أبومجاهدالعبيدي1
New member
- إنضم
- 02/04/2003
- المشاركات
- 1,760
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
- الإقامة
- السعودية
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.org
بسم الله
اطلعت على هذا المقال ، فرأيت فيه بعض الأفكار التي تحتاج إلى تأمل ، فأحببت أن أنقله هنا ليبدي الإخوة الأعضاء رأيهم حول ما جاء فيه ، وهل هناك أحد ذكر هذا النوع من التفسير (التفسير التطبيقي) ؟
جاء في المقال :
التفسير التطبيقي للقرآن الكريم
غالب حسن
(1)
في المأثور الاسلامي ان القرآن «معجزة» خالدة، واياته الكريمات تجري مع الزمن، اي انها رافعة بالصدق وناطقة بالحقيقة.إن مواكبة الزمن لا تعني الخلود القبلي أو البعدي، وانما هي دائماً واثقة من ذاتها، وبعبارة اخرى: ان الخلود لا يعني هنا تلك الجنبة الثابتة المستقرة، أو ذلك السكون المطلق، بل الخلود هو التضافر الموضوعية مع كل محاولة جادّة على صعيد الفكر الرصين، ولكي لا يساء فهم هذه المعادلة اقول: ان من معاني خلود القرآن ان يُصادف القرآن في كل زمان مصداقاً موضوعياً يؤيد قيمته الطبيعية، وبهذا نعطي للخلود صفة التجدد ولعل هذا ما يتفق مع المأثور الاسلامي الامر الذي يُصرح وبكل ثقة ان القرآن جديد في كل يوم، أو ان الكتاب المجيد ما زال بكراً، فان من مؤدى هذه المقولة التوافق بين القرآن وبين البرهان رغم تعاقب الزمن، مع العلم ان تعاقب الزمن يعني التحول الجذري الرافق على صعيد الحضارة والفكر والعلم. وإذا كانت اللغة هي المصداق المذكور في عصر التنزيل، فان التشريع في عصر السيادة القانونية وقداستها وأهميتها هو المفردة على هذا الصعيد. وهكذا تتنوع المصاديق باعتبار الزمن المتقلب، بل الزمن الذي لايعرف الرحمة، ولا يمنع ذلك من توافر اكثر من مصداق، ولعل في ذلك المزيد من الدلالة على الناحية الاعجازية للقرآن، وربما تحت تأثير هذا المنحى سعى كثيرون إلى المقارنة والمقاربة بين القرآن والعلم والحديث، ومن ثم اثبات سمة التطابق المضموني بين الكتاب ومعطيات العلم في القرن العشرين، فان سيادة العلم هي التي دعت إلى ذلك، وهكذا مع كل قيمة خيرة معطاء تكون ذات نفوذ في افق الحياة والمجتمع، وهو بلا ريب امر مشروع وطبيعي، وإذا ثبت فعلاً فهو من براهين المواكبة بين القرآن والزمن. وفي ضوء هذا المعيار اطرح مصداقاً مهماً وخطيراً في لغة الفكر النقدي الحديث، الا وهو (وحدة النظرية والتطبيق).
(2)
كثير من المدارس الايديولوجية تمتلك قواعد عريضة لتفسير الكون والحياة والتاريخ والمجتمع، فالماركسية مثلاً تستند إلى اسس معينة تجد فيها آلة فهم هذا الوجود، حركته وتطوره وتفاعلاته، كما انها تعتمد على مجموعة قوانين تعتبرها المدخل العلمي والطبيعي لحل مشكلة التاريخ وفهم مجرياته الكبيرة والصغيرة.. وهكذا مع العديد من المدارس الايديولوجية، ومن اساليب النقد الفكري الحديث مع الموازنة بين النظرية والتطبيق، النظرية والنتيجة والممارسة، فان الخلل الموجود بين الطرفين يشكل ضعفاً اساسياً في صميم تلكم النظرية.
