مبتكرات القرآن . هل سبق ابن عاشور أحدٌ في الاهتمام بها ؟!

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
بسم الله الرحمن الرحيم

لفت انتباهي وأنا أقرأ في التحرير والتنوير لابن عاشور اهتمامه بالتنبيه على ما يسميه : مبتكرات القرآن . والمراد بهذا النوع : ما استعمله القرآن من الألفاظ والأساليب والتراكيب مما لم يرد في كلام العرب قبله .

وقد بنى ابن عاشور على هذه المبتكرات بعض النتائج العلمية ، وخاصة في مجال عزو الأبيات الشعرية إلى قائليها .

وهذا النوع يصلح أن يكون بحثاً علمياً ماتعاً . فهل من مشمر .

وقد جمعت له ما يقارب ستة وعشرين مثالاً من تفسيره ، وهذه أهمهما أوردها بعد ذكر الآية التي أردها عند تفسيره لها :

{ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(آل عمران: من الآية73) قال ابن عاشور : (وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن. )

{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }(لأنفال: من الآية1)
قال : (وأعلم أني لم أقف على استعمال (ذاتَ بين) في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن. )

{ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ }(ابراهيم: من الآية9)
قال : (وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن. )

{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }(الانبياء: من الآية33)
قال : ( ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى: {كُلٌّ فِى فَلَكٍ} فيه محسّن بديعي فإن حروفه تُقرأ من آخرها على الترتيب كما تُقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة، ومثله قوله تعالى: {ربك فكبِّر} (المدّثر: 3) بطرح واو العطف، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سمّاه السكاكي «المقلوبَ المستوي» وجعله من أصناف نوع سمّاه القَلب. وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته. وسمّاه الحريري في «المقامات» «ما لا يستحيل بالانعكاس» وبنَى عليه المقامة السادسة عشَرة ووضح أمثلة نثراً ونظماً، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها، وكلما زادت طولاً زادت ثقلاً.
قال العلامة الشيرازي في «شرح المفتاح»: وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال. قلت: ولم يذكروا منه شيئاً وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن.)

{ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا }(المؤمنون: من الآية100)
قال : (وقوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن.)

{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا }(محمد: من الآية4)
قال : ( والأوزار: الأثقال، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله، وهذا من مبتكرات القرآن.)

{ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } (الحاقة:46) قال : (ولم أقف على أن العرب كانوا يكنّون عن الإِهلاك بقطع الوتين، فهذا من مبتكرات القرآن.)

{ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } (النبأ:16) قال : ( فوصف الجنات بألفَاف مبنيّ على المجاز العقلي لأن الالتفاف في أشجارها ولكن لما كانت الأشجار لا يَلتفّ بعضها على بعض في الغالب إلا إذا جمعتها جنة أسند ألفاف إلى جنات بطريق الوصف. ولعله من مبتكرات القرآن إذ لم أر شاهداً عليه من كلام العرب قبل القرآن. )

{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الشورى:3) قال ( وإذ لم يتقدم في الكلام ما يحتمل أن يكون مشاراً إليه بــ {كَذَٰلِكَ} عُلم أن المشار إليه مقدر معلوم من الفعل الذي بعد اسم الإشارة وهو المصدر المأخوذ من الفعل، أي كذلك الإيحاء يوحي إليك الله. وهذا استعمال متّبع في نظائر هذا التركيب كما تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} في سورة البقرة . وأحسب أنّه من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثله في كلام العرب قبل القرآن. وما ذكره الخفاجي في سورة البقرة من تنظيره بقول زهير:
كذلك خِيمهم ولكلِّ قوم إذا مسَّتهم الضّراء خِيم
لا يصحّ لأن بيْت زهير مسبوق بما يصلح أن يكون مشاراً إليه، وقد فاتني التنبيه على ذلك فيما تقدم من الآيات فعليك بضم ما هنا إلى ما هنالك. )

{ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً } (الفجر:19) قال : ( والأكل: مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعاً لا يُبقي منه شيئاً. وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب.)

{ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً } (الانسان:18) قال : ( و(سلسبيل): وصف قيل مشتق من السلاسة وهي السهولة واللين فيقال: ماء سلسل، أي عذب بارد. قيل: زيدت فيه الباء والياء (أي زيدتا في أصل الوضع على غير قياس).
قال التبريزي في «شرح الحماسة» في قول البعيث بن حُرَيْث:
خَيالٌ لأمِّ السَّلْسبيل ودُونَها مسيرة شهر للبريد المذبذب
قال أبو العلاء: السلسبيل الماء السهل المَساغ. وعندي أن هذا الوصف ركب من مادتي السلاسة والسَّبَالة، يقال: سبلت السماء، إذا أمطرت، فسبيل فعيل بمعنى مفعول، رُكب من كلمتي السلاسة والسبيل لإِرادة سهولة شربه ووفرة جريه. وهذا من الاشتقاق الأكبر وليس باشتقاق تصريفي.
فهذا وصف من لغة العرب عند محققي أهل اللغة. وقال ابن الأعرابي: لم أسمع هذه اللفظة إلاّ في القرآن، فهو عنده من مبتكرات القرآن الجارية على أساليب الكلام العربي، وفي «حاشية الهمذاني على الكشاف» نسبة بيت البعيث المذكور آنفاً مع بيتين بعده إلى أمية بن أبي الصلت وهو عزو غريب لم يقله غيره. )

وقال عند تفسيره لقول الله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ }(يوسف: من الآية23) : (أي راودته مباعدة له عن نفسه، أي بأن يجعل نفسه لها. والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، قاله ابن عطية، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه. )

وقال في بيان المثل في قول الله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } (لأعراف: من الآية176) : ( وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه، سبب آت من غيره فمعنى {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} إن تُطارده وتُهاجمه. مشتق من الحَمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله، يقال حمل فلانٌ على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة. وقد أغفل المفسرون توضيحه، وأغفل الراغب في «مفردات القرآن» هذا المعنى لهذا الفعل.)

وكذلك حكم على المثل الذكور في قول الله عز وجل :{ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} (العنكبوت: من الآية41) بقوله : (وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن .)

وقال عن وصف المسجد بالأقصى في صدر سورة الإسراء : ( وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء. ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ. )

قال : (ووصف اليوم بأنه {يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيباً} وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصف همّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده. وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب، لأني لم أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو:
إذن والله نَرميهم بحرب تُشيب الطفل من قبل المشيب
فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت. وقال العيني: لم أجده في ديوانه. وقد أخذ المعنى الصمّة ابن عبد الله القشيري في قوله:
دَعانيَ من نجدٍ فإن سنينه لَعِبْنَ بنا شِيباً وشيبننا مردا
وهو من شعراء الدولة الأموية.)

وقال مبيناً معاني الحسوم المذكورة في قول الله تعالى : { وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً }(الحاقة: من الآية7) : ( وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
ففرَّق بينَ بينِهمُ زمانٌ تتابع فيه أعوام حُسُومٌ
قيل: والحسوم مشتق من حسْم الداءِ بالمكواة إذ يكوى ويُتابع الكي أيّاماً، فيكون إطلاقه استعارة، ولعلها من مبتكرات القرآن، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإِسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن. )

{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ }(آل عمران: من الآية154)
قال : (وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، وصف به أهل الشرك تنفيراً من الجهل، وترغيباً في العلم، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذمّ في نحو قوله: {أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (المائدة: 50) {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلاٍّولَىٰ} (الأحزاب: 33) {إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ} (الفتح: 26). وقال ابن عبَّاس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأساً دِهاقاً، وفي حديث حكيم بن حِزام: أنَّه سأل النَّبيء صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنّث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم. وقالوا: شعر الجاهلية، وأيَّامُ الجاهلية. ولم يسمع ذلك كُلّه إلاّ بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين. )

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }(آل عمران: من الآية128)
قال : (وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيباً وجيزاً محذوفاً منه بعض الكلمات، ولم أظفر، فيما حفظت من غير القرآن، بأنَّها كانت مستعملة عند العرب، فلعلّها من مبتكرات القرآن، وقريب منها قوله: {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ} (الممتحنة: 4) وسيجيء قريب منها في قوله الآتي: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأٌّمْرِ مِن شَىْءٍ} (آل عمران: 154) و {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا}(آل عمران: 154) فإن كانت حكاية قولهم بلفظه، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب، وإن كان حكاية بالمعنى فلا. )

{ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } (التكوير:26) قال : ( واعلم أن جملة أين تذهبون قد أرسلت مثلاً، ولعله من مبتكرات القرآن.)

