د محمد الجبالي
Well-known member
طرحت قضية نِفَاق القُرَّاء للمناقشة متسائلا:
ورد في الحديث الصحيح: (( أكثر مُنافِقي أُمَّتي قُرَّاؤُها ))
فما الذي يَدْفَعُ الْقُرَّاءَ لِلنِّفَاق؟
طرحتُ القضية للمناقشة في مجموعات (واس اب) وغيرها فوجدتُ شيئا عجيبا، وجدتُ أن أكثر مَن أظن بهم العلم قد تجنبوا الخوض في القضية ومناقشتها، وللأسف كثير من مثل هذه القضايا مما يتعلق بِنِفَاقِ بعض العلماء وتضييعهم الأمانة يتجنب كثير من أهل العلم ممن نظن بهم الإخلاص يتجنبون الخوض فيها، إما تَهَيُّبًا وخَوْفًا، وإما اعتزالا وقُعُودا.
ولو تركنا هؤلاء الذين يظن بهم الناس العلم، ويظنون بهم الصلاح والتقوى، ويقتدون بهم ويتأسون، لو تركناهم وقد اتخذوا من الدين والقرآن سِلْعَةً يتاجرون بها، يبيعونها بثمن بَخْسٍ، لو تركناهم سَيَضِلُّ بِنِفَاقِهم أُمَمٌ من الناس يحتاجون لِمَن يكشف لهم نفاق هؤلاء الذين يظنون بهم العلم والتقوى مِنَ العلماء والقراء.
لقد قَدَّمْتُ بهذا لأني أعلم أن البعض يتهمني بأن لي جُرْأَةً على أهل العلم، وأقول لمن يتهمني بذلك: إني لأضَعُ خَدِّي مَدَاسًا لأهل العلم المخلصين العاملين، وأَسْكُتُ عَمَّن قَعَدَ منهم معتزلا الظلم وأهله، أما مَن قام فجعل مِن نفسه ومِنَ الدين دِرْعًا للطواغيت، أو مَن قام يسوق الناس عبيدا تحت أقدام ثُلَّةٍ مِنَ الحكام فَسَقَةٍ فَجَرَةٍ، فإن هؤلاء وهؤلاء عندي أولى بأن تُصْفَعَ وُجُوهُهُم بالحق الذي حَادُوا عنه، وأن تُضْرَبَ رُءُوسُهم بِعَصَا الدِّينِ الذي تاجروا به، وباعوه بِعَرَضٍ مِنَ الدنيا زائل، فإني أرى أني مِنَ الواجب عليَّ أن أكْشِفَ سَوْءاتهم، وأن أَفْضَحَهم على الْمَلأ، حتى يعلم مَن لا يعلم أنهم منافقون سواء كانوا علماء وإن جمعوا أبواب العلم جميعا، أو كانوا قُرَّاءً لكتاب الله وإن عَلَت وُجُوهَهم أماراتُ التقوى والخشوع والْمَهَابَة، فإنهم -والله- عندي أَهْوَنُ مِنَ الذَّر، وإن بلغوا مِنَ المجد أعلاه.
ونعود للقضية موضع والمناقشة:
مِنَ الأجوبة التي وصلتني أنَّ نِفَاقَ القُرَّاء إنما هو نِفَاقُ عمل وليس نِفَاقَ عقيدة، وهذه حقيقة، فالأول رِيَاء، فهم مؤمنون يُراءُونَ بعملهم، أما نِفَاقُ العقيدة فهو الكفر الْمُخْرِج مِن الْمِلَّة.
ومازال السؤال كما هو: ما الذي دَفَعَ القُرَّاءَ للرياء؟
ما الأسباب التي دعتهم للنفاق بأعمالهم؟
وأرى أن لذلك ثلاثة أنواع من الأسباب:
الأول: أسباب اجتماعية خارجية.
والثاني: أسباب ذاتية شخصية.
والثالث: كثرة القُرَّاء واتخاذ القِراءة حِرْفَةً.
أما النوع الأول: أسباب اجتماعية خارجية:
فإن حَفَظَةَ كتاب الله وقُرَّاءَ القرآن لهم مكانة خاصة في نفوس الناس، ولهم تقدير عالٍ في المجتمع، إذ ينال قارئ القرآن هذا التقدير من كل طبقات المجتمع سواء عِلْيَةُ القوم أو أَسَافِلُهم، إن هذا التقدير العام مِن كل أصناف المجتمع وطبقاته لا يناله أحد إلا حاملو كتاب الله وقراؤه.
فإن تواضع القارئ لله، وأدرك أن ذلك إنما هو فتنة واستدراج ازداد رِفْعَةً ومكانة وتقديرا في قلوب الناس، أما إن أخذه العُجْبُ هَلَكَ عملُه وهَلَكَ.
ولعل أسوأ ما يَضَعُ القارئ ويُحَقِّرُه، أن يجعل مِن نفسه أداةً في يد فَسَقَةِ القوم وفُجَّارِهم
فَيَغْسِلُ الفَسَقَةُ والفَجَرَةُ نَجَاسَتِهم وأَدْرَانَهم بوجوه الشيوخ والقُرَّاء أي بصُحْبَتِهم ورُفْقَتِهم، حيث يَتَقَرَّب فَسَقَةُ القوم وفُجَّارُهم حكاما ورجال الأعمال وذوي السلطان يتقربون من الشيوخ القُرَّاء ومن مرضى القلوب من العلماء فيجعلون منهم مَراكِبَ وَطِيئَةً يبلغون بها مآربهم من الناس.
النوع الثاني: أسباب ذاتية شخصية:
وهذا النوع من الأسباب كثيرا ما يتبع النوع الأول وينتج عنه، لكن الأصل فيه ضعف النفوس لدى أكثر القراء -وهذا الضعف عام لدى كل الناس- فإن بعض القُرَّاءِ حين يَمْهَرُ كتاب الله يأخذه الكِبْرُ، وبعضهم يأخذه العُجْبُ، وبعضهم يسعى به لينال بين الناس مَكانَةً ورِفْعَةً، أو ينال به كَسْبًا وغِنًى.
جاء في شرح الإبانة لابن بطة: "فقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثر منافقي أمتي قُرَاؤُها)؛ لأن القُرَّاءَ هم أصحاب الفضل، وإنما يزينون بعلمهم وقراءتهم ما عندهم من علم يستعطفون بذلك الناس ويَسْتَدِرُّون مَدْحَهم وأموالهم، لكنهم في حقيقة الأمر لا يبتغون بهذه القراءة ولا بهذا العلم وجه الله"
وقد التفتَ الغزالي رحمه الله إلى هذه الأمراض في القُرَّاءِ فَحَذَّرَ منها قائلا: "أحذر من خِصَالِ القُرَّاء الأربعة: الأمل، والعَجَلَة، والكِبْر، والحسد، قال: وهي عِلَلٌ تَعْتَرِي سائر الناس عموما والقُرَّاء خصوصا، تَرَى القارئ يُطَوِّلُ الأملَ فَيُوقِعُهُ في الكسل، وتراه يستعجل على الخير فَيُقْطَعُ عنه، وتراه يحسد نُظَرَاءَهُ على ما أتاهم الله مِن فضله، فربما يبلغ به مَبْلَغًا يَحْمِلُهُ على فَضَائِحَ وقَبَائِحَ لا يَقْدُمُ عليها فاسق ولا فاجر".
وقد حَذَّرَ الْفُضَيلُ بن عَيَّاض مِن صُحْبَتِهم ومِن جِوَارِهم فقال ناصِحًا أَبناءَه وتلاميذه: "اشتروا دارا بعيدة عن القُرَّاء؛ ما لي والقوم! إن ظهرت مني زَلَّةٌ قتلوني، وإن ظهرت علي حَسَنَةٌ حسدوني، ولذلك ترى الواحد منهم يتكبر على الناس، ويَسْتَخِفُّ بهم مُعْبِسًا وَجْهَهُ كأنما يَمُنُّ على الناس بما يصلي زيادة ركعتين، أو كأنما جاءه مِن الله مَنْشورٌ بالجنة والبراءة من النار، أو كأنه اسْتَيْقَنَ السعادة لنفسه والشَّقَاوَةَ لسائر الناس، ثم مع ذلك يَلْبَسُ لِبَاسَ الْمُتَوَاضِعِين، ويَتَمَاوَتُ، وهذا لا يَلِيقُ بالتكبر والترفع، ولا يلائمه، بل يُنَافِيه، لكن الأعمى لا يُبْصُر".
