مثال على أثر الإعراب في الجمع بين القراءات عند النحويين

إنضم
18/05/2011
المشاركات
1,237
مستوى التفاعل
1
النقاط
38
قال تعالى: { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }.
جاء في الدر المصون:
قوله: { أَلاَّ يَسْجُدُواْ }: قرأ الكسائيُّ بتخفيف " ألا " ، والباقون بتشديدها. فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ فـ " ألا " فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، و " يا " بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و " اسْجُدوا " فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ " يا اسْجُدوا " ، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ " يا " وهمزةَ الوصلِ من " اسْجُدوا " خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا الياءَ بسين " اسْجُدوا " ، فصارَتْ صورتُه " يَسْجُدوا " كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً.
واختلف النحويون في " يا " هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادَىٰ محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه:
{ يٰلَيتَنِي }
[الآية: 73] في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترىٰ أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادَىٰ كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو " ألا ". وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيداً. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3559ـ فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]......................[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
فغيرُ العامِلَيْن أَوْلَىٰ. وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3560ـ فلا واللهِ لا يُلْفَىٰ لِما بي [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ " يا " لفعلِ الأمرِ وقبلَها " ألا " التي للاستفتاح كقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3561ـ ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3562ـ ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3563ـ ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]364ـ ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3565ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3566ـ ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]............................[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3567ـ فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]فقلتُ: سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها " ألا " كقوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3568ـ يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم.
وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]3569ـ يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ [/TD]
[TD] [/TD]
[TD]والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادىٰ محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.
واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على " يَهْتَدون " تامٌّ.
وله أن يَقِفَ على " ألا يا " معاً ويَبْتَدىءَ " اسْجُدوا " بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على " ألا " وحدَها، وعلى " يا " وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً. فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.

وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ، أحدها: أنَّ " ألاَّ " أصلُها: أَنْ لا، فـ " أنْ " ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، و " لا " بعدها حَرفُ نفيٍ. و " أنْ " وما بعدها في موضع مفعولِ " يَهْتَدون " على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن/ لا يَسْجُدوا. و " لا " مزيدةٌ كزيادتِها في
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ }
[الحديد: 29]. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ " أعمالَهم " وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله. الثالث: أنه بدلٌ من " السبيل " على زيادةِ " لا " أيضاً. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالىٰ. الرابع: أنَّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان، أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بـ " صَدَّهم " أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي " لا " حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنىٰ: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.

الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على " أعمالَهم " التقديرُ: هي أن لا يَسْجدوا، فتكون " لا " على بابِها من النفي، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على " السبيل ". التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون " لا " مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنىٰ.

وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على " يَهْتدون " لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ " زَيَّن " و " صَدَّ " ، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ " أعمالَهم " أو من " السبيل " على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه.

وقد كُتِبَتْ " ألاَّ " موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ " أنْ " منفصِلةً مِنْ " لا " فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على " أنْ " وحدَها لاتِّصالِها بـ " لا " في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على " ألاَّ " بجملتِها، كذا قال القُراء.
والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً بـ " لا " غيرُ مانعٍ من ذلك. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها بـ " لا " ، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحاً.

وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً: وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: " فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك ". فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.

قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، على أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد ـ وهو الظاهرُ ـ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يَخْفىٰ.

وقرأ الأعمشُ " هَلاَّ " ، و " هَلا " بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ " لا " وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله. وقرأ عبدُ الله " تَسْجُدون " بتاء الخطابِ ونونِ الرفع. وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ. فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو: " ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث " وفي حرف عبدِ الله أيضاً: " ألا هَلْ تَسْجدُون " بالخطاب.

قوله: { ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ } يجوز أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتاً له أو بدلاً منه أو بياناً، أو منصوبَه/ على المدحِ، ومرفوعَه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. والخَبْءُ مصدرُ خَبَأْتُ الشَيءَ أخبَؤُه خَبْئاً أي: سَتَرْتُهُ، ثم أُطْلِقَ على الشيءِ المَخْبوء. ونحُوه:
{ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ }
[لقمان: 11]. وفي التفسير: الخَبْءُ في السماواتِ: المطرُ، وفي الأرض: النباتُ. والخابِيَةُ مِنْ هذا، إلاَّ أنهم التزموا فيها تَرْكَ الهمزةِ كالبَرِيَّة والذُّرِّيَّة عند بعضِهم. وقرأ أُبَيٌّ وعيسى " الخَبَ " بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الباءِ، وحَذْفِ الهمزة، فيصيرُ نحوَ: رأيتُ الأَبَ. وقرأ عبد الله وعكرمةُ ومالك بن دينار " الخبا " بألفٍ صريحة. ووجْهُها: أنه أبدلَ الهمزةَ ألفاً فلزِمَ تحريكُ الباءِ، وذلك على لغةِ مَنْ يَقِفُ من العرب بإبدال الهمزةِ حرفاً يجانِسُ حركتَها فيقول: هذا الخَبُوْ، ورأيتُ الخَبا ومررت بالخَبِي، ثم أُجْرِي الوصلُ مُجْرَىٰ الوقفِ.
وعندي أنه لَمَّا نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها لم يَحْذِفْها، بل تركها فسكنَتْ بعد فتحةٍ فدُيِّرَتْ بحركةِ ما قبلها، وهي لغةٌ ثابتةٌ يقولون: المَراة والكَماة بألفٍ مكانَ الهمزةِ بهذه الطريقةِ.

