محمد كالو
New member
- إنضم
- 30/03/2004
- المشاركات
- 297
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
- الإقامة
- تركيا
- الموقع الالكتروني
- www.facebook.com
وردني عن طريق الإيميل البحث التالي :
مبررات اختيار قراءة حفص
شهد القرآن تاريخياً تحوّلاً من النقل الشفوي للمعطى الموحى، والذي كان يؤمّنه الرسول في مقامات تبليغ مختلفة ومن بعده الصحابة حفظاً ونقلاً عنه، إلى النص المدون الذي شكّل في مصحف موحّد سعى عثمان بن عفان إلى غلقه ليكون النسخة الرسمية لكل مصر من أمصار دار الإسلام، فكان الانتقال من الروايات الشفوية إلى حيز المدوّن الذي يضبط إمكانيات القراءة ويضمن الاستقرار باعتبار توجّهه إلى التوحيد. بيد أن المصحف المغلق في السور والآيات لم يضمن التوحيد على مستوى القراءة، فظلّ مفتوحاً على إمكانات قراءة متعددة حاول التراث الإسلامي ربطها بمعطى" أنزل القرآن على سبعة أحرف"، فكان الاختلاف في القراءة سعة ورحمة للمسلمين إذ "اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام ورويت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين توسعة ورحمة للمسلمين" .اهـ ابن مجاهد، كتاب السبعة في القراءات، تح شوقي ضيف، دار المعارف ، القاهرة الطبعة الثانية ، 1400هـ، ص2.
ولكن هذا الانتقال من الشفوي إلى المدوّن لم يكن كفيلا بإلغاء السمة الشفوية التي ظلّت جلية في حيز القرآن وقد استوى نصا موحدا ومصحفا مغلقا، إذ أن خصائص الرسم آنذاك لم تستقرّ بعد تنقيطا وخطا، فأشكلت في كثير من الأحيان معالم الرسم في المصحف العثماني، وخرجت من رحم النص المكتوب والمغلق قراءات متعددة تفهم معالم الرسم على أنحاء مختلفة، فكانت القراءة قراءات، باعتبارها علما به يعرف كيفية النطق بالقرآن، ولكنه علم يرتكز على مبدأ الاختيار إذ به يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض، ويكون هذا الترجيح ضمن إطار قراءات قد استقرت رواية عن أئمة في قراءة القرآن، فيكون اختيار قراءة معينة على تواتر يصوغ " مذهبا يذهب إليه إمام من أئمة القراء، مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف، أم في نطق هيآتها" ( المصدر السابق : 5).
تعدد حينئذ قرّاء القرآن في حيّز مدون لكنه ظل يتحرك في حيّز الرواية الشفوية سماعا عن الأئمة، فاستوى للقراءة علم من علوم القرآن صنف فيه العلماء للإحاطة بزخم القراءات، فوضعوا للقراءة مقاييس وضبطوا معايير قبولها أو ردها بين ماهو موافق لأمر الأولين فأبقي عليه وبين ما هو شاذ فرد على صاحبه، بين ما عليه الجمهور وبين ما كان من قراءات مفردة.
ظلّت جلّ هذه المعايير متأرجحة بين متطلبات المشافهة ومتطلبات التدوين، فالمعيار الأساسي في القراءة هو الإتباع في النقل عن السابقين:" حدثنا العباس بن محمد بن حاتم الدوري قال حدثنا أبو يحيى الحماني قال حدثنا الأعمش عن حبيب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" .اهـ ( المصدر السابق، ص2 )
فالقراءة سنة متبعة وهو أمر يجذّرها في الشفوي أكثر مما يربطها بالمكتوب الذي تشكل نصا ومن ثم مصحفا، فابن مجاهد الذي كان له دور أساسي في ترسيخ مبدأ التقليد المتوارث وحصر القراءات وفق مبدأ الاختيار في سبع قراءات يؤكد هذه العلاقة القائمة في رحم المصحف بين المدوّن والروايات الشفوية، إذ يجب أن تكون القراءة منقولة بإسناد عن الثقاة من القدامى الذين رووها عن النبي. ومن هنا كان علم القراءة واقعا بين المصحف وزخم المأثور الشفوي المنقول في شبكة يتصل القراء فيها ببعضهم البعض وبالصحابة عبر آلية الإسناد في حلقات مترابطة سماعا من، ورواية عن. فكان مذهب أئمة القراءة أمام زخم الروايات الشفوية هو الاختيار بناء على استحسان قراءة دون أخرى.
واشترطت لقبول القراءة شروط تشدها إلى المصحف المدون، فالقراءة يجب أن تكون موافقة للمصحف وأساسا موافقة للرسم العثماني المرجعي، ويجب أن تكون القراءة موافقة لقواعد اللغة العربية. وهكذا ظلت القراءة تشترط نصا قرآنيا مرجعيا يتّبع ولكنها أيضا لم تتخلّ عن الإبلاغ الشفوي للأصل المنقول سماعا من النبي، حتى أننا في كثير من الأحيان نعثر في بعض المصادر على إشارة إلى قراءة موسومة بقراءة النبي وهي مخالفة للمصحف العثماني، أو نجد من القراء من يفترض قراءة افتراضية ولكن لم يقرأ بها فيستحسنها ويجيزها ولكن يتحفظ منها بالجواز دون التحقق ما دامت قراءة لم يقرأ بها القراء رغم جوازها، وهو ما نجده مثلا عند النحويين من الذين خاضوا في علوم القرآن مثل الفراء في كتابه معاني القرآن.