أما النوع الثالث من الأسباب فهو: كثرة القُرَّاء واتخاذ القِراءة حِرْفَةً:
لقد كَثُرَ القُرَّاءُ في المجتمع وفَشَوْا، فصار يقرأ القرآن الْبَرُّ والفاجر، واحترف القِراءةَ مَن لا خُلُقَ له ولا دِين، واتخذه كثير مِنَ القُرَّاءِ وسيلةً للرِّبْحِ، وحِرْفَةً لِكَسْبِ الْعَيْشِ، قال ابن عبد البر: "إن القرآن قد يَقْرَؤُهُ مَن لا دِينَ له، ولا خَيْرَ فيه، ولا يُجَاوِزُ لِسَانَه، وقد مَضَى هذا المعنى عند قول بن مسعود: وسيأتي على الناس زَمُانٌ قليل فُقَهَاؤُهُ كثير قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فيه حروفُ القرآن وتَضِيعُ حُدُودُه ... وذكرنا هناك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أكثر منافقي أمتي قُرَّاؤُها) وحَسْبُكَ بما تَرَى مِن تَضْيِيعِ حُدُودِ القرآن وكثرة تلاوته في زماننا هذا بالأمْصَار وغيرها مع فِسْقِ أَهْلِها واللهَ أسْأَلُهُ الْعِصْمَةَ"
فإنْ سَأَلَ سَائِلٌ لماذا خُصَّ القُرَّاءُ بالنِّفَاقِ دُونَ غيرهم؟! فقال فيهم رسوزل الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث: (أكثر منافقي أمتي قُرَّاؤُها)؟
وأجاب ابن بطة هذا السؤال قال: "إنَّ الرِّياءَ لا يَكادُ يُوجَدُ إلا فيمَن نُسِبَ إلى التقوى، ولأنَّ العَامَّةَ والسُّوقَةَ قد جَهَلُوه، والْمُتَحَلِّينَ بِحِلْيَةِ القُرَّاءِ قد حَذَقُوه".
فإنَّ الرياءَ دائماً يُنْسَبُ لأهل التقوى؛ لأنهم في حَاجَةٍ إليه، ولأنَّ عَوَامَ الناس والسُّوقَةَ منهم لا يعرفونه؛ فهم ليسوا في حاجة إليه، أما القُرَّاءُ فإنهم مَظَنَّةُ التقوى والصلاح، وهم يحرصون حِرْصًا على أن يكونوا على تلك الهيئة، وأنْ يُظَنَّ بهم ذلك، ومِن هنا حَذَقُوا الرياء أي صاروا فيه مَهَرَةً.
هذا والله أعلم
د. محمد الجبالي
ورد في الحديث الصحيح: (( أكثر مُنافِقي أُمَّتي قُرَّاؤُها ))
فما الذي يَدْفَعُ الْقُرَّاءَ لِلنِّفَاق؟
طرحتُ القضية للمناقشة في مجموعات (واس اب) وغيرها فوجدتُ شيئا عجيبا، وجدتُ أن أكثر مَن أظن بهم العلم قد تجنبوا الخوض في القضية ومناقشتها، وللأسف كثير من مثل هذه القضايا مما يتعلق بِنِفَاقِ بعض العلماء وتضييعهم الأمانة يتجنب كثير من أهل العلم ممن نظن بهم الإخلاص يتجنبون الخوض فيها، إما تَهَيُّبًا وخَوْفًا، وإما اعتزالا وقُعُودا.
ولو تركنا هؤلاء الذين يظن بهم الناس العلم، ويظنون بهم الصلاح والتقوى، ويقتدون بهم ويتأسون، لو تركناهم وقد اتخذوا من الدين والقرآن سِلْعَةً يتاجرون بها، يبيعونها بثمن بَخْسٍ، لو تركناهم سَيَضِلُّ بِنِفَاقِهم أُمَمٌ من الناس يحتاجون لِمَن يكشف لهم نفاق هؤلاء الذين يظنون بهم العلم والتقوى مِنَ العلماء والقراء.
لقد قَدَّمْتُ بهذا لأني أعلم أن البعض يتهمني بأن لي جُرْأَةً على أهل العلم، وأقول لمن يتهمني بذلك: إني لأضَعُ خَدِّي مَدَاسًا لأهل العلم المخلصين العاملين، وأَسْكُتُ عَمَّن قَعَدَ منهم معتزلا الظلم وأهله، أما مَن قام فجعل مِن نفسه ومِنَ الدين دِرْعًا للطواغيت، أو مَن قام يسوق الناس عبيدا تحت أقدام ثُلَّةٍ مِنَ الحكام فَسَقَةٍ فَجَرَةٍ، فإن هؤلاء وهؤلاء عندي أولى بأن تُصْفَعَ وُجُوهُهُم بالحق الذي حَادُوا عنه، وأن تُضْرَبَ رُءُوسُهم بِعَصَا الدِّينِ الذي تاجروا به، وباعوه بِعَرَضٍ مِنَ الدنيا زائل، فإني أرى أني مِنَ الواجب عليَّ أن أكْشِفَ سَوْءاتهم، وأن أَفْضَحَهم على الْمَلأ، حتى يعلم مَن لا يعلم أنهم منافقون سواء كانوا علماء وإن جمعوا أبواب العلم جميعا، أو كانوا قُرَّاءً لكتاب الله وإن عَلَت وُجُوهَهم أماراتُ التقوى والخشوع والْمَهَابَة، فإنهم -والله- عندي أَهْوَنُ مِنَ الذَّر، وإن بلغوا مِنَ المجد أعلاه.
