مجالس في دراسة بعض موضوعات علوم القرآن(المجلس الخامس : وقفات حول النسخ في القرآن )

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
بسم الله

ومن موضوعات علوم القرآن المهمة : موضوع النسخ في القرآن

وهذه بعض الوقفات مع هذا الموضوع :

الوقفة الأولى : في أهمية هذا الموضوع :

النسخ في القرآن الكريم من الموضوعات المهمة التي لابُدّ من الإلمام بها لكل من تصدّى لدراسة القرآن ، وأراد معرفة أحكامه ومعانيه .
ولذلك فقد كتب فيه المؤلفون في علوم القرآن ، وأفرده كثيرون بالتصنيف - كما سيأتي - ؛ ( لأن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم فـي فهم الإسلام وفـي الاهتداء إلى صحيح الأحكام ، خصوصاً إذا ما وجدت أدلة متعارضة لايندفع التعارض بينها إلاَّ بمعرفة سابقها من لاحقها ، وناسخها من منسوخها .
ولهذا كان سلفنا الصالح يعنون بهذه الناحية ، يحذقونها ، ويلفتون أنظار الناس إليها ، ويحملونهم عليها ؛ حتى لقد جاء في الأثر أن ابن عباس - رضي الله عنهما - فسّر الحكمة في قوله تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) } [ البقرة : 269 ] بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ( 1) .
وروي أن عليًّا - رضي الله عنه - مرّ على قاص ، فقال : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت( 2) . يريد أنه عرّض نفسه وعرض الناس للهلاك ، مادام أنه لايعرف الناسخ من المنسوخ )(3 ) .
وقد ذكر الحافظ ابن عبدالبر - رحمه الله - في كتابه جامع بيان العلم وفضله في باب معرفة أصول العلم وحقيقته وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقاً - أثراً يبيّن أهمية هذا العلم ، حيث قال : ( وذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش ، ثنا عبدالله بن محمود ، قال : سمعت يحيى بن أكثم يقول : ليس من المعلوم كلها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلمين ، وكافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضاً ، والعلم به لازم ديانةً ، والمنسوخ لايعمل به ، ولاينتهي إليه ، فالواجب على كل عالم عِلْمُ ذلك لئلا يوجب على نفسه أو على عباد الله أمراً لم يوجبه الله عزوجل ، أو يضع عنه فرضاً أوجبه الله عزوجل )( 4) .
وقال القرطبي في بيان أهمية معرفة النسخ : ( معرفة هذا الباب أكيدة ، وفائدته عظيمة ، لايستغني عن معرفته العلماء ، ولاينكره إلاَّ الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام )( 5) .
معنى النسخ في اللغة :
يأتي النسخ في كلام العرب على ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون مأخوذاً من قول العرب : نسخت الكتاب ، إذا نقلت ما فيه إلى كتاب آخر ، فهذا لم يتغير المنسوخ منه ، وإنَّما صار له نظيرٌ مثله في لفظه ومعناه ، وهما باقيان .
والثاني : أن يكون مأخوذاً من قول العرب : نسخت الشمس الظل ، إذا أزالته وحلت محله .
والثالث : أن يكون مأخوذاً من قول العرب : نسخت الريحُ الآثار ، إذا أزالتها فلم يَبق منها عوض ، ولا حلت الريح محل الآثار ، بل زالا جميعاً( 6) .
وقد وردت مادة النسخ في القرآن الكريم بهذه المعاني الثلاثة :
فمن الأول - وهو النقل - قول الله تعالى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] .
ومن الثاني - وهو إزالة شيء مع حلول شيء آخر محله - قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
ومن الثالث - وهو إزالة الشيء بدون حلول شيء آخر محله - قول الله تعالى : { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } [ الحج : 52 ]( 7) .
معنى النسخ في الاصطلاح :
يحتاج معنى النسخ في الاصطلاح إلى شيء من الإيضاح ؛ وذلك لأن معناه في اصطلاح المتقدمين يختلف عن معناه في اصطلاح المتأخرين .
فالمتقدمون - من الصحابة والتابعين - لهم اصطلاح خاص في مسألة النسخ ، فمفهوم النسخ عندهم أعم من مفهومه عند الأصوليين والفقهاء والمحدثين ، وما استقر عليه الأمر بعد ذلك في هذا المصطلح ، فلم يكن النسخ عندهم مُمَيَّزاً عن غيره من أساليب البيان ، فقد كانوا يطلقون النسخ على تخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتبيين المجمل ، وإيضاح المبهم ، ونحو ذلك ، كما كانوا يطلقونه على النسخ بمعناه المعروف عند الأصوليين بعد تحديد المصطلحات العلمية .
وقد بيّن هذا وقرره كثيرٌ من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية( 8) وتلميذه ابن القيم( 9) والإمام الشاطبي في كتابه الموافقات( 10) .
وأمَّا معنى النسخ في اصطلاح المتأخرين من الأصوليين والفقهاء والمحدثين وأهل علوم القرآن - فقد اختلفت عباراتهم في تحديد معناه بعد أن اتفقوا على أنه يختلف عن أساليب البيان الأخرى من تخصيص ، واستثناء ، وتقييد ، وتبيين ، وإيضاح ونحوها .
ولعل من أفضل التعاريف التي تبين معنى النسخ في اصطلاح المتأخرين مع سهولته ووضوحه وشموله = ما ذكره فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه { الأصول من علم الأصول } ؛ حيث قال في تعريف النسخ في الاصطلاح : ( رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة )(11 ) .
( فهذا التعريف مع كونه مختصراً ، فهو جامع مانع ، سالم من المآخذ والاعتراضات الواردة على غيره .
فقوله : { رفع حكم } تعريف للنسخ على أنه فعل الشارع ، خلافاً للذين عرفوه بأنه الخطاب ، أو اللفظ ، أو الطريق ، فهؤلاء عرفوا النسخ بدليله ، وتقييد الحكم بأنه { حكم دليل شرعي } مخرج لرفع حكم البراءة الأصلية ، فلايسمى نسخاً .
وقوله : { أو لفظه } جيء به ليشمل التعريفُ نسخ لفظ التلاوة ؛ لأن النسخ إمَّا أن يكون للحكم أو للفظ أولهما معاً .
وقوله : { بدليل } يخرج رفع الحكم بالموت والجنون ونحوهما ، وتقييد الدليل بكونه من الكتاب والسنة ؛ ليخرج ما عداهما من الأدلة كالإجماع والقياس فلاينسخ بهما )( 12) .

فائدة : هذه بعض المؤلفات في موضوع النسخ في القرآن الكريم :
من الكتب المطبوعة المصنفة قديماً في الناسخ والمنسوخ :
1 - الناسخ والمنسوخ في القرآن ، لأبي عبيد القاسم بن سلام ( ت 224 هـ ) .
2 - الناسخ والمنسوخ في القرآن ، لأبي جعفر النحاس ( ت 328 هـ ) .
3 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ، لمكي بن أبي طالب ( ت 407 هـ ) .
4 - الناسخ والمنسوخ ، لأبي منصور عبدالقاهر البغدادي ( ت 429 هـ ) .
5 - الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ، لأبي بكر محمد بن عبدالله بن العربي ( ت 543 هـ ) .
6 - نواسخ القرآن ، لابن الجوزي ( ت 597 هـ ) .
7 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه ، لابن البارزي ( ت 738 هـ ) .
ومن المؤلفات الحديثة المطبوعة في موضوع النسخ :
1 - النسخ في القرآن الكريم ، لمصطفى زيد ( رسالة دكتوراه ) .
2 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية ، لشعبان محمد إسماعيل .
3 - فتح المنان في نسخ القرآن ، لعلي حسن العريض .
4 - النسخ في الشريعة الإسلاميَّة كما أفهمه ، لعبدالمتعال الجبري ( رسالة ماجستير ) .
5 - النسخ بين الإثبات والنفي ، لمحمد محمود فرغلي .
6 - دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ، لمحمد حمزة .
7 - الأدلة المطمئنة على ثبوت النسخ في الكتاب والسنة ، لعبدالله مصطفى العريس .
إضافة إلى ما كتب في النسخ في أغلب الكتب المؤلفة في علوم القرآن وأصول الفقه .
وهناك مقالات وبحوث في مجلات عن هذا الموضوع ومنها :
1 - النسخ في القرآن الكريم ، للشيخ عبدالله الشبانة في مجلة البحوث الإسلاميَّة ، العدد 29 ص 207
إلى ص 277 .
2 - النسخ في الشريعة حقيقته والحكمة منه ، لعمر السّردي في مجلة الحكمة ، العدد التاسع ص 157
إلى ص 221 .


الحواشي السفلية
(1) أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 5 ، 6 رقم [3] ، وابن جرير الطبري في تفسيره 5/576 بتحقيق : أحمد ومحمود شاكر ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ 1/411 رقم [4] . وانظر : كلام المحقق عليه ، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/304 ، والسيوطي في الدر المنثور 1/348 ، وزاد سبته لابن المنذر وابن أبي حاتم .
(2) أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 4 رقم [1] ، والنحاس في الناسخ والمنسوخ 1/410 رقم [2] والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 1/244 ، وقال محققه : إسناده صحيح .
(3 ) مناهل العرفان للزرقاني 2/189 .
(4 ) جامع بيان العلم وفضله 1/767 وقال المحقق عن هذا الأثر : ( علقه المصنّف ولعله في بعض مصنفات أبي بكر النقاش ، فإنه صاحب تصانيف ولم يكن محمود الرواية ) انظر ترجمته في السير 15/573 - 576 .
(5 ) تفسير القرطبي 2/62 .
(6 ) ذكر هذه المعاني الثلاثة مكي بن أبي طالب في كتابه الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 47 - 53 وانظر : لسان العرب لابن منظور 14/121 ، وكتاب نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العزيز للإمام أبي بكر محمد بن عزيز السجستاني ص 443 ، 444 ، وللتوسع في معرفة معاني النسخ في اللغة انظر : كتاب النسخ في القرآن لمصطفى زيد 1/55 - 62 .
(7 ) انظر : الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 18 ، 19 .
(8 ) انظر : مجموع الفتاوى 13/29 .
(9 ) انظر : إعلام الموقعين 1/66 ، 67 .
(10 ) انظر : الموافقات للشاطبي 3/81 - 88 ، وقد توسع في تقرير ذلك وضرب الأمثلة عليه .
(11 ) الأصول من علم الأصول للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص 45 .
(12 ) من مقدمة محقق كتاب الناسخ والمنسوخ ، لأبي جعفر النحاس 1/114 ، الشيخ الدكتور سليمان اللاحم .