و
من ذلك ما أورده ابن مجاهد: " أخبرنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرىء به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا" . اهـ ( المصدر السابق، ص3 ).
تعددت القراءات حينئذ في إطار ثنائية المصحف مدونا والأصل مأثورا منقولا، وقد كان لابن مجاهد دور أساسي في تكريس نظام السبعة في القراءات، فاختار من القراء سبعا هم من يؤتم بهم في القراءة" فالقراءة التي عليها الناس بالمدينة وبمكة والكوفة ومصر والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوليهم تلقيا وقام بها في كل مصر من الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه وتمسكوا بمذهبه".اهـ ( المصدر السابق : 3 ).
وارتبطت هذه الطبقة المنتقاة من القراء بشبكة من الرواة ممن أخذوا عنهم فكان لهم دور في نشر قراءتهم في كل مصر من أمصار دار الإسلام.
إن الناظر إلى ما آل إليه أمر القراءات في العصر الحالي في ظل استقرار أمر الرسم وقواعده وانتشار المصاحف المطبوعة يدرك أن الأمر آل إلى قراءتين أساسيتين كانت لهما الغلبة دون بقية القراءات وهما قراءتا نافع وعاصم أي قراءة مدنية وقراءة كوفية. بدأت علامات هذا الاستقرار باكرا وفق عقلية الانتقاء والتفضيل والاختيار، فاختيار أحمد بن حنبل مثلا يتصل بقراءة المدينة التي يمثلها نافع، وفي مرتبة ثانية بالقراءة العراقية الكوفية التي يمثلها عاصم، فأحب القراءات إليه "قراءة أهل المدينة فإن لم يكن فقراءة عاصم." كما أن المهتمين بالقراءات يشيرون إلى أن قراءة" هذين الإمامين (نافع وعاصم)...أوثق القراءات وأصحهما وأفصحهما في العربية" .اهـ ( نقلا عن كتاب تاريخ القرآن، ج3، ص608).
تاريخيا رجحت كفة هاتين القراءتين وانقسم العالم الإسلامي بينهما مغربا ومشرقا، فقراءة أهل المشرق هي رواية أبي بكر عاصم بن أبي النجود أما أهل المغرب فيأتمون بقراءة نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي، وفي داخل كل قراءة اضطلع راو عن الإمامين بنشر روايته في منطقته فأبو محمد غازي بن قيس أحد رواة نافع نقل القراءة إلى الأندلس أما ورش الراوي الثاني لنافع فقد نقل معه القراءة التي تعلمها إلى مصر ومن ثم انتقلت إلى المغرب الإسلامي مع رواية قالون.
أما الراويين الرئيسيان لعاصم فكانا أبو بكر شعبة(193هـ) وحفص (ت 180 هـ)، وداخل قراءة عاصم انتشرت قراءة حفص دون قراءة شعبة، ومن ثم سادت هذه القراءة في جزء شاسع من العالم الإسلامي وأزاحت قراءات أخرى، لذلك اتخذنا من حلقة قراءة حفص عن عاصم مستندا للبحث في المصحف وقراءاته لرصد مختلف القراءات التي قد تتفق مع قراءته أو تختلف بحثا في متن النص ذاته عن الائتلاف والاختلاف وعن مبررات اختيار قراءة حفص دون غيرها من القراءات، خاصة مع انتشار المصاحف المطبوعة في المملكة العربية السعودية والتي "تكتب وتضبط على ما يوافق رواية حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي التابعي عن أبي عبد الرحمان عبد الله بن حببيب السلمي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب عن النبي. " وهي المصاحف التي غزت حتى المغرب الإسلامي الذي يقرأ بحسب نافع.
فما الذي دفع إلى نشر قراءة حفص في العالم الإسلامي؟
وهل أن رواية حفص وفق مبدأ الاختيار هي أقرب القراءات إلى المقاييس المعتمدة في انتقاء القراءة؟
ولماذا انتصرت على غيرها من القراءات التي خرجت من رحم المصحف العثماني إذا نظرنا إلى ما آل إليه أمرها في العصر الحالي.
إذ أن الباحث في تاريخ القراءات يدرك أن قراءة حفص الراوي الثاني لعاصم لم تكن هي الغالبة على العالم الإسلامي، فإذا نظرنا إلى قراءة عاصم التي رواها حفص نرى أنها لم تكن سائدة حتى في الكوفة موطنها فـ" إلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم " .اهـ ( ابن مجاهد، السبعة في القراءات، ص14).