وعلى هذا الاساس قالوا ان الماركسية ـ مثلاً ـ متناقضة، لانها في الوقت الذي تدعي فيه ان التاريخ تحركه التناقضات يسعى قادتها إلى صنع مجتمع لا طبقي، وبهذا فان الطريقة تخالف الغاية، بل تخالف النتيجة.. وبالوقت الذي تؤمن فيه ان كل شيء يحوي نقيضه الذي يؤدي إلى الضد تدّعي بخلود المادة وازليتها!! فالنضرية هنا غير متسقة ومضطربة بلحاظ مفرداتها التطبيقية. وإذا كان هناك توافق وانسجام بين الافقين، فانما ذلك يشكل احدى نقاط القوة التي تفتقدها النظرية الماركسية.
(3)
وفي القرآن الكريم مجموعة من القواعد الكلية أو شبهها في العقيدة والكون والتاريخ والمجتمع، هذه القواعد تنسجم بالشمولية أو نحوها، ومن روائع القرآن هنا وجود مفردات تطبيقية لهذه القواعد الكلية الشاملة، وسيكون من الرائع اكثر إذا تتبعّنا هذه المفردات وادرجناها تحت قواعدها التأسيسية. إننا بهذه الطريقة نكتشف التطابق التام بين النظرية ومفرداتها، وسوف نضع اصابعنا على نوع من الممارسة الفعلية على صعيد النظرية، وكلما تزايدت محاولة التطابق والانسجام بين الجانبين نكون قد اقتربنا من حقائق عظيمة، من ابرزها واهمها وحدة القرآن الكريم.
قال تعالى:
(ولو كان من عند غير اله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).
وقال تعالى:
(ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم).
(4)
نموذج(1) .. قاعدة كونية
قال تعالى:
(إنا كل شيء خلقناه بقدر..).
ان هذه الاية الكريمة تقرر قاعدة كونية عريضة، فكل موجود بقدر، أي محدود، اما على صعيد الزمن أو الطاقة أو الحجم أو العدد أو الكثافة.. وتختلف الحدود من موجود إلى آخر، وينفرد الله تعالى بصفة المطلق الذي لا يُحدد ولا يُعد.. سبحانه..
هذه القاعدة أو النظرية الكونية اسسها القرآن الكريم في متن العقيدة ولم يطرحها مجردة، بل حولها إلى مفردات متناثرة هنا وهناك، بل وذكر لها احياناً شواهد من الواقع الحي نستطيع بسهولة ان ندرجها تحت ذلك الافق العريض.
والسؤال هنا:
ترى ما هي المصاديق هنا؟!
لنقرأ الايات التاليات:-
1 - (وانبتنا منها كل شيء موزون).
2 - (... ولكل امة اجل).
3 ـ (... انزل من السماء ماءً فسالت اودية بقدرها).
4 ـ (.. فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
5 ـ (.. وما اوتيتم من العلم الا قليلاً).
6 ـ (.. كل من عليها فان).
وهكذا تترى الايات تلو الايات لتؤكد مضمون أو فحوى أو فكرة النظرية الكلية الشاملة، اي قاعدة (كل شيء خلقناه بقدر).
(إن من شيء الا عندنا خزائنه * وما ننزله الا بقدر معلوم).
وهذا (القدر) أو (الحد) معلوم، وهذه الخاصة من لوازم التقدير وملحقات المحدودية، واعتقد ان (معلوم) هنا اشارة إلى امكانية الاحاطة، وليس هنا مجال بيان هذه القضية التي يمكن ان تدرج في نطاق مسألة اخرى هي «حوليات التقدير».
تصل عملية التطبيق الفعلي للقاعدة الكونية القرآنية في معادلة متساوية الطرفين رغم تنامي مضمونيهما!!، فالوجود كله محدود، اي الوجود بحاله وذلك بغض النظر عن هذا الوجود أو ذاك، فيما خالق الكون ـ جل وعلا ـ وجود مطلق، صفاته عين ذاته..
قال تعالى:
(كل شيء هالك الا وجهه).
انها معادلة، تبدأ من التقدير على صعيد كل موجود ثم الوجود بحد ذاته لتتقرر حقيقة اخرى على الطرف الثاني، ذلكم هو ربناه، لا يحده شيء:
(قل هو الله احد * الله الصمد * لم يلد * ولم يولد * ولم يكن له كفؤاً احد).
فهذه السورة بمضمونها الحقيقي غير بعيدة عن ارساء القضية الكبيرة التي تقول (كل شيء خلقناه بقدر).
هنا، ربما يتوهم البعض ان ذلك يتناقض مع قوله تعالى:
(يزيد في الخلق ما يشاء).