وللحديث بقية إن شاء الله
 
تابع موضوع النسخ [ تاريخ كتابة هذا المجلس 29/3/1424هـ ]

تابع موضوع النسخ [ تاريخ كتابة هذا المجلس 29/3/1424هـ ]

الوقفة الثانية : أوجه النسخ في القرآن

أوجه النسخ في القرآن
قال ابن عبدالبر - في شرحه لحديث عائشة أنها أملت مولاها أبا يونس { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى - وصلاة العصر - وقوموا لله قانتين } ثُمَّ قالت : سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم(1 ) - قال : ( وفيه ما يدل على مذهب من قال : إن القرآن نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم .
ومن قال بهذا القول يقول : إن النسخ على ثلاثة أوجه في القرآن :
أحدها : ما نسخ خطه وحكمه وحفظه ، فنسي ، يعني رفع خطه من المصحف ، وليس حفظه على وجه التلاوة ؛ ولايقطع بصحته على الله ، ولايحكم به اليوم أحد ؛ وذلك نحو ما روي أنه كان يقرأ : لاترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم( 2) .
ومنها قوله : لو أن لابن آدم وادياً من ذهب ، لابتغى إليه ثانياً ، ولو أن له ثانياً ، لابتغى إليه ثالثاً ، ولايملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب ويتوب الله على من تاب . قيل : إن هذا كان في سورة ص~( 3) .
ومنها : { بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه } وهذا من حديث مالك عن إسحاق ، عن أنس ، أنه قال : أنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآناً قرأناه ، ثُمَّ نسخ بعد : ( بلغوا قومنا ... ) فذكره( 4) .
ومنها قول عائشة : كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات ثُمَّ نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وص~ مِمَّا يقرأ( 5) .
إلى أشياء في مصحف أبيّ ، وعبدالله ، وحفصة ، وغيرهم مِمَّا يطول ذكره .
ومن هذا الباب ، قول من قال : إن سورة الأحزاب ، كانت نحو سورة البقرة أو الأعراف ، روى سفيان ، وحماد بن زيد ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : قال لي أبيّ بن كعب : كائن تقرأ سورة الأحزاب ، أو كائن تعدها ؟ قلتُ : ثلاثاً وسبعين آية ، قال : قط ، لقد رأيتها وإنها لتعادل البقرة ، ولقد كان فيما قرأناه فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ، نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم(6 ) .
وقال مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار(7 ) قال : كانت سورة الأحزاب تقارن سورة البقرة .
( وروى أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سيف عن مجاهد ، قال : كانت الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول ، ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير ، ولم يذهب منه حلال ولا حرام ) .
أخبرنا عيسى بن سعيد بن سعدان ( المقرئ ) قال : أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن أحمد بن جعفر الخرقي المقرئ ، قال : أخبرنا أبو الحسن صالح بن أحمد القيراطي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، قال : أخبرني يحيى بن آدم قال : أخبرنا عبدالله بن الأجلح ، عن أبيه عن عدي بن عدي بن عميرة بن فروة عن أبيه عن جده عميرة بن فروة ، أن عمر بن الخطاب قال لأبيّ - وهو إلى جنبه - : أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم ؟ فقال : بلى ، ثُمَّ قال : أوليس كنا نقرأ : الولد للفراش وللعاهر الحجر - فيما فقدنا من كتاب الله ؟ فقال أبي : بلى( 8) .
والوجه الثاني : أن ينسخ خطه ويبقى حكمه ، وذلك نحو قول عمر بن الخطاب : لولا أن يقول قوم زاد عمر في كتاب الله ، لكتبتها بيدي : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة ، نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم . فقد قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(9 ) .
فهذا مِمَّا نسخ ورفع خطه من المصحف وحكمه باق في الثيب من الزناة إلى يوم القيامة - إن شاء الله - عند أهل السنة .
ومن هذا الباب قوله في هذا الحديث : وصلاة العصر - ( في مذهب من نفى أن تكون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ) .
وقد تأول قوم في قول عمر : قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي تلوناها ، والحكمة تتلى ، بدليل قول الله عزوجل : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ" } [ الأحزاب : 34 ] .
وبين أهل العلم في هذا تنازع يطول ذكره .
والوجه الثالث : أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف ، وهذا كثير ، نحو قوله - عزوجل - : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ } [ البقرة : 240 ] نسختها { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ البقرة : 234 ] وهذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه )( 10) ا هـ .
وقال - رحمه الله - : ( وأمَّا قوله في الحديث : { لأقضين بينكما بكتاب الله }(11 ) فلأهل العلم في ذلك قولان :
أحدهما : أن الرجم في كتاب الله على مذهب مَن قال : إن من القرآن ما نسخ خطه وثبت حكمه ، وقد أجمعوا أن من القرآن ما نسخ حكمه ، وثبت خطه ، وهذا في القياس مثله ... ومَن ذهب هذا المذهب احتج بقول عمر ابن الخطاب : الرجم في كتاب الله ، حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصنّ( 12) . وقوله : لولا أن يقال : إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتها : { الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة } فإنا قد قرأناها(13 ) )( 14) .

ذكر ابن عبدالبر - رحمه الله - في الكلام السابق أوجه النسخ في القرآن ، وذكر أمثلة لكل وجه من هذه الأوجه ، وأكثرُ ما ذكر واضح لايحتاج إلى إيضاح ؛ ولذلك سوف أكتفي بالتنبيه على بعض الأمور :
الأمر الأول : الوجه الأول الذي ذكره ابن عبدالبر - وهو ما نسخ حظه وحكمه وحفظه فنسى ، ويطلق عليه بعض العلماء نسخَ التلاوة والحكم معاً - هذا الوجه أنكره قوم كما حكى ذلك عنهم القاضي أبو بكر( 15) في كتابه الانتصار كما نقله عنه الزركشي في البرهان بقوله : ( وحكى القاضي أبو بكر في { الانتصار } عن قوم إنكار هذا القسم ؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولايجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها )(16 ) .
( وقد أُجيبت على ذلك بأن ثبوت النسخ شيء ، وثبوت نزول القرآن شيء آخر ، فثبوت النسخ يكفي فيه الدليل الظني بخبر الآحاد ، أمَّا ثبوت نزول القرآن فهو الذي يشترط فيه الدليل القطعي بالخبر المتواتر ، والذي معنا ثبوت النسخ لا ثبوت القرآن فيكفى فيه أخبار الآحاد )(17 ) .
الأمر الثاني : ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - من أمثلة على الوجه الأول ، وذكر أنها مِمَّا نسخ خطه وحكمه وحفظه فنسي ، في بعضها نظر ، وذلك مثل نسخ { لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولايملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب } ، ونسخ { بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا } وما شابه ذلك من أمثلة حكمها ثابت لم يتغير ولم يرفع .
وكذلك ما ذكره من نسخ حكم آية الرجم في سورة الأحزاب فيه نظر .
فلعل الصحيح في مثل هذه الأمثلة أن تكون مِمَّا نسخ تلاوته ولفظه وبقي حكمه لأن هذه الألفاظ جاءت بصورة الخبر ، ومعناها صحيح وحكمها باق ، فكيف تكون مِمَّا نسخ حكمه ؟ ! .