وهذه القراءة التي رواها حفص لم تكن معتمدة في المساجد في حلقات الذكر أو الصلاة:" حدثني علي بن الحسن الطيالسي قال سمعت محمد بن الهيثم المقرئ يقول أدركت الكوفة ومسجدها الغالب عليه قراءة حمزة ولا أعلمني أدركت حلقة من حلقات المسجد الجامع يقرؤون قراءة عاصم" .اهـ ( المصدر السابق، ص16).
أما إذا انتقلنا إلى الحلقة الثانية في شبكة قراءة عاصم إلى رواية حفص فإننا لا نجد ذكرا لقراءة حفص في مقابل حضور الراوي الثاني لعاصم أبي بكر شعبة، فحتى الذين أخذوا قراءة عاصم التزموا رواية هذا الأخير، فطريق شعبة عن عاصم كان مقدما عند المتقدمين "فإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم لأن أضبط من أخذ عن عاصم أبو بكر بن عياش فيما قال لأنه تعلمها منه تعلما خمسا خمسا وكان أهل الكوفة لا يأتمون في قراءة عاصم بأحد ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش وكان أبو بكر لا يكاد يمكن من نفسه من أرادها منه فقلت بالكوفة من أجل ذلك وعز من يحسنها وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات ".اهـ( المصدر السابق،ص 14).
كانت رواية حفص عن عاصم إذن آنذاك أقل القراءات حظا، فأهل الكوفة لما عزت عندهم رواية أبي بكر شعبة لم يلتفتوا إلى رواية حفص بل مالوا إلى قراءة حمزة والكسائي رغم كرههم لها.
أمّا إذا نظرنا في الطريق الذي روى منه المفسرون القرآن واعتمدوه في نقل القراءات فأننا نلاحظ أنّ طريق حفص لم يكن مقدما عندهم، فالمتأمل في تفسير الطبري يلاحظ أنّ سند حفص ليس من مرويات الطبري في القراءة. فمن ذلك ما أورده في سياق تفسير الآية السادسة عشرة من سورة المعارج في لفظة " نزاعة للشوى" " والصواب من القول في ذلك أنّ لظى خبر ونزاعة مبتدأ فذلك رفع ولا يجوز النصب في القراءة لإجماع قراء الأمصار على رفعها ولا قارئ قرأ كذلك بالنصب وإن كان للنصب وجه في العربية" .
فالطبري نفى وجود قراءة بالنصب رغم أنّ قراءة حفص هي بنصب نزّاعة. فالظاهر إذن أن رواية حفص عن عاصم ليست من مرويات الطبري في القراءة وإنما كان عنده سند من رواية أبي بكر شعبة بن عياش. ومن ذلك ما أورده في صدد تفسير سورة الكهف الآية التاسعة والخمسين" وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا" قال الطبري" واختلفت القراء في قوله(لمهلكهم) فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق (لِمُهْلَكِهم) بضم الميم وفتح اللام، على توجيه ذلك إلى إنّه مصدر من أهلكوا إهلاكا وقرأه عاصم (لِمَهْلَكِهم) بفتح الميم واللام على توجيهه إلى المصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا، وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك قراءة من قرأه(لِمُهْلَكِهم) بضم الميم وفتح اللام لإجماع الحجة من القراء عليه." ذكر الطبري حينئذ قراءة الجمهور المجمع عليها ثمّ ذكر قراءة عاصم من طريق شعبة بن عياش دون طريق حفص.
فالطبري في تفسيره لا يعتمد قراءة حفص، وهو الخطأ الذي يقع فيه كثير من محققي كتب تفسير القرآن حين يضعون قراءة حفص عن عاصم باعتبارها سند المفسرين في التفسير، وهو ما لا يمكن الحكم بصوابه في ظل غياب التحقيق العلمي في كثير من الأحيان.
إن مرد الاختلاف في الرواية عن عاصم عند حفص وشعبة هي أنّ عاصما روى روايتين مختلفتين، فروى لأبي بكر شعبة قراءة علي، وروى لحفص رواية ابن مسعود، إذ كان" عاصم، الكوفي الأكبر سنا في مجموعة السبعة، طالبا عند عبد الرحمان السلمي وخلفه في إمامة القراءة. والمعلم الثاني لعاصم، زر بن حبيش، كان طالبا عند ابن مسعود وعلي. وتحاول النظرية المتأخرة توزيع منشأ قراءة عاصم على الراويين المشهورين، أبي بكر شعبة وأبي عمر حفص بن سليمان،مما يوضح الاختلافات الكبيرة الواضحة بينهما ".اهـ ( تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، ص610).
ولعل هذا المذهب يفسر اعتبار الشيعة أن قراءة عاصم وحدها هي القراءة المتواترة لارتباطها بقراءة علي.
إن جملة هذه الملاحظات من تفسير الطبري تحيلنا إلى أن قراءة حفص قراءة مخالفة لقراءة الجمهور في كثير من الأحيان والأمثلة على ذلك وافرة في المصادر التي اعتمدنا، فإذا أخذنا تفسير الطبري مثلا عثرنا على نماذج عديدة من ذلك "يجمعون": في آل عمران، 175 إذ قرأها حفص وحده بياء الغيبة في حين أجمع الباقون على قراءتها بتاء الخطاب، وقد أوردنا في هذا العمل جملة من انفرادات حفص في القراءة.
