فضيلة الشيخ الدكتور / مساعد بن سليمان الطيار وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
فقد سرني وأبهجني ما تفضلتم به ، وأنا أقبله على العين والرأس ، وإنني حين أكتب هذا مع فضيلتكم ، أود أن أنبه إخواني القراء الذين لايعرفون المتحاورين ألا يخطئوا فيضعوني موضع الند والقرين مع فضيلة الشيخ – حفظه الله – فهو أكبر مني سنا وعلما ، ومقامي معه مقام التلميذ بين يدي الشيخ ، ولا أزال أستفيد مما يكتبه الشيخ ويحققه في هذا العلم ، أسأل الله تعالى أن يسبغ عليه من فضله وأن يزيده وإياي وإياكم هدى وتوفيقا وعلما نافعا وعملا صالحا ، و لاأجدني إلا كما قال جرير :
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن =لم يستطع صولة البزل القناعيس[/poem]
وإن ماأعلمه في الشيخ – وفقه الله – من دماثة الخلق ، وطيب المعشر ؛ هو الذي دفعني ويدفعني للمباحثة والمدارسة في هذه المسألة ، والعلم رحم بين أهله .
فضيلة الشيخ – أبا عبدالملك -: قرأت ماخطته أناملكم فاسمح لي أن أعرض بين يديكم النقاط الآتية :
1. لا إشكال في بيان صفات الكمال المطلق لله تعالى إذا ذكرت في مقابلة نقص صفات المخلوق على الإطلاق والعموم ، وكلام الأئمة في هذا واضح .
لكن محل الإشكال – عندي – إذا ذكرت في مقابلة نقص صفات المخلوق على التقييد أو التعيين ، ففرق بين قولنا : إن سورة الإخلاص تضمنت صفات الكمال المطلق لله تعالى الذي يقابله النقص والحاجة في المخلوق – هكذا على الإطلاق - ، وبين أن نربط ذلك - في سورة الإخلاص - بصفات النقص والحاجة في المخلوق الذي دارت عليه سورة المسد ، وهو أبو لهب وزوجه ، ومجرد المفاضلة بين الناقص المعين ، ومن له الكمال المطلق من كل وجه ، تجعله – أي الكامل – ناقصا .
ولهذا لو قال قائل : الله – جل وعلا – عظيم في ذاته وصفاته ، وهو أعظم من الفيل والحوت ، لعدّ كلامه ممجوجا لايليق بالله تعالى – مع أن ظاهر اللفظ : إرادة التعظيم - ، ولايقال : إن الفيل أو الحوت مثل ضرب لإرادة التعظيم في ذهن السامع ، لأنهما من أعظم المخلوقات التي يراها الإنسان ويشاهدها فتذكر ولايوقف عندها بذاتها .
هذا ما انقدح في ذهني ، وما أبرئ نفسي من الوهم والغلط .
2. مسألة ترتيب السور مسألة اجتهادية ، يدور القائل فيها بين الأجر والأجرين ، وليست محل النقاش أصالة ، وإن كان حديث عثمان في شأن براءة والأنفال واضح في المسألة ، والعجب من الشيخ / أحمد شاكر رحمه الله كيف طعن في هذا الحديث سندا ومتنا ، وقد توالى المتقدمون على قبوله ، فقد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وسكت عنه أبو داود . وقد ناقش الشيخَ شاكر ، وبين وهمه في الجانبين ( السند والمتن ) ؛ الشيخ / عبدالله الجديع في تحقيق متين في ( المقدمات الأساسية 125 – 127 ) .
ومن الأدلة القوية في هذا : حديث عائشة رضي الله عنها مع الرجل العراقي وهو في البخاري ، وقد ذكره الجديع في كتابه ص 132 ولولا الإطالة لنقلته .
كما أن القول بالتوقيف الشرعي في أمر ما : خلاف الأصل ، فعلى مدعيه إقامة الدليل السالم من المعارض ، كيف والأدلة تشهد بخلافه .
وينبغي أن يفرق هنا بين مسألتين :
أ. القول بأن ترتيب السور توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخله الاجتهاد .
ب. التزام ترتيب السور على النحو الوارد في المصحف العثماني وعدم مخالفته .
فلا يلزم من الثاني التزام الأول ، فإن قلنا : إن ترتيب سور القرآن وقع باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن هذا الترتيب توقيفا ونصا من الشارع في جميعه، فإنه قد اجتمعت عليه الأمة وأمر به عثمان رضي الله عنه ، وهو أحد الخلفاء الراشدين ، ولهم سنة متبعة يلتزم بها . ولايمنع القول بأنه كان عن اجتهاد من الصحابة أنه كان عندهم شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواضع .
ثم كيف يتوارد هولاء الجبال - في العلم بالقراءة والقرآن - : علي وابن مسعود وأبيّ رضي الله عنهم ، على الجهل بنص النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيفه في هذه المسألة – لو كان فيها توقيف – وهم من أكثر الناس مخالطة له ، وعلما بالقرآن ؟!.
قال أبو وائل شقيق بن سلمة: خطبنا عبدالله بن مسعود، فقال: والله، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم . أخرجه البخاري ومسلم
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أي القراءتين تعدون أول؟ قالوا: قراءة عبدالله، قال: لا، بل هي الآخرة (وفي رواية: قراءتنا القراءة الأولى، وقراءة عبدالله قراءة الأخيرة)، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عُرض عليه مرتين، فشهده عبدالله، فعلم ما نُسخ منه وما بُدِّل . أخرجه أحمد وغيره
3. ماذكرت – حفظك الله – من أنَّ المصحف الذي كتبه أبو بكر ، ونسخ منه عثمان لم يختلف فيه الترتيب ،وهو الترتيب الذي تلقاه زيد من النبي صلى الله عليه وسلم . هل ثمة مايدل على ذلك ؟
فقد جُمع القرآن في عهد الصديق من السطور والصدور على الصفة التي أخذها الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وكتبها بأمره كتاب الوحي، فصارت جميعاً في صحف، محفوظة في موضع واحد دون أن يحمل الناس على الاجتماع على مصحف واحد. ولم تُكتب منها المصاحف يومئذ، كما أن ظاهر الأمر – من سياق المرويات - أن السُّور لم تؤلف يومئذ على صفة معينة .
بل جزم بذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال : "الفرق بين الصحف والمصحف: أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، وكانت سورا مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة ، لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفاً " ( فتح الباري 8/635 )
وقال أبو عبدالله الحاكم: "جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة الرسول r، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق، والجمع الثالث هو في ترتيب السورة كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين" . ( المستدرك 2/229 )
4. لايخفى على شريف علمكم ماجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ على المنبر : " وفاكهة وأبا " فقال :هذه الفاكهة قد عرفناها ، فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر . أخرجه ابن أبي شيبة و أبو عبيد وابن جرير وغيرهم . وفي لفظ قال :" ما بين لكم فعليكم به ، وما لا فدعوه " ، وأخرجه عبد بن حميد أيضا من طريق إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن زيد أن رجلا سأل عمر عن :"فاكهة وأبا " فلما رآهم عمر يقولون ؛ أقبل عليهم بالدرة .
فقد عد الفاروق طلب معنى كلمة من كلام الله – وهذا من صلب التفسير – عده تكلفا ، فما عساه يقول فيمن يتطلب المناسبة بين السور – وليس هذا من صلب التفسير - ؟!
وقد أخرج البخاري عنه رضي الله عنه قال :" نهينا عن التكلف " .
وقول الصحابي : نهينا عن كذا ، في حكم المسند المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند أكثر أهل العلم ، وجزم بصحته ابن الصلاح وغيره .
قال الإمام الشوكاني – وهو يشير إلى مسألة طلب المناسبة بين الآيات التي وقع الإجماع على التوقيف في ترتيبها - :" اعلم أن كثيرا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف ، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته ، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه ، وذلك أنهم ارادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف فجاءوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن كلام الرب سبحانه حتى أفردوا ذلك بالتصنيف ... فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والحادي وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور ... وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس ..إلخ كلامه .
5. مما يقوي عدم تطلب المناسبات بين السور : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ؛ لم يؤثر عنهم الكلام في ذلك – فيما أعلم – مع وجود المقتضي لذلك – لو كان مرغوبا فيه – فإنهم كانوا يقرأون القرآن ويتدبرونه ، ويفسرونه ويتكلمون على معانيه والعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله تعالى ؟! .
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وكل خير في اتباع من سلف=وكل شر في ابتداع من خلف [/poem][align=center]**[/align]
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وخير الأمور السالفات على الهدى = وشر الأمور المحدثات البدائع[/poem]
أما العلوم الأخرى المساعدة في فهم نصوص الشرع والاستفادة منها كالنحو والأصول والمصطلح ( علوم الآلة ) ، فلم يؤثر عنهم كثير كلام فيها لعدم وجود المقتضي والحاجة إلى ذلك ، لأنهم كانوا عربا أقحاحا لم يشبهم لحن أو تخالطهم لكنة ؛ يتكلمون العربية ويفهمون مدلولات الألفاظ ؛ والواسطة في التلقي هو النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه ولما طالت السلسلة ، ووقعت الفتنة ، وظهر الكذب احتيج إلى التفتيش والكلام في الرجال .
هذا ماتيسر فما كان من صواب فمن الله ، وماكان من خطأ فمن نفسي والشيطان ، وأعوذ بالله من فتنة القول والعمل ، وأسأل الله لي ولكم الهدى والرشاد .
والسلام عليكم ،،،