المراد بالأيام أيام الله التي أمر رسله بتذكير أممهم بها كما قال تعالى: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )) [سورة إبراهيم 5] وقد فُسِّرَت أيام الله بنعمه، وفسرت بنقمه من أهل الكفر والمعاصي، وأيامه تعم النوعين، وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه ونعمه التي ساقها إلى أوليائه، وسميت هذه النعم والنقم الكبار المتحدث بها أياماً لأنها ظرف لها، تقول العرب فلان عالم بأيام العرب وأيام الناس أي: بالوقائع التي كانت في تلك الأيام.
فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العِبَر وبحسب معرفته بها تكون عبرته وعظته .
ج- أما السلامة من الأغراض: وهي: متابعة الهوى. والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء. فإن اتِّباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم، فلا تحصل بصيرة العبرة معه البتة، والعبد إذا اتَّبع هواه فسد رأيه ونظره، فأرته نفسه الحَسَن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل؛ فأنى له الانتفاع بالتذكر والتفكر أو بالعظة.
2- وإنما تجتنى ثمرة الفكرة بثلاثة أشياء: أحدها: قصر الأمل، والثاني: تدبر القرآن، والثالث: تجنب مفسدات القلب"( ).
3- "وأما أفعاله ومخلوقاته- سبحانه- ففي الذي أشهدناه عبرة لما لم نشهده، والغائب من جنس الشاهد، وذلك لأن المماثلة ثابتة في المفعولات، كما قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ،فلو لم يكن الغائب من أفعاله تعالى نظيرا للشاهد لم يجز رده،...!! فكيف إذا كان الغائب نظير الشاهد، حيث أشهدنا إبداع الجواهر وصفاتها بعد عدمها، يا سبحان الله أيما أبلغ في عقل الإنسان!! إبداع الإنسان بعد عدمه؟ أم إبداع طينته التي خُلق منها بعد عدمها؟؟ فإذا كان قد شهد هذا الجوهر العظيم الموصوف بصفات الكمال بعد عدمه، أفليس ذلك أعظم من إبداع تراب أو ماء بعد عدمه؟ والله سبحانه وتعالى لما خلق السموات والأرض خلق آدم آخر المخلوقات، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة( )، ومن خلق آخر المخلوقات لم يمكنه أن يشهد خلق نفسه، ولا ما خلق قبله، كما قال تعالى: (( ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا )) [الكهف:51] وله فيما شهده في المخلوقات عبرة فيما لم يشهده"( ).
4- "وكل ما خلقه مما فيه شر جزئي إضافي ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك، مثل إرسال موسى إلى فرعون فانه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه وذلك شر بالإضافة إليهم، لكن حصل به من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة والاعتبار بقصة فرعون ما هو خير عام فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به وقال تعالى بعد ذكر قصته: (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى )) [سورة النازعات 26].
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم شقي برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب وهم الذين كذبوه و أهلكهم الله تعالى بسببه ولكن سَعُد بها أضعاف هؤلاء"( ).
ثانياً: والأسباب التي تجعل العبد ينتفع بالآيات الأفقية والنفسية كثيرةٌ مبثوثةٌ في الكتاب والسنة وكلام العلماء الصالحين، ومنها على سبيل المثال مع الإجمال والاختصار:
1) تذكر ما أنعم الله عليه به من النعمة:
فيجب أن يتذكر المؤمن بأس الله، وشدة انتقامه ممن لم يشكر نعمته.
2) تذكر وقائع الله في الأمم السالفة:
3) الصبر والشكر:
قال الله تعالى: (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )) [لقمان:31] فـ(الصبار) الكثير الصبر، فلا بد من الصبر قبل الاعتبار ليكون نافعاً. و(الشكور) الكثير الشكر.
وإنما خص الشكور والصبور بالاعتبار بالآيات وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات، فكأنها ليست لغيرهم
4) اليقين:
فإنه يورث الانتفاع بالآيات والبراهين( ). ونحن نشاهد الإنسان الذي عنده يقين راسخ إذا مر بآية من الآيات الكونية، أو مر بآية من الآيات الأرضية، إذا شاهد مكانا للمعذبين؛ فإنه يرق قلبه، وتتمالكه مشاعر كثيرة لا يستطيع أن يعبر عنها، ولربما دمعت عينه وبكى، فالآيات إنما تؤثر وتحرك نفوس أصحاب اليقين، أما أهل الغفلة، فإنهم لا ينتفعون بها؛
5) الإيمان:
"فالإيمان أكبر ما يكون تأثيرا في الانتفاع بآيات الله عز وجل؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم"( ). ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين، فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان، على العمل بمقتضياته ولوازمه، التي منها التفكر في آيات الله، والاستنتاج منها ما يراد منها، وما تدل عليه، عقلا وفطرة، وشرعاً"( ).