فأي مبرر حينئذ لاختيار قراءة حفص دون سواها من القراءات والحال ذلك؟
يرجع بعض الباحثين انتصار رواية حفص عن عاصم دون غيرها من القراءات خاصة في المشرق الإسلامي على الرواية الثانية عن عاصم والتي كانت هي المقدمة عند القدماء كما اشرنا خاصة إلى المقاييس المعتمدة في الاختيار، وهو شأن لغوي بالأساس يتصل بموافقة القراءة لقواعد اللغة العربية إذ" رجحت كفة رواية حفص على كفة الرواية الأخرى عن عاصم ويعود فوز رواية حفص عن عاصم في إطار التنافس بين الروايات الكوفية وبين هذه القراءات الأخرى إلى كونها لا لون لها بسبب توافقها شبه التام الكامل مع نطق العربية الكلاسيكية السائد" .اهـ ( تاريخ القرآن، ج3، ص610).
وهو انتصار أيده اختيار بعض المهتمين بشأن القراءة " فأوّل من أيد قراءة حفص عن عاصم التي انتصرت بعد ذلك على غيرها هو الناقد المعروف للتقليد يحيى بن معين(ت233هـ)" .اهـ ( المرجع السابق، ص 610 ).
كان هذا هو الشأن في المشرق الإسلامي ولكن كان الأمر مختلفا في المغرب الإسلامي(مصر وشمال أفريقيا والأندلس)، الذي لم تكن فيه هذه القراءات معروفة حتى أواخر المائة الرابعة، ومن ثمة اختار أهل المغرب أن يقرؤوا وفق قراءة نافع برواية ورش، وهو ما يشير إلى أنّ ما ذهب إليه علماء المشرق من انتقاء رواية حفص لم يكن متفقا عليه في بقية العالم الإسلامي وخاصة في مغربه الذي أخذ في آن واحد الفقه المدني والقراءة المدنية.
إنّ انقسام العالم الإسلامي بين هاتين الروايتين يؤكد أنّ قراءة حفص لم تحز على الإجماع حتى في فترة متأخرة من التاريخ الإسلامي، وإنّما سيادة هذه الرواية النهائية في جزء كبير من العالم الإسلامي لا يمكن إرجاعه إلى مقاييس القراءة وإنّما إلى الشأن السياسي، فتاريخيا سادت العالم الإسلامي قراءتا أبي عمرو في المشرق ونافع في المغرب"وفي بعض الأحيان كانت لأبي عمرو أهمية كبيرة، وبدا أنه تسيد الشرق.
وكانت قراءته متداولة في البصرة، حسب مكي(ت437 ) حوالي العام200...وقد عثر المقدسي على قراءة أبي عمرو في اليمن وسوريا (ما عدا دمشق) وجبال ومصر وحوالي العام 500 سادت هذه القراءة في دمشق. وفي أيام ابن الجزري(ت811 ) سيطرت هذه القراءة في سوريا والحجاز واليمن ومصر على تدريس القرآن." .اهـ ( المرجع السابق،ج3، ص608 ).
وهكذا لم يكن لقراءة حفص عن عاصم حظوة عند المتقدمين، وقد استقر هذا الوضع إلى أن وصلنا على المستوى السياسي إلى مرحلة الدولة العثمانية، فخلال الحكم العثماني اعتمدت في الصلاة إلى جانب قراءة أبي عمرو قراءة حفص ثمّ شيئا فشيئا انتصرت قراءة حفص، فكما فرض العثمانيون المذهب الحنفي على العالم الإسلامي فرضوا أيضا قراءة حفص، وهو ما تمكنوا من تحقيقه في المشرق الإسلامي وأجزاء أوروبا التي فتحوها في حين ظلّ المغرب الإسلامي وبلاد الأندلس خارج سطوة الدولة العثمانية وفي منأى عن هذا الفرض لعدم إحكام السلطنة سلطتها على هذه الأجزاء من العالم الإسلامي، وبالتالي لم تتمكن من فرض قراءة حفص عليها فظلت قراءة نافع براوييه ورش وقالون هي المعتمدة في مصر والمغرب الإسلامي في حين ظلت قراءة أبي عمرو إلى اليوم معتمدة في السودان .اهـ ( المرجع السابق، ص608 ).
إنّ للشأن السياسي أثراً في نشر قراءة حفص في جزء كبير من العالم الإسلامي وقد كان الأمر ذاته خلال الفترة السابقة من التاريخ الإسلامي، فابن مجاهد ذاته الذي اختار نظام القراءات السبع خضعت قائمته لتأثير الساسة إذ ألحق الكسائي بالسبعة في أيام المأمون، وأقصى يعقوب الحضرمي من تصنيفه، ومن ثم عاد إلى إعتبار الثاني دون الأول في ما بعد.
فانتشار قراءة حفص لا يجد مبرره في المقاييس الخاصة بالقراءة فقط باعتبار غياب الاجتهاد فيها وإنما يتصل بتوجه سياسي في مرحلة الدولة العثمانية ومن ثم بانتشار المصاحف المطبوعة في المملكة العربية السعودية والتي وجدت رواجا في العالم الإسلامي باعتبار الوفرة وإحكام آليات التوزيع المعتمدة.
