الفائدة الأولى
قال تعالى:   ﴿۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ ١٠﴾[سبأ:10]
قال الإمام أبو بكر ابن العَرَبي المالكي (ت 543هـ):
فيها مسألتان: 
المسألة الأولى قوله : { فضلا } : فيه أربعة عشر قولا: 
الأول : النبوة . 
الثاني : الزبور . 
الثالث : حسن الصوت . 
الرابع : تسخير الجبال والناس . 
الخامس : التوبة . 
السادس : الزيادة في العمر . 
السابع : الطير . 
الثامن : الوفاء بما وعد . 
التاسع : حسن الخلق . 
العاشر : الحكم بالعدل . 
الحادي عشر : تيسير العبادة . 
الثاني عشر : العلم ; قال الله تعالى : ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ عِلۡمٗاۖ﴾[النمل:15]
الثالث عشر : القوة ; قال الله تعالى : ﴿وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ١٧﴾[سبأ:17]
الرابع عشر : قوله : ﴿ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ ﴾[النمل:16]
والمراد هاهنا من جملة الأقوال: حُسن الصوت; فإن سائرها قد بيّناه في موضعه في كتاب الأنبياء من (الـمُشْكِلَين). 
وكان داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن ، و[له]  قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري : (لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود )،  وهي :
المسألة الثانية: وفيه دليل الإعجاب بحسن الصوت ، وقد روى عبد الله بن مغفل قال : { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به ، وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة وهو يُرَجِّع ، ويقول: آه } ، واستحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالألحان والترجيع ، وكرهه مالك . وهو جائز؛ لقول أبي موسى للنبي عليه السلام: (لو عَلِمْتُ أنك تسمع لحَبَّرتُه لك تحبيرا) ; يريد لجعلته لك أنواعا حِسانا ، وهو التلحين ، مأخوذ من الثوب المُحَبَّر،  وهو المخطط بالألوان . 
وقد سمعتُ تاج القراء ابن لُفْتة بجامع عمرو يقرأ : ﴿وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ﴾[الإسراء:79] ،فكأني ما سمعتُ الآية قط! 
وسمعتُ ابن الرّفّاء وكان من القراء العِظام يقرأ: ﴿كٓهيعٓصٓ ١﴾[مريم:1]  وأنا حاضر بالقَرافة، فكأني ما سمعتُها قط! 
وسمعتُ بمدينة السلام شيخَ القراء البصريين يقرأ في دار بها المَلِك : ﴿وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ ١﴾[البروج:1]، فكأني ما سمعتُها قط! حتى بلغ إلى قوله تعالى : ﴿فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ ١٦﴾[البروج:16] فكأن الإيوان قد سقط علينا!! 
والقلوب تخشع بالصوت الحسن كما تخضع للوجه الحسن ، وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب وذهاب القسوة منها . 
وكان ابن الكازَرُوني يأوي إلى المسجد الأقصى ، ثم تمتَّعنا به ثلاث سنوات ، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيُسمَع من الطُّور ، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا طول قراءته إلا الاستماع إليه!! 
وكان صاحب مصر الملقب بالأفضل قد دخلها في المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة وحَوَّلها عن أيدي العباسيّة ، وهو حَنِقٌ عليها وعلى أهلها بحصاره لهم وقتالهم له ، فلما صار فيها  وتدانى بالمسجد الأقصى منها ، وصلى ركعتين = تصدَّى له ابن الكازروني ، وقرأ : ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٦﴾[آل عمران:26]، فما ملك نفسه حين سمعه أن قال للناس على عظم ذنبهم عنده ، وكثرة حقده عليهم: ﴿ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٩٢﴾[يوسف:92]. 
والأصواتُ الحسنة نعمة من الله تعالى ، وزيادة في الخلق ومِنَّة، وأحقُّ ما لبست هذه الحلة النفيسة والموهبة الكريمة كتاب الله ; فنِعَم الله إذا صرفت في الطاعة فقد قُضِيَ بها حَقُّ النعمة.
[أحكام القرآن، لابن العربي (4 / 5-8)، طبعة دار الحديث بالقاهرة]