الأمر الثالث : أنكر بعض أهل العلم الوجه الثاني - وهو نسخ الخط والتلاوة وبقاء الحكم - وقالوا : إن الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولايجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد( 18) .
وممن أنكر وشكك في وقوعه الدكتور مصطفى زيد( 19) في كتابه النسخ في القرآن حيث قال : ( ولابد من وقفه هنا ، عند نوع ثالث للنسخ ذكره الأصوليون ، واعتمدوا فيه على آثار لاتنهض دليلاً له ، مع أن الآيتين اللتين تتحدثان عن النسخ في القرآن الكريم لاتسمحان بوجوده إلاَّ على تكلف ، ومع أنه يخالف المعقول والمنطق ، ومع أن مدلول النسخ وشروطه لاتتوافر فيه ... وهذا النوع هو منسوخ التلاوة باقي الحكم كما يعبر عنه الأصوليون )(20 ) .
ثُمَّ ذكر الأمثلة التي تدل على وقوع هذا النوع - وهي آيتا الرجم ، وتحريم الرضعات الخمس - وشكك في ثبوتها ، واستبعد صدور الآثار فيهما عن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - ثُمَّ قال : ( ومن ثَمَّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرد فرض ، لم يتحقق في واقعة واحدة ، ولهذا نرفضه ، ونرى أنه غير معقول ولا مقبول ، والله عزوجل أعلم )( 21) ا هـ .
وقد رد المحققون من أهل العلم كلامه هذا من وجوه كثيرة ، ومن هذه الوجوه ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - بقوله : ( وقد أجمعوا أن من القرآن ما نسخ حكمه ، وثبت خطه ، وهذا في القياس مثله )( 22) ا هـ .
وما يحتج به هو وغيره من كون الأخبار فيه أخبار آحاد لايُعول عليه ؛ لأن منسوخ التلاوة لم يبق قرآناً ، فنقل كونه قرآناً بأخبار الآحاد لايجعله لم يكن قرآناً في السابق ؛ لأنه الآن زالت قرآنيته فلايحتاج إلى نقله متواتراً ؛ لعدم قرآنيته ، ولكنه يكتفى فيه بالنقل الصحيح لثبوت القرآنية السابقة للنسخ ، وأخبار الآحاد الصحيحة يقبل بها كل شيء عند أهل السنة والجماعة ، كما صرح بذلك الإمام البخاري في كتاب خبر الآحاد من صحيحه( 23) .
( وبما تقدم نعلم أن نسخ التلاوة وبقاء الحكم واقعٌ ثابتٌ لا مطعن فيه ، وأن مَن نفاه متأثر بالمدرسة العقليَّة ، وهي متأثرة بالمعتزلة )(24 ) .
وهنا سؤال أورده الزركشي في برهانه ، وهو أن يقال : ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم ؟ وهلاّ تثبت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها( 25) ؟ .
والجواب على هذا السؤال من وجوه :
الأول : ( أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجرداً من الحكمة ، ولا خالياً من الفائدة ... بل فيه فائدة أي فائدة ، وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره ، وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه ؛ وذلك سورٌ محكم ، وسياج منيع ، يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص ؛ لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ، ثُمَّ حاول أحد تحريفه ، سرعان ما يعرف ، ويقابل بالإنكار ، وبذلك يبقى الأصل سليماً من التغيير والتبديل ، مصداقاً لقوله سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ , لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
والخلاصة : أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية ، حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام ، نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط ، رجوعاً بالقرآن إلى سيرته من الإجمال ، وطرداً لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال ، تيسيراً لحفظه وضماناً لصونه : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنـتُـمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ، 232 ، آل عمران : 66 ، النور : 19 ] )( 26) .
والثاني : أن في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم إظهاراً لمقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به ، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام ، والمنام أدنى طرق الوحي(27 ) .
والثالث : ( أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ ، فإن عدم العلم بالشيء لايصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء ، وإلاَّ فمتى صار الجهل طريقاً من طرق العلم ؟ ثُمَّ إن الشأن في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم ، أن يصدر لحكمة أو لفائدة ، نؤمن بها وإن كنا لانعلمها على التعيين ، وكم في الإسلام من أمور تعبدية ، استأثر الله بعلم حكمتها ، أو اطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] { وَمَآ أُوتِيتُم مّـِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] )( 28) .
والوجه الرابع : وهو خاص بآية الرجم ، فالسر في نسخ تلاوتها مع بقاء حكمها أنها كانت تتلى أولاً لتقرير حكمها ، ردعاً لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات ؛ حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس ، نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة ، وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة ، حيث سلكها مسلك ما لايليق أن يذكر فضلاً عن أن يفعل ، وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لايقع ؛ كأنه قال : نزهوا الأسماع عن سماعها ، والألسنة عن ذكرها ، فضلاً عن الفرار منها ومن التلوث برجسها ، كتب الله لنا الحفظ والتوفيق ؛ إنه على كل شيء قدير(29) .
الأمر الرابع : ذكر ابن عبدالبر أن ما نسخ حكمه وبقي خطه - وهو الوجه الثالث من وجوه النسخ - كثير ، حيث قال : ( والوجه الثالث : أن ينسخ حكمه ويبقى خطه في المصحف ، وهذا كثير ) ا هـ .
وهو عند التحقيق قليل جداً ، وإن أكثر الناس من تعداد الآيات فيه ، كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان ، ثُمَّ حرّر الآيات التي ثبت فيها النسخ فأوصلها إلى عشرين آية( 30) ، وقد أورد كلامه الدهلوي(31) في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير وتعقبه فيه ثُمَّ قال : ( وبما حررته لايتعين النسخ إلاَّ في خمس آيات )(32 ) .
ويعتبر الدكتور مصطفى زيد أكثر مَن تعرض لقضايا النسخ وناقشها ، وقرر في النهاية أن الآيات التي صحت فيها دعوى النسخ لاتزيد عن ست آيات( 33) .
أمَّا الزرقاني - رحمه الله - فقد تعرض لثنتين وعشرين واقعة ، قَبِلَ النسخ في اثنتي عشرة واقعة منها( 34) .
وقد قام أحد الباحثين بدراسة هذه القضية دراسة متأنية ، وبيّن أن الآيات التي ثبت عنده نسخها تسع آيات ، دخلها النسخ في سبعة موضوعات ، ولم يجد آية اتفق على نسخها غير آية تقديم الصدقة لأجل النجوى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا غيرها من الآيات ففيها خلاف .
ثُمَّ قال : ( وقد ظهر لي من خلال البحث أن من أسباب الخلاف في النسخ عدم الاتفاق في مدلوله بين المؤلفين في الناسخ والمنسوخ ، وقد أشار إلى ذلك جملة من المؤلفين في الناسخ والمنسوخ ، وممن أبرز ذلك الجانب الإمام الشاطبي في موافقاته .
وقد نقل عنه الدكتور مصطفى زيد - رحمه الله تعالى - جملاً مفيدة في ذلك .
كما تبيّن لي أن المؤلفين في الناسخ والمنسوخ بين إفراط وتفريط فكثير منهم عدّ من النسخ ما ليس بنسخ ، كالتقييد والتخصيص والإجمال ، فلذلك جعلوا آية السيف بمفردها ناسخة لأكثر من مائة آية .
وقلة من العلماء منعوا النسخ وأغلبهم معاصرون .
وقلة من العلماء توسطوا وقبلوا النسخ بشروطه ، وميزوا بينه وبين التقييد والتخصيص ، وعلى رأس هؤلاء الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - واضع أول تأليف بين أيدينا في الأصول .
وممن سار على منهج الاعتدال إمام المفسرين ابن جرير الطبري ، فإن فهمه في تفسيره رائع ، وهو عمدة في هذا الباب .
وكذلك الإمام ابن عبدالبر في التمهيد ، وقد أوضح ذلك صاحب رسالة ابن عبدالبر وجهوده في أصول الفقه(35 ) ، فقد نقل عنه نقولاً ، وقد تتبعتها في التمهيد ، فوجدت عنده التوسط بين الإفراط والتفريط ، ومن العبارات التي تعتبر منهجاً في هذا الباب عبارة ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - حيث قال : قال أبو عمر : والصحيح في النظر عندي : أن لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ولايحتمل التأويل(36 ) .
وهذه الكلمة في غاية الإتقان والدقة في إعطاء الدارس لهذا الموضوع الصعب منهجاً يسير عليه في قبول النسخ ورفضه ، وهي عبارة جامعة مع قلة ألفاظها ، رحمه الله رحمة واسعة )(37 ) ا هـ .
وعبارة ابن عبدالبر السابقة سوف تأتي إن شاء الله في مبحث قواعد وضوابط في موضوع النسخ مع ذكر أمثلة عليها .
الأمر الخامس : ذكر ابن عبدالبر مثالاً على ما نسخ حكمه وبقي رسمه وخطه وهو قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ } [ البقرة : 240 ] نسختها { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا(} [ البقرة : 234 ] .
ثُمَّ قال : ( وهذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه ) ا هـ .
والصحيح أنه قد وقع اختلاف بين العلماء في هاتين الآيتين(38 ) ، فالجمهور على أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية ، حيث كانت العدة في الجاهليَّة وأول الإسلام حولاً ، ثُمَّ نسخت بأربعة أشهر وعشراً( 39) .
وقالت جماعة : الآية غير منسوخة ، والنص القرآني لم يصرح بالعدة ، وإنَّما قال ذلك متاع لها إن أرادت سبعة أشهر وعشرين ليلة تقضيها في البيت ، فالواجب في العدة أربعة أشهر وعشراً ، وما زاد إلى الحول فهو وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت .
وهذا القول الثاني نسبه ابن جرير - رحمه الله - إلى مجاهد حيث قال ابن جرير : ( وقال آخرون : هذه الآية ثابتة الحكم ، لم ينسخ منها شيء ) ثُمَّ ذكر من قال ذلك ، وذكر بسنده عن مجاهد في قول الله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ البقرة : 234 ] قال : كانت هذه للمعتدة ، تعتد عند أهل زوجها ، واجباً ذلك عليها ، فأنزل الله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ" } إلى قوله : { مِن مَّعْرُوفٍ) } [ البقرة : 240 ] قال : جعل الله لهم تمام السنة ، سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وصية : إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله تعالى ذكره : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ" فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قال : والعدة كما هي واجبة(40 ) .
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له ، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية ، وردّه آخرون منهم الشيخ أبو عمر ابن عبدالبر )( 41) ا هـ .
ولعل الراجح - والله أعلم - من هذين القولين هو القول بعدم النسخ ، ويؤيد ذلك ما يلي :
أولاً : ثبوت هذا القول عن مجاهد ، وهو مَن هو في التفسير ، وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .
ثانياً : مساعدة اللفظ له ، كما ذكر ذلك ابن كثير - رحمه الله - ، ومن ذلك أنه قال في آية الحول : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ) } وقال في آية الأربعة أشهر وعشرة : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) } فلابد من بلوغ الأجل حتى ينتفي الحرج ، وهذا واضح لمن تأمله .
ثالثاً : لما قرّره ابن عبدالبر نفسه من أنه لاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه(42 ) ، ومن أنه لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ، ولايحتمل التأويل(43) ، ومن أنه لايقطع بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بدليل لا معارض له أو إجماع( 44) .
وهذه القواعد الصحيحة التي قررها لاتنطبق على آية البقرة التي ادّعى الإجماع على أنها منسوخة ، وهي قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ" ... } الآية .
قال الشيخ السعدي - رحمه الله - بعد أن ذكر قول أكثر المفسرين من أن الآية السابقة منسوخة قال : ( وهذا القول لا دليل عليه ، ومن تأمل الآيتين ، اتضح له أن القول الآخر في الآية هو الصواب ، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشراً على وجه التحتيم على المرأة ، وأمَّا في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت ، أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولاً كاملاً ، جبراً لخاطرها ، وبراً بميتهم )( 45) ا هـ .
وبهذا نعلم أن ما قاله ابن عبدالبر من أن هذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه فيه نظر ، ولعله لم يطلع على قول مجاهد .
الأمر السادس : خلاصة ما تقدم في هذا المبحث أن جمهور العلماء ذكروا أن النسخ في القرآن ثلاثة أضرب - أو أوجه - :
أحدها : نسخ الحكم دون التلاوة - نسخ الحكم مع بقاء الرسم والخط - ويتفق العلماء على وقوع هذا الضرب من النسخ ، ووجوده في القرآن الكريم - ولايُعتبر قول من شذّ( 46) - ويمثلون له بعدة أمثلة ، منها نسخ آية مصابرة الواحد للعشرة في القتال ، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونسخ وجوب قيام الليل في سورة المزمل ، وغير ذلك .
والتحقيق : أن أمثلة هذا الضرب قليلة قد لاتتجاوز أصابع اليدين كما قرر ذلك العلماء المحققون .
الثاني : نسخ التلاوة دون الحكم ، وعلى وقوعه وجوازه جمهور العلماء ، وأنكره بعضهم ممن يُقدم المعقول على المنقول ، ولايحتج بأخبار الآحاد ، والصحيح جوازه ووقوعه .
ويُمثل له بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به عند أهل السنة(47) ، وكذلك آية التحريم بالرضعات الخمس ، فهي منسوخة التلاوة باقية الحكم .
والضرب الثالث : نسخ التلاوة والحكم معاً ، ويمثلون له بنسخ تحريم عشر رضعات كما في حديث عائشة ، كما يستدلون له أيضاً بأدلة أخرى كما جاء أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ، وغير ذلك من الأمثلة التي ذكر كثيراً منها ابن عبدالبر - رحمه الله - ، والجمهور على صحة وقوع هذا الضرب وجوازه للأخبار الصحيحة الواردة في ذلك - والله تعالى أعلم( 48) - .