مبررات اختيار قراءة حفص
شهد القرآن تاريخياً تحوّلاً من النقل الشفوي للمعطى الموحى، والذي كان يؤمّنه الرسول في مقامات تبليغ مختلفة ومن بعده الصحابة حفظاً ونقلاً عنه، إلى النص المدون الذي شكّل في مصحف موحّد سعى عثمان بن عفان إلى غلقه ليكون النسخة الرسمية لكل مصر من أمصار دار الإسلام، فكان الانتقال من الروايات الشفوية إلى حيز المدوّن الذي يضبط إمكانيات القراءة ويضمن الاستقرار باعتبار توجّهه إلى التوحيد. بيد أن المصحف المغلق في السور والآيات لم يضمن التوحيد على مستوى القراءة، فظلّ مفتوحاً على إمكانات قراءة متعددة حاول التراث الإسلامي ربطها بمعطى" أنزل القرآن على سبعة أحرف"، فكان الاختلاف في القراءة سعة ورحمة للمسلمين إذ "اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام ورويت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين توسعة ورحمة للمسلمين" .اهـ ابن مجاهد، كتاب السبعة في القراءات، تح شوقي ضيف، دار المعارف ، القاهرة الطبعة الثانية ، 1400هـ، ص2.
ولكن هذا الانتقال من الشفوي إلى المدوّن لم يكن كفيلا بإلغاء السمة الشفوية التي ظلّت جلية في حيز القرآن وقد استوى نصا موحدا ومصحفا مغلقا، إذ أن خصائص الرسم آنذاك لم تستقرّ بعد تنقيطا وخطا، فأشكلت في كثير من الأحيان معالم الرسم في المصحف العثماني، وخرجت من رحم النص المكتوب والمغلق قراءات متعددة تفهم معالم الرسم على أنحاء مختلفة، فكانت القراءة قراءات، باعتبارها علما به يعرف كيفية النطق بالقرآن، ولكنه علم يرتكز على مبدأ الاختيار إذ به يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض، ويكون هذا الترجيح ضمن إطار قراءات قد استقرت رواية عن أئمة في قراءة القرآن، فيكون اختيار قراءة معينة على تواتر يصوغ " مذهبا يذهب إليه إمام من أئمة القراء، مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف، أم في نطق هيآتها" ( المصدر السابق : 5).
تعدد حينئذ قرّاء القرآن في حيّز مدون لكنه ظل يتحرك في حيّز الرواية الشفوية سماعا عن الأئمة، فاستوى للقراءة علم من علوم القرآن صنف فيه العلماء للإحاطة بزخم القراءات، فوضعوا للقراءة مقاييس وضبطوا معايير قبولها أو ردها بين ماهو موافق لأمر الأولين فأبقي عليه وبين ما هو شاذ فرد على صاحبه، بين ما عليه الجمهور وبين ما كان من قراءات مفردة.
ظلّت جلّ هذه المعايير متأرجحة بين متطلبات المشافهة ومتطلبات التدوين، فالمعيار الأساسي في القراءة هو الإتباع في النقل عن السابقين:" حدثنا العباس بن محمد بن حاتم الدوري قال حدثنا أبو يحيى الحماني قال حدثنا الأعمش عن حبيب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" .اهـ ( المصدر السابق، ص2 )
فالقراءة سنة متبعة وهو أمر يجذّرها في الشفوي أكثر مما يربطها بالمكتوب الذي تشكل نصا ومن ثم مصحفا، فابن مجاهد الذي كان له دور أساسي في ترسيخ مبدأ التقليد المتوارث وحصر القراءات وفق مبدأ الاختيار في سبع قراءات يؤكد هذه العلاقة القائمة في رحم المصحف بين المدوّن والروايات الشفوية، إذ يجب أن تكون القراءة منقولة بإسناد عن الثقاة من القدامى الذين رووها عن النبي. ومن هنا كان علم القراءة واقعا بين المصحف وزخم المأثور الشفوي المنقول في شبكة يتصل القراء فيها ببعضهم البعض وبالصحابة عبر آلية الإسناد في حلقات مترابطة سماعا من، ورواية عن. فكان مذهب أئمة القراءة أمام زخم الروايات الشفوية هو الاختيار بناء على استحسان قراءة دون أخرى.
واشترطت لقبول القراءة شروط تشدها إلى المصحف المدون، فالقراءة يجب أن تكون موافقة للمصحف وأساسا موافقة للرسم العثماني المرجعي، ويجب أن تكون القراءة موافقة لقواعد اللغة العربية. وهكذا ظلت القراءة تشترط نصا قرآنيا مرجعيا يتّبع ولكنها أيضا لم تتخلّ عن الإبلاغ الشفوي للأصل المنقول سماعا من النبي، حتى أننا في كثير من الأحيان نعثر في بعض المصادر على إشارة إلى قراءة موسومة بقراءة النبي وهي مخالفة للمصحف العثماني، أو نجد من القراء من يفترض قراءة افتراضية ولكن لم يقرأ بها فيستحسنها ويجيزها ولكن يتحفظ منها بالجواز دون التحقق ما دامت قراءة لم يقرأ بها القراء رغم جوازها، وهو ما نجده مثلا عند النحويين من الذين خاضوا في علوم القرآن مثل الفراء في كتابه معاني القرآن.
