بسم1
تمهيد
يختلف مراد العلماء المتقدمين في عدد من المصطلحات عن مراد المتأخرين منه , ومن تلك المصطلحات مصطلح النسخ , فالمتقدمين - من السلف - لهم اصطلاح خاص في مسألة النسخ ، فمفهوم النسخ عندهم أعم من مفهومه عند الأصوليين والفقهاء والمحدثين , فهو يقوم على أساس المعنى اللغوي , وهو الإزالة ليشتمل النسخ على كل تغيير في أوصاف ظاهر الآية , وقد بين ذلك الشاطبي بقوله: " الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخاً، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخاً، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخاً".[SUP][SUP][1][/SUP][/SUP],فيتبين لنا أنهم يطلقون النسخ على مطلق التغيير, لذا كانت الآيات المنسوخة على مفهوم الصدر الأول كثيرة جداً
مثال ذلك ما جاء عن ابن عباسt قال: (( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا )),كان هذا عاما في جميع البيوت ثم نسخ من هذا واستثنى فقال تعالى:(( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم )),[2] ففي هذا المثال اطلق ابن عباس النسخ على تخصيص العام [SUP][SUP][3][/SUP][/SUP]
((وَ الشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الغَاوَنَ* أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِيْ كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ* إِلاّ الذِيْنَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ...)) , قال ابن عباس : آخر الآية ناسخ لأولها – يريد بالنسخ الاستثناء - .
ومما سبق يتبين لنا سبب خطأ الكثيرين في نسبة نسخ كثير من الآيات للصحابة؛وأن ذلك يعود لجهله بمراد السلف من النسخ , لذا جدير بطالب العلم العناية بمعرفة مصطلحاتالسلف ؛ ليكون عارفاً بمرادهم ولكي لا يقع في محاكمة كلامهم على اصطلاحٍ حادث بعدهم .[SUP][SUP][4][/SUP][/SUP]
- النسخ لغة:
النون والسين والخاء أصلٌ واحد , والنسخ مصدر من نَسَخَ يَنْسَخُ .
والنسخ في كلام العرب يطلق, على معاني , اشهرها : الإزالة والنقل .[5]
- والنسخ بمعنى الإزالة – وهو المراد في موضوعنا - يطلق على معنيين :
أ- نسخ إلى بدل: نحو قولهم: نسخ الشيب الشباب ،و نسخت الشمس الظل، أي: أذهبته وحلت محله , ونحو قوله تعالى : ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ))[6].
ب- ونسخ إلى غير بدل: وهو رفع الحكم وإبطاله من غير أن يقيم له بدلا، يقال: نسخت الريح الآثار، أي: أبطلتها وأزالتها. ونحو قوله تعالى: )فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ( [7] , أي يزيل ويعدم وساوس الشيطان وتزييفه.
- والنسخ بمعنى النقل , له حالتان :
أ- نقل الشيء مع بقائه في المحل الأول ,كقولك : نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر مع بقاء الأصل.
ب- نقل الشيء من مكان إلى آخر مع عدم بقائه في المحل الأول , وهذا يوافق قول السجستانيّ[8] حيث قال: " النَّسْخ: أن تحوّل ما في الخليَّة من العَسَل والنَّحْل في أُخرى " أي : دون بقائه في المحل الأول . [9]
· النسخ اصطلاحاً:
اختلف مؤلفو علوم القرآن وعلم الأصول – على مر القرون - في تعريف النسخ على أقوال , نورد بعضاً منها فيما يلي:
عرفه الإسفرايني بقوله :النسخ هو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ عنه [10]
وقال الغزالي : النسخ هو : الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم , على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه .[SUP][SUP][11][/SUP][/SUP]
وقال ابن الجوزي : النسخ هو رفع الحكم الذي ثبت تكليفه للعباد إما بإسقاطه إلى غير بدل أو إلى بدل .[SUP][SUP][12][/SUP][/SUP]
و عرفه ابن الحاجب بقوله هو : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر .[SUP][SUP][13][/SUP][/SUP]
وعرفه ابن عثيمين فقال: رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة.[14]
وقد رجح د. محمد الشايع تعريف الشيخ ابن عثيمين , مع زيادة ( أو كلاهما ) ؛ ليشمل أنواع النسخ , فيكون التعريف : (رفع حكم دليل شرعي أو لفظه أو كلاهما , بدليل من الكتاب والسنة) وسبب ترجيحه لهذا التعريف ؛وضوحه وبساطته , وسلامته عن الإعتراضات القادحة, وكونه جامعاً مانعاً , يتبين لنا ذلك من خلال شرح التعريف .
· شرح التعريف :( رفع حكم دليل شرعي أو لفظه أو كلاهما , بدليل من الكتاب والسنة)
- ( رفع ) : الرفع إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتا , و(رفع الحكم) أي: تغييره من إيجاب إلى إباحة، أو من إباحة إلى تحريم مثلاً , فخرج بذلك تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع، مثل أن يرتفع وجوب الزكاة لنقص النصاب، أو وجوب الصلاة لوجود الحيض؛ فلا يسمى ذلك نسخاً.
- ( حكم ) : قوله (الحكم) يخرج الأخبار المحضة , و آيات الوعد والوعيد , وكل مافي القرآن غير الأحكام الشرعية.
- ( دليل الشرعي ) :
وتخصيص الحكم (بالدليل الشرعي) يُخرج الحكم بالبراءة الأصلية – وهي الحالة التي يكون عليها الناس قبل نزول الأحكام الشرعية - .
- ( أو لفظه أو كلاهما): (أو لفظه) أي لفظ الدليل الشرعي دون حكمه , وقوله (كلاهما) أي نسخ الحكم واللفظ معاً ؛ وقد نص عليهما ؛ ليشمل أنواع النسخ ,لأن النسخ إما أن يكون للحكم دون اللفظ أو بالعكس أو لهما جميعاً.
- ( بدليل ) : يُخرج زوال الحكم لعوارض شخصية ,كموت وجنون ونوم فليس بنسخ .
- (من الكتاب والسنة ): يخرج ما عداهما من الأدلة كدعوى الإجماع والقياس فلا ينسخ بهما.[15]
[1] الموافقات: ( 3 / 344) .
[2] اخرجه الطبري في تفسيره , ج19 ,ص 147 .
[3] ينظر : الناسخ والمنسوخ , للنحاس , 1\586 .
[4] ينظر: النسخ في القرآن العظيم , ص6 .
[5] انظر مادة (نسخ) في كلِ من : مقاييس اللغة 5\424 , الصحاح في اللغة 1\ 134, لسان العرب 3\61,
[6] من الآية رقم: (106) , سورة البقرة .
[7] من الآية رقم: (52) , سورة الحج.
[8] الإمام العلامة أبو حاتم ، سهل بن محمد بن عثمان ، السجستاني ثم البصري ، المقرئ النحوي اللغوي , تصدر للإقراء والحديث والعربية , وله باع طويل في اللغات والشعر ، والعروض ، عاش ثلاثا وثمانين سنة , صاحب التصانيف , وله كتاب " إعراب القرآن " ، وكتاب " ما يلحن فيه العامة ", مات سنة خمسين , ( سير أعلام النبلاء ).
[9] ينظر: الإعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار , 1\6 , النسخ في القرآن الكريم \55 ,النسخ في القرآن العظيم ,ص5 , النسخ في دراسات الأصوليين \19 .
[10] و هو القول المختار عند البيضاوي .
[11] (المستصفى,1|86) , واختاره الشيرازي , والآمدي ,وابن الأنباري .
[12] ( نواسخ القرآن , 1\127).
[13] وقد اختاره كثير من المتقدمين والمتأخرين كتاج الدين السبكي والفتوحي وغيرهم .
[14] الأصول من علم الأصول .
[15] ينظر : الأصول من علم الأصول .