الحواشي السفلية
(1) أخرجه مالك في كتاب صلاة الجماعة ، باب : الصلاة الوسطى 1/132 ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم [629] .
(2 ) قال عمر - رضي الله عنه - في حديث طويل : ( ثُمَّ إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) أخرجه البخاري في كتاب المحاربين ، باب : رحم الحبلى في الزنا إذا أحصنت 6/2503 - 2507 .
(3 ) أخرجه البخاري في الرقاق ، باب : ما يتقى من فتنة المال 5/2364 - 2365 ، وأخرجه مسلم في الزكاة رقم [1049] ، في صحيح البخاري 5/2365 قال أنس : { كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت : { أَلْهَـاـكُمُ ا؟لتَّـــكَاثُرُ } } وليس في شيء منها ذكر أنها كانت في سورة ص% .
(4 ) أخرجه البخاري في المغازي ، باب : غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة ... 4/1501 ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم [677] .
(5 ) أخرجه مسلم في كتاب الرضاع رقم [1452] قال النووي في شرح صحيح مسلم في معنى قول عائشة : { فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مِمَّا يقرأ } : ( ومعناه : أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جداً حتى إنه توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآناً متلواً لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لايتلى ) شرح النووي على صحيح مسلم 10/281 - 282 .
( 6) أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/132 ، والنسائي في سننه الكبرى 4/271 ، وقال ابن كثير - بعد أن ذكره بإسناد الإمام أحمد وغزاه إلى النسائي من وجه آخر : ( وهذا إسناد حسن وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثُمَّ نسخ لفظه وحكمه أيضاً - والله أعلم ) 3/448 .
( 7) هو : عمرو بن دينار ، الحافظ ، الإمام ، عالِمُ الحرم ، أبو محمد الجُمَحي مولاهم ، المكي ، قال شعبة : لم أرَ مثل عمرو بن دينار . وقال ابن عيينة : ثقة ثقة ثقة ، كان قد جزأ الليل ، فثلثاً ينام ، وثلثاً يدرس حديثه ، وثلثاً يصلي . مات سنة 126 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/184 ، 185 .
( 8) لم أجده بهذا السياق ، والجزء الأول منه هو : ( أن انتفاءكم من أبنائكم كفر بكم ) سبق تخريجه بلفظ قريب من هذا ، والجزء الثاني وهو : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) أخرجه البخاري في كتاب الحدود باب للعاهر الحجر من حديث أبي هريرة 6/2499 .
( 9) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الحدود ، باب : ماجاء في الرجم 2/628 ، 629 ، وأصل الحديث مخرج في الصحيحين بدون ذكر آية الرجم بالنص ، وفي هذا الحديث كلام طويل يُمكن الرجوع إليه في مقال بعنوان : { أسانيد آية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) } جمع الشيخ حمد العثمان في مجلة الحكمة ، العدد السابع ص 235 - 242 .
وانظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس 1/436 - 438 ، حاشية رقم [4] .
( 10) التمهيد 4/273 - 277 .
( 11) سبق تخريجه ص 147 .
( 12) أخرجه مالك في الموطأ في الحدود ، باب : ماجاء في الرحم 2/628 ، وهو مختصر من خطبة لعمر طويلة رواها بأكملها البخاري في كتاب المحاربين ، باب : رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت 6/2503 - 2507 .
( 13) سبق تخريج هذه الرواية والكلام عليها قريباً .
( 14) التمهيد 9/77 .
( 15) هو : القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ، البصري ، المالكي ، الأصولي المتكلم ، صاحب المصنفات ، كان يُضرب المثلُ بفهمه وذكائه ، كان ثقة إماماً بارعًا ، صنّف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية ، مات سنة 403 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 17/190 - 193 .
( 16) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/171 .
( 17) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 238 .
( 18) انظر : مباحث في علوم القرآن لمناع القطاع ص 239 .
( 19) هو : مصطفى السيد بدر زيد ، أستاذ الشريعة الإسلاميَّة ورئيس القسم بجامعتي القاهرة وبيروت العربيَّة توفي في نهاية القرن الماضي كما ذكر عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي في كتابه ( الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ) ص 10 .
( 20) النسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد 1/283 .
( 21) المرجع السابق 1/258 .
( 22) التمهيد 9/77 .
( 23) انظر : كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 79 .
( 24) انظر : كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 79 . وانظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/233 ، 234 .
( 25) انظر : البرهان في علوم القرآن 2/168 .
( 26) مناهل العرفان للزرقاني 2/236 .
( 27) انظر : البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/168 ، 169 .
( 28) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/237 .
( 29) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/213 .
( 30) انظر : الإتقان في علوم القرآن 2/706 - 712 .
( 31) هو : الإمام ولي الله أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي ، من علماء الهند الكبار ، وله مصنفات كثيرة في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه وفي أصول الفقه والسلوك والآداب ، ولد سنة 1114 هـ ، ومات سنة 1176 هـ بمدينة دلهي . انظر ترجمته في : مقدمة كتابه الفوز الكبير ملخصاً من نزهة الخواطر 6/398 - 415 .
( 32) الفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي ص 60 .
( 33) انظر : مقدمة كتابه النسخ في القرآن الكريم .
( 34) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/274 - 288 .
( 35) هناك رسالة بعنوان أصول الفقه عند ابن عبدالبر جمع وتوثيق ودراسة للعربي بن محمد فتوح ، فقد تكون هي المشار إليها .
( 36) التمهيد 14/391 ، 392 .
( 37) من كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 155 - 156 بتصرف واختصار يسيرين .
( 38) للتوسع في معرفة هذا الاختلاف . انظر : المرجع السابق ص 115 - 122 .
( 39) انظر : تفسير القرطبي 3/226 ، 227 ، وتفسير ابن كثير 1/280 .
( 40) انظر : تفسير الطبري 5/258 بتحقيق : شاكر ، وأثر مجاهد أخرجه البخاري في التفسير ، باب : { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( } . انظر : فتح الباري 8/41 .
( 41) تفسير ابن كثير 1/281 .
( 42) انظر : الاستذكار 17/176 .
( 43) انظر : التمهيد 14/391 ، 392 .
( 44) انظر : الاستذكار 1/367 .
( 45) تفسير الشيخ السعدي 1/194 .
( 46) ألف أحد المعاصرين كتاباً بعنوان ( الرأي الصواب في منسوخ الكتاب ) وكتب على غلافه ( الآيات المنسوخة رفعها الله تعالى لفظاً وحكماً ، لا منسوخ في القرآن بتاتاً ) وهو جواد موسى محمد عفانة .
( 47) قال صاحب الكتاب السابق بعد كلامه السابق على غلاف الكتاب : ( حكم الرجم منسوخ يقيناً ) !! .
( 48) انظر في ذكر أضرب وأوجه النسخ في القرآن مع الأمثلة :
- كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب ص 67 ومابعدها .
- كتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/166 - 171 .
- كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/705 - 713 .
- وكتب علوم القرآن عموماً ، وكتب أصول الفقه ، ككتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي
1/245 - 248 ، وغيرها كثير .
 
الوقفة الثالثة : حكم نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن

ينقسم النسخ بالنظر إلى دليله إلى أقسام متعددة ، يُمكن جعلها على قسمين : قسم متفق على جوازه ، وقسم وقع فيه الخلاف .
أمَّا القسم المتفق عليه فهو :
1- نسخ القرآن بالقرآن .
2- نسخ السنة المتواترة والأحاديث بمتواتر السنة .
3- نسخ الآحاد من السنة بالآحاد من السنة .
وأمَّا القسم المختلف فيه فهو :
1- نسخ القرآن بالسنة .
2- نسخ السنة بالقرآن .
3- نسخ المتواتر بالآحاد(1 ) .
والذي يهمنا بحثه في هذا المبحث هو نسخ القرآن بالسنة ونسخ السنة بالقرآن .
أولاً : نسخ القرآن بالسنة :
اختلف العلماء في جواز نسخ القرآن بالسنة على قولين :
الأول : قول الكوفيين ، وإليه ذهب جمهور الأصوليين أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة ، وهو اختيار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله( 2) - .
الثاني : وإليه ذهب الإمام الشافعي وأصحابه ، والإمام أحمد وأكثر المالكيين وداود ، وهو أنه لايجوز نسخ القرآن بالسنة ، بل لايَنسخ القرآن إلاَّ قرآن مثله ، وهو اختيار ابن قدامة وابن تيمية - رحم الله الجميع(3 ) - .
وحجة الجمهور : أن الجميع وحي من الله تعالى ، فالناسخ والمنسوخ من عند الله ، والله هو الناسخ حقيقة ، لكنه أظهر النسخ على لسان رسوله r ، وقد قال الله تعالى : { وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [ الحشر : 7 ] ، وقال سبحانه : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، وبأنه لايوجد مانع عقلي من جوازه ، حيث إنه لايلزم من فرض وجوده محال ، ولايوجد مانع شرعي ؛ لأنه قد وقع في الشرع ، فهو دليل الجواز( 4) .
ومثّلوا لذلك بآية الوصية ، فإن الناسخ لها هو قولهr : { لا وصية لوارث } وأيضاً آية التحريم بعشر رضعات نسخت بالسنة كما قالوا( 5) .
وأمَّا حجة الإمام الشافعي ومن وافقه فقد بينها الشافعي - رحمه الله - في كتابه الرسالة ، حيث قال : ( إن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مِمَّا أراد بخلْقِهم وبهم ، لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، وأنزل عليهم الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ، وفرض فيه فرائض أثبتها ، وأخرى نسخها : رحمة لخلقه ، بالتخفيف عنهم ، وبالتوسعة عليهم ، زيادةً فيما ابتدأهم به من نعمه ، وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته ، والنجاةَ من عذابه ، فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ ، فله الحمد على نعمه .
وأبان الله لهم أنه إنَّما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب ، وأن السنة لا ناسخة للكتاب ، وإنَّما هي تبعٌ للكتاب ، بمثل ما نزل نصاً ، ومفسرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً .
قال الله : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ* قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائـْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ يونس : 15 ] ، أخبر الله أنه فرض على نبيّه اتباع ما يُوحى إليه ، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه .
وفي قوله : { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي } بيان ما وصفت من أنه لاينسخ كتابَ الله إلاَّ كتابُه ... وفي كتاب الله دلالة عليه ، قال الله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 106 ] فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخيرَ إنزاله لايكون إلاَّ بقرآن مثله ، وقال : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَان ءَايَةٍ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} [ النحل : 101 ] )( 6) .
وقد ذكر ابن تيمية - رحمه الله - أن منهج السلف في الحكم هو النظر في الكتاب أولاً ، ثُمَّ في السنة ثانياً ، وبين أن هذا المنهج إنَّما يتناسب مع القول بمنع نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن ، قال - رحمه الله - : ( وهم إنَّما كانوا يقضون بالكتاب أولاً ؛ لأن السنة لاتنسخ الكتاب فلايكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة ، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه فلايقدم غير القرآن عليه ، ثُمَّ إذا لم يجد ذلك طَلَبَه في السنة ، ولايكون في السنة شيء منسوخ إلاَّ والسنة نسخته )( 7) ا هـ .

والذي أرى أنه من المفيد لكاتب هذا البحث والمطلع عليه هو الإحالة على ما كتبه الزرقاني - رحمه الله - في مناهل العرفان حول هذه المسألة ، فقد أجاد وأفاد ، وخلص إلى أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلاً ولا شرعاً ، إلاَّ أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع(8 ) .