و
من ذلك ما أورده ابن مجاهد: " أخبرنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرىء به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا" . اهـ ( المصدر السابق، ص3 ).
تعددت القراءات حينئذ في إطار ثنائية المصحف مدونا والأصل مأثورا منقولا، وقد كان لابن مجاهد دور أساسي في تكريس نظام السبعة في القراءات، فاختار من القراء سبعا هم من يؤتم بهم في القراءة" فالقراءة التي عليها الناس بالمدينة وبمكة والكوفة ومصر والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوليهم تلقيا وقام بها في كل مصر من الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه وتمسكوا بمذهبه".اهـ ( المصدر السابق : 3 ).
وارتبطت هذه الطبقة المنتقاة من القراء بشبكة من الرواة ممن أخذوا عنهم فكان لهم دور في نشر قراءتهم في كل مصر من أمصار دار الإسلام.
إن الناظر إلى ما آل إليه أمر القراءات في العصر الحالي في ظل استقرار أمر الرسم وقواعده وانتشار المصاحف المطبوعة يدرك أن الأمر آل إلى قراءتين أساسيتين كانت لهما الغلبة دون بقية القراءات وهما قراءتا نافع وعاصم أي قراءة مدنية وقراءة كوفية. بدأت علامات هذا الاستقرار باكرا وفق عقلية الانتقاء والتفضيل والاختيار، فاختيار أحمد بن حنبل مثلا يتصل بقراءة المدينة التي يمثلها نافع، وفي مرتبة ثانية بالقراءة العراقية الكوفية التي يمثلها عاصم، فأحب القراءات إليه "قراءة أهل المدينة فإن لم يكن فقراءة عاصم." كما أن المهتمين بالقراءات يشيرون إلى أن قراءة" هذين الإمامين (نافع وعاصم)...أوثق القراءات وأصحهما وأفصحهما في العربية" .اهـ ( نقلا عن كتاب تاريخ القرآن، ج3، ص608).
تاريخيا رجحت كفة هاتين القراءتين وانقسم العالم الإسلامي بينهما مغربا ومشرقا، فقراءة أهل المشرق هي رواية أبي بكر عاصم بن أبي النجود أما أهل المغرب فيأتمون بقراءة نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي، وفي داخل كل قراءة اضطلع راو عن الإمامين بنشر روايته في منطقته فأبو محمد غازي بن قيس أحد رواة نافع نقل القراءة إلى الأندلس أما ورش الراوي الثاني لنافع فقد نقل معه القراءة التي تعلمها إلى مصر ومن ثم انتقلت إلى المغرب الإسلامي مع رواية قالون.
أما الراويين الرئيسيان لعاصم فكانا أبو بكر شعبة(193هـ) وحفص (ت 180 هـ)، وداخل قراءة عاصم انتشرت قراءة حفص دون قراءة شعبة، ومن ثم سادت هذه القراءة في جزء شاسع من العالم الإسلامي وأزاحت قراءات أخرى، لذلك اتخذنا من حلقة قراءة حفص عن عاصم مستندا للبحث في المصحف وقراءاته لرصد مختلف القراءات التي قد تتفق مع قراءته أو تختلف بحثا في متن النص ذاته عن الائتلاف والاختلاف وعن مبررات اختيار قراءة حفص دون غيرها من القراءات، خاصة مع انتشار المصاحف المطبوعة في المملكة العربية السعودية والتي "تكتب وتضبط على ما يوافق رواية حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي التابعي عن أبي عبد الرحمان عبد الله بن حببيب السلمي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب عن النبي. " وهي المصاحف التي غزت حتى المغرب الإسلامي الذي يقرأ بحسب نافع.
فما الذي دفع إلى نشر قراءة حفص في العالم الإسلامي؟
وهل أن رواية حفص وفق مبدأ الاختيار هي أقرب القراءات إلى المقاييس المعتمدة في انتقاء القراءة؟
ولماذا انتصرت على غيرها من القراءات التي خرجت من رحم المصحف العثماني إذا نظرنا إلى ما آل إليه أمرها في العصر الحالي.
إذ أن الباحث في تاريخ القراءات يدرك أن قراءة حفص الراوي الثاني لعاصم لم تكن هي الغالبة على العالم الإسلامي، فإذا نظرنا إلى قراءة عاصم التي رواها حفص نرى أنها لم تكن سائدة حتى في الكوفة موطنها فـ" إلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم " .اهـ ( ابن مجاهد، السبعة في القراءات، ص14).
وهذه القراءة التي رواها حفص لم تكن معتمدة في المساجد في حلقات الذكر أو الصلاة:" حدثني علي بن الحسن الطيالسي قال سمعت محمد بن الهيثم المقرئ يقول أدركت الكوفة ومسجدها الغالب عليه قراءة حمزة ولا أعلمني أدركت حلقة من حلقات المسجد الجامع يقرؤون قراءة عاصم" .اهـ ( المصدر السابق، ص16).