{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (لأعراف:199) قال : ( والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لإضراره، كما يقال: أخذت العدو من تلابيبه، ولذلك يقال في الأسير أخيذ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازاً فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها، فيُشبّه ذلك التلبسُ واختيارهُ على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء، فمعنى (خذ العفو): عَامِل به واجْعله وصفاً ولا تتلبس بضده. وأحسب استعارة الأخذ للعرف من مبتكرات القرآن ولذلك ارجع أن البيت المشهور وهو:
خُذي العفوَ مني تَستديمي مَوَدتي ولا تَنْطِقي في سَوْرَتي حين أغْضَبُ
هو لأبي الأسود الدؤلي، وأنه اتبع استعمال القرآن، وأن نسبته إلى أسماء بن خارجة الفزاري أو إلى حاتم الطائي غير صحيحة.)
 
وفقك الله يا أبا مجاهد على هذه الفائدة النفيسة . وقد وقفت عند أحد هذه الأمثلة من قبل وهو ترجيح نسبة الشاهد الشعري لأبي الأسود الدؤلي دون غيره لهذه العلة ، ولم أتنبه أن لها أخوات عند ابن عاشور رحمه الله. وفي الحق إنه كان ناقداً أدبياً فذاً فوق علمه بالعلوم الأخرى ، فقد كان في شرحه للحماسة ولديوان بشار بن برد صاحب نفس أدبي فريد ، وقد استطاع أن يوظف مجموع ما تعلمه في اللغة وعلوم الشرع أحسن توظيف في نقده الأدبي . رحمه الله رحمة واسعة .
وهذا مثال من قراطيسه في نقد الشعر كما سماها في مجلة الهداية الإسلامية عام 1357هـ .
قال أبو الطيب المتنبي في القصيدة التي مدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي:
[align=center]وقد صارت الأجفان قرحى من البكى*وصارت بهاراً في الخدود الشقابق[/align]قال أبو الحسين علي الواحدي في «شرحه»: «قرحى يغير تنوين: جمع قريح مثل جرحى ومرضى، وروى ابن جني: قرحاً بالتنوين على أنه جمع قرحة، كما أنّ بهاراً جمع بهارة وهو الورد الأصفر، والمعنى أنّ الأجفان تقرّحت من كثرة البكاء وصارت حمرة الخدود صفرة لأجل البين» اهـ كلام الواحدي. وقد أشار إلى ما نقل عن أبي الفتح ابن جني، وكان من أصحاب أبي الطيب والآخذين عنه قال: سألت أبا الطيب هل هو قرحى مُمال أو قرحاً منوّن؟ فقال: قرحاً منوّن، ألا ترى أن بعده: وصارت بهاراً؟ قال ابن جني: يعني أن بهاراً جمع بهارة وقرحاً جمع قرحة.
وحاصل كلامهم مع توجيهه: أنّ قرحى يرجح أن يكون منوّن الآخر، اسم جمع قرحة بفتح القاف، وهي مؤنث القَرح وهو الجرح، فهو جمع لاسم جامد ليوافق مقابله، وهو بهراً الذي هو جمع بهارة فتحصل المزاوجة في البيت بين الكلمتين المتقابلتين مزاوجة في المعنى إذ تكون كلتاهما اسم جمع لاسم جامد، ومزاوجة في اللفظ إذ تكون كلتاهما منوّنة. ولا يكون قرحى ممالاً لأنه حينئذ يكون جمع قريح مثل جرحى فيفوت التزاوج من الجهتين. قال أبو العلاء المعري في شرحه لديوان المتنبي الذي سمّاه «معجز أحمد»: «رُوي قرحى منوناً على الاسم، وقرحى غير منوّن صفة الأجفان والمعنى واحد» فصرح المعري بما لمح إليه كلام ابن جني والواحدي في كون المعنى واحداً على وجهي التنوين والإمالة، فيكون اختيار المتنبي للتنوين لمجرد إيفاد حق الصناعة اللفظية، والذي جرّأ المتنبي على هذا أن مزاوجة الألفاظ المتقارنة أو المتقاربة هي من أفانين الفصاحة العربية، ولذلك ترى العرب يعمدون إلى الكلمة فيغيرونها عن لفظها الأصلي إلى حالة أخرى لأجل وقوعها مع كلمة أخرى كما جاء في القرآن (إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً) فنوّن (سلاسلاً) مع أنّ حقه عدم التنوين لوجود علة المنع من الصرف، وما تنوينه إلاّ لوقوعه مع (أغلالاً وسعيراً)، وقد جاء في حديث وفد عبد القيس أنّ رسول الله قال لهم: «مرحباً بالوافد غير خزايا ولا ندامى» أراد لا نادمين على قدومكم، والمشهور في جمع نادم أن يكون جمع سلامة فغُيّر جمعه هنا إلى ندامى، وهو جمع تكسير، وقد اشتهر جمعاً لندمان؛ وهو صاحب المنادمة أي المجالسة على الشراب، ولا موجب لهذا التغيير إلاّ قصد مزاوجته لخزايا، وكذلك قال ابن مقبل:
[align=center]هتاك أخبيةٍ ولاّج أبوِبةٍ*يخالط البر منه الجد واللينا[/align]فجمع باباً على أبوِبة، والمعروف أن يجمع على أبواب، وإنّما جمعه على أبوبة لمزاوجته لقوله أخبية.
أمّا أنا فأقول: إنّ أبا الطيب ما اختار أن يكون (قرحاً) منوّناً إلاّ لشيءٍ زائد على ما ذكره شُرّاح ديوانه الثلاثة، وهو شيء راجع إلى المعنى الشعري، وذلك أنّ إثبات مصير الأجفان أنفسها قروحاً أبلغ من وصفها بالتقرّح الذي يدلّ عليه (قرحى) بدون تنوين، لأنّ في إثبات صيرورتها قروحاً تخيّلاً لتبدل ذاتها بذات أخرى فكان مناسباً للتخيل الذي يستدعيه الشعر، فوافق إثبات مصير الشقائق (بهاراً) في تخيّل تغيّر الذات بذات أخرى، فيكون وِزانه وزان قول أبي تمام في مليح إصابته حمى:
[align=center]لم تشِن وجهَهُ المليحَ ولكن*بدّلت ورد وجنتيه بهاراً[/align]أو قول المعتز:
[align=center]لم تشِن شيئاً ولكنها *بدّلت التفاح بالياسمينِ[/align]بخلاف الإخبار عن الأجفان بأنها صارت متقرحةً فذلك أمر شائع في الكلام غير الشعر يقولون: بكى فلان حتى تقرّحت جفونه. فكأنه أخبر عن الخدود بمصيرها صفراء بعد الاحمرار، وذلك يوازن قول عبد الصمد بن المعذَّل(1) في مليحٍ أصابته الحمى.
[align=center]لم تشنه لما ألمحت ولكن * بدّلته بالاحمرار اصفرارا[/align]فإذا جمعت هذا الوجه إلى الوجهين الذين أخذناهما من كلام شراحه صارت رواية (قرحاً) بفتح القاف وبالتنوين متعيّنة وليست راجحة فقط لما اشتملت عليه من اللطائف، ولذلك لم يسمح المتنبي برواية لفظ (قرحى) من بيته بلا تنوين، ولا جعله (قُرحاً) بضمّ القاف مع التنوين لأنّ في كلا هذين الأخيرين فوات نكتة لا يرضى المتنبي بفواتها.
وفي بيت المتنبي من حسن التشبيه معنى رقيق، إذْ قد أنبأ بأنّ محاسن الخدود لم تتغير بتغيّر لونها، ولكنها كانت زهرة حمراء فصارت زهرة صفراء لم يفارقها حسن الزهور. واعلم أنّ المناسب لمعاني الغرام أن يكون عنى بالأجفان أجفانه، وبالخدود خدود الحبيب، بشهادة قوله قبله:
[align=center]وقفنا ومما زاد شوقاً وقوفنا*فريقي هوى منّا مشوقٌ وشائقُ[/align]فالمشوق هو المحبّ، والشائق المحبوب، والبكاء من شأن المحب دون المحبوب، والروعة من البعد ومن مشاهدة حال المحب هي من شأن المحبوب، ولهذا لم يسلك في وصف الأجفان مسلك تحسينها بخلاف مسلكه في وصف الخدود.
 
