ماذا تعرف عن المحظرة في موريتانيا

إنضم
05/02/2006
المشاركات
485
مستوى التفاعل
4
النقاط
18
ماذا تعرف عن المحظرة في موريتانيا

كلمة المحظرة قد تبدو علينا غريبة في المشرق وقد لا يعرف معناها الكثيرون أحببت تسليط الأضواء عليها وعلى معناها وعلى دورها في التعليم في منطقة موريتانيا
وإليكم هذه المقدمة منقولة من أرشيفي :

المحظرة وإشعاعها المعرفي :

إذا كانت البادية ربيبة الجهل والتخلف ونقيض الحضارة والمدنية فإن ظاهرة المحظرة الموريتانية التي نشأت في أحضان مجتمع بدوي، وعرفت ازدهارا ضاهي مؤسسات إسلامية ثقافية عريقة مثل الجامع الأزهري والقرويين جديرة بالدراسة، وبرهان ساطع على نسبية الأحكام.

وإن المحظرة الموريتانية مؤسسة طريفة حقا، فاللوح الخشبي وقلم السيال والحبر المصنوع من مشتقات معدنية محلية كلها أدوات بسيطة، وأصيلة قضت بها عبقرية الموريتاني على دياجير الجهل، وحققت بها ما حققته كبريات المدارس الإسلامية بما امتلكت من وسائل علمية متطورة حينها، وإذا كان طالب العلم في المشرق وحتى في بعض مناطق المغرب العربي يتخصص في فن معين فإن المحظري الموريتاني يأخذ من كل فن بطرف ليصبح موسوعة معارف، وكأن لسان حاله ينشد:

من كل فن تعلم تبلغ الأملا ......ولا يكن لك علم واحد شغلا

فالنحل لما رعت من كل يانعة .....أبدت لنا النيرين الشهد و العسلا

ومع ذلك فإن بعض المحظريين قد يكون أكثر شغفا بفن معين مما يجعله أكثر خبرة وشهرة في ذلك الفن.

وقد تميز أبناء المحظرة بالقدرة الفائقة على الحفظ والتذكر اذ لا يخرج الطالب المحظري إلا بعد حفظ أمهات المتون المعروفة في الثقافة العربية والإسلامية ، ويدل الإنتاج الثقافي الضخم الذي خلفه علماؤنا الأجلاء والذي شمل كافة مناحي الثقافة العربية والإسلامية وحتى العلوم البحتة من طب، وفلك، وحساب، وجغرافيا على مدى الازدهار الذي وصلت إليه المحظرة الشنقيطية .

وقد اشتهر أبناء المحظرة الموريتانية في المشرق وفي بلاد المغرب العربي بسعة العلم والذكاء مما جعلهم يتصدرون هنالك للفتوى، ومع كثرة الأسماء فإننا لا يمكن أن نذكر المحظرة إلا ونتذكر بكل اعتزاز وفخر أعلاما مثل:لمجيدري بن حبل ، سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، محمد يحيى الولاتي، محمد محمود بن اتلاميد، أحمد الأمين الشنقيطي ، الشيخ آب بن أخطور، أبناء ميابه، وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم.

كما أن النضهة الأدبية التي عرفتها هذه البلاد وكان القرن الثالث عشر الهجري قرنها الذهبي ليست إلا احدى حسنات المحظرة، فالأسماء الشعرية المعروفة في موريتانيا وإلى اليوم إنما نشأت وترعرت في حضن المحظرة ومنها أخذت مادتها الثقافية وفصاحتها ولسانها العربي الأصيل.

وبفضل هذا الصرح الحضاري المتميز أنتشر الإسلام وتمدد إلى تخوم الغابة الإفريقية، وأوروبا عبر الأندلس وبقدر ما أنتشر الإسلام بقدر ما انشرت اللغة العربية.

ولم يعرف تأثير المحظرة في إفريقيا أي نوع من أنواع العنف وإنما كانت ثقافة الحوار والانفتاح والاستجابة الطوعية هي التي طبعت نوعية التأثير في شتى امتداداته الإشعاعية.