وقوله تعالى:
(والسماء بنيناها بأيد * وانا لموسعون).
وقوله تعالى:
(وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها)!!
هذا وهم ناشيء من عدم فهم معنى (الزيادة)، فهي سواء كانت في هذا المجال أو ذاك خاضعة لمقياس حسابي فردي أو زوجي، اي هناك سقف يمكن ان نقف عنده لنصل إلى رقم محدد ومشخّص، ثم هناك فواعل اخرى تُمضي المحدودية رغم هذه الزيادة، القوة، العمر الزمني، مقدار العطاء، حقيقة العلاقة مع الاخر، فالنعم قد لا تحصى، ولكنها تُستهلك وتُستثمر، وتجري عليها التغيرات والانفعالات المستمرة الدائمة.
وبهذا نفهم إلى هناك تناغماً رائعاً بنى النظرية والتطبيق في القرآن الكريم على صعيد هذه القاعدة. والمطلوب ان نستحضر جزئياتها في القرآن ونضعها في اطارها النظري العام.
(5)
نموذج(2).. قاعدة اجتماعية
قال تعالى:
(ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم).
هذه الآية الكريمة هي الاخرى تشكل قاعدة عامة على صعيد المجتمع، مفادها ـ كما هو واضح ـ ان التغيير النفسي، أو ان المحتوى للذات هو الاساس في حركة الامة، أو ان التكوين الفكري والنفسي للانسان ـ ككل ـ هو الذي يموّن التاريخ بالحركة ونوع هذه الحركة، وان اي انقلاب اجتماعي أو تاريخي في حياة الامم انما يترتب على انقلاب فكري نفسي، داخلي.
هذه القاعدة القرآنية الكلية في حركة المجتمع والتاريخ لها تطبيقاتها في القرآن نفسه، ولها مفرداتها التي تندرج تحتها، وبهذا يكون الكتاب الكريم عبارة عن مدرسة عملية توجيهية..
ترى ما هي هذه التطبيقات؟!
لنقرأ الايات التالية:
1 ـ (.. لئن شكرتم لازيدنكم).
2 ـ (.. قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
3 ـ (واورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني اسرائيل بما صبروا..).
4 ـ (.. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض..).
ان هذه الآيات وغيرها انما هي تجليات وظهورات للقاعدة القرآنية الكلية السابقة، اي لقوله تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وتوجد عشرات الايات الشريفة التي هي مثابة مفردات حية داخل هذا الاطار الاجتماعي النظري العام، وكثيراً ما تشير الآيات إلى تسميات خاصة ومحدّدة من مفردات التعبير الداخلي الذي يؤول إلى تغيير الموضوع، وذلك مثل الشكر، الصبر، الايمان،.. فان كل مفردة من هذه المفردات من شأنها ان تنعكس على الكون باثارها الايجابية الفاعلة، ونحتاج إلى عملية ربط عضوي بين هذه المفردات وحركتها داخل النفس وبين اثارها الخارجية التي هي افاضات الهية بمثابة جزاء دنيوي طيب وجميل.
(6)
نموذج(3).. قاعدة نبوية
قال تعالى:
(وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم).
ان هذه الآية تطرح افقاً عقائدياً على صعيد النبوة، بل اكثر من افق، منها:
أ - ان اي نبي يُرسّل ـ كما هو رأي كثير من المفسدين ـ بلغة قومه، اي بلغة النمط الفكري الذي ينسجم مع درجة وعيهم العقلي والاستدلالي والبرهاني، لان اللغة في الاية حالة ذهنية وليست اصواتاً أو الفاظـاً فحسب، انها مضون ومحتوى فكري ونفسي.
ب ـ ان مهمة النبوة البيان وتوجد عشرات الآيات التي تشكل (بُنيات) داخل نطاق كل من الحقيقتين القرآنيتين، ومن يتصفح القرآن الكريم يندهش لمدى الوفاء الفعلي للحقيقة الاولى، فنحن نجد نوح (ع) يحتج على قومه بأدلة المحور الحسّي القريب لمستوى الحالة الطفولية.