سيدار البحث حول هذه المبتكرات في جزء من رسالة للدكتوراة في التفسير يعدها احد طلاب جامعة اليرموك بالاردن بعنوان علوم القران عند ابن عاشور فان جد جديد حول الموضوع ساذكره علما انني عرضت للموضوع في رسالتي للماجستير عام 1991 حيث كانت بعنوان تفسير ابن عاشور دراسة منهجية ونقدية
 
د.جمال أبو حسان قال:
علما انني عرضت للموضوع في رسالتي للماجستير عام 1991 حيث كانت بعنوان تفسير ابن عاشور دراسة منهجية ونقدية
هل طبعت رسالتك د: أبو حسان - نفع الله بك -؟ فقد كنت في انتظارها منذ رأيتها مرقومة، لا أدري الآن سنة 96 أم بعد ذلك بعمان.
 
الى السيد الباجي المحترم
ومن يطبع رسائل العلم الخاصة للفقراء مادياً أمثالي .
إن المطابع اليوم تطبع الكتاب على حساب صاحبه ثم تاكل ثمنه ولا يناله منها إلا الغم والهم .
ليتني أجد من يطبع رسالتي التي شغلتني أكثر من ثلاث سنوات.
واذا كانت النسخة التي رأيتها في مكتبة الجامعة الأردنية فهي نسخة مختصرة.
 
موضوع ممتع جداً . بارك الله فيك يا أبا مجاهد وفي الإخوة الكرام. وابن عاشور عالم قليل النظير فعلاً ولا سيما في أبواب اللغة. ولكن السؤال : هل يعد استقراء ابن عاشور للشعر حجة يمكن الاحتكام إليها ؟ بمعنى إذا لم يقل هذا الكلام أحد من العلماء المتقدمين الذين كانوا أكثر إحاطة بالشعر من ابن عاشور فهل يسوغ له هو أن يقول هذا ؟ لم أجد كذا في كلام العرب . أرجو التوضيح.
 
إضافة

إضافة

في تفسير قول الله تعالى : ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ﴾(النساء: من الآية176)

قال ابن عاشور : ( والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى:

[align=center]فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا [/align]

وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع.

ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه:

[align=center]فإنّ أبا المرءِ أحمى له ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ [/align]

وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن ؛ إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية.

قال الفرزدق:
[align=center]ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ [/align]

ومنه قولهم: ورِث المجدَ لا عن كلالة.)
 
وفي تفسير ابن عاشور لقول الله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ } (الرحمن:31) قال : ( و { الثقلان }: تثنية ثَقَل، وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإِنس والجن.

وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض، فهو كالثقل على الدابة، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل. وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق.
وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن .)
 
جزاكم الله خيراً..

هل من ذلك كلمة " تفثهم " في الحج، وكلمة " الحيوان " في العنكبوت ؟
 
أبومجاهدالعبيدي قال:
في تفسير قول الله تعالى : ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ﴾(النساء: من الآية176)

قال ابن عاشور : ( والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى:

[align=center]فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا [/align]

وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع.

ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه:

[align=center]فإنّ أبا المرءِ أحمى له ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ [/align]

وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن ؛ إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية.

قال الفرزدق:
[align=center]ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ [/align]

ومنه قولهم: ورِث المجدَ لا عن كلالة.)

---------------------------------------------------------------------------------------