تتمة حول آية الوصية :
من الأمثلة التي يذكرها القائلون بنسخ القرآن بالسنة : نسخ آية الوصية بحديث : ( لا وصية لوارث ) ؛ فرأيت أنه من المفيد تحقيق القول في هذه الآية ، وهل هي منسوخة أو لا ؟

وحاصل ما ذكره العلماء من الأقوال في هذه الآية ثلاثة أقوال :

الأول : أن الوصية للوالدين والأقربين على الندب ، لا على الحتم والوجوب ، فالآية كلها منسوخة ، والذي نسخها هو آيات المواريث ، وهذا القول منسوب لابن عمر وابن عباس ، ونحو هذا قول مالك - رحمه الله - كما قال القرطبي( 9) ، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي .
قال ابن عبدالبر : ( والآية بإيجاب الوصية للوالدين والأقربين منسوخة )( 10) .
وقال : ( فالوصية مندوب إليها ، مرغوب فيها ، غير واجب شيء منها )( 11) ا هـ .
والقول الثاني : أن هذه الآية من قبيل العام المخصوص ، فهي عامة في تناولها للوالدين وجميع الأقربين ، ولكن خرج من هذا العموم الوالدان والأقربون الوارثون بدلالة آيات المواريث وببيان السنة لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث }(12 ) .
وهذا ما يدل عليه قوله : ( وهذا إجماع من علماء المسلمين أنه لا وصية لوارث ، وأن المنسوخ من آية الوصية الوالدان على كل حال ، إذا كانا على دين ولدهما ، لأنهما وارثان لايحجبان ، وكذلك كل وارث من الأقربين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا وصية لوارث } ، ولو كان الوارث تجب له الوصية لانتقضت قسمة الله لهم فيما ورثهم ، وصار لهم أكثر مِمَّا أعطاهم .
فمن هنا قال العلماء : إن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم )( 13) ا هـ .
وعلى هذا فالآية محكمة غير منسوخة ، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لايرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرآبة غير الورثة ، وهذا القول قاله الضحاك وطاووس والحسن ، واختاره الطبري( 14) .
وما عبر عنه ابن عبدالبر بقوله : ( فمن هنا قال العلماء : إن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لايُقصد به النسخ بمفهومه الاصطلاحي المتأخر ، وإنَّما هو تخصيص كما هو ظاهر لمن تأمّله .
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( ولكن على قول هؤلاء لايسمى هذا نسخاً في اصطلاحنا المتأخر ؛ لأن آية المواريث إنَّما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصية ؛ لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لايرث فرفع حكم مَن يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى .
وهذا إنَّما يتأتى على قول بعضهم : إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنَّما كانت ندباً حتى نسخت ، فأمَّا من يقول إنها كانت واجبة - وهو الظاهر من سياق الآية - فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ، فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بآية المواريث بالإجماع ، بل منهي عنه للحديث المتقدم { إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث } )(15 ) ا هـ .
والقول الثالث : هو قول من يجيز نسخ القرآن بالسنة ، وهو أن هذه الآية منسوخة بحديث { لا وصية لوراث } .
فهذه مجمل الأقوال التي ذكرها ابن عبدالبر في حكم آية الوصية ، ولم يتبيّن لي ما القول الذي يرجحه ، وإن كان كلامه يدل على أنه يميل إلى أحد القولين الأولين - والله أعلم - .
وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير آية الوصية ، وتعددت آراؤهم ، وكذلك العلماء الذين ألفوا في بيان الناسخ والمنسوخ ذكروا أقوالاً متعددة في معنى هذه الآية وهل هي محكمة أو منسوخة ؟ .
والذي يظهر لي - والله أعلم - أن القول بالتخصيص هو الراجح ؛ لأن النسخ لايصار إليه إلاَّ عند التعارض ، وقد قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ولاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع استعماله وتخصيصه )(16 ) ا هـ .
والتدافع الذي ذكره العلماء بين آيات الفرائض والمواريث وحديث : { لا وصية لوارث } من جهة وآية الوصية من جهة أخرى لايمنع القول بالتخصيص ، فآية الوصية عامة في تناولها للوالدين والأقربين ، ولكن خرج من عمومها الوالدان والأقربون الوارثون بدلالة آيات المواريث وبيان وتفسير السنة لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث } .
وعلى هذا فحكم الوجوب الذي دلت عليه آية الوصية باق فيمن لايرث من الوالدين والأقربين ، ثُمَّ صَرَفَ هذا الوجوبَ إلى الندب ما رواه ابن عمر - رضي الله عنه - بقوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاَّ ووصيته مكتوبة عنده }(17 )( 18) .
وهذا القول هو الذي رجحه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتابه الناسخ والمنسوخ ؛ حيث ذكر الآثار التي تدل على أن آية الوصية منسوخة بآيات الفرائض ثُمَّ قال : ( قال أبو عبيد : فإلى هذا القول صارت السنة القائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه انتهى قول العلماء وإجماعهم في قديم الدهر وحديثه أن الوصية للوارث منسوخة لاتجوز وكذلك أجمعوا على أنها جائزة للأقربين إذا لم يكونوا من أهل الميراث ، ثُمَّ اختلفوا في الأجنبيين ، فقالت طائفة من السلف : لاتجوز لهم الوصية ، وخصُّوا بها الأقارب ) .
ثُمَّ ذكر آثاراً تدل على هذا القول ، ثُمَّ ذكر القول الآخر وهو أن الوصية جائزة لكل موصى له من الأباعد والأقارب إلاَّ الوارث ، ثُمَّ قال : ( قال أبو عبيد : وعلى هذا القول اجتمعت العلماء من أهل الحجاز وتهامة والعراق والشام ومصر وغيرهم ، منهم مالك وسفيان والأوزاعي والليث وجميع أهل الآثار والرأي ، وهو القول المعمول به عندنا أن الوصية جائزة للناس كلهم ما خلا الورثة خاصة ، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا وصية لوارث } )( 19) ا هـ .
ومعلومٌ أن مراد الإمام أبي عبيد القاسم بن سلاّم بالنسخ هنا هو مراد السلف المتقدمين الذين يطلقونه على التخصيص وغيره من أنواع البيان .

ثانياً : نسخ السنة بالقرآن :
في هذه المسألة قولان :
الأول : القول بمنع نسخ السنة بالقرآن ، وهو ما ذهب إليه الشافعي وقرّره في الرسالة( 20) .
والقول الثاني : وإليه ذهب جمهور الأصولين - أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن ، وهو اختيار محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله( 21) - .
وأدلة كل فريق في هذه المسألة هي نفسها أدلتهم في المسألة السابقة - مع اختلاف يسير( 22) - .
وقد مثل الجمهور للوقوع بأمثلة كثيرة منها :
1 - التوجه إلى بيت المقدس ، وهو ثابت بالسنة ، وناسخه في القرآن قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ البقرة : 144 ] .
2 - تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلاً ثابت بالسنة ، وناسخه في القرآن قوله تعالى : { فَالْئـنَ بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] .
إلى غير ذلك من الأمثلة( 23) .
( وخلاصة القول في هاتين المسألتين : أن الخلاف في جواز نسخ القرآن بالسنة والعكس خلافٌ لايترتب عليه أثر كبير والخطب فيه يسير ، وذلك إذا تقرر عند الجميع ما يأتي :
1 - تعظيم نصوص الكتاب والسنة وتقديم جانب العمل بهما مهما أمكن .
2 - أن الكتاب والسنة وحي من عند الله ، وأنهما متفقان لايختلفان ، متلازمان لايفترقان .
3 - أن النسخ لايكون إلاَّ بأمر من عند الله سبحانه : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} [ الرعد : 39 ] .
4 - عدم التفريق في ذلك بين السنة المتواترة والآحادية )( 24) .
( وعلى كلٍّ فالمسائل التي يذكر أهل العلم أن السنة نسخت فيها الكتاب أو نسخ كتاب الله فيها السنة مسائل قليلة ، والنظرة الفاحصة في هذه المسائل تدل على صحة ما ذهب إليه الشافعي ، ويبدو أن نظرته مبنية على استقراء للنصوص التي تدخل في إطار البحث )(25 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : ( فإن الشافعي وأحمد وسائر الأئمة يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة ، وإن تضمنت نسخاً لبعض أي القرآن ، لكن يقولون : إنَّما نسخ القرآن بالقرآن لا بمجرد السنة ، ويحتجون بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ } [ البقرة : 106 ] ويرون من تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلاَّ بقرآن )( 26) ا هـ .
وقال الشافعي - رحمه الله - : ( فإن قال قائل : هل تنسخ السنة بالقرآن ؟ قيل : لو نسخت السنة بالقرآن كان للنبي فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة )( 27) ا هـ .


الحواشي السفلية :

( 1) انظر : معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 266 .
( 2) انظر : نزهة الخاطر العاطر لعبدالقادر بدران 1/225 ، وأضواء البيان للشنقيطي 3/334 .
( 3) انظر : روضة الناضر لابن قدامة 1/324 ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 17/195 ، 197 ، 19/202 .
( 4) انظر : كتاب فتح المنان في نسخ القرآن ص 234 .
( 5) انظر أمثلة المجيزين في مناهل العرفان للزرقاني 2/260 - 261 ، وأضواء البيان للشنقيطي 3/334 .
( 6) الرسالة للشافعي ص 106 - 108 .
( 7) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 19/202 .
( 8) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/254 - 262 .
( 9) انظر : تفسير القرطبي 2/263 .
( 10) التمهيد 8/384 .
( 11) التمهيد 14/296 .
( 12) سبق تخريجه ص 254 .
( 13) الاستذكار 23/12 ، 13 .
( 14) انظر : تفسير الطبري 3/384 ، 385 ، وتفسير القرطبي 2/262 .
( 15) تفسير ابن كثير 1/201 .
( 16) الاستذكار 17/176 .
( 17) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الوصايا ، باب : الوصايا وقول النبي E : { وصية الرجل مكتوبة عنده } 3/1005 ، وأخرجه مسلم في أول كتاب الوصية رقم [1627] .
( 18) انظر : تفسير القرآن للعز بن عبدالسلام 1/186 ، حاشية هامش رقم 2 .
( 19) الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد بن سلام ص 232 - 234 .
( 20) انظر : الرسالة للشافعي ص 108 .
( 21) أضواء البيان 3/334 .
( 22) انظر : معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 269 ، ومناهل العرفان للزرقاني 2/262 - 263 .
( 23) انظر : معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 269 ، ومناهل العرفان للزرقاني 2/262 - 263 .
( 24) من كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد حسين الجيزاني ص 269 ، 270 .
( 25) من كتاب مسائل في فقه الكتاب والسنة للدكتور عمر بن سليمان الأشقر ص 230 ، 231 .
( 26) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 20/399 .
( 27) الرسالة للإمام الشافعي ص 110 .
 
