الأخ الكريم أبا عمرو:
ما قولك فيما أورده القرطبي في تفسيرِه لهذه الآيةِ، حيث يقولُ في المسألةِ الخامسةِ ما نصُّه:
(الخامسةُ: النُّطفةُ ليست بشيءٍ يقيناً، ولا يتعلَّقُ بها حكمٌ إذا ألقتها المرأةُ إذا لم تجتمعْ في الرَّحِمِ، فهي كما لو كانت في صُلبِ الرجلِ؛ فإذا طرحته علقةً فقد تحقَّقنا أنَّ النطفةَ قد استقرَّت واجتمعت واستحالت إلى أوّلِ أحوالِ ما يُتَحَقَّقُ به أنَّه وَلَدٌ. وعلى هذا فيكونُ وضعُ العَلَقَةِ فما فوقَها من المُضغةِ وضعَ حملٍ، تبرؤ به الرّحمُ، وتنقضي به العِدَّةُ، ويثبتُ به لها حكمُ أمِّ الولدِ. وهذا مذهبُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه وأصحابِه. وقال الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنه: لا اعتبارَ بإسقاطِ العَلَقةِ، وإنما الاعتبارُ بظهورِ الصورةِ والتخطيطِ؛ فإن خَفِيَ التخطيطُ وكان لحماً فقولان بالنقلِ والتخريجِ، والمنصوصُ أنَّه تنقضي به العِدَّةُ ولا تكونُ أمّ ولدٍ. قالوا: لأنَّ العِدَّةَ تنقضي بالدّم الجاري، فبغيرِه أوْلى) .
ويقولُ في المسألةِ الثامنةِ:
(قالَ مالكٌ رضيَ اللهُ عنه: ماطرحته المرأةُ من مضغةٍ أو علقةٍ، أو ما يُعلَمُ أنَّه ولدٌ إذا ضُرِبَ بطنُها ففيه الغُرَّةُ، وقالَ الشافعيُّ: لا شيءَ حتى يَتَبَيَّنَ من خَلقِه) .
ولك أن تراجع تفسير الآية من سورة الحج عند القرطبي رحمه الله.
فهذا الإمامُ القرطبيُّ المُتَوَفّى سنةَ 671 هـ يذكرُ ما يراه حكمَ الشرعِ فيما تلقيه المرأةُ، هل تنقضي به عِدَّتها أم لا؟ وأنَّ النطفةَ ليست بشيءٍ ولا عبرةَ بها، أي لا تنقضي بها عِدَّةُ المُطَلَّقَةِ أو المتوفى عنها زوجُها، لأنها ليست حملاً، فإن ألقتها علقةً فهي أوَّلُ أحوالِ ما يُتَحَقَّقُ به أنَّه ولدٌ، وكذلك المُضغةُ وما فيها من صورةٍ وتخطيطٍ، والمقصودُ هنا أنَّ العِدَّةَ تنقضي بإسقاطِ العَلََقَةِ والمُضغةِ، بخلافِ النطفةِ عند المالكيَّةِ، وكذلك الأمرُ في ثبوتِ حكمِ أمِّ الولدِ، وأنَّه تجبُ في إسقاطِه الغُرَّةُ، أفتراه يُفتي ويحدِّثُ بما لا عهدَ له به؟ ويُنَزِّلُ أحكامَ الشرعِ على مناطٍ لم يعرفْه ولم يحقِّقْ فيه؟ ثم إنَّه يذكرُ فيها قولَ الإمامِ مالكِ بنِ أنسٍ المتوفى سنةَ 179هـ وقولَه بأنَّ العَلَقَةَ معتبرةٌ، وقولَ الشّافعيِّ المتوفى سنةَ 204 هـ بأنَّه لا عبرةَ بإسقاطِ العَلَقَةِ، أي لا تنقضي به العِدَّةُ، وأنَّ الاعتبارَ إنما هو بظهورِ الصورةِ والتخطيطِ!!!
انظر -أخي- إلى أقوالِ العلماء، ثم انظر إلى خلافِهم فيها قبلَ ما يقاربُ ثلاثةَ عشرَ قرناً من الزمنِ، أيُتَصَوَّرُ أن يكونَ خلافاً في غيرِ محسوسٍ ولا معهودٍ لهم؟ وأنهم كانوا يقولون برأيِهم في دينِ اللهِ على غيرِ هدىً؟ وأنهم كانوا يفتون فيما لا علم لهم به؟
أليس يلزمُ من قولهم إنَّ العربَ لم تكن تعرفُ أطوارَ الجنينِ تجهيلُ هؤلاء العلماءِ؟ وأنهم كانوا يُفتون الناسَ بما لم ينكشف لهم وما لم يروه؟!
قارن كلام القرطبي بكلام أهل التخصص وسيتبين لك ما غاب عنك من فهم كلام الأولين :
"لقد حدد رسول الله صلي الله عليه وسلم تطور نمو الجنين خلال الأربعين يوما الأولي في الحديث التالي : "عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : حدثنا رسول الله – صلي الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق , قال : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما , ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك , ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك , ثم يبعث الله ملكا يؤمر بأربع كلمات , ويقال له : اكتب عمله ورزقه وشقي أو سعيد , ثم ينفخ فيه الروح ..." ( رواه مسلم , في كتاب القدر , واللفظ له و البخاري , في كتاب بدأ الخلق, و الحديث بنفس النص في البخاري إلا أنه بدون عبارة " في ذلك"..