نعم ، القرآن الكريم - كلام رب العالمين - معجز في فصاحته و بلاغته ، في نظمه و أسلوبه و جزالته ،
و لكن وجه إعجازه هنا أن الله تحداهم به مع كونه بألفاظ لغتهم ،
و القول إن تلك الألفاظ مبتكرة فيه تكلف ، مثل ما قاله في " الكلالة " ،
ففي تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " قال الإمام القرطبي :
في المسألة ( السابعة والعشرون ـ قوله تعالى: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ } الكلالة مصدر؛ مِن تكلّله النسب أي أحاط به. وبه سُمِّي الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا ٱحتلّ بها. ومنه الإكليل أيضاً وهو التاج والعِصابة المحيطة بالرأس. فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثتُه كلالة. هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعليّ وجمهور أهل العلم. وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبْدٍ قال: ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد. وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللُّغوِيّ وابن عرفة والقتَبِيّ وأبو عبيد وابن الأنباري. فالأب والابن طرفان للرجل؛ فإذا ذهبا تكلله النسب.
ومنه قيل: روضة مكلّلة إذا حُفَّت بالنور. وأنشدوا:
مسكنُهُ روضةٌ مُكَلَّلَةٌ عمّ بها الأَيْهُقان والذُّرَق
يعني نبتين. وقال ٱمرؤ القيس:
أصاحِ ترى بَرْقاً أُرِيك ومِيضَه كلمعِ اليَدينِ في حَبِيّ مُكَلّلِ
فسمُّوا القرابة كَلاَلَةً؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه. كما قال أعرابيّ: مالي كثير ويرِثني كلالة متراخٍ نسبهم. وقال الفرزدق:
ورِثتم قناة المجد لا عن كلالةٍ عن ٱبني منافٍ عبدِ شمسٍ وهاشمِ
وقال آخر:
وإنّ أبا المَرْءِ أحْمَى له ومَوْلَى الكلالة لا يغضَب
وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكَلاَل وهو الإعياء؛ فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بُعد وإعياء. قال الأعشى:
فآليت لا أرثى لها من كلالةِ ولا من وَجَّى حتى تلاقِي محمّدا
وذكر أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال: الكَلالة كل من لم يرثه أبٌ أو ٱبن أو أخ فهو عند العرب كَلاَلة. قال أبو عمر: ذِكْر أبي عبيدة الأخَ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره. ورُوي عن عمر بن الخطاب أن الكلاَلة من لا ولد له خاصّة؛ ورُوي عن أبي بكر ثم رجعا عنه. وقال ٱبن زيد: الكَلالةُ الحيّ والميت جميعاً. وعن عطاء: الكلاَلة المال. قال ٱبن العربيّ: وهذا قول طريف لا وجه له.

قلت: له وجْهٌ يتبيّن بالإعراب (آنفاً). وروي عن ابن الأعرابيّ أن الكلالة بنو العَمّ الأباعد. وعن السُّدِّي أن الكلالة الميت. وعنه مثل قول الجمهور. وهذه الأقوال تتبيّن وجوهها بالإعراب؛ فقرأ بعض الكوفين «يُورِّث كلالة» بكسر الراء وتشديدها. وقرأ الحسن وأيوب «يُورِث» بكسر الراء وتخفيفها، على اختلاف عنهما. وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال. كذلك حكى أصحاب المعاني؛ فالأوّل من ورّث، والثاني من أورث. و «كلالة» مفعوله و «كان» بمعنى وقع. ومن قرأ «يُورَثُ» بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال، والتقدير: يورث وراثة كلالة، فتكون نعتاً لمصدر محذوف. ويجوز أن تكون الكلالة اسماً للورثة وهي خبر كان؛ فالتقدير: ذا ورثة. ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع، و «يُورَث» نعت لرجل، و «رَجُلٌ» رفع بكان، و «كلالةً» نصب على التفسير أو الحال؛ على أن الكلالة هو الميت، التقدير: وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت ) . انتهى .


**************

* و الأمر كذلك في جلّ ما ذكر إن لم يكن في كله ،
و القرآن في غنى عن دعاوى لم تثبت ، كما يقال في كثير مما يسمى " الإعجاز العلمي " .
 
ذهبت بعيداً أخي الكريم [ أبوبكر خليل ]

فليس في ذكر هذه المصطلحات على أنها من مبتكرات القرآن أي تكلف فيما أرى ، وكلامك الذي نقلته عن القرطبي ليس فيه ما يدل على أنهم استعملوا هذا المصطلح بنفس اللفظ ، مع العلم بأنه من لغتهم إلا أن هذا اللفظ لم ينقل عنهم قبل نزول القرآن - فيما علم ابن عاشور - .

وهذه الآراء التي ذكرها ابن عاشور ليست قطعية ، وغنما هي اجتهادات منه ، وتحتاج إلى دراسة لإثبات صحتها .

والله أعلم
 
أبومجاهدالعبيدي قال:
في تفسير قول الله تعالى : ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ﴾(النساء: من الآية176)

قال ابن عاشور : ( .....................................................................................................ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه:

[align=center]فإنّ أبا المرءِ أحمى له ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ [/align]

وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن ؛ إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية.