ونعود للقضية موضع والمناقشة:
مِنَ الأجوبة التي وصلتني أنَّ نِفَاقَ القُرَّاء إنما هو نِفَاقُ عمل وليس نِفَاقَ عقيدة، وهذه حقيقة، فالأول رِيَاء، فهم مؤمنون يُراءُونَ بعملهم، أما نِفَاقُ العقيدة فهو الكفر الْمُخْرِج مِن الْمِلَّة.
ومازال السؤال كما هو: ما الذي دَفَعَ القُرَّاءَ للرياء؟
ما الأسباب التي دعتهم للنفاق بأعمالهم؟
وأرى أن لذلك ثلاثة أنواع من الأسباب:
الأول: أسباب اجتماعية خارجية.
والثاني: أسباب ذاتية شخصية.
والثالث: كثرة القُرَّاء واتخاذ القِراءة حِرْفَةً.
أما النوع الأول: أسباب اجتماعية خارجية:
فإن حَفَظَةَ كتاب الله وقُرَّاءَ القرآن لهم مكانة خاصة في نفوس الناس، ولهم تقدير عالٍ في المجتمع، إذ ينال قارئ القرآن هذا التقدير من كل طبقات المجتمع سواء عِلْيَةُ القوم أو أَسَافِلُهم، إن هذا التقدير العام مِن كل أصناف المجتمع وطبقاته لا يناله أحد إلا حاملو كتاب الله وقراؤه.
فإن تواضع القارئ لله، وأدرك أن ذلك إنما هو فتنة واستدراج ازداد رِفْعَةً ومكانة وتقديرا في قلوب الناس، أما إن أخذه العُجْبُ هَلَكَ عملُه وهَلَكَ.
ولعل أسوأ ما يَضَعُ القارئ ويُحَقِّرُه، أن يجعل مِن نفسه أداةً في يد فَسَقَةِ القوم وفُجَّارِهم
فَيَغْسِلُ الفَسَقَةُ والفَجَرَةُ نَجَاسَتِهم وأَدْرَانَهم بوجوه الشيوخ والقُرَّاء أي بصُحْبَتِهم ورُفْقَتِهم، حيث يَتَقَرَّب فَسَقَةُ القوم وفُجَّارُهم حكاما ورجال الأعمال وذوي السلطان يتقربون من الشيوخ القُرَّاء ومن مرضى القلوب من العلماء فيجعلون منهم مَراكِبَ وَطِيئَةً يبلغون بها مآربهم من الناس.
النوع الثاني: أسباب ذاتية شخصية:
وهذا النوع من الأسباب كثيرا ما يتبع النوع الأول وينتج عنه، لكن الأصل فيه ضعف النفوس لدى أكثر القراء -وهذا الضعف عام لدى كل الناس- فإن بعض القُرَّاءِ حين يَمْهَرُ كتاب الله يأخذه الكِبْرُ، وبعضهم يأخذه العُجْبُ، وبعضهم يسعى به لينال بين الناس مَكانَةً ورِفْعَةً، أو ينال به كَسْبًا وغِنًى.
