هناك جزائر كثيرة مستنخة عن الجزائر الأصل، وعندي نسخة خاصة بي، صورتها خلال عشرة أيام التي قضيتها في (شيراتون الجزائر) واستعنت بملونات الصحافة والروايات الشفهية والانطباعات الشخصية.
وسيكون من الصعب أن أتحدث عن جزائري دون التعرض للشيخ محمد يحيى شريف آيت عبد السلام الجزائري ولشيعته المتمركزة بالجزائر العاصمة.
سأتعرض اليوم للمحات عن ثلاث شخصيات فقط في جزائري
محمد يحيى شريف الجزائري
لم يكن وقت زيارتي مناسبا للجلوس طويلا مع الشيخ محمد يحيى، لأن الرجل تتنازعه الوظيفة والميول القرآنية بحثا وإقراء، ولأنه أيضا شيخ غير نمطي في القراءات ومليء بالمناقضات والمفاجآت.
فمثلا
- يكتب الشيخ/ محمد بالعربية، وفي القراءات، وبأسلوب الداني في الخامس الهجري، مع أن دراسته وشهاداته، التي مكنته من العيش برفاهية، فرنسية. والوظيفة التي يشغلها: "مدير المالية والميزانية" – تقريبا – في شركة كبيرة بالجزائر.
- على الرغم من فلفلية أسلوب الشيخ محمد وإصراره إلى الائتمام بجحا فإنه – عند المعاينة – إنسان لطيف، وديع، صامت وبسوم.
- إذ يتهم ابنُ قتيبة الإمام حمزةَ بالإفراط في المدود في الإقراء وقصر المنفصل في الصلاة فإن الشيخ محمد يعمل بقريب من عكس ذلك. إنه قد يصلي بالناس التراويح أو القيام برواية خلف عن حمزة بضوابطها المعروفة. لعل السبب في ذلك أن الشيخ محمد يملك صدرا رحبا يسع لمتر مكعب من الهواء.
- على الرغم من أني لا اعرف في الجزائر– لا يعني لا يوجد – جامعا للعشر غير الشيخ محمد يحيى والشيخ الرباني محمد بوركاب بقسطنطينة فإنه ليس للشيخ محمد علاقة بوزارة الشؤون الدينية الجزائرية لاختلاف المسارات والبيئة.
-
أخبرني بالسند المتصل بأنه من مواليد 1972، وفهمت من هدوئه وثباته أنه ذو همة عالية، وعلمت من لحيته الكثة أنه من السلفيين – بالسين - العقديين، واستشرفت من نظارته الأنيقة أنه غير مستعد لمشاجرة أهله في مسألة اتباع السلف في تعدد الزوجات.
يقضي الشيخ محمد، في أواخر رمضان، أياما عصيبة؛ يصل المكتب مع بداية الدوام، ويبقى هناك لغاية الليل، ويصلي بالناس التراويح والقيام، ثم يختلس أوقاتا لتحرير النشر وغيره مما يفتح له أو عليه بابا واسعا من الردود والإيرادات
زارني الشيخ محمد يحيى شريف مرتين، الأولى بصحبة كريم منصور، تلميذه، وعضو في ملتقى أهل التفسير، وتعرضنا في هذه الجلسة لموضوع تحرير الدرر اللوامع. ولم يغير أحد منا رأيه.
أهدى لي في المرة الثانية مصحفا برواية الاصبهاني، وسُرَّ لما حكيت له أن المتسابق الجزائري قرأ لوش وفتح ذوات الياء وقصر المنفصل وخص {شيئا} بالتوسط فاعترضت عليه لما أبدل {أفرأيت} وألزمته بالتسهيل وقال لي الشيخ محمد: أحسنت !
وبين الزيارتين تحدثنا كثيرا عن المشايخ عبد الحكيم عبد الرازق، الذي يعتبره الشيخ محمد من الأشقاء، وعن حارس مرمى النشر، الدكتور الجكني، وعن المهذب جدا/ محمد أحمد الأهل وعن غيرهم من فضلاء أعضاء ملتقى أهل التفسير.
أبو عبد الله غلام الله
هذا الاسم غير النمطي في الجزائر لوزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري منذ 1997 في عهد الامين زروال.