(يرسل السماء عليكم مدرارا)
(خلقكم اطوارا)
فيما ترتقي لغة البرهان لدى ابراهيم إلى مستوى العلاقة بين التغيير والحدوث
(.. كذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما افل قال لا احب الافلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي * فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي * هذا اكبر فلما افلت قال يا يوم اني بريء مما تشركون).
ولكن مع رسول الله محمد (ص) يبرز دليل القياس الكوني:
(قل من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي انشأها اول مرة وهو بكل خلق عليم).
وليس من ريب ان هناك تطوراً نوعياً في عمق الاسلوب البرهاني تبعاً لتطور الزمن وتقلباته الحضارية ومستوى النضج العقلي والفكري لدى المجتمعات. ولذا كان لكل نبي دليله مع قومه بلحاظ درجة الوعي. وكل ذلك تطبيق للاية الشريفة:
(وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه).
واما في خصوص الوظيفة البيانية للانبياء فنستطيع ان نضع اصابعنا على عشرات الايات، بل هي من بديهيات القرآن المبثوقة في صفحاته الشريفة.
نموذج (4).. قاعدة كونية اخرى
قال تعالى:
(ومن كل شيء خقلنا زوجين لعلكم تذكرون).
ان قاعدة الزوجية، قاعدة كونية تستغرق كل الوجود الكوني، اي بلا استثناء، وفي القرآن بعض تجليات لهذه القاعدة. علماً ان جوهر القاعدة على الصعيد العقلي هو التصنيف فالذكر صنف الانثى والعكس صحيح، كما ان الابيض صنف الاسود والعكس صحيح.. لنقرأ قوله تعالى..
1 ـ (أو يزوجهم ذكراناً واناثاً).
2 ـ (قل احمل فيها من كل زوجين اثنين).
3 ـ (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين).
4 ـ (ثمانية ازواج) في مجال الانعام.
5 ـ (سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الارض).
6 ـ (وانزل من السماء ماءً فاخرجنا به ازواجاً من نبات شتى).
فنحن نجد هناك مثال التطبيق الرائع بين النظرية ومصاديقها، مثلها مثل القواعد السابقة.
(8)
في الحقيقة ان اكثر النظريات أو القواعد التي يؤسسها القرآن الكريم لها في الوقت ذاته بعض تطبيقاته، ليس هذا وحسب، بل للقاعدة لوازمها، فالتقدير، اي ان لكل شيء (قدر) يستلزم التغير والحركة قارنة تستلزم امكان المعرفة والحساب والاحصاء.
قال تعالى:
(كل شيء احصيناه في امام مبين).
واعتقد ان دعوة القرآن إلى النظر في الكون هو نتيجة حتمية للتقدير، بل ان هذه المحدودية ـ كل شيء بقدر ـ تستدعي بداية ونهاية..
قال تعالى:
(كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام).
وليس من شك ان العلاقة العضوية بين المحتوى الداخلي للامة والموضوع الخارجي يستدعي ان يكون لكل امة اجل.
قال تعالى:
(كل شيء هالك الا وجهه).
(ما تسبق من امة اجلها وما يستأخرون).
مع العلم ان الاجل هنا قطعة زمنية أو حالة حضارية. فالاجل هنا افراز طبيعي لهذه العلاقة الموضوعية المتفاعلة. ولا نريد هنا ان نفصل في هذه القضية، اي لوازم القاعدة القرآنية، انما نبغي ان نطرح بعض الامثلة.
(9)
نستفيد مجموعة حقائق اساسية من فكرة التفسير التطبيقي وذلك فيما يخص القرآن الكريم، ومن اهمها:
اولاً: وحدة القرآن الكريم وانسجامه مع ذاته:
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً).
ثانياً: تكوين فهم متكامل لحقائق الحياة والتاريخ والمجتمع في القرآن الكريم.
ثالثاً: بلورة عقلية اسلامية استدلالية.
قد يتصور البعض ان هذا النوع من التفسير هو ذاته التفسير الموضوعي، والجواب «لا». ان التفسير الموضوعي يعتمد جمع الايات المنصبّة على موضوع واحد، فيما التفسير التطبيقي هو عمل اخر، يركز على الممارسة التطبيقية للقواعد القرآنية العامة في نواحي الوجود.