6) النظر إلى ما حوله، ولاسيما ما يحتاجه:
قال تعالى: (( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ))[الأنعام:99] "فهذه من الأشجار الكثيرة النفع، العظيمة الوقع، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار والنوابت.. والكل ينتفع به العباد، ويتفكهون، ويقتاتون، ويعتبرون، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به، فقال: چﯘچ نظر فكر واعتبار چﯙ ﯚچ أي: الأشجار كلها، چﯛ ﯜ ﯝچ أي: انظروا إليه، وقت إطلاعه، ووقت نضجه وإيناعه، فإن في ذلك عبرا وآيات، يستدل بها على رحمة الله، وسعة إحسانه وجوده، وكمال اقتداره وعنايته بعباده"( ).
7) العقل:
قال الله تعالى: (( لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ))[البقرة:164 والرعد:4 والنحل:12 والروم:24]
"والمراد بقوم يوقنون، وبقوم يعقلون واحد، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون، أي: يعلمون دلالة الآيات. والمعنى: أن المؤمنين والذين يُوقنون: يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من خالق وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً.
فالذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على الآيات لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض، وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوازم مترتبة بإدراك العقل"( ).
ولكن ما هي صفات هؤلاء المحسنين المتأثرين بما يسمعون ويشاهدون من آيات الله؟
العنصر الثالث
صفات المحسنين المتأثرين بما يسمعون ويشاهدون من آيات الله :
أولاً: إقامة الصلاة:
فهم يؤدون الصلاة على وجهها، في وقتها، أداء كاملاً، تتحقق به حكمتها وأثرها في الظاهر والباطن، فيتم الأنس فيها بالله، ويتذوق المصلي حلاوة طاعته حتى يتعلق القلب بالصلاة، وتُقَوِّم سلوك الفرد في الحياة.
ثانياً: إيتاء الزكاة:
"وهذه الصفة تحقق استعلاء النفس على شحها الفطري وإقامة نظام لمجتمع مسلم يرتكز عل التكافل والتكامل والتعاون، يجد المحروم فيه الثقة والطمأنينة، ومودة القلب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان"( ).
ثالثاً: اليقين بالآخرة:
إن المتأثرين بآيات الله يحصل لهم يقين بما عند الله من الخير والرحمة وحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، ولذلك ينتج عن هذا اليقين: يقظة القلب، وتطلعه إلى ما عند الله، وترفعه عن متاع الحياة الدنيا، ومراقبة الله القليل والكثير، وفي السر والعلن.
رابعاً: الاستسلام لله سبحانه وتعالى:
فإن من أسلم أمره كله لله، وتوجه إليه وحده وأحسن العمل والظن والقول، فهذا هو حقيقة الإيمان الكامل الذي وصف في بداية السورة بالإحسان، ويكرر الوصف مرة أخرى، مدحا لهم فهم يستمسكون بالعروة الوثقى فلا يلتفتون لنداء ضُلال آبائهم وأجدادهم ولا أبنائهم، ولا لنداء الشيطان الذي لو اتبعوه لجرهم ودفعهم إلى عذاب عظيم.
خامساً: الصبر والشكر:
فهؤلاء الصنف قوم تأثروا بآيات الله فعرفوا الله وآمنوا بالله وتلقوا عن الله وعن رسول الله واستسلموا لمنهج الله وصبروا عليه وشكروا الله عليه، فنتج عن ذلك هداية جعلت لهذا العلم وهذا التأثر أثراً على القلب والجوارح، وذلك بالطمأنينة وبالعمل.
وهذه المحاضرة جزء من بحث موضوعي لفضيلة الشيخ بعنوان - أقسام الناس في التأثر بآيات الله المتلوة والمشاهدة ، دراسة موضوعية في آيات سورة لقمان - موجود بالملف المرفق .....................عسى الله أن يبارك شيخنا ويطيل عمره