الوقفة الرابعة :قواعد وضوابط في النسخ في القرآن :

هناك قواعد مهمة ، وضوابط مفيدة تتعلق بموضوع النسخ في القرآن ذكرها ابن عبدالبر - رحمه الله - في ثنايا كتبه حاولت جمعها وتطبيقها على بعض الآيات .
ومعرفة مثل هذه القواعد والضوابط من الأمور المهمة ، وخاصة في مثل هذا الموضوع الذي تعددت فيها الآراء ، واختلفت فيه الأقوال ، وحصل فيه لبسٌ على الكثير بسبب عدم ضبط هذا الموضوع بضوابط واضحة يتميز من خلالها صحيح الأقوال من باطلها ، وقويها من ضعيفها .
وقد سبقت الإشارة إلى شيء منها من خلال ما سبق من وقفات ولكني أفردتها في هذه الوقفة لأهميتها ، فإلى هذه القواعد والضوابط :

أولاً :
( الناسخ والمنسوخ إنَّما يكون في الأوامر والنواهي من الكتاب والسنة ، وأمَّا الخبر عن الله عزوجل أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلايجوز النسخ فيه ألبتة بحال ؛ لأن المخبر عن الشيء أنه كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل من السهو أو الكذب ، وذلك لايُعزى إلى الله ولا إلى رسوله فيما يخبر به عن ربه في دينه .وأمَّا الأمر والنهي فجائز عليهما النسخ للتخفيف ، ولما شاء الله من مصالح عباده ، وذلك من حكمته لا إله إلاَّ هو )( 1) ا هـ .
وهذه القاعدة معلومة ، ومتفق عليها عند القائلين بالنسخ ، وهي تعتبر شرطاً من شروط النسخ ؛ فمن شروط صحة ا لنسخ أن يكون المنسوخ حكماً لا خبراً ، إذ الأخبار لايدخلها النسخ كأخبار ما كان وما يكون ، وأخبار الجَنَّة والنار ، وما ورد من أسماء الله وصفاته( 2) .
وهذه مجموعة تنبيهات متعلقة بهذه القاعدة :

التنبيه الأول : لايدخل في مفهوم هذه القاعدة الأخبار التي يراد بها الإنشاء ، فالخبر الذي ليس محضاً بأن كان في معنى الإنشاء ، ودلّ على أمر أو نهي متصلين بأحكام فرعية عملية لا نزاع في جواز نسخه والنسخ به ؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ .
ومن أمثلة الخبر بمعنى الأمر قوله تعالى : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِيـنَ دَأَبًا } [ يوسف : 47 ] فالمعنى هنا : ازرعوا(3 ) ، وكذلك قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [ البقرة : 228 ] .
ومن أمثلة الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : { الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } [ النور : 3 ] فما ذكر الله في هذه الآية يمتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنا وجدنا زانياً ينكح غير زانية ، وزانية تتزوج غير الزاني ، فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر ، فثبت أنه أراد الحكم والنهي( 4) .
ومن أمثلة ما كان لفظه خبراً ومعناه الأمر ، وهو منسوخ قوله تعالى : { إِن يَكُن مّـِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } الآية [ الأنفال : 65 ] جاء نسخه في الآية التي بعد هذه وهي قوله تعالى :{ الْئـنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مّـِنْكُم مّـِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } الآية [ الأنفال : 66 ] .
فالقول الراجح - وهو قول الجمهور - أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية مع أن لفظها وظاهرها خبر ، إلاَّ أن المراد منه الأمر ، كما قرر ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله(5) - .

التنبيه الثاني : الأحكام الثابتة المتعلقة بالعقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات لا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء .
وعليه فإن النسخ إنَّما يكون في الأحكام المتعلقة بفروع العبادات والمعاملات الجزئية .
والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد ، أو هي كمياتها وكيفياتها ، وأمَّا أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف .
ويتصل بهذا أن الأديان الإلهية لاتناسخ بينها فيما ذُكر من الأمور التي يتناولها النسخ ؛ بل هي متحدة في العقائد ، وأمهات الأخلاق ، وأصول العبادات والمعاملات ، وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقاً لايقبل النسخ والنقض ، ومن أمثلة ذلك من القرآن الكريم :
1 - قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مّـِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيـم وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] .
2 - قوله تعالى : { يَــأَيُّـــهَا الَّذِيـنَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 183 ] .
3 - قوله تعالى : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيـنَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } [ الحج : 27 ] .
4 - قوله تعالى : { ... وَأَوْصَانِي بِالصَّلَو ةِ وَالزَّكَو ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا .وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } [ مريم : 31 ، 32 ] .
5 - قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ...} إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة لقمان عن وصايا لقمان لابنه [ لقمان : 13 - 19 ] .
وأمثال أخرى كثيرة في القرآن الكريم(6) .

التنبيه الثالث : قد ينسخ لفظ الخبر المحض دون مدلوله ، وهذا جائزٌ بإجماع من قالوا بالنسخ ، ويكون ذلك بأن تنزل الآية مخبرة عن شئ ثُمَّ تنسخ تلاوتها فقط ، ومن ذلك ما صحّ من أخبار ، مثل { بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا } و { لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً ، ولايملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب } ، وغير ذلك من الأمثلة التي جاءت بلفظ الخبر ونسخت تلاوتها( 7) .

ثانياً : (. لايكون النسخ إلاَّ فيما يتدافع ويتعارض )(8)

وهذه قاعدة مهمة في موضوع النسخ ، وهي تعتبر شرطاً من شروط صحة النسخ وذلك أن من شروط صحة النسخ أن يمتنع اجتماع الناسخ والمنسوخ ، بأن يكونا متنافيين قد تواردا على محل واحد ، يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه أو العكس(9) .
وبعبارة أخرى : يشترط لصحة النسخ تعذر الجمع بين الدليلين ، فإن أمكن الجمع فلا نسخ لإمكان العمل بكل منهما( 10) .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - في توضيح هذه القاعدة : ( ولا سبيل إلى نسخ قرآن بقرآن ، أو سنة بسنة ، ما وجد إلى استعمال الآيتين أو السنتين سبيل )( 11) ا هـ .
ومن الأمثلة التي توضح هذه القاعدة ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - في الجمع بين قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ... } الآية [ البقرة : 221 ] وقوله تعالى في سورة المائدة : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَــ!ــتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْـكِـــتَـابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْـكِـــتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] حيث قال : ( إن إحدى الآيتين ليست بأولى بالاستعمال من الأخرى ، ولا سبيل إلى نسخ إحداهما بالأخرى ما كان إلى استعمالهما سبيل ، فآية سورة البقرة عند العلماء في الوثنيات والمجوسيات ، وآية المائدة في الكتابيات )( 12) ا هـ .
ومِمَّا قاله - أيضاً - تأكيداً على هذه القاعدة : ( ولاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه )(13) ا هـ .
قال هذا في سياق كلام له في الجمع بين آيتين ادّعى بعض العلماء أن إحداهما ناسخة للأخرى ، قال - رحمه الله - : ( وأجمع الجمهور منهم أن الخلع والفدية والصلح ؛ أن كل ذلك جائزٌ بين الزوجين في قطع العصمة بينهما وأن كل ما أعطته على ذلك حلالٌ له ، إذا كان مقدارَ الصداق فما دونه ، وكان ذلك من غير إضرار منه بها ، ولا إساءة إليها .
إلاَّ بكر بن عبدالله المزني(14) ، فإنه شذّ ، فقال : لايحل له أن يأخذ منها شيئاً على حالٍ من الأحوال .
وزعم أن قوله عزوجل : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) } [ البقرة : 229 ] منسوخ بقوله عزوجل : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيــْئـًـا } [ النساء : 20 ] إلى قوله : { مِيثَاقًا غَلِيظًا } [ النساء : 21 ] .
وهذا خلاف السنة الثابتة في أمر رسول الله U ثابت بن قيس بن شماس أن يأخذ من زوجته ما أعطاها ، ويخلي سبيلها( 15) ، ولاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه ) ا هـ .
ثُمَّ ذكر أن الآيتين يُمكن الجمع بينهما بأن نجعل قوله عزوجل : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] محمولاً على رضاهما ، ونجعل قوله عزوجل : { فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيــْــــ:ـــًـا} [ النساء : 20 ] محمولاً على الأخذ بغير رضاها ، وعلى كره منها وإضرار بها ، وبهذا الجمع يصح استعمال الآيتين( 16) .

ثالثاً : ( لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ، ولايحتمل التأويل )( 17) .
ويُمكن التعبير عن هذه القاعدة بعبــارة مختصرة ، وهي : النسخ لايثبت مع الاحتمال( 18) .
فلابد في النسخ من دليل يدل عليه ، سواء من الآية نفسها ، أو بواسطة النقل الصريح عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو عن الصحابة ، أو إجماع الأمة ، أو عن طريق وقوع التعارض الحقيقي مع معرفة التاريخ ، إذ إن هذا دليل على النسخ ، كما أنه في الوقت نفسه من الشروط اللازمة للقول به(19) .
( والحاصل أن الناسخ والمنسوخ إنَّما يعرفان بمجرد النقل الدال على ذلك ، ولايعرف ذلك بدليل عقلي ولا بقياس )( 20) .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ولايقطع بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بدليل لا معارض له أو إجماع )( 21) ا هـ .
قال الشاطبي - رحمه الله - : ( الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لايكون إلاَّ بأمر محقق ؛ لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق ، فرفعها بعد العلم بثبوتها لايكون إلاَّ بمعلوم محقق )( 22) ا هـ .
ومن أمثلة هذه القاعدة ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - في سياق كلامه عن خلاف العلماء في حكم الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا ، حيث قال : ( وقال آخرون : واجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه إذا تحاكموا إليه ، وزعموا أن قوله عزوجل : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] ناسخ للتخيير في الحكم بينهم في الآية التي قبل هذه .
وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وبه قال الزهري وعمر بن عبدالعزيز، والسدي ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ، وهو أحد قولي الشافعي ...
قال أبو عمر : الصحيح في النظر عندي أن لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بما قام به الدليل الذي لا مدفع له ، ولايحتمل التأويل ، وليس في قوله عزوجل : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] دليلٌ على أنها ناسخة لقوله عزوجل : { فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيــْـئـًـا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 42 ] لأنها تحتمل أن يكون معناها : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت ولاتتبع أهواءهم فتكون الآيتان محكمتين مستعملتين غير متدافعتين .
فقف على هذا الأصل في نسخ القرآن بعضه ببعض ؛ لأنه لايصح إلاَّ بإجماع لاتنازع فيه ، أو بسنة لا مدفع لها ، أو يكون التدافع في الآيتين غير ممكن فيهما استعمالهما ولا استعمال أحدهما إلاَّ بدفع الأخرى فيُعلم أنها ناسخة لها ، وبالله التوفيق )( 23) ا هـ .
ومن الضوابط التي يعرف بها الناسخ والمنسوخ ما ذكره - رحمه الله - بقوله : ( بعمل الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقف على الناسخ والمنسوخ فافهم )( 24) ا هـ .
ومعنى هذا أن عمل الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ ، وذلك عندما يكون هناك تعارض بين حكمين - مثلاً - دل عليهما دليلان من الكتاب ، أو من السنة ، ولا سبيل إلى الجمع بينهما إلاَّ بإبطال الآخر ونسخه - فعمل الخلفاء الراشدين بأحد الحكمين مع عدم مخالفة الصحابة لهم يدل على أن الحكم الذي عملوا به ناسخ للآخر ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أمته بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده كما في حديث العرباض بن سارية المعروف( 25) .
وفي هذا ردٌّ على من زعم - من المبتدعة ومن وافقهم - أن حكم الرجم منسوخٌ وذلك لأن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قد قرر في خطبة طويلة له أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رجم ، وأنهم قد رجموا بعده ، فكيف يقال بعد ذلك إن حكم الرجم منسوخ يقيناً( 26) ؟ !! .