أما إذا انتقلنا إلى الحلقة الثانية في شبكة قراءة عاصم إلى رواية حفص فإننا لا نجد ذكرا لقراءة حفص في مقابل حضور الراوي الثاني لعاصم أبي بكر شعبة، فحتى الذين أخذوا قراءة عاصم التزموا رواية هذا الأخير، فطريق شعبة عن عاصم كان مقدما عند المتقدمين "فإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم لأن أضبط من أخذ عن عاصم أبو بكر بن عياش فيما قال لأنه تعلمها منه تعلما خمسا خمسا وكان أهل الكوفة لا يأتمون في قراءة عاصم بأحد ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش وكان أبو بكر لا يكاد يمكن من نفسه من أرادها منه فقلت بالكوفة من أجل ذلك وعز من يحسنها وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات ".اهـ( المصدر السابق،ص 14).
كانت رواية حفص عن عاصم إذن آنذاك أقل القراءات حظا، فأهل الكوفة لما عزت عندهم رواية أبي بكر شعبة لم يلتفتوا إلى رواية حفص بل مالوا إلى قراءة حمزة والكسائي رغم كرههم لها.
أمّا إذا نظرنا في الطريق الذي روى منه المفسرون القرآن واعتمدوه في نقل القراءات فأننا نلاحظ أنّ طريق حفص لم يكن مقدما عندهم، فالمتأمل في تفسير الطبري يلاحظ أنّ سند حفص ليس من مرويات الطبري في القراءة. فمن ذلك ما أورده في سياق تفسير الآية السادسة عشرة من سورة المعارج في لفظة " نزاعة للشوى" " والصواب من القول في ذلك أنّ لظى خبر ونزاعة مبتدأ فذلك رفع ولا يجوز النصب في القراءة لإجماع قراء الأمصار على رفعها ولا قارئ قرأ كذلك بالنصب وإن كان للنصب وجه في العربية" .
فالطبري نفى وجود قراءة بالنصب رغم أنّ قراءة حفص هي بنصب نزّاعة. فالظاهر إذن أن رواية حفص عن عاصم ليست من مرويات الطبري في القراءة وإنما كان عنده سند من رواية أبي بكر شعبة بن عياش. ومن ذلك ما أورده في صدد تفسير سورة الكهف الآية التاسعة والخمسين" وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا" قال الطبري" واختلفت القراء في قوله(لمهلكهم) فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق (لِمُهْلَكِهم) بضم الميم وفتح اللام، على توجيه ذلك إلى إنّه مصدر من أهلكوا إهلاكا وقرأه عاصم (لِمَهْلَكِهم) بفتح الميم واللام على توجيهه إلى المصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا، وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك قراءة من قرأه(لِمُهْلَكِهم) بضم الميم وفتح اللام لإجماع الحجة من القراء عليه." ذكر الطبري حينئذ قراءة الجمهور المجمع عليها ثمّ ذكر قراءة عاصم من طريق شعبة بن عياش دون طريق حفص.
فالطبري في تفسيره لا يعتمد قراءة حفص، وهو الخطأ الذي يقع فيه كثير من محققي كتب تفسير القرآن حين يضعون قراءة حفص عن عاصم باعتبارها سند المفسرين في التفسير، وهو ما لا يمكن الحكم بصوابه في ظل غياب التحقيق العلمي في كثير من الأحيان.
إن مرد الاختلاف في الرواية عن عاصم عند حفص وشعبة هي أنّ عاصما روى روايتين مختلفتين، فروى لأبي بكر شعبة قراءة علي، وروى لحفص رواية ابن مسعود، إذ كان" عاصم، الكوفي الأكبر سنا في مجموعة السبعة، طالبا عند عبد الرحمان السلمي وخلفه في إمامة القراءة. والمعلم الثاني لعاصم، زر بن حبيش، كان طالبا عند ابن مسعود وعلي. وتحاول النظرية المتأخرة توزيع منشأ قراءة عاصم على الراويين المشهورين، أبي بكر شعبة وأبي عمر حفص بن سليمان،مما يوضح الاختلافات الكبيرة الواضحة بينهما ".اهـ ( تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، ص610).
ولعل هذا المذهب يفسر اعتبار الشيعة أن قراءة عاصم وحدها هي القراءة المتواترة لارتباطها بقراءة علي.
إن جملة هذه الملاحظات من تفسير الطبري تحيلنا إلى أن قراءة حفص قراءة مخالفة لقراءة الجمهور في كثير من الأحيان والأمثلة على ذلك وافرة في المصادر التي اعتمدنا، فإذا أخذنا تفسير الطبري مثلا عثرنا على نماذج عديدة من ذلك "يجمعون": في آل عمران، 175 إذ قرأها حفص وحده بياء الغيبة في حين أجمع الباقون على قراءتها بتاء الخطاب، وقد أوردنا في هذا العمل جملة من انفرادات حفص في القراءة.
