ونظراً لخطورة الدعوة إلى المباهلة أو قبول الدعوة إليها،
فالأولى عدم التوسع في هذا الباب والخوض فيه،
إلا لمن تيقن له بأنه لا طريق سواها
في جلب مصلحة شرعية أو درء مفسدة قائمة؛
حيث إن المقصود الرئيسي منها
هو استبيان الحق ومعرفة الخطأ
وإقامة الحُجة على المخالف..
وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين...
كتبه
سامح محمد عيد محمد
أبو محمد الفاتح
باحث علمي وشرعي
بسم الله والحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحابته ومن والاه،
وبعد:
فإن موضوع المباهلة من الموضوعات التي شاع فعلها في الواقع،
وغاب فقهها عنه،
فقد كثر المستعملون لها،
حتى ربما فقد قيمتها !
ولا شك أن لها أحكاما وآدابًا
إن لم نَقُلْ شروطًا،
لا يسعني الإحاطة بها الآن،
ولمن أراد أن يبسط الموضوع
فلعله يحسن طَرق العناوين التالية:
- تعريف المباهلة لغة وشرعا.
- حكم المباهلة ودليلها.
- متى شُرِعت المباهلة؟
- متى نلجأ إلى المباهلة؟
- حول ألفاظ المباهلة.
- مَن يباهِل مَن؟
- قصص في المباهلة.
- الحكمة أو الغاية من المباهلة.
قال ابن منظور:
"البَهْل: اللعن، وبَهَله الله بَهْلًا أي: لعنه،
وباهل القوم بعضهم بعضًا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا، والمباهلة: الملاعنة،
يقال: باهلتُ فلانًا: أي لاعنته".
وقال الراغب الأصفهاني:
"والبهل والابتهال في الدعاء الاسترسال فيه، والتضرع؛
أن يجتمع قوم اختلفوا في شيء
ولم يصلوا إلى قول فيه بحجة،
خفاءً للحجة أو عنادًا من بعضهم؛
فيجعلون لعنة الله على الكاذب أو المبطل منهما،
أو يدعو بالسوء على نفسه
المباهلة جائزة مشروعة، وليست سنة لازمة،
ولذلك لا ينبغي أن تكون منهجًا للدعاة ولا ديدنًا،
حتى تخرج عن طبيعتها،
وإنما الأصل الدعاء بالهداية للكفار إن رُجي منهم ذلك،
أو الدعاء عليهم بالهلاك
إن توقفت دعوتهم واستمر ضررهم،
وكلُّ ذلك قد فعل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
فقد دعا لأقوام بالهداية ودخول الإسلام،
ودعا على أقوام بالهلاك،
وفي كل ذلك استجاب الله له دعاءه،
وفي مرة قال الله له:
{ليس لك مِنَ الأمرٍ شَيْءٌ} الآية
هذه في اليهود هم - عليهم لعائن الله -
لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه،
وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى،
دُعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم،
أو من المسلمين.
فلما نكلوا عن ذلك
علم كل أحد أنهم ظالمون؛
لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا عُلم كذبهم.
«لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا.
ولرأوا مقاعدهم من النار.
ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم
لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا»
(وانظر عند الألباني؛
السلسلة الصحيحة، برقم: [3296])
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب
ثم قال له كن فيكون،
الحق من ربك فلا تكن من الممترين،
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم
فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل
فنجعل لعنت الله على الكاذبين،
إن هذا لهو القصص الحق
وما من إله إلا الله
وإن الله لهو العزيز الحكيم، فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين }
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها
من أول السورة إلى هنا في وفد نجران،
أن النصارى حين قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية،
فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم،
كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره.
( انظر ابن كثير:2 / 50)
شُرِعت المباهلة في وقت متأخر من عمُر الدعوة النبوية،
وهذا يعني أن المباهلة لم يفعلها النبي-صلى الله عليه وسلم- مع قريش،
ولا في بداية الدعوة،
وذلك- والله أعلم-
لأن كثيرا من مسائل الدين وأباطيل أهل الكتاب
كانت مازالت تحتاج إلى بيان وتجلية،
إمَّا عند أهل الكتاب أنفسهم،
أو عند من كانوا يثقون بأهل الكتاب ويقدسونهم.
أما في آخر عهد الدعوة
فكانت النعمة تمت والدين كَمُلَ،
فما بقي أمام هؤلاء إلا العناد،
أما آية البقرة والجمعة،
وهما بمعنىً واحد،
فجعلت تمني الموت والهلاك،
ولم يحدد سببا معينا له،
ولا عذابا بعينه يسبب الموت،
فدلَّ على عدم اشتراط اللعن لفظًا،
فهو مطلق.
ولكن يُشترط خلوَّ الدعاء من المحاذير الشرعية
والاعتداء في الدعاء:-
فلا يكون فيه دعاء بما لا يجوز وقوعه،
كمن يباهل مثلا فيقول:
ندعو الله على المبطل منا
أن تقع له فضيحة في أهله أو يُنتهك عرضه
- كما سمعت ذلك من بعضهم هدانا الله وإياهم-
فهو يباهل أن تقع امرأة خصمه أو ابنته في الزنا ليفتضح،
والزنا معصية فاحشة
لا يُدعى بوقوعها!!!