مع كونه – حسب الروايات الشفهية - ابن شيخ الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة وشيخ زاوية صوفية فإنه يحمل دكتوراه في العلوم الاجتماعية وعضو نافذ في الحزب الحاكم.
وعلى الرغم من دخوله في التاسعة والسبعين عاما من حياته المباركة فإنه ما يزال يصلي التراويح من حفظه بكبار شخصيات الدولة في بيته. والأحلى فيه أنه يحضر كافة فعاليات المسابقة القرآنية.
يبدو أن بعض صور صيغة التفضيل وصلت الجزائر. وقد كانت صيغة تفضيل الإنجازات منحصرة في الجزيرة العربية حتى نهاية 2011. حيث كان الطلاب يجيدون صياغة هذا الباب قبل معرفة أركان الجملة الاسمية: أعلى برج في العالم. أكبر مركز للتجارة في العالم. أرفه مطار في العالم، أكبر ساعة في العالم.
وصل فيروس صيغة التفضيل إلى الجزائر فظهرت أعراض المرض في مسجد الجزائر، حيث شرع أبو عبد الله غلام الله في إنجاز "ثالث أكبر مسجد في العالم"، يحمل "أعلى مئذنة في العالم" في حي المحمدية.
يكلفه هذا المسجد أكثر من مليار دولار أمريكي، وتقوم بتنفيذه خلال 42 شهرا شركة صينية تشغل 37 ألف عامل جزائري وصيني.
لم يخل هذا المسجد من انتقادات اليسار الليبرالي الذي يرى أن من الممكن الاستفادة بهذا المبلغ الضخم في خلق وظائف للشباب، فرد عليهم الوزير بأن المبلغ المرصود من الدولة لهذا البند أكبر من ميزانية المسجد.
وانتقد بعضهم بسخرية حجم المسجد فقالوا بأنه أكبر من المسجد الحسني بالدار البيضاء، الذي يقع في أحياء سكنية نسبيا ومع ذلك فإنه لا يكاد يصلي فيه إلا الإمام والمؤذن وقراء الحزب، وأنه لم يمتلئ إلا يوم افتتاحه، فكيف بمسجد الجزائر الذي يبنى في "بيوت غير مسكونة" تقريبا ؟
لكن الانتقاد الأخطر يتمثل في وصف موقع المسجد بمنطقة زلازل خطيرة، ورده الوزير بأن الخبراء المحليين والألمانيين أكدوا للوزارة سلامة المكان، ومع ذلك فإن دفتر تكاليف البناء يحمل مواصفات بناء يقاوم الزلزال مهما كانت قوته العادية في الجزائر.
الحفل الختامي
حضرت الجمعة الأول من العشر الأواخر لرمضان 1433، درسا في تفسير سورة المرسلات لصديقي عمار الطالبي، رئيس جامعة قسطنطينة سابقا، في المسجد الكبير، الذي قال لنا وزير الشؤون الدينية بأن له عشرة قرون كاملة، تم خلالها هدم الجدار الأمامي وإصلاحه مرارا.
في هذا المسجد حضر السيد رئيس الجمهورية عبد العزيز بو تفليقة حفل اختتام الدورة التاسعة لمسابقة جائزة الجزائر الدولية ومراسيم ختم صحيح البخاري.
وصل السيد الرئيس بهدوء بالغ، وليس معه احد من الحرس، ولا يوجد هرج ولا مرج، جلس على الأرض قريبا من المنبر حيث ينتهي صفوف الوزراء والسفراء، واستند إلى أحد أعمدة المسجد، ورفع ركبة ثم قبض على معصم يمناه بكف يسراه وشد بهما ركبته المقامة، وكان يلبس جلابية، ولوفرة أدبه وهدوئه خُيل إلي أنه تلميذ ينتظر دوره في التسميع.
وقت دخول الرئيس للمسجد كان القارئ البوسني "حافظ سناد بودوجاك"، يجود أواخر سورة الحشر، ينوع المقامات، يعلو ويهبط، لكنه لم يقطع، وإنما انساق الرئيس مع البرنامج انسياقا جميلا.
قد يتبع