جزاكم الله خيراً أخي الكريم رجائي على موضوعك هذا.
فقد استفزّ عنوانك ذاكرتي من أوّل ما أنزلته؛ وكلّما هممت بكتابة ما ترك بصمة في حياتي محوته، فأنا هكذا متردّد دوماً، فما أكثر ما أكتب وأمسح ولا أدع أثراً لما كتبت إلا ما تختزنه ذاكرتي. ولكن شاء الله ليومي هذا ولحظتي هذه أن أكتب لك ما يجريه الله على لوحة المفاتيح:
ففي المرحلة الابتدائيّة والإعداديّة: "السّيرة النّبويّة لابن هشام" قرأتها عشرات المرّات؛ حتّى كدت أستظهرها.
وكنت أخفيها في كتاب الفيزياء أو الأحياء -كانت في أيّامنا كتباً ضخمة كبيرة، وجيلي من طلبة العلميّ يعرف هذا جيّداً بالتّجربة، وطلبة الأدبيّ من حجمها يهربون-؛ ليراني الوالد -رحمه الله تعالى- أقرأ في الكتب المنهجيّة؛ فإنّ زمن قراءة الكتب -غير المقرّرة علينا- الإجازات. هكذا كانوا يرون؛ ولم أكن أرى هذا ماضياً، ولا أراه حاضراً، وقد لا أراه غداً أيضاً؛ إن عشنا لغدٍ.
أقول لك: كنّا جميعاً أسرة كبيرة في حجرة واحدة (أجل واحدة صغيرة) مع الجدّ والجدّة والوالدين والأبناء التّسعة.
النّوم على رؤوس بعض!!! وما يضيء عتمة ليالينا إلا شيء اسمه ("اللوكس" وبه شيء اسمه "شنبر"، أو "اللامظة" بها فتيلة، وكلاهما على الكاز، أو الشّمعات، وما أكثر ما يطفأ؛ فلا نجد كازاً، أو شنبراً، أو فتيلة، أو يركب رأسه ويعنّد فلا يضيء، وأحياناً -وربّ رجائي- على ضوء القمر. ما أجملَ القراءة على ضوء القمر! أتجرّبون يا سادة؟! ما رأيكم؟ وبخاصّة في ليالي الصّيف، وإذا كان بيتك كلّه شجر ومزروعات مثمرة من خضروات وفواكه وحشرات؛ فأوووووه يا
تيسير الغول ومحمّد عقل!!! (مع حفظ الألقاب والاحترام والتّقدير والتّبجيل)
ثمّ "قصص العرب" وهذه قرأتها مئات المرّات -وكثيراً وأنا آكل-، ومن كثرة ضيق والدي الحبيب -رحمه الله تعالى- لكثرة ما قرأتها حرقها لي جميعها، وانتهرني قائلاً: بدل هذه القصص الّتي لا يُعلم صدقُها من كذبها احفظ كتاب الله أوّلاً وتدبّره. ولم يكن في منطقتنا من يُحَفِّظُ كتابَ الله؛ بل لعلّك تعدّ من يحفظ كتاب الله في البلد الّذي كنت أعيش فيه كلّه -فيما نعلم- على الأصابع؛ وبكيت يومها بكاء مرّاً. فكأنّما حرقني أنا كما يحرق الهندوس من يموت منهم؛ فقد كانت هذه الكتب عزيزة على نفسي جدّاً؛ وكنت أحاول أن أعيشها، وأتخيّلها، بل كنت أرى أبطالها في منامي -فأنا من ذلك النّوع الّذي لا ينام حتّى يرى، بل لا يغمض لي جفن حتّى أرى -وأحياناً أكمل المنام يقظة -ابتسامة-؛ على قلّة ما تكتحل عيني بالنّوم؛ وهي وأيم الله ذات فوائد جمّة وغزيرة؛ رُغم ما شاب رواياتها؛ من ضعف، أو كذب، أو غيرها.ولقد اشتريتها عندما كبرت إذ لم أستطع فراقها وأظنّها هي لا تستطيع فراقي أيضاً. يا رجل: كيف يستطيع امرؤ نسيان عنترة الشّجاع، أو أكرم العرب وأسمحهم بإطلاق في الجاهليّة عروة بن الورد العبسيّ، أو الحارث بن عباد، أو معدي كرب وابنه عمرو الزّبيديّان، أو مقري الوحش الغسّانيّ، أو بسطام بن قيس الشّيبانيّ، أو زيد الخيل أو الخير الطّائيّ أو المازنيّ، أو حُماة الذّمار والدّيار من الدُّعّار، وغيرهم كثير.
ثمّ كتب صعبة للغاية في مرحلتينا كلتيهما؛ ولكن هذا ما لفت نظري في مكتبة والدي -رحمه الله تعالى- الممتلئة بكتب الأدب، ولعلّني استهواني تجليدها الجميل، وخطّها الكبير:
"عيون الأخبار لابن قتيبة الدّينوريّ"، و"نهاية الأرب في فنون الأدب للنّويريّ"، كرّرت منه المجلّد الثّالث عشر والرّابع عشر عشرات المرّات ففيه قصص الأنبياء؛ ولكنّ أكثره من الإسرائيليّات؛ وكانت فائدتي منه كفائدة حفظ الإمام عبد الله بن الإمام أحمد للأحاديث الضّعيفة والموضوعة؛ بنصح أبيه الإمام رحمهما الله تعالى وسائر أئمّتنا ومشايخنا.