وفي الواقع إذا تمكنا من استجلاء هذه القواعد وادرجناها تحت التطبيقات انما سوف نقوم بعملية اكتشاف قرآني فريد... انتهى المقال
اطلعت على هذا المقال ، فرأيت فيه بعض الأفكار التي تحتاج إلى تأمل ، فأحببت أن أنقله هنا ليبدي الإخوة الأعضاء رأيهم حول ما جاء فيه ، وهل هناك أحد ذكر هذا النوع من التفسير (التفسير التطبيقي) ؟
جاء في المقال :
التفسير التطبيقي للقرآن الكريم
غالب حسن
(1)
في المأثور الاسلامي ان القرآن «معجزة» خالدة، واياته الكريمات تجري مع الزمن، اي انها رافعة بالصدق وناطقة بالحقيقة.إن مواكبة الزمن لا تعني الخلود القبلي أو البعدي، وانما هي دائماً واثقة من ذاتها، وبعبارة اخرى: ان الخلود لا يعني هنا تلك الجنبة الثابتة المستقرة، أو ذلك السكون المطلق، بل الخلود هو التضافر الموضوعية مع كل محاولة جادّة على صعيد الفكر الرصين، ولكي لا يساء فهم هذه المعادلة اقول: ان من معاني خلود القرآن ان يُصادف القرآن في كل زمان مصداقاً موضوعياً يؤيد قيمته الطبيعية، وبهذا نعطي للخلود صفة التجدد ولعل هذا ما يتفق مع المأثور الاسلامي الامر الذي يُصرح وبكل ثقة ان القرآن جديد في كل يوم، أو ان الكتاب المجيد ما زال بكراً، فان من مؤدى هذه المقولة التوافق بين القرآن وبين البرهان رغم تعاقب الزمن، مع العلم ان تعاقب الزمن يعني التحول الجذري الرافق على صعيد الحضارة والفكر والعلم. وإذا كانت اللغة هي المصداق المذكور في عصر التنزيل، فان التشريع في عصر السيادة القانونية وقداستها وأهميتها هو المفردة على هذا الصعيد. وهكذا تتنوع المصاديق باعتبار الزمن المتقلب، بل الزمن الذي لايعرف الرحمة، ولا يمنع ذلك من توافر اكثر من مصداق، ولعل في ذلك المزيد من الدلالة على الناحية الاعجازية للقرآن، وربما تحت تأثير هذا المنحى سعى كثيرون إلى المقارنة والمقاربة بين القرآن والعلم والحديث، ومن ثم اثبات سمة التطابق المضموني بين الكتاب ومعطيات العلم في القرن العشرين، فان سيادة العلم هي التي دعت إلى ذلك، وهكذا مع كل قيمة خيرة معطاء تكون ذات نفوذ في افق الحياة والمجتمع، وهو بلا ريب امر مشروع وطبيعي، وإذا ثبت فعلاً فهو من براهين المواكبة بين القرآن والزمن. وفي ضوء هذا المعيار اطرح مصداقاً مهماً وخطيراً في لغة الفكر النقدي الحديث، الا وهو (وحدة النظرية والتطبيق).
(2)
كثير من المدارس الايديولوجية تمتلك قواعد عريضة لتفسير الكون والحياة والتاريخ والمجتمع، فالماركسية مثلاً تستند إلى اسس معينة تجد فيها آلة فهم هذا الوجود، حركته وتطوره وتفاعلاته، كما انها تعتمد على مجموعة قوانين تعتبرها المدخل العلمي والطبيعي لحل مشكلة التاريخ وفهم مجرياته الكبيرة والصغيرة.. وهكذا مع العديد من المدارس الايديولوجية، ومن اساليب النقد الفكري الحديث مع الموازنة بين النظرية والتطبيق، النظرية والنتيجة والممارسة، فان الخلل الموجود بين الطرفين يشكل ضعفاً اساسياً في صميم تلكم النظرية.
وعلى هذا الاساس قالوا ان الماركسية ـ مثلاً ـ متناقضة، لانها في الوقت الذي تدعي فيه ان التاريخ تحركه التناقضات يسعى قادتها إلى صنع مجتمع لا طبقي، وبهذا فان الطريقة تخالف الغاية، بل تخالف النتيجة.. وبالوقت الذي تؤمن فيه ان كل شيء يحوي نقيضه الذي يؤدي إلى الضد تدّعي بخلود المادة وازليتها!! فالنضرية هنا غير متسقة ومضطربة بلحاظ مفرداتها التطبيقية. وإذا كان هناك توافق وانسجام بين الافقين، فانما ذلك يشكل احدى نقاط القوة التي تفتقدها النظرية الماركسية.