الحوشي السفلية

( 1) التمهيد 3/215 .
( 2) انظر : الفقه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/255 ، 256 ، وانظر : الأصول من علم الأصول لابن عثيمين ص 46 .
( 3) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/229 .
( 4) انظر : أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص 3/346 .
( 5) انظر : تفسير الطبري 10/41 ، وانظر : الأصول من علم الأصول للشيخ ابن عثيمين ص 46 ، والآيات المنسوخة في القرآن الكريم لعبد الله الشنقيطي ص 99 - 104 .
( 6) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/228 ، 230 ، 231 ، والأصول من علم الأصول لابن عثيمين ص 46 ، وانظر : الموافقات للشاطبي 3/88 .
( 7) انظر : كتاب قواعد التفسير جمعاً ودراسة لخالد بن عثمان السبت 2/732 .
( 8) انظر : الاستذكار 1/234 .
( 9) انظر : كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 258 .
( 10) انظر : كتاب الأصول من علم الأصول للشيخ محمد العثيمين ص 47 .
( 11) التمهيد 1/307 .
( 12) الاستذكار 16/271 .
( 13) الاستذكار 17/176 .
( 14) هو : بكر بن عبدالله بن عمرو ، الإمام ، القدوة ، الواعظ ، الحجة ، أبو عبدالله المُزَنيّ ، البصري ، أحد الأعلام ، يُذكر مع الحسن وابن سيرين ، كان ثقة ، ثبتاً ، كثير الحديث ، حجة ، فقيهاً ، وكان مجاب الدعوة ، مات سنة 108 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 4/532 - 536 .
( 15) انظر قصة ثابت بن قيس بن شماس مع امرأته في : موطأ الإمام مالك كتاب الطلاق ، باب : ماجاء في الخلع 2/442 ، 443 ، وصحيح البخاري كتاب الطلاق ، باب : الخلع وكيف الطلاق فيه 5/2021 ، 2022 .
( 16) الاستذكار 17/176 .
( 17) التمهيد 14/391 ، والاستذكار 24/15 ، 16 .
( 18) انظر : كتاب قواعد التفسير جمعاً ودراسة لخالد بن عثمان السبت 2/728 .
( 19) المرجع السابق 2/728 .
( 20) معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد بن حسين الجيزاني ص 258 .
( 21) الاستذكار 1/367 .
( 22) الموافقات في أصول الشريعة 3/79 .
( 23) الاستذكار 24/15 ، 16 بتصرف واختصار يسير ، وانظر : التمهيد 14/391 ، 392 .
( 24) التمهيد 12/278 .
( 25) حديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود في كتاب السنة ، باب : في لزوم السنة 5/13 - 15 ، والترمذي في كتاب العلم ، باب : في الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5/43 وقال : هذا حديث حسن صحيح . انظر : صحيح الجامع الصغير رقم [2549] 1/499 .
( 26) ذكر ذلك صاحب كتاب الرأي الصواب في منسوخ الكتاب الذي سبق الإشارة إليه .
 
ملحوظات
من الفوائد المهمة معرفة مراد السلف بالناسخ والمنسوخ .
والذي تقرر أن مرادهم بالنسخ مطلق ما يرفع من معنى الآية أو حكمها ، فهو أعمُّ من اصطلاح المتأخرين .
وما يذكره البعض أحياناً إنما هو في النسخ الكلي الذي يتعلق بالأحكام ، وهو جزء من مفهوم النسخ عند السلف ، ويمكن القول بأن النسخ في مفهوم السلف ينقسم إلى قسمين :
الأول : النسخ الكلي ، وهذا يقع في الأحكام ، وهو الذي درج عليه اصطلاح المتأخرين .
الثاني : النسخ الجزئي ، وهذا يقع في الأخبار والأحكام ، كتخصيص العموم ، وتقييد المطلق ، وغيرها .
ومن ثمَّ ، فالاستشهاد بآثار السلف التي تذكر لفظ النسخ على أن مرادهم به النسخ الكلي ففيه نظر كالأثر الوارد عن علي في مروره بالقاص الذي يقص فقال : أنعرف الناسخ والمنسوخ ، إذ اصطلاحهم أعمُّ .
والموضوع في هذه الجزئية ممتع وطويل أكتفي منه بهذه التذكرة .
أسأل الله لي ولكم التوفيق .
 
قال شيخ الاسلام(مجموع الفتاوى 13\29):
فانسخ عندهم اسم لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل وان كان ذلك المعنى لم يرد بها وان كان لا يدل عليه ظاهر الآية بل قد لا يفهم منها وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الابهام والافهام نسخا .

ثم قال - وهي قضية مهمة - :
وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم
 
الأخ الفاضل ( أبو حيان )
ما ذكرته عن شيخ الإسلام من دقائق العلم بمصطلحات السلف ، ولم أره لغيره رحمه الله ، والأمر يحتاج إلى مثال يوضِّح ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ، وقد ذكر رحمه الله مثالاً لذلك ، واعتمد على قوله تعالى (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم آياته ) فما يقع في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه هو من إلقاء الشيطان ، وما يرفع هذا الفهم هو نسخ عندهم .
ومن الأمثلة التي مثَّل بها ، ما فهمه الصحابة من معنى قوله تعالى : (( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله )) فنسخ هذا الفهم بقوله تعالى : (( لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها... )) . ( ينظر : الفتاوى 13 : 30 )
فقد فهموا أنه يدخل في المحاسبة ما يدور في النفس ، وأنه سيعاقبون عليه (1)، وذلك موطن إجمال زال وبان بالآية الثانية .
فلو جعلته من باب بيان المجمل ، فهو نسخ عند السلف ، وإن جعلته من باب نسخ ما وقع في الأذهان من معنى ، فهو من النسخ عندهم أيضًا ، والله أعلم .
وقد قال في تفسير هذه الآية : (( ومن قال من السلف نسخها ما بعدها ، فمرادهم بيان معناها والمراد منها ، وذلك يسمى نسخًا في لسان السلف ، كما يسمون الاستثناء نسخًا )) . ( دقائق التفسير 1 : 250 )
.........
يقول شيخ الإسلام : " وقد عرفت بهذا أن الآية لا تقتضي العقاب على خواطر النفوس المجردة ، بل إنما تقتضي محاسبة الرب العبد بها ، وهي أعم من العقاب ، والأعم لا يستلزم الأخص ، وبعد محاسبته بها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .... " دقائق التفسير 1 : 250 .
 
إضافة حول مسألة النسخ إلى غير بدل

إضافة حول مسألة النسخ إلى غير بدل

قال الشنقيطي رحمه الله في بعض مسائل النسخ المستنبطة من قول الله تعالى : (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل:101)
( المسألة الثالثة : اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم: من جواز النسخ بلا بدل، وعزاه غير واحد للجمهور، وعليه درج في المراقي بقوله:
وينسخ الخف بما له ثقل وقد يجيء عاريا من البدل

أنه باطل بلا شك. والعجب ممن قال به العلماء الأجلاء مع كثرتهم، مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فلا كلام البتة لأحد بعد كلام الله تعالى: {أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً}، {ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ} فقد ربط جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين النسخ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء. ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط. فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر.
وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَـٰجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَٰكُمْ صَدَقَةً} فإنه نسخ بقوله: {أَءَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَٰكُمْ صَدَقَـٰتٍ}، ولا بدل لهذا المنسوخ.
فالجواب ـ أن له بدلاً، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها، بدلاً من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر.)
 
بارك الله فيك على طرحك العميق للموضوع -كما عودتنا دائما-.

زادك الله بسطة في العلم والجسم, ونفع بك الإسلام والمسلمين ((في مشارق الأرض ومغاربها))... امين امين.
 
سر بديع قل من تفطن له من الناس حول الأحكام المنسوخة

سر بديع قل من تفطن له من الناس حول الأحكام المنسوخة

عقد ابن القيم رحمه الله فصلاً في كتابه القيم " مفتاح دار السعادة " ذكر فيه سراً بديعا من أسرار الخلق والأمر وهو أن الله لم يخلق شيئاً ولم يأمر بشيء ثم أبطله وأعدمه بالكلية ، بل لا بد أن يثبته بوجه ما ؛ لأنه إنما خلقه لحكمة له في خلقه......

ومما جاء فيه - مع اختصار يسير - : ( وإذا تأملت الشريعة والخلق رأيت ذلك ظاهراً . وهذا سر قل من تفطن له من الناس ؛ فتأمل الأحكام المنسوخة حكماً حكماً كيف تجد المنسوخ لم يبطل بالكلية ، بل له بقاء بوجه.

فمن ذلك نسخ القبلة وبقاء بيت المقدس معظماً محترماً تشد إليه الرحال ويقصد بالسفر إليه وحط الأوزار عنده واستقباله مع غيره من الجهات في السفر فلم يبطل تعظيمه واحترامه بالكلية، وإن بطل خصوص استقباله بالصلوات فالقصد إليه ليصلى فيه باق وهو نوع من تعظيمه وتشريفه بالصلاة فيه والتوجه إليه قصداً لفضيلته وشرعه له نسبة من التوجه إليه بالاستقبال بالصلوات فقدم البيت الحرام عليه في الاستقبال لأن مصلحته أعظم وأكمل وبقي قصده وشد الرحال إليه والصلاة فيه منشأ للمصلحة فتمت للأمة المحمدية المصلحتان المتعلقتان بهذين البيتين . وهذا نهاية ما يكون من اللطف وتحصيل المصالح وتكميلها لهم فتأمل هذا الموضع.