............................................................................)


***********

أخي الكريم [ أبا مجاهد العبيدي ]
إذا كنت تريد مجرد الإطراء على عمل ابن عاشور فهذا أمر لا أنكره عليك ،
و إن كنت تقصد النقد للحق و العلم ، فهو ما نقلته من قول القرطبي - و كذا كثير من أئمة التفسير في تفاسيرهم ، و ارجع إليها إن شئت -

* و ما أراني ذهبت بعيدا - كما عقَبت أنت - فقد أتبعت الرأي دليله ، و هو ما ذكره الإمام القرطبي ، الذي أورد شاهده من أشعار العرب قبل الإسلام ،
و لا أراه قد ذهب بعيدا هو الآخر فيما استشهد به منها ،

- و لماذا نذهب بعيدا و قد قاله ابن عاشور نفسه - من حيث لا يشعر - فقد قال : (( ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى ...)) ،
- و إنما يقال : قالت العرب ، و وصفت العرب : ما كان منطوقا منهم و مسموعا وقت نزول القرآن و قبله .

- هذا ما أردت توضيحه .


* * *
- هذا من ناحية ،
و أجدها من ناحية أخرى مناسبة جيدة لبيان بعض ما ذكر في معنى " الكلالة " :

ففي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير ، للإمام الرازي (ت 606 هـ) :

( قوله تعالى: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـٰلَةً أوٱمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وٰحِدٍ مّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِى ٱلثُّلُثِ مِن بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية الله والله عليم حليم }. [ سورة النساء : 12 ] .
اعلم أن هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة. وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة، واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد، وهذا هو المختار والقول الصحيح، وأما عمر رضي الله عنه فانه كان يقول: الكلالة من سوى الولد، وروي أنه لما طعن قال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد، وعن عمر فيه رواية أخرى: وهي التوقف، وكان يقول: ثلاثة، لأن يكون بينها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحب الي من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا.
والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه: الأول: التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه: الأول: يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة، وحمل فلان على فلان، ثم كل عنه إذا تباعد. فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه. الثاني: يقال: كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة، وذلك لانا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف، وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة. الثالث: الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الاحاطة، ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس، ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه، ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب، إذا عرفت هذا فنقول: من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة، لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالاكليل المحيط برأسه: أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض: ويتولد البعض من البعض، كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد، ولهذا قال الشاعر:
نسب تتابع كابراً عن كابر كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة، وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات، فانما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب اليه، فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد.

الحجة الثانية: أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين، في هذه السورة: أحدهما: في هذه الآية، والثاني: في آخر السورة وهو قوله:
{ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ }
[النساء: 176] واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط، قال: لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة: هو أنه ليس له ولد، إلا أنا نقول: هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد. وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة، ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين.

الحجة الثانية: انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة، وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد.

الحجة الرابعة: قول الفرزدق:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة، ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم، وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم.

المسألة الثانية: الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث، فاذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين، واذا جعلناها وصفا للمورث، فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال: مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد، وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي / رويناه عن الفرزدق، فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام، بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث، اذا عرفت هذا فنقول: المراد من الكلالة في هذه الآية الميت، الذي لا يخلف الوالدين والولد، لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا.
المسألة الثالثة: يقال رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا جعلناها صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة، كما يقول: فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي، قال صاحب «الكشاف»: ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق ) .
انتهى .

- و ختاما تقبل تقديري و مودتي و تحيني ،
و سلام الله عليكم .


-
 
نسيت أن أنبه إلى أن ابن عاشور قد نبه على مبتكرات القرآن في أثناء كلامه في المقدمة العاشرة من مقدمات تفسيره، وهي في الحديث عن إعجاز القرآن.

فقد أفرد مبتكرات القرآن بعنوان في هذه المقدمة ، وذكر شيئاً من مبتكراته من حيث الأسلوب والنظم والطريقة.
 
جزي الله الجميع خير الجزاءعلي تلك الفوائد
 
عودة
أعلى