و"الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ" الّذي بيع في معرض الشّارق الدّوليّ الأخير بأربعين درهماً (أجل عشرون مجلّداً من القطع الكبير بأربعين درهم) في دار صادر اللّبنانيّة؛ هذا الكتاب الغالي النّفيس -رُغم ما فيه أيضاً- لم أدع منه شيئاً حتّى التهمته بشغف مرّات ومرّات؛ صغيراً، وكبيراً، وما زلت كأنّي لم أقرأه من المتعة فيه. رُغم شعوبيّة مؤلّفه، وتعصّبه، و.....
و"صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشنديّ"؛ حتّى اليوم لم أنهه كاملاً ولن أنهيه أبداً، فقد تركته إلى غيره.
ثمّ -بعد أو خلال أو قبل- روايات كنّا نستأجرها استئجاراً (بقرش أو قرش ونصف) من المكتبات:
موريس لبلان الفرنسيّ، وأجاثا كريستي، والشّياطين الثلاثة عشر، والمغامرون الخمسة تختخ ومجموعته، وفيكتور هوجو ، ونجيب محفوظ، جرجي زيدان -من أسف- الّذي حشى رواياته التّاريخيّة بقصص الحبّ؛ كأفلام اليوم والأمس ومسلسلاته المقرفة.
ومصطفى لطفي المنفلوطيّ (وأذكر أنّني كتبت موضوع إنشاء عند أستاذي في اللّغة العربيّة عبد اللطيف قيسيّة -رحمه الله تعالى حيّاً وميتاً- فأعجِب به جدّاً -ده كان زمان-؛ وما زالت ملامحه أمامي -فهو أشبه النّاس شكلاً بدريد لحّام- وهو يقول لي: ما شاء الله، أسلوب منفلوطيّ) ففرحت أيّما فرح والله، وكان يعجبنا المدح جدّاً، ثمّ أصبح المدح رجفة، أو شبيه الذّمّ ولا ذمّ؛ وخلاكم ذمّ.
ومحمّد عبد الحليم عبد الله، وعبد الحميد جودة السّحّار، وغيرهم ممّن لهم بصمات واضحة في كلّ من يكتب أدبيّاً.
أمّا في المرحلة الثّانويّة: فكتاب "إحياء علوم الدّين للغزّاليّ" أوّل كتاب أشتريه بعد جهد كبير من المكتبة الأمويّة؛ من حرّ مالي وأنا مغتبط له، وطائر به؛ وداعٍ لصاحبه دوماً؛ إذ كنت أرى بعد قراءته منامات عجيبة ورائعة؛ بل والله وأحوال كنت منها أخشى على نفسي، وأحدّث بها شيخي الحبيب الحافظ العجيب الذّاكرة الّذي يحفظ من نظرة المتصوّف العابد الزّاهد المستجاب الدّعوة عبد الرّؤوف الرّمليّ -رضي الله عنه وأرضاه حيثما كان فوق الأرض أو تحتها- وكان يقول لي: اكتمها فأنت في بداية الطّريق! ونقلتها بعدُ لشيخي الحبيب الميزان نوفل -حفظه الله، ورعاه، وبارك فيه- فكان يعيدني إلى التّوسّط حتّى لا أفرِط-؛ وكان يقول لي: إن شعرت بنفسك مرتقياً فانزل، وإن شعرت بنفسك نازلاً فارتق.
أقول لك أخانا رجائي: لو حدّثتك عن تلك الرّؤى والأحوال؛ لربّما عجبت، أو لاستهجنت، أو لما صدّقت إلا أن تراني صادقاً؛ وليتها بقيت؛ ولكن... نموت وفي أنفسنا شيء من "لكن" هذه، مثلها مثل "حتّى" عند سيبويه.
وهذا كلّه في الماضي؛ أمّا الآن فقد ساءت الأحوال .. وأستغفر الله الكبير المتعال.
وبعد الغزّاليّ الحجّة وصلنا عند الغزاليّ التّحفة وبعدها بدأنا نحدّد من نقرأ وماذا نقرأ.
أو أقول لك: لا وقت لدينا إلا أن نقرأ -ابتسامة- فهذه لها مكانها الآخر بها.
أعتذر لك -رجائي- ولكم -أحبّائي- إن خرجت، وسامحوني إن تجاوزت، وأستغفر الله؛ قبل، وخلال، وبعد ما ذكرت.
فّإنّما هي ذكريات؛ إن ... فــَـ ...؛ وإلا فــَـ ....
سبحانك اللهمّ وبحمدك .. أشهد ألا إله إلا أنت .. أستغفرك وأتوب إليك ..
وصلّى الله على حبيبنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم