ما وجه الربط بين سورة المسد وسورة الإخلاص

أبو صفوت

فريق إشراف الملتقى العلمي
إنضم
24/04/2003
المشاركات
655
مستوى التفاعل
2
النقاط
18
الإقامة
مصر
الموقع الالكتروني
no
السلام عليكم
ما وجه الربط بين سورة المسد وسورة الإخلاص
 
الأخ الفاضل أبو صفوت
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فلقد رجعت إلى الكتب التي تُعنى بالمناسبات بين السور ، فظهر لي سبب سؤالك ، وهو صعوبة معرفة المناسبة بين هاتين السورتين ، ومن أجوبتهم على ذلك :
1 ـ أنه لما تقدم في سورة (تبت )عداوة أقرب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو عمه أبو لهب ، وما كان يقاسي من عُبَّاد الأصنام الذين اتخذوا مع الله آلهة جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد ، رادة على عباد الأوثان والقائلين بالثونية والتثليث ، أفادة أبو حيان في البحر المحيط .
2 ـ أنها جاءت بعدها للمشاكلة اللفظية في نهاية المسد حرف الدال ، ونهاية سورة الإخلاص كذلك ( مسد ) ( أحد ) ( الصمد ) ...
ذكره السيوطي في تناسق الدرر في تناسب السور .
وفي النفس من هذين شيء ، وأحس أن المناسبة في غيرهما ، وهو يحتاج إلى تأمل ، ويظهر أنه من المواطن الصعبة في المناسبات بين السور ، والله الموفق .
 
الأخ الكريم أبو صفوت
لقد تأملت سورة الإخلاص ، فوجدتها تقوم على مقصودٍ واضح ، وه بيان غنى الله عن من سواه ، وكمال سؤدده ، ثمَّ نظرت إلى سورة المسد ، فإذا فيها أمران :
الأول : حاجة الإنسان إلى غيره ، وبذلك يكون كماله ، فهو يحتاج إلى الزوجة والمال والولد ، ولا يتحقق كماله إلا بهذا ، وهذا الكمال نوع من الفقر إلى الغير ، إذ الإنسان لا يمكن أن يقوم بذاته ، فهو محتاج إلى غيره كائنًا من كان .
الثاني : أنَّ هذا الكمال الذي يحصل عليه لا يغني عنه شيئًا في الوقت الذي هو أحوج ما يكون إليه .
وإذا تقرر ذلك ، أقول :
أولاً : إنه لما ذكر فقر الإنسان بحاجته إلى غيره ، وأن كماله لا يتحقق إلا بهذا الفقر ، ذكر في الصمد كمال سؤدده وغناه عما سواه ، ليبين ممايزته سبحانه عن خلقه في ذاته وصفاته .
ثانيًا : أن كمال الإنسان الذي لا يحصل إلا بهذا الافتقار لغيره من الزوجة والولد والمال الذي لا يغني عنه وقت حاجته إليه = مما لا يُعوِّل عليه المسلم ، بل يلجأ إلى صاحب الغنى المطلق والسؤدد الكامل الذي يصمد إليه جميع الخلق ، والله أعلم .
هذا ما استطاع اللفظ أن يعبر عما جاش في النفس ، ومع أني أحس أنَّ التعبير قد قصَّر ، وأرجو أن تكون الفكرة قد اتضحت ، والله الموفق .
 
فضيلة الشيخ / مساعد حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبعد
فقد قرأت ماكتبته أعلاه – جزاك الله خيرا - ، فوقع في روعي أن هذا الوجه – إن كان فهمي صحيحا – ينقص قوة سورة الإخلاص ، تلك السورة العظيمة التي أخلصت في التوحيد العلمي ، وخلصت لصفات العظمة للرب - جل وعلا - من نعوت الجلال وصفات الكمال ، وحسبنا أنها تعدل ثلث القرآن ، فإذا ربطت صفات الكمال لله تعالى المشار إليها في سورة الإخلاص بصفات النقص والحاجة للمخلوق بل بذلك المجرم الأثيم في سورة المسد ؛ خف سلطان سورة الإخلاص وأثرها وهيبتها وعظمتها في النفوس ، ويقرب هذا من قول الأول :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

فما الداعي إلى تكلف العبارت ، وتمحل الإشارات ، في إثبات المناسبات ؟

ثم إن هذا مبني على أن ترتيب السور توقيفي ، وأكثر العلماء على خلافه – كما لايخفى على شريف علمكم – كما اجتهد عثمان في شأن (براءة) و(الأنفال) ، وكما هو معروف عند أهل العلم أن مصاحف الصحابة كانت تختلف في ترتيبها، فترتيب مصحف ابن مسعود غير ترتيب مصحف علي، وكذا مصحف أبي بن كعب، وجميعها غير ترتيب المصحف العثماني، وفي ذلك عنهم نُقول كثيرة وآثار عدة، فلو كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم توقيف في ترتيب سور القرآن لما اختلفوا ، لاسيما وابن مسعود ممن شهد العرضة الأخيرة، وكان مصحفه من أشد مصاحف الصحابة اختلافاً في ترتيب السور .

ثم لو سلم بأن ترتيب السور توقيفي ؛ فهل أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أحد أصحابه ، أو أحد التابعين ، أنهم كانوا يتطلبون المناسبات بين السور ؟
والأصل أن السورة من القرآن وحدة مستقلة عن الأخرى ، كما قيل في معناها الاصطلاحي أنها : "طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع " .
هذه خلجات دفعني إليها طلب العلم في هذه المسألة منكم ومن سائر مشايخنا المشرفين ، وتصحيح ما أخطأت فيه إن كان فهمي جنح عن جادة الصواب .
وأستغفر الله لي ولكم ،،
 
الشيخ الفاضل / خالد الباتلي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فقد سرتني مشاركتكم وملحوظاتكم ، وهاأنذا أقدم لكم رأيي فيما طرحتم ، فتقبله مشكورًا .
أولاً : الوجوه المذكورة في المناسبة لا أراها تُنقص قدر سورة الإخلاص ، إلا لو لم يكن عندنا في إثبات فضل سورة الإخلاص إلا هذه المناسبات ، أو أننا نريد إثبات فضل هذه السورة بهذه المناسبة .
والمناسبات شبيهة بضرب الأمثال ، والمثل يكون بما جل أو قلَّ لبيان الشأن ، ولا يلزم منه اتفاق المشبه به بالمشبه ولا العكس في القدر والمكانة .
وما ذكرته إنما هو من هذا الباب ـ فيما يبدو لي ـ وليس فيه تنقيص من شأن سورة الإخلاص ، وأبو لهب إنما هو مثال ضُربَ به المثل في ذلك ( أعني : وجوه الفقر الإنساني ) ، فلا يوقف عنده بذاته ، فيضعَّف وجه المناسبة من أجله . وأنت تعلم أنّ الله ضرب أمثلة في القرآن ، وليس فيها نقص من قدر ما سيق المثل من أجله .
وأنت تعلم أن بيان صفات الكمال يجوز بذكر ما يقابلها من نقص المخلوق ، ولا غضاضة في ذلك ، فذكر الفقر الإنساني لبيان الغنى الكامل في الخالق لا غبار عليه فيما يبدو ، والله أعلم .
ثانيًا : وجود التمحُّل في المناسبات ، وهذا مما لا يُختلف في وجوده في باب المناسبات ، والحكم بالتمحُّل نسبي ، وأنتم ـ حفظكم الله ـ قد حكمتم بذلك على ما ذكرته ، لكن لم يظهر لي ـ بعد إعادتي قراءة ما كتبتُ ـ أنه من باب التمحل ، ولست أضيق بمن رآه من هذا الباب أن يردَّه ، ويضرب به عُرض الحائط ، فالمسألة علمية بحته قابلة للصواب والخطأ .
ثالثًا :إني أرى أن ترتيب السور توقيفي ، كما هو الشأن في ترتيب الآيات ، ومن ثَمَّ ، فإنني أثبت المناسبات بينها ، لكن لا يلزم أن تكون كل مناسبة مذكورة صحيحة ، كما لا تخلو كثير من المناسبات من التكلُّفِ ، وهذا يعرفه من قرأ في هذا الباب .
رابعًا : حديث عثمان في شأن براءة والأنفال مما لا يصلح الاحتجاج به ، وقد بين ذلك بعض العلماء ، ومنهم الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند .
خامسًا :الاحتجاج بمصاحف الصحابة لا يصلح في هذا المقام ؛ لأمور :
الأول : أنه لم يُذكر أن أحدًا منهم كتب مصحفًا كاملاً ، وهذا يشير إليه الآثار في جمع المصاحف في عهد أبي بكر وعثمان .
الثاني : أنهم لا يلزم أن يكونوا قد تلقوا هذا الترتيب من النبي صلى الله عليه وسلم وعلموه جميعًا ، بل هو مما عرفه بعضهم ، بالأخص زيد بن ثابت كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أنَّ المصحف الذي كتبه أبو بكر ، ونسخ منه عثمان لم يختلف فيه الترتيب ، وهو الترتيب الذي تلقاه زيد من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما تلقاه غيره ، لكن لم يقع الالتزام بهذا الترتيب إلا في عهد عثمان لما ألزمه بالمصاحف التي كتبت بين يديه ، فكان ما فيها من الرسم والترتيبـ في أقل أحواله ـ إجماعًا لا تجوز مخالفته .
وعلى هذا يُحمل ما وقع من مصحف ابن مسعود ، فإنه لم يلتزم في مصحفه بالترتيب النبوي ، ولم يقع الإلزام إلا في عهد عثمان ، ولو كان عند ابن مسعود في ترتيبه شيء من النبي صلى الله عليه وسلم لاحتج به ، وذلك ما لم يقع .
والظاهر مما حُكِي من مصاحف الصحابة أنهم كانوا يتوسعون فيها بما لا تجده في المصحف الإمام العثماني ، كذكرهم بعض التفسير ، وبعض القراءات التي نُسِخت في العرضة الأخيرة ، وغير ذلك .
وهم في كل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر وعمر وصدرٍ من عهد عثمان لم يُلزموا بترك شيءٍ مما بين أيديهم مما يتعلق بالمصحف .
وموضوع مصاحف الصحابة وما يتعلق بها من أحكام مما لم يُبحث بحثًا مستفيضًا يجلِّي غوامضه .
سادسًا : كون السور ة قطعة مستقلة لا يمنع من وجوه مناسبة بينها وبين ما بعدها أو قبلها ، والحديث عن المناسبة لا يُخلُّ بكونها قطعة واحد ، ولو أخلَّ لكان لهذه الملحوظة مكان .
أما كونه لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة والتابعين شيء ، فهذه مسألة علمية أكبر من هذا الموضوع ، ولو طردتَ هذا في بعض العلوم لما اعتمدتها ، وهذا التساؤل مما يحتاج إلى بسط وتجلية ، ولعله مما طُرِح في بطون الكتب أو في البجوث ، وكم أتمنى ممن يقرأ هذا أن يتحف الملتقى بشيء مما كُتب في مسألة العلوم التي لم يشر إليها السلف ما ضابط قبولها والاعتناء بها .
وأخيرًا : كأني ألمح في حديث عثمان الذي أشرتم إليه ـ لو صح الاحتجاج به ـ اعتماد المناسبة ، فهو إنما وضع التوبه بعد الإنفال لأجل مناسبة حديثهما عن الجهاد . ومن ثَمَّ فإنه يجوز بحث المناسبة ، لكن من باب سبب ذكر الصحابة لهذه السورة بعد هذه ، على مذهب من يرى أن ترتيب السور اجتهادي .
وبعد هذا فإني أستغفر الله من كل ذنب وخطيئة ، وأسأله لي ولكم التوفيق والسداد ، وأن يجعلنا من الخِيَرة الذين اصطفاهم لخدمة كتابه ، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ،،،، آمين .
 
فضيلة الشيخ الدكتور / مساعد بن سليمان الطيار وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
فقد سرني وأبهجني ما تفضلتم به ، وأنا أقبله على العين والرأس ، وإنني حين أكتب هذا مع فضيلتكم ، أود أن أنبه إخواني القراء الذين لايعرفون المتحاورين ألا يخطئوا فيضعوني موضع الند والقرين مع فضيلة الشيخ – حفظه الله – فهو أكبر مني سنا وعلما ، ومقامي معه مقام التلميذ بين يدي الشيخ ، ولا أزال أستفيد مما يكتبه الشيخ ويحققه في هذا العلم ، أسأل الله تعالى أن يسبغ عليه من فضله وأن يزيده وإياي وإياكم هدى وتوفيقا وعلما نافعا وعملا صالحا ، و لاأجدني إلا كما قال جرير :
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن =لم يستطع صولة البزل القناعيس[/poem]
وإن ماأعلمه في الشيخ – وفقه الله – من دماثة الخلق ، وطيب المعشر ؛ هو الذي دفعني ويدفعني للمباحثة والمدارسة في هذه المسألة ، والعلم رحم بين أهله .
فضيلة الشيخ – أبا عبدالملك -: قرأت ماخطته أناملكم فاسمح لي أن أعرض بين يديكم النقاط الآتية :
1. لا إشكال في بيان صفات الكمال المطلق لله تعالى إذا ذكرت في مقابلة نقص صفات المخلوق على الإطلاق والعموم ، وكلام الأئمة في هذا واضح .
لكن محل الإشكال – عندي – إذا ذكرت في مقابلة نقص صفات المخلوق على التقييد أو التعيين ، ففرق بين قولنا : إن سورة الإخلاص تضمنت صفات الكمال المطلق لله تعالى الذي يقابله النقص والحاجة في المخلوق – هكذا على الإطلاق - ، وبين أن نربط ذلك - في سورة الإخلاص - بصفات النقص والحاجة في المخلوق الذي دارت عليه سورة المسد ، وهو أبو لهب وزوجه ، ومجرد المفاضلة بين الناقص المعين ، ومن له الكمال المطلق من كل وجه ، تجعله – أي الكامل – ناقصا .
ولهذا لو قال قائل : الله – جل وعلا – عظيم في ذاته وصفاته ، وهو أعظم من الفيل والحوت ، لعدّ كلامه ممجوجا لايليق بالله تعالى – مع أن ظاهر اللفظ : إرادة التعظيم - ، ولايقال : إن الفيل أو الحوت مثل ضرب لإرادة التعظيم في ذهن السامع ، لأنهما من أعظم المخلوقات التي يراها الإنسان ويشاهدها فتذكر ولايوقف عندها بذاتها .
هذا ما انقدح في ذهني ، وما أبرئ نفسي من الوهم والغلط .
2. مسألة ترتيب السور مسألة اجتهادية ، يدور القائل فيها بين الأجر والأجرين ، وليست محل النقاش أصالة ، وإن كان حديث عثمان في شأن براءة والأنفال واضح في المسألة ، والعجب من الشيخ / أحمد شاكر رحمه الله كيف طعن في هذا الحديث سندا ومتنا ، وقد توالى المتقدمون على قبوله ، فقد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وسكت عنه أبو داود . وقد ناقش الشيخَ شاكر ، وبين وهمه في الجانبين ( السند والمتن ) ؛ الشيخ / عبدالله الجديع في تحقيق متين في ( المقدمات الأساسية 125 – 127 ) .
ومن الأدلة القوية في هذا : حديث عائشة رضي الله عنها مع الرجل العراقي وهو في البخاري ، وقد ذكره الجديع في كتابه ص 132 ولولا الإطالة لنقلته .
كما أن القول بالتوقيف الشرعي في أمر ما : خلاف الأصل ، فعلى مدعيه إقامة الدليل السالم من المعارض ، كيف والأدلة تشهد بخلافه .
وينبغي أن يفرق هنا بين مسألتين :
أ. القول بأن ترتيب السور توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخله الاجتهاد .
ب. التزام ترتيب السور على النحو الوارد في المصحف العثماني وعدم مخالفته .
فلا يلزم من الثاني التزام الأول ، فإن قلنا : إن ترتيب سور القرآن وقع باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن هذا الترتيب توقيفا ونصا من الشارع في جميعه، فإنه قد اجتمعت عليه الأمة وأمر به عثمان رضي الله عنه ، وهو أحد الخلفاء الراشدين ، ولهم سنة متبعة يلتزم بها . ولايمنع القول بأنه كان عن اجتهاد من الصحابة أنه كان عندهم شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواضع .
ثم كيف يتوارد هولاء الجبال - في العلم بالقراءة والقرآن - : علي وابن مسعود وأبيّ رضي الله عنهم ، على الجهل بنص النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيفه في هذه المسألة – لو كان فيها توقيف – وهم من أكثر الناس مخالطة له ، وعلما بالقرآن ؟!.
قال أبو وائل شقيق بن سلمة: خطبنا عبدالله بن مسعود، فقال: والله، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم . أخرجه البخاري ومسلم
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أي القراءتين تعدون أول؟ قالوا: قراءة عبدالله، قال: لا، بل هي الآخرة (وفي رواية: قراءتنا القراءة الأولى، وقراءة عبدالله قراءة الأخيرة)، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عُرض عليه مرتين، فشهده عبدالله، فعلم ما نُسخ منه وما بُدِّل . أخرجه أحمد وغيره
3. ماذكرت – حفظك الله – من أنَّ المصحف الذي كتبه أبو بكر ، ونسخ منه عثمان لم يختلف فيه الترتيب ،وهو الترتيب الذي تلقاه زيد من النبي صلى الله عليه وسلم . هل ثمة مايدل على ذلك ؟
فقد جُمع القرآن في عهد الصديق من السطور والصدور على الصفة التي أخذها الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وكتبها بأمره كتاب الوحي، فصارت جميعاً في صحف، محفوظة في موضع واحد دون أن يحمل الناس على الاجتماع على مصحف واحد. ولم تُكتب منها المصاحف يومئذ، كما أن ظاهر الأمر – من سياق المرويات - أن السُّور لم تؤلف يومئذ على صفة معينة .
بل جزم بذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال : "الفرق بين الصحف والمصحف: أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، وكانت سورا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة ، لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفاً " ( فتح الباري 8/635 )
وقال أبو عبدالله الحاكم: "جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة الرسول r، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق، والجمع الثالث هو في ترتيب السورة كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين" . ( المستدرك 2/229 )
4. لايخفى على شريف علمكم ماجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ على المنبر : " وفاكهة وأبا " فقال :هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر . أخرجه ابن أبي شيبة و أبو عبيد وابن جرير وغيرهم . وفي لفظ قال :" ما بين لكم فعليكم به ، وما لا فدعوه " ، وأخرجه عبد بن حميد أيضا من طريق إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن زيد أن رجلا سأل عمر عن :"فاكهة وأبا " فلما رآهم عمر يقولون ؛ أقبل عليهم بالدرة .
فقد عد الفاروق طلب معنى كلمة من كلام الله – وهذا من صلب التفسير – عده تكلفا ، فما عساه يقول فيمن يتطلب المناسبة بين السور – وليس هذا من صلب التفسير - ؟!
وقد أخرج البخاري عنه رضي الله عنه قال :" نهينا عن التكلف " .
وقول الصحابي : نهينا عن كذا ، في حكم المسند المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند أكثر أهل العلم ، وجزم بصحته ابن الصلاح وغيره .
قال الإمام الشوكاني – وهو يشير إلى مسألة طلب المناسبة بين الآيات التي وقع الإجماع على التوقيف في ترتيبها - :" اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف ، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته ، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه ، وذلك أنهم ارادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب سبحانه حتى أفردوا ذلك بالتصنيف ... فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور ... وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس ..إلخ كلامه .
5. مما يقوي عدم تطلب المناسبات بين السور : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ؛ لم يؤثر عنهم الكلام في ذلك – فيما أعلم – مع وجود المقتضي لذلك – لو كان مرغوبا فيه – فإنهم كانوا يقرأون القرآن ويتدبرونه ، ويفسرونه ويتكلمون على معانيه والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله تعالى ؟! .
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وكل خير في اتباع من سلف=وكل شر في ابتداع من خلف [/poem][align=center]**[/align]
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وخير الأمور السالفات على الهدى = وشر الأمور المحدثات البدائع[/poem]
أما العلوم الأخرى المساعدة في فهم نصوص الشرع والاستفادة منها كالنحو والأصول والمصطلح ( علوم الآلة ) ، فلم يؤثر عنهم كثير كلام فيها لعدم وجود المقتضي والحاجة إلى ذلك ، لأنهم كانوا عربا أقحاحا لم يشبهم لحن أو تخالطهم لكنة ؛ يتكلمون العربية ويفهمون مدلولات الألفاظ ؛ والواسطة في التلقي هو النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه ولما طالت السلسلة ، ووقعت الفتنة ، وظهر الكذب احتيج إلى التفتيش والكلام في الرجال .
هذا ماتيسر فما كان من صواب فمن الله ، وماكان من خطأ فمن نفسي والشيطان ، وأعوذ بالله من فتنة القول والعمل ، وأسأل الله لي ولكم الهدى والرشاد .
والسلام عليكم ،،،
 
الشيخ الكريم خالد الباتلي
أشكركم على حسن ظنكم بي ، وهذا من كريم خلقكم ، ولقد رأيت ما سطرتموه ، ورجعت إلى ما كتبه االشيخ الجديع في كتابه المفيد الممتع ، ولضيق وقتي الآن ، فإني أستبيحكم عذرًا في تأخير الردِّ ، وذلك لأجل دراسة المسألة من جديد ، ولعل الله يفتح لي ولكم فيها الصواب ، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد .
 
جزاكم الله خيرا
وهكذا النقاش العلمي الأدبي المثمر

ولي مشاركة حول قضية المقارنة بين شيء ناقص وآخر كامل
فلقد كنت أستشهد بهذا البيت كثيرا :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قلت إن السيف أمضى من العصا
ثم توقفت عن ذلك بعد قوله سبحانه في سورة النمل :

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ {59} أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60} أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {61} أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ {62} أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {63}‏ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {64}

فما رأي أهل العلم بهذا الاستدلال ؟
 
وأيضا قول يوسف عليه السلام :
( ... يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ... )

فلعل في تلك الآيات ما يدل على عدم صحة ( أن "مجرد" المقارنة فيها استنقاص للأكمل )
كما قال الشاعر وغيره ..
 
[align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الزركشي - رحمه الله - وهو يذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال : "ومما يعين على المعنى عند الإشكال أمور ، ومنها دلالة السياق ، فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة ، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته" . وأضاف الفراهي - رحمه الله - إلى هذه الأمور : "موقع السورة فإن في العلم به نوراً وهدى" ..

ولقد فكرت ملياً فيما جاء من مداخلات على علاقة سورة (المسد) بسورة (الإخلاص) وكيفية الربط بينهما .. وبحثت في أمهات الكتب إلى أن وجدت في بعض التفاسير والمؤلفات ما قد يشفي الغليل ويملأ الفكر ويعين على الكشف عن الإشكال الوارد هنا .. وإليك ما خلصت إليه :

تبدأ المسيرة من سورة (الفيل) .. فإذا تأملنا فيها وجدنا الله تعالى قد ذكر فيها قصة هلاك أصحاب الفيل ، الذين جاءوا ليهدموا الكعبة ، بيت الله الحرام . ذكر هذه القصة ليعظ قريشاً عن سوء تصرّفاتهم وسوء موقفهم من الكعبة ، فإنهم قد نسوا غايتها ونسوا رسالتها وأبعدوها عن أهدافها .
فالكعبة بُنيت حتى تكون مشرقاً للتوحيد ومركزاً للإسلام وقبلة للصلاة ومثابة للناس وأمناً ، ولكنهم دنّسوها بالكفر والشرك ، وملؤوها بالأحجار والأصنام ، وجعلوها وثناً من الأوثان ، وصدّوا عنها الرسول والمؤمنين ، وبذلك شهدوا على أنفسهم بالسعي في خرابها ، وإن كانوا يزعمون بألسنتهم أنهم أولياؤها ، حيث قال تعالى : ((ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)) (البقرة : 114) .
فأنذرهم الله تعالى وتوعّدهم أنه كما أهلك أصحاب الفيل ، الذين جاؤوا ليهدموا بيته وجعلهم كعصف مأكول فكذلك سيدمّرهم إن لم ينتهوا عمّا هم فيه من إخراب هذا البيت ، فإنهم إذا وقفوا من البيت موقف أصحاب الفيل فلا جرم أنهم سيذوقون ما ذاق هؤلاء من تعذيب وتنكيل .

وقد جاءت مثل هذه الإنكارات في عدّة مواضع ، قال تعالى :
((إن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحادبظلم نذقه من عذاب أليم)) (الحج : 25) .
((وما لهم ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون)) (الأنفال : 34) .

ثم جاءت سورة (قريش) موعظة لهم وتذكيراً بواجبهم بعد ما سبقه من إنذار وتهديد . فذكر الله فيها نعمته السابغة وفضله العميم على قريش إذ كانت قوافلهم التجارية تخرج في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن ، وكانوا يرحلون آمنين مطمئنّين ويعودون سالمين غانمين ، وما كان يطمع فيهم طامع .. وما كان هذا كله إلا لأنهم جيران بيت الله الحرام .

فذكّرهم الله تعالى ما يجب عليهم لقاء هذه الكرامة والرفاهية التي أفيضت عليهم ، وهو أن يعبدوا ربّ هذا البيت ، الذي يسعدون بجواره وينعمون ببركاته ، وأن يطرحوا ما فيه من أصنام ، ويعيدوه - كما كان - مركزاً للتوحيد ومثابة للأنام .

وقرن هذه السورة بسورة (الفيل) حتى لا يغترّوا بالنعم والرفاهية التي يغدون فيها ويروحون وينهلون منها ويعلّون ، ويتذكّروا أن هذه الرفاهية ليست إلا فيضاً من فيوض الكعبة - شرّفها الله - فإن لم يراعوا حرمتها ولم يعودوا إلى رسالتها وأهدافها ولم ينتهوا عن السعي في خرابها فلا يأمننّ أن يلاقوا ما لاقاه أصحاب الفيل من خزي ولعنة إلى يوم القيامة .

ثم جاءت سورة (الماعون) ، جاءت تصبّ عليهم البلاء ، وتهدّدهم بالويل والشقاء ، فإنهم كذّبوا بيوم الدين ولم يعبدوا ربهم ولم يحافظوا على صلاتهم . ثم إنهم كانوا يصلّون ، ولكن صلاتهم كانت تبعد كل البعد عن التي أشار إليها أبوهم إبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - حيث قال : ((ربّنا إني أسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة )) (إبراهيم : 37) . ودعا ربّه فقال : ((ربّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذرّيتي ربّنا وتقبّل دعاء)) (إبراهيم : 40) . وإنما كانت صلاتهم حيث وصفها القرآن فقال : ((وما كان صلاتهم عند البيت إلا مُكاءً وتصدية)) (الأنفال : 35) .

وهكذا كانوا يصلّون وكانوا عن صلاتهم ساهين . ثم لم يقف الأمر عند هذا الحدّ ، بل قست قلوبهم حتى كانوا يدعّون اليتيم ويمنعون الماعون ولا يحضّون على طعام المسكين . وهكذا هدموا العمودين الذين رُفعت عليهما قواعد البيت ، وهما الصلاة والزكاة ، أو العبادة والمواساة . فلم يبق لهؤلاء الفجرة إلا أن يُلعنوا ويُخرجوا من هذا البيت وولايته ويُتخلّى المكان لأهله ، كما قال تعالى : ((وما لهم ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون * وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)) (الأنفال : 34-35) . وقال تعالى : ((ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين)) (التوبة : 17-18) . وعلى هذا كانت سورة (الماعون) بمثابة النداء من إله هذا الكون بأنهم عُزلوا عن هذا المنصب الكريم ، وحُرموا هذا الشرف العظيم ، وقضى الويل واللعنة عليهم أجمعين .

ثم جاءت سورة (الكوثر) لتحمل البشرى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين - بأن الله قد اختارهم لهذا الشرف الأكبر ومنّ عليهم بهذا الخير الكوثر ، مع التنبيه إلى ما يتبع هذا العطاء من مسؤولية كبيرة ضخمة ، ألا وهي إحياء ما أماته المشركون من معالم التوحيد ، الذي أُسّس عليه هذا البيت العتيق ، حيث قال تعالى : ((إنا أعطيناك الكوثر * فصلّ لربّك وانحر * إن شانئك هو الأبتر)) (الكوثر : 1-3) .

وكما ذكرنا فإن السورة السابقة نزلت في ذكر الذين كبرت خيانتهم في ولاية الكعبة لما أنهم أفسدوا الحج ومناسكه ، وأبطلوا حقيقة الصلاة والنحر بإبطال التوحيد والعدول عن مواساة المساكين ، فباؤوا بالويل واللعنة واستحقّوا أن يسلبهم الله هذا الخير ويعطيه من يستحقّه حسب سنّته كما قال تعالى : ((وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) (محمد - صلى الله عليه وسلم - : 38) . وكأن الله تعالى ينزع ولاية الكعبة من الفجرة والخائنين .

ففي سورة (الكوثر) بشّر الله نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بأنه اصطفاه وأمته لولاية بيته المحرم ، ومسكن خليله وذرّيته التي يبارك بها الأمم . ولا شكّ أن هذا العطاء هو الفوز الأكبر والخير الكوثر وهو الضمان للحوض الكوثر الذي يعطيه الله تعالى في الآخرة . وعلى هذا يكون موقع هذه السورة من التي قبلها كموقع ذكر النعمة بعد النقمة ، والعطاء بعد السلب ، والمستَخلَفين بعد المهلَكين ..

ذلك ولما كانت السورة التالية (الكافرون) في إعلان الهجرة من جوار هذا البيت حَسُنَ في نظم الكلام أن تُقدَّم عليها سورة التبشير والتسلية ليدلّ القرآن بنظمه ذلك على أن الله تعالى قضى باليسر قبل العسر وإن كان وقوعه بعده . فترى أن إعلان الهجرة الذي تضمّنته سورة (الكافرون) وُضع بين سورتي التبشير ، أعني (الكوثر) و (النصر) . ثم لما كانت هذه السورة بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة أحبائه وبقطع أعدائه عن بركات الكعبة جاءت سورة (الكافرون) بياناً لأصل هذا القطع ، وهو البعد عن التوحيد الذي بُني عليه هذا البيت .

ثم جاءت سورتا (النصر) و (المسد) ، وهاتان السورتان بمثابة التكملة لقوله تعالى : ((إنا أعطيناك الكوثر)) ، وقوله تعالى : ((إن شانئك هو الأبتر)) ، كأنه قيل : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ورأيت عدوّ الله قد تبّ وتبت يداه ورأيت الكفر قد تمزّق وانتقضت عراه ، فحينئذ يتحقّق هذا العطاء الإلهي الكريم في أجلى صوره ، ويفرض وجوده على الجميع بحيث لا يبقى منكِر على إنكاره ، وينكشف أن الأعداء هم الأباتر على عكس ما زعموا . هذا من جهة .

ومن جهة أخرى ، فإن إعلان البراءة الذي تتضمّنه سورة (الكافرون) معناه إعلان الهجرة والجهاد . كما جاء ذلك واضحاً في قول إبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - والذين معه : ((إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدت بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده )) (الممتحنة : 4) .

وإذا كانت الهجرة وكان الجهاد فلا بد أن ينزل النصر ويأتي الفتح كما قال تعالى : ((إن تنصروا الله ينصركم)) (محمد - صلى الله عليه وسلم - : 7) . ((وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشّر المؤمنين)) (الصف : 13) . علماً بأن تلك الآية إنما جاءت لتبشّر بما يترتّب عليه الجهاد من جزاء كريم وبلاء عظيم . وإذا جاء النصر فلا بدّ أن يُكسر جناح الشرك ويؤذن له بالتباب ، فارتباط هاتين السورتين كالذي في قوله تعالى : ((وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)) (الإسراء : 81) .

فلما انتصر الحق وانتكس الباطل وفتحت مكة أبوابها لجنود الإسلام وعادت الكعبة إلى أهلها وأوليائها ، وأصبحت - كحالتها يوم أُسّست - مشرقاً للتوحيد وموئلاً للإيمان ومثابة للناس وأمناً ، وعاد الحق إلى نصابه وأرزَ الشرك إلى أجحاره ، حينئذ ختم على هذه الصحيفة الخالدة بختم التوحيد ، وجاء الأمر الإلهي يجلجل في الكون من سورة (الإخلاص) :

((قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد)) .

فكان هذا إيذاناً برفع لواء التوحيد عالياً خفاقاً ، وكان إيذاناً بانتكاس الشرك وانحسار ظله تماماً في البيئة المؤمنة التي رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالقرآن هادياً وإماماً .

ويزيدنا اطمئناناً وركوناً إلى هذا النظام أنه يتّفق تماماً مع تلك الكلمات الخالدة التي نطق بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ، إذ قال وهو آخذ بعضادتي باب الكعبة : "لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" .

فإن "لا إله إلا الله" ناظر إلى سورة (الكافرون) ، و "وحده لا شريك له" ناظر إلى سورة (الإخلاص) ، و "صدق وعده" ناظر إلى سورة (الكوثر) ، و "نصر عبده" ناظر إلى سورة (النصر) ، و "هزم الأحزاب وحده" ناظر إلى سورة (المسد) .

هذا إجمال القول في المناسبات بين هذه السور التي شكّلت حلقة عجيبة من حلقات الترابط المحكم في نظامها ..

والله تعالى أعلم

المصادر:

الإمام البقاعي:
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

الإمام عبد الحميد الفراهي :
تفسير سورة الكوثر
تفسير سورة اللهب
تفسير سورة النصر
التكميل في أصول التأويل

الزركشي :
البرهان في علوم القرآن[/align]
 
الحمد لله ، وبعد :
أعجبتني المساجلة بين الشيخين الكريمين ( خالد الباتلي ود . مساعد الطيار ) حفظهما الله ونفع بهما ، ويبقى الأمر - فيما أحسب - على أن تكون المسألة بين راجح ومرجوح ، وقد تكلم كثير من أهل العم عن المنسبات في تفاسيرهم ، وأفرد البعض لذلك المصنفات ، ولا أعلم أحدا قبل الشوكاني - رحمه الله - قال بقوله ، وإن كان وجيها .

والذي يظهر لي – مع ضعفي وقلة بضاعتي – أن أبا لهب لما كان سبب هلاكه معاداته للتوحيد ، فجاءت سورة المسد مبينة لأمره ، جاءت بعدها سورة الإخلاص ، والمراد إخلاص التوحيد لله تعالى الذي فيه النجاة لمن أراد النجاة ... والعلم عند الله تعالى .
 
أريد أن ألخص بإيجازت العلاقة التي تجمع بين السور الستة الأخيرة : الكافرون ، المسد ، الإخلاص ، المعوذتان .
فبعد أن أمرنا الله بالتبرؤ من الكافرين ، هذا التبرؤ الذي يعتبر قطيعة نهائية بين المؤمنين والكافرين ،جاء الإعلان عن النصر للدعوة الإسلامية ، والتعرف على رؤوس الكفر الذين أصبحوا نشازا في المجتمع الإسلامي ، وعبرة لمن اعتبر ، جاء الأمر بالتعريف بالله الواحد الأحد ، والتعوذ من الشرور ووساوس الشيطان .
والله أعلم وأحكم
 
1/ ما قاله الشيوخ الأفاضل عن التوقيف في ترتيب السور من عدمه , صحيح أن الأمر يتراوح بينهما , و لكن مهما نظر الناظر فيه يجد معاني رائقة جدا و مناسبات عميقة جدا , بحيث يكاد يجزم أن الأمر توقيفي من الله تعالى .. الأمر عندي أشبه بقواعد التجويد , فأنت حين تتأمل حركات التجويد و ايقاعاتها تجد لها مناسبات لطيفة جدا مع الكلمة و الآية و الجو العام للمقطع الواردة فيه ..
إلا أن الروايات في اختلاف الترتيب خاصة ما يخص حديث عثمان رضي الله عنه بخصوص الأنفال و التوبة - لو صح - يهدم هذا المعتقد , و من جهة أخرى انسابية المعاني من سورة إلى أختها ترد هذا الحديث .. إذن لا علينا إن قلنا الأمر توقيفي فطلبنا مناسبات لطيفة للسور , و للذين يعتقدون بعدم التوقيف الأمر إليهم , فإن علموا - و لو بالظن - كان ذلك سببا على سبب لروعة هذا القرآن في النفس , و إن جهلوا فليس يضرهم شيئا .
2/ أما عن مناسبة هاتين السورتين , فلو بدأنا من " الكافرون " التي تصور القطيعة الحادة بين المنهج الإسلامي و المنهج الجاهلي بحيث لا يمكن اطلاقا قبول انصاف الحلول , فإما اسلام و إما جاهلية , تلتها " النصر " التي تبشر بعالمية الإسلام و شمول دعوته أرجاء الأرض و خضوع العقل البشري لتعاليمه في الحياة , ثم تلتها " المسد " التي تصور نهاية الكفر و دمار الجاهلية في مسارات التاريخ الأرضي و المصير الأخروي , و أنها مهما انتشت و انتفتخت و استكبرت فإن نهايتها محتومة , و ما مدة أجلها إلا لأجل تصفية القلوب و الإرتقاء بالعقول إلى مدارك فقه معاني التوحيد الخالص و العبودية الشاملة لتجليات الحياة , سنجد بعد هذه الإنسيابية في ترتيب هذه السورة تنتهي بالضرورة الفطرية و التاريخية و المصيرية إلى سورة " الإخلاص " المعلنة لحقائق التوحيد و عظمة الألوهية السامية و المتجاوزة للكون و الحياة و الإنسان و التاريخ , و لأن الإنسان مهما بلغ في مستويات العلم و الحكمة و مهما ارتقى في معارج السمو و الصفاء يظل هو هو الإنسان الضعيف الضئيل لن يثبت على منهج الحق إلا بالله , جاءت سورتا " الفلق " و " الناس " المنبهتان على ضرورة الإلتجاء إلى الله لأجل الحماية من شر كل ذي شر سواء كان منظورا أم مجهولا غيبيا .. فكأن الأمر يقول : لا عليك أن تعلن القطيعة مع الشرك و الجاهلية , فإن النصر لك , و لا تهتم بانتفاشة الكفر و غروره فإن نهايته محتومة , لتبقى الحقيقة الخالدة هي نهاية المدارك العقلية الزاكية و لتكون الصيرورة التاريخية تغذ السير نحو وجهتها المعلومة .. الله جل جلاله .
و الله تعالى أعلم .
 
ذكر د. عبد الكريم الخطيب رحمه الله في تفسيره كلام قريب مما ذكره الإخوة الأفاضل أنقله لكم للإستفادة :
(كانت عداوة أبى لهب وزوجه للنبىّ ممثلة فى عداوتهما لدعوة التوحيد التي كانت عنوان رسالة النبىّ ، صلوات اللّه وسلامه عليه ، وكلمته الأولى إلى قومه .. وقد ساقت هذه الكلمة أبا لهب وزوجه ، ومن تبعهما فى جحود هذه الكلمة ، والتنكر لها ـ ساقتهم إلى هذا البلاء الذي لقياه فى الدنيا ، وإلى هذا العذاب الأليم فى جهنم المرصودة لهما فى الآخرة ..
وسورة « الإخلاص » وما تحمل من إقرار بإخلاص وحدانية اللّه من كل شرك ـ هى مركب النجاة لمن أراد أن ينجو بنفسه من هذا البلاء وأن يخرج من تلك السفينة الغارقة التي ركبها أبو لهب وزوجه ، ومن اتخذ سبيله معهما من مشركى قريش ومشركاتها .. وها هو النبي الكريم ، يؤذّن فى القوم بسورة الإخلاص ومركب الخلاص)

 
الحمد لله رب العالمين.
الربط بين السورتين الكريمتين في المعاني المشتركة بين المسد والصمد من ناحية ، وبين اللهب والصمد من ناحية ثانية.
وكذلك استعمال لفظ الحبل على أن إخلاص التوحيد هو حبل النجاة في حين أن الشرك حبل الهلاك الذي يطوق صاحبه في النار .
وهذا الربط من ضمن مسائل سورة الإخلاص:
المسألة الواحدة والثلاثون.
http://vb.tafsir.net/forum2/thread46223-2.html
والله اعلم.
 
عودة
أعلى