فأي مبرر حينئذ لاختيار قراءة حفص دون سواها من القراءات والحال ذلك؟
يرجع بعض الباحثين انتصار رواية حفص عن عاصم دون غيرها من القراءات خاصة في المشرق الإسلامي على الرواية الثانية عن عاصم والتي كانت هي المقدمة عند القدماء كما اشرنا خاصة إلى المقاييس المعتمدة في الاختيار، وهو شأن لغوي بالأساس يتصل بموافقة القراءة لقواعد اللغة العربية إذ" رجحت كفة رواية حفص على كفة الرواية الأخرى عن عاصم ويعود فوز رواية حفص عن عاصم في إطار التنافس بين الروايات الكوفية وبين هذه القراءات الأخرى إلى كونها لا لون لها بسبب توافقها شبه التام الكامل مع نطق العربية الكلاسيكية السائد" .اهـ ( تاريخ القرآن، ج3، ص610).
وهو انتصار أيده اختيار بعض المهتمين بشأن القراءة " فأوّل من أيد قراءة حفص عن عاصم التي انتصرت بعد ذلك على غيرها هو الناقد المعروف للتقليد يحيى بن معين(ت233هـ)" .اهـ ( المرجع السابق، ص 610 ).
كان هذا هو الشأن في المشرق الإسلامي ولكن كان الأمر مختلفا في المغرب الإسلامي(مصر وشمال أفريقيا والأندلس)، الذي لم تكن فيه هذه القراءات معروفة حتى أواخر المائة الرابعة، ومن ثمة اختار أهل المغرب أن يقرؤوا وفق قراءة نافع برواية ورش، وهو ما يشير إلى أنّ ما ذهب إليه علماء المشرق من انتقاء رواية حفص لم يكن متفقا عليه في بقية العالم الإسلامي وخاصة في مغربه الذي أخذ في آن واحد الفقه المدني والقراءة المدنية.
إنّ انقسام العالم الإسلامي بين هاتين الروايتين يؤكد أنّ قراءة حفص لم تحز على الإجماع حتى في فترة متأخرة من التاريخ الإسلامي، وإنّما سيادة هذه الرواية النهائية في جزء كبير من العالم الإسلامي لا يمكن إرجاعه إلى مقاييس القراءة وإنّما إلى الشأن السياسي، فتاريخيا سادت العالم الإسلامي قراءتا أبي عمرو في المشرق ونافع في المغرب"وفي بعض الأحيان كانت لأبي عمرو أهمية كبيرة، وبدا أنه تسيد الشرق.
وكانت قراءته متداولة في البصرة، حسب مكي(ت437 ) حوالي العام200...وقد عثر المقدسي على قراءة أبي عمرو في اليمن وسوريا (ما عدا دمشق) وجبال ومصر وحوالي العام 500 سادت هذه القراءة في دمشق. وفي أيام ابن الجزري(ت811 ) سيطرت هذه القراءة في سوريا والحجاز واليمن ومصر على تدريس القرآن." .اهـ ( المرجع السابق،ج3، ص608 ).
وهكذا لم يكن لقراءة حفص عن عاصم حظوة عند المتقدمين، وقد استقر هذا الوضع إلى أن وصلنا على المستوى السياسي إلى مرحلة الدولة العثمانية، فخلال الحكم العثماني اعتمدت في الصلاة إلى جانب قراءة أبي عمرو قراءة حفص ثمّ شيئا فشيئا انتصرت قراءة حفص، فكما فرض العثمانيون المذهب الحنفي على العالم الإسلامي فرضوا أيضا قراءة حفص، وهو ما تمكنوا من تحقيقه في المشرق الإسلامي وأجزاء أوروبا التي فتحوها في حين ظلّ المغرب الإسلامي وبلاد الأندلس خارج سطوة الدولة العثمانية وفي منأى عن هذا الفرض لعدم إحكام السلطنة سلطتها على هذه الأجزاء من العالم الإسلامي، وبالتالي لم تتمكن من فرض قراءة حفص عليها فظلت قراءة نافع براوييه ورش وقالون هي المعتمدة في مصر والمغرب الإسلامي في حين ظلت قراءة أبي عمرو إلى اليوم معتمدة في السودان .اهـ ( المرجع السابق، ص608 ).
إنّ للشأن السياسي أثراً في نشر قراءة حفص في جزء كبير من العالم الإسلامي وقد كان الأمر ذاته خلال الفترة السابقة من التاريخ الإسلامي، فابن مجاهد ذاته الذي اختار نظام القراءات السبع خضعت قائمته لتأثير الساسة إذ ألحق الكسائي بالسبعة في أيام المأمون، وأقصى يعقوب الحضرمي من تصنيفه، ومن ثم عاد إلى إعتبار الثاني دون الأول في ما بعد.
فانتشار قراءة حفص لا يجد مبرره في المقاييس الخاصة بالقراءة فقط باعتبار غياب الاجتهاد فيها وإنما يتصل بتوجه سياسي في مرحلة الدولة العثمانية ومن ثم بانتشار المصاحف المطبوعة في المملكة العربية السعودية والتي وجدت رواجا في العالم الإسلامي باعتبار الوفرة وإحكام آليات التوزيع المعتمدة.