هذا وينبغي أن تكون المباهلة ضد أهل الكفر والعناد،
لأنه دعاء بالهلاك،
ولا ينبغي أن تجري بين المسلمين،
تراحما بين المسلمين،
ولأنها تقع في قضايا كبرى كالكفر والإيمان ونحو ذلك،
ومهما كان بين المسلمين من عظيمٍ،
فإنه يهونه الصفح والاحتساب
والإصلاح بين المؤمنين
والتحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ونعوذ بالله من أن يصل الأمر
بين أهل الإيمان والسـنة إلى المباهلة.
صحيح أنه ورد عن بعض السلف
قولهم نباهل في كذا أو كذا
مما يبدو أمرا صغيرا
كسبب نزول آية أو معناها مما اختلِف فيه،
لكن ليس هذا الديدن المتبع في كل أحوالهم،
والأظهر أنهم يقولون ذلك تأكيدا لما يقولون
ويقينا فيما عندهم من العلم،
حتى أنه مستعد للمباهلة،
ولم أعثر على أنهم فعلا تباهلوا في صغير (والله أعلم).
- الملاحَظ في الآيات أن الذي كان يتولى مباهلة الكفار هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو الناطق الرسمي والمخوَّل بأن ينطق باسم الإسلام والمسلمين، وهو الأوثق على الإطلاق علما بالله ودينا، وتقوى وحكمة...
ولابد من الاقتداء به في ذلك، فإن كنا ولا بد مباهلين فلنقدِّم من أفاضلنا وأكابرنا وأعرفنا بالله ودينه، وأفقهنا في دين الله، حتى لا تُمَرَّر عليه المعاصي أو المخازي أو يوقع في الاستهزاء به،
وليس كل داعية أو طالب علم له أن يباهل، وليس هذا تحجيرا على أحد، فإذا أحس من نفسه استجابة الدعاء فلا يبخل على الأمة وليدْعُ لها بالرفعة والسناء، وليدْعُ على أعدائها بالانكسار والانهزام.
- ومن الملاحظ، بما أنها قضية ظلم وحق وباطل، فإن فرضْنا جدلا تعارضَ التقديم بين أفقه وأقل روحانية، وبين أكثر روحانية وأقل فقها، قدَّمنا الأكثر فقها، لأنها دعوة مظلمة والاستجابة فيها مضمونة، لأن الله تعالى يستجيب دعوة المظلوم ولو كان كافرا.
- المباهل في قضية أمة يقدم أمامه أعز ما يملك،
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم وراءه أعز أهل بيته، فاطمة وعليا والحسنين-
رضي الله عن الجميع
وحشرنا معهم في جنة الخلد
برفقة الحبيب المصطفى آمين-
وإن لم يكن هذا بشرط،
ولكن به تعظم المباهلة،
ويشتد القلب في الدعاء،
وتُستمطر رحمة الله واستجابته.
ويتبين للناس صدقية المباهل
وجديته واستيقانه من الحق.
- لا نباهل مغمورا في فرقة أو ملة
لا يسمع أحد بهلاكه ولا نجاته،
فإذا أردنا أن نباهل الرافضة مثلا،
فليُخرِجوا لنا كبراءهم وعظماءهم
-وليس فيهم عظيم-
أو مشهوريهم أو شاهاتهم أو آياتهم...
أما أن يرسلوا لنا مغمورا مجهولا مزعوقا
ليباهل فهذه ألعوبة يقع فيها بعض المسلمين،
ينبغي أن ينتبهوا لأنفسهم من الانجرار وراءها.
فحتى لو هَلَك هذا المباهل المهمل
أو المغمور أو المجهول،
فمن يعتبر به من أهل ملته أو طائفته؟
فأسهل الأمور أن يتبرّأوا منه ويجحدوا انتماءه إليهم،
أو تفويضهم له مباهلا
فكان لا بد من أن نباهل من لا يجحدون نسبته إليهم
ولا مكانته فيهم، حتى إذا أوقع الله به عقوبته
كانت عليهم جميعا،
ولنا جميعًا.
الحكمة من المباهلة هي إظهار الحجة،
وإظهار الحق وإبطال الباطل، ودحض حجته،
وهي راجعة إلى حجة كونية وليست حجة شرعية،
لأنه جحد بالحجج الشرعية
وعاند الآيات والأحاديث والمعقول،
فلم يبق ينفع معه إلا سنة كونية
ينزلها الله عليه عذابا أو هلاكا،
مترتبا على مناصفة الدعاء بينه وبين المباهل،
فإنها إما على هذا أو هذا من مدعيي الحق،
فكونها تقع إثر المباهلة
فإنها تدل على أنه المبطل،
ويلزم من ذلك أن الأخر محقٌّ في دعواه
فهي في الأساس:
- أنها وسيلة من وسائل الدعوة وأسلوب من أساليبها،
حيث تكون سببا لهداية كثير من الناس،
حين يروا آية الاستجابة للمحق ومحق المبطل...
فهي ليست انتقامية
بقدر ما هي إقامة حجة وأسلوب دعوة
وهي آخر ما يلجأ إليه الداعية
بعد إقامة الحجة وبيان المحجة والدعاء بالهداية ..
كتبت هذا على عجل
-نزولا عند الطلب ولأستفيد من خلالها-
من غير تقصٍّ ولا تدقيق،
ولا أظن أنه يوفي بالمطلوب منا،
ولكنه لا يقصر-إن شاء الله-
عن فتح باب النقاش،
ورحم الله من أهدى إليَّ عيوبي،
وعفى لي عن زلَّتي
ودعا لي بالهداية وصدق التوبة.