(3)
وفي القرآن الكريم مجموعة من القواعد الكلية أو شبهها في العقيدة والكون والتاريخ والمجتمع، هذه القواعد تنسجم بالشمولية أو نحوها، ومن روائع القرآن هنا وجود مفردات تطبيقية لهذه القواعد الكلية الشاملة، وسيكون من الرائع اكثر إذا تتبعّنا هذه المفردات وادرجناها تحت قواعدها التأسيسية. إننا بهذه الطريقة نكتشف التطابق التام بين النظرية ومفرداتها، وسوف نضع اصابعنا على نوع من الممارسة الفعلية على صعيد النظرية، وكلما تزايدت محاولة التطابق والانسجام بين الجانبين نكون قد اقتربنا من حقائق عظيمة، من ابرزها واهمها وحدة القرآن الكريم.
قال تعالى:
(ولو كان من عند غير اله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).
وقال تعالى:
(ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم).
(4)
نموذج(1) .. قاعدة كونية
قال تعالى:
(إنا كل شيء خلقناه بقدر..).
ان هذه الاية الكريمة تقرر قاعدة كونية عريضة، فكل موجود بقدر، أي محدود، اما على صعيد الزمن أو الطاقة أو الحجم أو العدد أو الكثافة.. وتختلف الحدود من موجود إلى آخر، وينفرد الله تعالى بصفة المطلق الذي لا يُحدد ولا يُعد.. سبحانه..
هذه القاعدة أو النظرية الكونية اسسها القرآن الكريم في متن العقيدة ولم يطرحها مجردة، بل حولها إلى مفردات متناثرة هنا وهناك، بل وذكر لها احياناً شواهد من الواقع الحي نستطيع بسهولة ان ندرجها تحت ذلك الافق العريض.
والسؤال هنا:
ترى ما هي المصاديق هنا؟!
لنقرأ الايات التاليات:-
1 - (وانبتنا منها كل شيء موزون).
2 - (... ولكل امة اجل).
3 ـ (... انزل من السماء ماءً فسالت اودية بقدرها).
4 ـ (.. فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
5 ـ (.. وما اوتيتم من العلم الا قليلاً).
6 ـ (.. كل من عليها فان).
وهكذا تترى الايات تلو الايات لتؤكد مضمون أو فحوى أو فكرة النظرية الكلية الشاملة، اي قاعدة (كل شيء خلقناه بقدر).
(إن من شيء الا عندنا خزائنه * وما ننزله الا بقدر معلوم).
وهذا (القدر) أو (الحد) معلوم، وهذه الخاصة من لوازم التقدير وملحقات المحدودية، واعتقد ان (معلوم) هنا اشارة إلى امكانية الاحاطة، وليس هنا مجال بيان هذه القضية التي يمكن ان تدرج في نطاق مسألة اخرى هي «حوليات التقدير».
تصل عملية التطبيق الفعلي للقاعدة الكونية القرآنية في معادلة متساوية الطرفين رغم تنامي مضمونيهما!!، فالوجود كله محدود، اي الوجود بحاله وذلك بغض النظر عن هذا الوجود أو ذاك، فيما خالق الكون ـ جل وعلا ـ وجود مطلق، صفاته عين ذاته..
قال تعالى:
(كل شيء هالك الا وجهه).
انها معادلة، تبدأ من التقدير على صعيد كل موجود ثم الوجود بحد ذاته لتتقرر حقيقة اخرى على الطرف الثاني، ذلكم هو ربناه، لا يحده شيء:
(قل هو الله احد * الله الصمد * لم يلد * ولم يولد * ولم يكن له كفؤاً احد).
فهذه السورة بمضمونها الحقيقي غير بعيدة عن ارساء القضية الكبيرة التي تقول (كل شيء خلقناه بقدر).
هنا، ربما يتوهم البعض ان ذلك يتناقض مع قوله تعالى:
(يزيد في الخلق ما يشاء).
وقوله تعالى:
(والسماء بنيناها بأيد * وانا لموسعون).