وقد طَعن أبو حاتم على هذه القراءةِ وقال: " لا يجوزُ في العربيةِ؛ لأنه إنْ حَذَفَ الهمزة ألقىٰ حركتَها على الباء، فقال: الخَبَ، وإن حَوَّلها قال: الخَبْيَ بسكونِ الباءِ وياءٍ بعدَها " قال المبرد: " كان أبو حاتم دونَ أصحابِه في النحوِ، لم يَلْحَقْ بهم، إلاَّ أنه إذا خَرَجَ مِنْ بلدِهم لم يَلْقَ أَعْلَمَ منه ".

قوله: { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ " الخَبْءَ " أي: المخبوءَ في السماواتِ. والثاني: أنه متعلقٌ بـ " يُخْرِجُ " على أنَّ معنى " في " معنى " مِنْ " أي: يُخْرِجُه من السماواتِ. وهو قول الفراء.

قوله: { مَا تُخْفُونَ } قرأ الكسائيُّ وحفص بالتاء مِنْ فوقُ فيهما، والباقون بالياءِ مِنْ تحتُ. فالخطابُ ظاهرٌ على قراءةِ الكسائي؛ لأنَّ قبلَه أمْرَهم بالسجودِ وخطابَهم به. والغَيْبَةُ على قراءةِ الباقينِ ـ غيرَ حفصٍ ـ ظاهرةٌ أيضاً؛ لتقدُّمِ الضمائرِ الغائبةِ في قوله: " لهم " و " أعمالهم " و " صَدَّهم " و " فهمْ ". وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ أتمَّ قضيةَ أهلِ سَبَأ. ويجوز أَنْ يكونَ التفاتاً على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتاً إليه.

وقال ابن عطية: " القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ". وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقاً. وكذلك الخلافُ في قولِه { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } هل هو من كلامِ الهدهدِ استدراكاً منه، لَمَّا وَصَفَ عَرْشَ بلقيسَ العظيمَ، أو من كلامِ اللهِ تعالىٰ رَدَّا عليه في وَصْفِه عَرْشَها بالعظيم؟
والعامة على جرِّ " العظيم " تابعاً للجلالة. وابن محيصن بالرفعِ. وهو يحتمل وجهين. أن يكونَ نعتاً للربِّ، وأَنْ يكونَ مقطوعاً عن تبعيَّةِ العرش إلى الرفعِ بإضمارِ مبتدأ.
 