و الحديث السابق يعني أن تجميع عناصر خلق الإنسان ( أو جمع الخلق) يتم في الأربعين يوماً الأولى وأنه خلال هذه الفترة (الأربعين يوماً الأولى ) تبدأ وتنتهي مراحل النشأة المبكرة ( النطفة ، العلقة ، والمضغة ) , وحسب علم الأجنة المعاصر , نجد أن الجنين في الأسبوع الخامس يتميز باتخاذ شكلا متقوساً ، ولا يتجاوز حجمه نصف بوصة ، ويبلغ جزئه العلوي ثلثي حجمه الكلي ، كما يكتسب براعم للأطراف ، ويكون له ذيل ، وقلب بدائي يخفق بانتظام , وتظهر الأطراف العليا في الأسبوع الرابع و في بداية الأسبوع الخامس تبدو مثل المجداف, إلا أنها تبدأ في التمايز إلي مناطق عند نهاية الأسبوع الخامس , حيث تنشأ صفائح اليدين والتي يظهر عليها الأصابع كالأشعة..
و بنهاية الأسبوع السادس , وقبل اليوم الثاني والأربعين , لا يكون الوجه واضحا ولا يبدو بصورة بشرية , فقبل اليوم الأربعين , يكون للجنين أعين و آذان و أعضاء تناسلية خارجية بدائية , وهي لا تعمل ولا تبدو بشرية , ومع ذلك فخلال الأسبوع الرابع تبدأ الأعين في النشوء , وتبدأ الآذان الداخلية نشأتها في بداية الأسبوع الخامس , وخلال هذه المرحلة الأولية لا يكون للآذان هيئة بشرية , و هذا الوصف لنشأة محصول الحمل يتوافق مع عبارة " يجمع خلقه " و التي وردت في هذا الحديث حيث أنها تصف المظهر الخارجي المتقوس للجنين وكذلك تشريحه الداخلي , حيث تتجمع أجهزة وأعضاء الجسم في صورتها الأولية داخل هذه الكتلة الصغيرة , و بالتالي فإن مصطلح (يجمع خلقه) المذكور أعلاه يعبر بدقة عن الناحية التشريحية للجنين .
أطوار الجنين في الأربعين يوما الأولي , حسب الحديث السابق :
1. طور النطفة :
وهي تستغرق الأيام الستة الأولى من الحمل , وهي تبدأ مع تكون البويضة الملقحة باندماج الحيوان المنوي مع البويضة لتكوين النطفة الأمشاج , ثم بداية إنغراس النطفة الأمشاج تحت سطح بطانة الرحم في اليوم السادس أو نحو ذلك , و يكتمل طور النطفة في حوالي اليوم السابع من التلقيح , وينتهي بتعلق اللاقحة بعد تحولها للكيسة الأريمية , و تأخذ حصتها من الأربعين يوما الأوليً .
2. طور العلقة :
بعد طور النطفة يستمر تجمع الخلايا ويصبح الجنين أكثر صلابة بسبب بداية الخلايا في التجمع أكثر فأكثر ، ثم ينبعج سطحه عندما تنشأ الثنيات العصبية (neural folds ) ، وبنهاية هذا الطور (اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين تقريبا) يكون الجنين معلقا بالساق الموصل في جدار الحويصلة المشيمية من الداخل و يشبه في سلوكه علقة برك المياه , وبهذه الطريقة تأخذ العلقة حصتها من الأربعين يوماً الأولي.
3. طور المضغة :
يبدأ هذا الطور في اليوم السادس والعشرين أو السابع والعشرين تقريبا , وفيه يستمر ظهور الكتل الجسمية أو الجسيدات (somites ) في الجزء الظهري للجنين , وتزداد العدد تدريجيا حتى تصل إلي منطقة الذيل , وفيما بعد تكون الجسيدات العمود الفقري للجنين ,
ويكون حجم الجنين يعادل تقريبا قدر ما يمضغ الماضغ , ومن حيث الشكل الخارجي يسبب وجود الجسيدات أو الكتل الجسدية تشبه المضغة الشيء الذي لاكته الأسنان , أي قطعة من اللحم بلا شكل مميز , حيث لا يمكن أن يبدو علي الجنين خلال هذا الوقت أي ملامح بشرية مميزة , وتنتهي المضغة بنهاية الأسبوع السادس وتتم بقية الأيام الأربعين الأولى , وأثناء الأسبوع السابع يبدأ الجنين في اكتساب المظهر البشري تدريجيا مع نشأة الهيكل العظمي ...
وهكذا يوضح الحديث السابق أن مراحل النطفة والعلقة والمضغة تحدث خلال أول أربعين يوم من عمر الجنين , وهنا يجب أن نطرح سؤلا , من أي مصدر في القرن السابع الميلادي حصل النبي محمد صلى الله عليه وسلم علي هذه التفاصيل الدقيقة عن تكوين الجنين ؟؟ ولكن قبل الإجابة علي هذا السؤال , لابد أن نعرف أن الجنين خلال هذه الأربعين يوما يكون بالغ الصغر , وأيضا يوجد فارق زمني قليل بين هذه المراحل المتلاحقة , كما أن حساب عمر الجنين قبل اكتشاف البويضة ومعرفة ارتباطها بدورة الطمث شيئا بالغ الصعوبة وأيضا من الممكن حدوث خطأ يؤدي إلي نقص في عمر الجنين بمدة قد تصل إلي 21 يوما لأنه من الممكن حدوث الحمل في أي وقت خلال الفترة ما بين دورتي طمث , والأهم من ذلك أن مراحل النطفة والعلقة والمضغة الواردة في القرآن والسنة لم تكن معروفة علميا في ذلك الوقت , ولذلك تكون الإجابة المنطقية و بلا أدنى شك هي أنها وحيا من الله العليم...."