وقوله تعالى:
(وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها)!!
هذا وهم ناشيء من عدم فهم معنى (الزيادة)، فهي سواء كانت في هذا المجال أو ذاك خاضعة لمقياس حسابي فردي أو زوجي، اي هناك سقف يمكن ان نقف عنده لنصل إلى رقم محدد ومشخّص، ثم هناك فواعل اخرى تُمضي المحدودية رغم هذه الزيادة، القوة، العمر الزمني، مقدار العطاء، حقيقة العلاقة مع الاخر، فالنعم قد لا تحصى، ولكنها تُستهلك وتُستثمر، وتجري عليها التغيرات والانفعالات المستمرة الدائمة.
وبهذا نفهم إلى هناك تناغماً رائعاً بنى النظرية والتطبيق في القرآن الكريم على صعيد هذه القاعدة. والمطلوب ان نستحضر جزئياتها في القرآن ونضعها في اطارها النظري العام.
(5)
نموذج(2).. قاعدة اجتماعية
قال تعالى:
(ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم).
هذه الآية الكريمة هي الاخرى تشكل قاعدة عامة على صعيد المجتمع، مفادها ـ كما هو واضح ـ ان التغيير النفسي، أو ان المحتوى للذات هو الاساس في حركة الامة، أو ان التكوين الفكري والنفسي للانسان ـ ككل ـ هو الذي يموّن التاريخ بالحركة ونوع هذه الحركة، وان اي انقلاب اجتماعي أو تاريخي في حياة الامم انما يترتب على انقلاب فكري نفسي، داخلي.
هذه القاعدة القرآنية الكلية في حركة المجتمع والتاريخ لها تطبيقاتها في القرآن نفسه، ولها مفرداتها التي تندرج تحتها، وبهذا يكون الكتاب الكريم عبارة عن مدرسة عملية توجيهية..
ترى ما هي هذه التطبيقات؟!
لنقرأ الايات التالية:
1 ـ (.. لئن شكرتم لازيدنكم).
2 ـ (.. قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين).
3 ـ (واورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني اسرائيل بما صبروا..).
4 ـ (.. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض..).
ان هذه الآيات وغيرها انما هي تجليات وظهورات للقاعدة القرآنية الكلية السابقة، اي لقوله تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وتوجد عشرات الايات الشريفة التي هي مثابة مفردات حية داخل هذا الاطار الاجتماعي النظري العام، وكثيراً ما تشير الآيات إلى تسميات خاصة ومحدّدة من مفردات التعبير الداخلي الذي يؤول إلى تغيير الموضوع، وذلك مثل الشكر، الصبر، الايمان،.. فان كل مفردة من هذه المفردات من شأنها ان تنعكس على الكون باثارها الايجابية الفاعلة، ونحتاج إلى عملية ربط عضوي بين هذه المفردات وحركتها داخل النفس وبين اثارها الخارجية التي هي افاضات الهية بمثابة جزاء دنيوي طيب وجميل.
(6)
نموذج(3).. قاعدة نبوية
قال تعالى:
(وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم).
ان هذه الآية تطرح افقاً عقائدياً على صعيد النبوة، بل اكثر من افق، منها:
أ - ان اي نبي يُرسّل ـ كما هو رأي كثير من المفسدين ـ بلغة قومه، اي بلغة النمط الفكري الذي ينسجم مع درجة وعيهم العقلي والاستدلالي والبرهاني، لان اللغة في الاية حالة ذهنية وليست اصواتاً أو الفاظـاً فحسب، انها مضون ومحتوى فكري ونفسي.
ب ـ ان مهمة النبوة البيان وتوجد عشرات الآيات التي تشكل (بُنيات) داخل نطاق كل من الحقيقتين القرآنيتين، ومن يتصفح القرآن الكريم يندهش لمدى الوفاء الفعلي للحقيقة الاولى، فنحن نجد نوح (ع) يحتج على قومه بأدلة المحور الحسّي القريب لمستوى الحالة الطفولية.
(يرسل السماء عليكم مدرارا)
(خلقكم اطوارا)
فيما ترتقي لغة البرهان لدى ابراهيم إلى مستوى العلاقة بين التغيير والحدوث
(.. كذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما افل قال لا احب الافلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي * فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي * هذا اكبر فلما افلت قال يا يوم اني بريء مما تشركون).