وجاء في أضواء البيان :
{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }
تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى:
{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }
[هود: 5] وقوله: { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ }. الآية كقوله تعالى:
{ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
[فصلت: 37] وقوله تعالى:
{ فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ }
[النجم: 62] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ } وقال بعض أهل العلم: الخبأ في السموات: المطر، والخبأ في الأرض: النبات، والمعادن، والكنوز، وهذا المعنى ملائم لقوله: { يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ } وقال بعض أهل العلم: الخبأ: السر والغيب أي يعلم ما غاب في السموات، والأرض، كما يدل عليه قوله بعده { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } وكقوله في هذه السورة الكريمة:
{ وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
[النمل: 75] وقوله
{ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
[يونس: 61] كما أوضحناه في سورة هود، وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير الكسائي: ألا يسجدوا لله بتشديد اللام في لفظه ألا، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظه لا، فالفعل المضارع على هذه القراءة، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر، وقيل في محل جر وفي إعرابه أوجه.
الأول: أنه منصوب على أنه مفعول من أجله: أي وزين لهم الشيطان أعمالهم، من أجل ألا يسجدوا لله: أي من أجل عدم سجودهم لله، أو فصدهم عن السبيل، لأجل ألا يسجدوا لله، وبالأول قال الأخفش، وبالثاني قال الكسائي، وقال اليزيدي وغيره: هو منصوب على أنه بدل من أعمالهم: أي وزين لهم الشيطان أعمالهم، ألا يسجدوا أي عدم سجودهم، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم لله، وهذا الإعراب يدل على أن الترك عمل كما أوضحناه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى:
{ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً }
[الفرقان: 30] وقال بعضهم: إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من السبيل. أو على أن العامل فيه فهم لا يهتدون، وعلى هذين الوجهين فلفظة لا صلة، فعلى الأول منهما. فالمعنى: فصدهم عن السبيل سجودهم لله، وعلى هذا فسبيل الحق الذي صدوا عنه، هو السجود لله، ولا زائدة للتوكيد، وعلى الثاني فالمعنى: فهم لا يهتدون لأن يسجدوا لله أي للسجود له، ولا زائدة أيضاً للتوكيد، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل، وموصول حرفي إن كان الفعل منفياً ذكرت لفظة عدم قبل المصدر، ليؤدي بها معنى النفي الداخل على الفعل، فقولك مثلاً: عجبت من أن لا تقوم، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول: عجبت من عدم قيامك، وإذا كان الفعل مثبتاً لم تذكر مع المصدر لفظة عدم، فلو قلت عجبت من أن تقوم، فإنك تقوم في سبك مصدره: عجبت من قيامك كما لا يخفى، وعليه فالمصدر المنسبك من قوله { أَلاَّ يَسْجُدُوا } يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفظة لا زائدة، وقد أشرنا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى:
{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ }
[الأعراف: 12] إلى أنا أوضحنا الكلام على زيادة لا لتوكيد الكلام في كتابنا [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب] في أول سورة البلد في الكلام، على قوله تعالى:
{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ }
[البلد: 1] وسنذكر طرفاً من كلامنا فيه هنا.
فقد قلنا فيه: الأول وعليه الجمهور. أن لا هنا صلة على عادة العرب فإنها ربما لفظت بلفظة لا، من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرد تقوية الكلام، وتوكيده كقوله تعالى:
{ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ }
[طه: 92] يعني أن تتبعني، وقوله تعالى:
{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }
[ص: 75] أي أن تسجد على أحد القولين. ويدل له قوله تعالى في سورة ص
{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }
[ص: 75] وقوله تعالى:
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ }
[الحديد: 29] وقوله تعالى:
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ }
[النساء: 65] الآية أي فوربك، وقوله تعالى:
{ وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ }
[فصلت: 34] أي والسيئة، وقوله تعالى:
{ وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
[الأنبياء: 95] على أحد القولين، وقوله تعالى:
{ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
[الأنعام: 109] على أحد القولين، وقوله تعالى:
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ }
[الأنعام: 151] الآية. على أحد الأقوال الماضية، وكقول أبي النجم:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]فما ألوم البيض ألا تسخرا[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]لما رأين الشمط القفندرا[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني أن تسخر، وقول الآخر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]وتلحينني في اللهو ألا أحبه[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]وللهو داع دائب غير سافل[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني أن أحبهن ولا زائدة، وقول الآخر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]أبي جوده لا البخل واستعجلت به[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]نعم من فتى لا يمفع الجود قاتله[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني أبا جوده البخل، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير، ولا سيما على رواية البخل بالجر، لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا، فليست زائدة على رواية الجر وقول امرئ القيس:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]فلا وأبيك أنبت العامري[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]لا يدعي القوم أني أفر[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]ما كان يرضى رسول الله دينهم[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]والأطيبان أبو بكر ولا عمر[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني وعمر ولا صلة، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]في بئر لا حور سرى وما شعر[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]بإفكه حتى رأى الصبح جشر[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
والحور الهلكة يعني في بئر هلكة ولا صلة. قاله أبو عبيدة وغيره. وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]أفعنك لا برق كان وميضه[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]غاب تسنمه ضرام مثقب[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
ويروى أفمنك وتشيمه بدل أفعنك وتسنمه، يعني أفعنك برق، ولا صلة، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]تذكرت ليلى فاعترتني صبابة[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]وكاد صميم القلب لا يتقطع[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني كاد يتقطع، وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]أعائش ما لقومك لا أراهم[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]يضيعون الهجان مع المضيع[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
فغلط منه، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله، مع أن أهلها يحفظون مالهم، أي لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية، على القول بأن لا فيها صلة، وكبيت ساعدة الهذلي، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أول الكلام دون غيره، فلا دليل عليه. انتهى محل الغرض من كتابنا: [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب].
وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة: ألا يسجدوا بتخفيف اللام من قوله ألا، وعلى قراءة الكسائي هذه، فلفظة ألا حرف استفتاح، وتنبيه ويا حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره ألا يا هؤلاء اسجدوا، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات، أنك إذا قيل لك: قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي أنك تقف في قوله: ألا يسجدوا ثلاث وقفات الأولى: أن تقف على ألا. والثانية: أن تقف على يا، والثالثة: أن تقف على اسجدوا، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار وأما على قراءة الجمهور، فإنك تقف وقفتين فقط. الأولى: على ألا، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا، والثانية: أنك تقف على يسجدوا.
واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان، الأولى: الألف المتصلة بياء النداء، والثانية: ألف الوصل في قوله: اسجدوا، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط، بأنهما لما سقطتا في اللفظ، سقطتا في الكتابة قالوا ومثل ذلك في القرآن كثير.
واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة ألا للاستفتاح والتنبيه، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط، واسجدوا فعل أمر قالوا، وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف، ومنه قول الأخطل:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]وإن كان حيانا عدى آخر الدهر[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقول ذي الرمة:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]ولا زال منهلاً بجر عائك القطر[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
فقوله في البيتين ألا اسلمي: أي يا هذه اسلمي، وقول الآخر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد[/TD]
[TD] [/TD]
[TD][/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وقول الشماخ:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]ألا يا صحبي أصبحاني قبل غارة سنجالي[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]وقبل منايا قد حضرن وآجالي[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني ألا يا صحبي أصبحاني، ونظيره قول الآخر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]ألا يا اسقياني قبل خيل أبي[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
يعني ألا يا هذا اسمع، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته قول الشاعر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]يا لعنة الله والأقوام كلهم[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]والصالحين على سمعان من جار[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
بضم التاء من قوله: لعنة الله، ثم قال فيالغير اللعنة يعني أن المراد: يا قوم لعنة الله إلى آخره، وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى، مع ذكر أداته مستشهداً لقراءة الكسائي المذكورة قول الشاعر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]يا قاتل صبياناً تجيء بهم[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]أم الهنينين من زند لها واري[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
ثم قال كأنه أراد قوم قاتل الله صبياناً، وقول الآخر:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]يا من رأى بارقاً أكفكفه[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]بين ذراعي وجبهة الأسد[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
ثم قال كأنه دعا يا قوم يا إخواتي، فلما أقبلوا عليه قال من رأى، وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته قول عنترة في معلقته:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]يا شاة ما قنص لمن حلت له[/TD]
[TD] [/TD]
[TD]حرمت على وليتها لم تحرم[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
قالوا: التقدير: يا قوم انظروا شاة ما قنص.

واعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن يا على قراءة الكسائي، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا: حرف تنبيه كرر للتوكيد، وممن روى عنه هذا القول أبو الحسن بن عصفور، وهذا القول اختاره أبو حيان في البحر المحيط، قال فيه: والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب، ليست: يا فيه للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقة، وهو المنادى، فكان ذلك إخلالاً كبيراً، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء وليس حرف النداء حرف جواب كنعم، ولا، وبلى، وأجل، فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال، على الجمل المحذوفة، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما يه: والمتفقي اللفظ العاملين في قوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]ولا للما بهم أبداً دواء[/TD]
[TD] [/TD]
[TD][/TD]
[/TR]
[/TABLE]
وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلاً فاجتماع غير العالمين، وهما مختلفا اللفظ يكون جائزاً، وليس يا في قوله:[TABLE="class: TextArabic"]
[TR]
[TD]يا لعنة الله والأقوام كلهم[/TD]
[TD] [/TD]
[TD][/TD]
[/TR]
[/TABLE]
حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه. انتهى الغرض من كلام أَبي حيان، وما اختاره له وجه من النظر.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما له وجه من النظر عندي في قراءة، الكسائي، أن يكون قوله: يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع، بلا ناصب، ولا جازم، وقد قال بعض أهل العلم: إن حذفها لا لموجب مما ذكر لغة صحيحة.
قال النووي في شرح مسلم في الجزء السابع عشر في صفحة 207 ما نصه: قوله: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا. كذا هو في عامة النسخ، كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا من غير نون وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرات. ومنها الحديث السابق في كتاب الإيمان " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا " انتهى منه، وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة. فلا مانع من أن يكون قوله تعالى: { يَسْجُدُوا } في قراءة الكسائي فعل مضارع، ولا شك أن هذا له وجه من النظر، وقد اقتصرنا في سورة الحجر على أن حذفها مقصور على السماع، وذكرنا بعض شواهده. والعلم عند الله تعالى.

تنبيهان

الأول: اعلم أن التحقيق أن آية النمل هذه محل سجدة على كلتا القراءتين، لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود، وقراءة الجمهور فيها ذم تارك السجود، وتوبيخه. وبه تعلم أن قول الزجاج، ومن وافقه أنها ليست محل سجدة على قراءة الجمهور، وإنما هي محل سجود على قراء الكسائي، خلاف التحقيق وقد نبّه على هذا الزمخشري وغيره.

التنبيه الثاني: اعلم أنه على قراءة الجمهور، لا يحسن الوقف على قوله:
{ لاَ يَهْتَدُونَ }
[النمل: 24] وعلى قراءة الكسائي، يحسن الوقف عليه.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } قرأه حفص والكسائي بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأه الباقون: يخفون، ويعلنون بالتحتية على الغيبة، والعلم عند الله تعالى.
 
عودة
أعلى