جاء في شرح الإبانة لابن بطة: "فقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثر منافقي أمتي قُرَاؤُها)؛ لأن القُرَّاءَ هم أصحاب الفضل، وإنما يزينون بعلمهم وقراءتهم ما عندهم من علم يستعطفون بذلك الناس ويَسْتَدِرُّون مَدْحَهم وأموالهم، لكنهم في حقيقة الأمر لا يبتغون بهذه القراءة ولا بهذا العلم وجه الله"
وقد التفتَ الغزالي رحمه الله إلى هذه الأمراض في القُرَّاءِ فَحَذَّرَ منها قائلا: "أحذر من خِصَالِ القُرَّاء الأربعة: الأمل، والعَجَلَة، والكِبْر، والحسد، قال: وهي عِلَلٌ تَعْتَرِي سائر الناس عموما والقُرَّاء خصوصا، تَرَى القارئ يُطَوِّلُ الأملَ فَيُوقِعُهُ في الكسل، وتراه يستعجل على الخير فَيُقْطَعُ عنه، وتراه يحسد نُظَرَاءَهُ على ما أتاهم الله مِن فضله، فربما يبلغ به مَبْلَغًا يَحْمِلُهُ على فَضَائِحَ وقَبَائِحَ لا يَقْدُمُ عليها فاسق ولا فاجر".
وقد حَذَّرَ الْفُضَيلُ بن عَيَّاض مِن صُحْبَتِهم ومِن جِوَارِهم فقال ناصِحًا أَبناءَه وتلاميذه: "اشتروا دارا بعيدة عن القُرَّاء؛ ما لي والقوم! إن ظهرت مني زَلَّةٌ قتلوني، وإن ظهرت علي حَسَنَةٌ حسدوني، ولذلك ترى الواحد منهم يتكبر على الناس، ويَسْتَخِفُّ بهم مُعْبِسًا وَجْهَهُ كأنما يَمُنُّ على الناس بما يصلي زيادة ركعتين، أو كأنما جاءه مِن الله مَنْشورٌ بالجنة والبراءة من النار، أو كأنه اسْتَيْقَنَ السعادة لنفسه والشَّقَاوَةَ لسائر الناس، ثم مع ذلك يَلْبَسُ لِبَاسَ الْمُتَوَاضِعِين، ويَتَمَاوَتُ، وهذا لا يَلِيقُ بالتكبر والترفع، ولا يلائمه، بل يُنَافِيه، لكن الأعمى لا يُبْصُر".
أما النوع الثالث من الأسباب فهو: كثرة القُرَّاء واتخاذ القِراءة حِرْفَةً:
لقد كَثُرَ القُرَّاءُ في المجتمع وفَشَوْا، فصار يقرأ القرآن الْبَرُّ والفاجر، واحترف القِراءةَ مَن لا خُلُقَ له ولا دِين، واتخذه كثير مِنَ القُرَّاءِ وسيلةً للرِّبْحِ، وحِرْفَةً لِكَسْبِ الْعَيْشِ، قال ابن عبد البر: "إن القرآن قد يَقْرَؤُهُ مَن لا دِينَ له، ولا خَيْرَ فيه، ولا يُجَاوِزُ لِسَانَه، وقد مَضَى هذا المعنى عند قول بن مسعود: وسيأتي على الناس زَمُانٌ قليل فُقَهَاؤُهُ كثير قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فيه حروفُ القرآن وتَضِيعُ حُدُودُه ... وذكرنا هناك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أكثر منافقي أمتي قُرَّاؤُها) وحَسْبُكَ بما تَرَى مِن تَضْيِيعِ حُدُودِ القرآن وكثرة تلاوته في زماننا هذا بالأمْصَار وغيرها مع فِسْقِ أَهْلِها واللهَ أسْأَلُهُ الْعِصْمَةَ"
فإنْ سَأَلَ سَائِلٌ لماذا خُصَّ القُرَّاءُ بالنِّفَاقِ دُونَ غيرهم؟! فقال فيهم رسوزل الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث: (أكثر منافقي أمتي قُرَّاؤُها)؟
وأجاب ابن بطة هذا السؤال قال: "إنَّ الرِّياءَ لا يَكادُ يُوجَدُ إلا فيمَن نُسِبَ إلى التقوى، ولأنَّ العَامَّةَ والسُّوقَةَ قد جَهَلُوه، والْمُتَحَلِّينَ بِحِلْيَةِ القُرَّاءِ قد حَذَقُوه".
فإنَّ الرياءَ دائماً يُنْسَبُ لأهل التقوى؛ لأنهم في حَاجَةٍ إليه، ولأنَّ عَوَامَ الناس والسُّوقَةَ منهم لا يعرفونه؛ فهم ليسوا في حاجة إليه، أما القُرَّاءُ فإنهم مَظَنَّةُ التقوى والصلاح، وهم يحرصون حِرْصًا على أن يكونوا على تلك الهيئة، وأنْ يُظَنَّ بهم ذلك، ومِن هنا حَذَقُوا الرياء أي صاروا فيه مَهَرَةً.
هذا والله أعلم
د. محمد الجبالي