ولكن مع رسول الله محمد (ص) يبرز دليل القياس الكوني:
(قل من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي انشأها اول مرة وهو بكل خلق عليم).
وليس من ريب ان هناك تطوراً نوعياً في عمق الاسلوب البرهاني تبعاً لتطور الزمن وتقلباته الحضارية ومستوى النضج العقلي والفكري لدى المجتمعات. ولذا كان لكل نبي دليله مع قومه بلحاظ درجة الوعي. وكل ذلك تطبيق للاية الشريفة:
(وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه).
واما في خصوص الوظيفة البيانية للانبياء فنستطيع ان نضع اصابعنا على عشرات الايات، بل هي من بديهيات القرآن المبثوقة في صفحاته الشريفة.
نموذج (4).. قاعدة كونية اخرى
قال تعالى:
(ومن كل شيء خقلنا زوجين لعلكم تذكرون).
ان قاعدة الزوجية، قاعدة كونية تستغرق كل الوجود الكوني، اي بلا استثناء، وفي القرآن بعض تجليات لهذه القاعدة. علماً ان جوهر القاعدة على الصعيد العقلي هو التصنيف فالذكر صنف الانثى والعكس صحيح، كما ان الابيض صنف الاسود والعكس صحيح.. لنقرأ قوله تعالى..
1 ـ (أو يزوجهم ذكراناً واناثاً).
2 ـ (قل احمل فيها من كل زوجين اثنين).
3 ـ (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين).
4 ـ (ثمانية ازواج) في مجال الانعام.
5 ـ (سبحان الذي خلق الازواج كلها مما تنبت الارض).
6 ـ (وانزل من السماء ماءً فاخرجنا به ازواجاً من نبات شتى).
فنحن نجد هناك مثال التطبيق الرائع بين النظرية ومصاديقها، مثلها مثل القواعد السابقة.
(8)
في الحقيقة ان اكثر النظريات أو القواعد التي يؤسسها القرآن الكريم لها في الوقت ذاته بعض تطبيقاته، ليس هذا وحسب، بل للقاعدة لوازمها، فالتقدير، اي ان لكل شيء (قدر) يستلزم التغير والحركة قارنة تستلزم امكان المعرفة والحساب والاحصاء.
قال تعالى:
(كل شيء احصيناه في امام مبين).
واعتقد ان دعوة القرآن إلى النظر في الكون هو نتيجة حتمية للتقدير، بل ان هذه المحدودية ـ كل شيء بقدر ـ تستدعي بداية ونهاية..
قال تعالى:
(كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام).
وليس من شك ان العلاقة العضوية بين المحتوى الداخلي للامة والموضوع الخارجي يستدعي ان يكون لكل امة اجل.
قال تعالى:
(كل شيء هالك الا وجهه).
(ما تسبق من امة اجلها وما يستأخرون).
مع العلم ان الاجل هنا قطعة زمنية أو حالة حضارية. فالاجل هنا افراز طبيعي لهذه العلاقة الموضوعية المتفاعلة. ولا نريد هنا ان نفصل في هذه القضية، اي لوازم القاعدة القرآنية، انما نبغي ان نطرح بعض الامثلة.
(9)
نستفيد مجموعة حقائق اساسية من فكرة التفسير التطبيقي وذلك فيما يخص القرآن الكريم، ومن اهمها:
اولاً: وحدة القرآن الكريم وانسجامه مع ذاته:
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً).
ثانياً: تكوين فهم متكامل لحقائق الحياة والتاريخ والمجتمع في القرآن الكريم.
ثالثاً: بلورة عقلية اسلامية استدلالية.
قد يتصور البعض ان هذا النوع من التفسير هو ذاته التفسير الموضوعي، والجواب «لا». ان التفسير الموضوعي يعتمد جمع الايات المنصبّة على موضوع واحد، فيما التفسير التطبيقي هو عمل اخر، يركز على الممارسة التطبيقية للقواعد القرآنية العامة في نواحي الوجود.
وفي الواقع إذا تمكنا من استجلاء هذه القواعد وادرجناها تحت التطبيقات انما سوف نقوم بعملية اكتشاف قرآني فريد... انتهى المقال