ومن ذلك نسخ التخيير في الصوم بتعيينه ؛ فإن له بقاءً وبياناً ظاهراً وهو أن الرجل إذا أراد أفطر وتصدق فحصلت له مصلحة الصدقة دون مصلحة الصوم، وإن شاء صام ولم يفد فحصلت له مصلحة الصوم دون الصدقة. فحتم الصوم على المكلف لأن مصلحته أتم وأكمل من مصلحة الفدية وندب إلى الصدقة في شهر رمضان فإذا صام وتصدق حصلت له المصلحتان معاً. وهذا أكمل ما يكون من الصوم وهو الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان أجود ما يكون في رمضان فلم تبطل المصلحة الأولى جملة بل قدم عليها ما هو أكمل منها وجوباً وشرع الجمع بينها وبين الأخرى ندباً واستحباباً.

ومن ذلك نسخ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من العدو بثباته للاثنين ولم تبطل الحكمة الأولى من كل وجه بل بقي استحبابه وإن زال وجوبه. بل إذا غلب على ظن المسلمين ظفرهم بعدوهم وهو عشرة أمثالهم وجب عليهم الثبات وحرم عليهم الفرار؛ فلم تبطل الحكمة الأولى من كل وجه.

ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبطل حكمه بالكلية بل نسخ وجوبه وبقي استحبابه والندب إليه وما علم من تنبيه وإشارته وهو أنه إذا استحبت الصدقة بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الصلوات والدعاء أولى ؛ فكان بعض السلف الصالح يتصدق بين يدي الصلاة والدعاء إذا أمكنه ويتأول هذه الأولوية. ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يفعله ويتحراه ما أمكنه وفاوضته فيه فذكر لي هذا التنبيه والإشارة.

ومن ذلك نسخ الصلوات الخمسين التي فرضها الله على رسوله ليلة الإسراء بخمس فإنها لم تبطل بالكلية بل أثبتت خمسين في الثواب والأجر خمساً في العمل والوجوب. وقد أشار تعالى إلى هذا بعينه حيث يقول على لسان نبيه: "لا يبدل القول لدي هي خمس وهي خمسون في الأجر". فتأمل هذه الحكمة البالغة والنعمة السابغة فإنه لما اقتضت المصلحة أن تكون خمسين تكميلاً للثواب وسوقاً لهم بها إلى أعلى المنازل ، واقتضت أيضاً أن تكون خمساً لعجز الأمة وضعفهم وعدم احتمالهم الخمسين جعلها خمساً من وجه وخمسين من وجه جمعاً بين المصالح وتكميلاً لها . ولو لم نطلع من حكمته في شرعه وأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لهم على أتم الوجوه إلا على هذه الثلاثة وحدها لكفى بها دليلاً على ما رآها فسبحان من له في كل ما خلق وأمر حكمة بالغة شاهدة له بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأنه الله الذي لا إله إلا هو رب لعالمين.

ومن ذلك الوصية للوالدين والأقربين ؛ فإنها كانت واجبة على من حضره الموت ثم نسخ الله ذلك بآية المواريث وبقيت مشروعة في حق الأقارب الذين لا يرثون. وهل ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه قولان للسلف والخلف وهما في مذهب أحمد ؛ فعلى القول الأول بالاستحباب إذا أوصي للأجانب دونهم صحت الوصية ولا شيء للأقارب وعلى القول بالوجوب فهل لهم أن يبطلوا وصية الأجانب ويختصوا هم بالوصية كما للورثة أن يبطلوا ما زاد على ثلث المال من الوصية ويكون الثلث في حقهم بمنزلة المال كله في حق الورثة؟ على وجهين . وهذا الثاني أقيس وأفقه ..
.
ومنه نسخ الاعتداد بأربعة أشهر وعشر على المشهور من القولين في ذلك فلم تبطل العدة الأولى جملة.

ومن ذلك حبس الزانية في البيت حتى تموت فإنه على أحد القولين لا نسخ فيه لأنه مغياً بالموت أو يجعل الله لهن سبيلاً وقد جعل الله لهن سبيلاً بالحد. وعلى القول الآخر هو منسوخ بالحد وهو عقوبة من جنس عقوبة الحبس فلم تبطل العقوبة عنها بالكلية بل نقلت من عقوبة إلى عقوبة وكانت العقوبة الأولى أصلح في وقتها لأنهم كانوا حديثي عهد بجاهلية وزناً فأمروا بحبس الزانية أولاً ثم لما استوطنت أنفسهم على عقوبتها وخرجوا عن عوائد الجاهلية وركنوا إلى التحريم والعقوبة في وقتها نقلوا إلى ما هو أغلظ من العقوبة الأولى وهو الرجم والجلد فكانت كل عقوبة في وقتها هي المصلحة التي لا يصلحهم سواها ...)
 
جزاك الله عنا كل خير لبحثك القيم يا ابا مجاهد ... عندي 3 أسئلة أرجو فيها الافاضة ان استطعت, ولك الشكر الجزيل:
1- ماذا تجيب على من قالوا بالتدرج النصي ورفضوا النسخ؟
2- خاتمة البحث جاء بالكلام على آية في سورة النساء: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } (15) سورة النساء ... البعض يقول ان هذه الاية تتحدث عن السحاق وليس عن الزنى ويستدل بالاية التي تليها :{وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } (16) سورة النساء فكلمة {واللذان} في الاية تشير الى اللواط حيث اتت الصيغة بالمذكر, فتناسب ان تكون الاية السابقة تتكلم عن السحاق او عن الفاحشة بشكل عام ... أرجو الافادة على مدى صحة هذا الكلام
3- حسبما قرأت فاني وقفت على ان سورة النحل هي سورة مكية وقد استدللت بقوله تعالى في سورة النحل : (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل:101) على النسخ ... فهل حصل في القرآن المكي نسخ؟ ام انها محمولة على الاعجاز القرآني في تنبؤه لما سيقول الكفار والمشركون لاحقا؟
وجزاك الله عنا كل خير
 
أخي سيف الدين وفقك الله

أعتذر عن التأخر في الإجابة عن أسئلتك ...

وعن سؤالك عن آية النساء {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } (15) أفيدك بأنه قد أشار الأخ الدكتور أحمد البريدي إلى شيء متعلق بسؤالك عنها هنا :دراسة مفصلة للمراد بقوله تعالى " :{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُما }

وهذا رابط آخر حول هذه الآية : حول آية

وسيأتي الجواب عن بقية أسئلتك إن شاء الله
 
سيف الدين قال:
جزاك الله عنا كل خير لبحثك القيم يا ابا مجاهد ... عندي 3 أسئلة أرجو فيها الافاضة ان استطعت, ولك الشكر الجزيل:
1- ماذا تجيب على من قالوا بالتدرج النصي ورفضوا النسخ؟
2- خاتمة البحث جاء بالكلام على آية في سورة النساء: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } (15) سورة النساء ... البعض يقول ان هذه الاية تتحدث عن السحاق وليس عن الزنى ويستدل بالاية التي تليها :{وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } (16) سورة النساء فكلمة {واللذان} في الاية تشير الى اللواط حيث اتت الصيغة بالمذكر, فتناسب ان تكون الاية السابقة تتكلم عن السحاق او عن الفاحشة بشكل عام ... أرجو الافادة على مدى صحة هذا الكلام
3- حسبما قرأت فاني وقفت على ان سورة النحل هي سورة مكية وقد استدللت بقوله تعالى في سورة النحل : (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل:101) على النسخ ... فهل حصل في القرآن المكي نسخ؟ ام انها محمولة على الاعجاز القرآني في تنبؤه لما سيقول الكفار والمشركون لاحقا؟
وجزاك الله عنا كل خير

أما السؤال الأول فلا أدري ما مرادك بالقائلين بالتدرج النصي؛ من هم ؟ وما مرادهم؟ وهل لقولهم مثال يوضح مرادهم؟.

أما السؤال الثاني؛ فقد سبق التعليق عليه في الروابط المذكورة في الإجابة السابقة.

وأما السؤال الثالث عن قول الله تعالى : في سورة النحل : (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (النحل:101) ؛ فلا شك أن لفظ الآية يدل على إنكار الكافرين لتبديل وقع قبل إنكارهم.

ولا فرق بين المكي والمدني في وقوع النسخ.

ومما يدل على وقوع النسخ في القرآن المكي نسخ قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا . نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ..} كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة.
 
[align=center][align=center]فائــدة أخرى للقرطبي رحمه الله :

(من معاني النسخ) إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه , كقولهم : نسخت الريح الأثر , ومن هذا المعنى قوله تعالى " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " [ الحج : 52 ] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله . وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب

قلت : ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة " الأحزاب " كانت تعدل سورة البقرة في الطول , على ما يأتي مبينا هناك إن شاء الله تعالى . ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الأنباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب قال : حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها , وقام آخر فلم يقدر على شيء منها , فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال أحدهم : قمت الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها , فقام الآخر فقال : وأنا والله كذلك يا رسول الله , فقام الآخر فقال : وأنا والله كذلك يا رسول الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها مما نسخ الله البارحة ) . وفي إحدى الروايات : وسعيد بن المسيب يسمع ما يحدث به أبو أمامة فلا ينكره .أ.هـ.
[/align]


وهذ ا إن صح وقوعه من نوع إلى غير بدل ، بعكس ما يراه الشنقيطي
[/align]
 
بارك الله فيكم يا أبا مجاهد على هذا البحث القيم .
تثار الكثير من الشبهات حول النسخ في الكتابات المعاصرة، جديرة بإعادة النظر للموضوع وبسطه في كتب الثقافة الإسلامية العامة ومناهج الدراسة، حيث إنه من الموضوعات التي يجدر بالمتخصصين بسطها وتقريبها لغيرهم لكثرة الشبهات حولها في المقالات والكتابات والبرامج الفضائية دون وجود ردود كافية .
 
من المواضيع الجديرة برفعها والاطلاع عليها، جزى الله أبا مجاهد خير الجزاء على ما كتبه قبل ما يقرب من عشر سنوات في هذا الموضوع المهم .
 
حدثنا سيف عن مجاهد ، قال : كانت الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول ، ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير ، ولم يذهب منه حلال ولا حرام ) .

هذا أيام مسيلمة أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ماذا نفهم من هذه الجملة ؟ فضلا عن بقية الكوارث السابقة واللاحقة ، ومن يعارض يلاقي صنوف الأذى والتبديع والاتهام بالاعتزال وغيره بينما القائل بضياع القرآن عالم جهبذ يسير على خطى السلف الصالح.
غفر الله لنا ولكم
 
عودة
أعلى