والموضوع مفتوح لسادتنا الشناقطة أمثال الشيخ محمود الشنقيطي والشيخ الجكني وغيرهم من أفاضل المنتدى
فهم ابناء بجدتها والجديرون بالحديث عنها
 
وبينما يستعد شيوخنا الشناقطة شي وخ المنتدى للحديث أقدم بين يديهم هذه الكلمة وهي طويلة لكن فيها فوائد تضرب لها أكباد الإبل

[frame="1 80"]كلمة العلامة الشيخ محمد فال (اباه)بن عبد الله شيخ محظرة النباغية[/frame]

هذه كلمة العلامة الشيخ محمد فال (اباه)بن عبد الله شيخ محظرة النباغية حفظه الله, في اللقاء الذي نظمته مؤسسة الشيخ سديا حول حياة العلامة بابه رحمه الله في مدينة أبي تلميت. وقد ألقاها نياية عنه الأديب الفقيه الصالح الزاهد الأستاذ محمد سعيد بن محمدي بن بدي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه ورسوله محمد خاتم النبئين وسلم الشيخ سيدي بابه: حياته العلمية وآراؤه التجديدية

بقلم اباه بن عبد الله 1. مقدمة:

إنّ من دُعي للكلام على رجل ممن يوزن بألف متعددِ النواحي كثيرِ التخصصات. حياته كلها مملوءة الفراغ سنين وشهورا وأياما، تتجاذبه اهتماماته المتعددة من حقوق الله تعلى وحقوق عباده مجتهدا في أن لا يقصر في شيء من ذلك جُهده ُولد مفطورا على هذا مهيئا له سليقة مثل الشيخ سيدي بابه. إنه ليحتار من أين يبدأ، وأي فنٍ منه يقرأ، وأي باب منه يقرع، أمن علمه؟ فهو العالم المجتهد والناظر الناقل المتبصر. أمن تجديده وإصلاحه؟وهو المجدد المصلح المحيي للسنة بعد غربتها والداعي لها وقت خفوت صوت دعائها. أم قيادته الحكيمة وتسييره للمصالح العامة مذ عقدت يداه إزاره بعد وفاة أبيه وجده؟ أمن أدبه وظرفه في شعره ونثره؟ إلى كذا وكذا من الخصال الحميدة التي كلما أخذت في الحديث عن واحدة منها استهوتك الأخرى وجذبتك إليها جذبا حتى يتعسر عليك التزام وَحدة الموضوع دون أن تأتي منه بما يكتفي به السامع والقارئ لاتساعه وتشعبه.

. تكاثرت الظباء عـلى خـداش* فما يـدري خداش مـا يـصيد

ولا بأس بذلك فكلها فوائد يأخذ منها الكاتب بما اتفق له بقدر وسعه العلمي والفكري وإذا كان كذلك فأقول:

يعتبر الشيخ سيدي بابه بن الشيخ سيدي محمد أبرزَ شخصيةٍٍ ظهرت في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل الرابع، تملأ الدلو إلى عقد الكَرَب صيتا وذِكرا حسنا في مجالات شتى. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل: شُهْرَةُ الشيخ سيدي الجد علما وعملا، وصلاحا وزعامة دينية حكيمة، شاملة لجميع نواحي البلاد. بحيث يعتبر أكبر مُصلح بما لكلمة "الإصلاح" من معنى: إصلاحِ ذات البين بين الأمراء فيما بينهم إن تشاجروا، وقامت الحرب بينهم على ساق، والإصلاحِ بين القبائل المتناحرة، والإصلاحِ بين الأفراد المتنافرة، وإصلاحِ النفوس ورياضتها لتنقاد لأمر ربها امتثالا واجتنابا، إلى نشر العلم والفتوى في النوازل النازلة، والتآليف البديعة والنصائح القيمة، إلى دماثة خُلق وتحمل مشقة، عُرفَ بهما في رحلته الطويلة في طلب العلم، إلى نُصرة المظلوم وإعانة المنكوب، والصبر على جفاء الجافي ودفعه بالتي هي أحسن. بحيث صار حرما آمنا يلجأ إليه الخائف ويفر إليه الجاني، متعززا بتقوى الله مكتفيا به عما سواه. ويقال من خاف الله خافه كلُّ شيء. حتى صارت سِِمَتُهُ على المواشي أمانا لها من اللصوص الناهبين، فصار بعض الناس يضعها على مواشيه خوفا عليها. وفي هذا يقول العالم الشاعر أبَّدَّ بن محمود العلوي يخاطب بابه بن الشيخ سيدي محمد: أنسى الورى بُلدانَهم وغدت لهم من لم يَخُطّ البا بلوح خَطّــهِ

بُلـدانُه سَلْمَى البلاد ومَنْعِجَا يمنى التَّلِيلِ تحصنا مما فَجَا

ولقد أجاد سيدي عبد الله ولد أحمد دام الحسني في قصيدته التي يمدح بها الشيخ سيديا الكبير حيث يقول: لا يُظهر الضجْر من جار أساء ولا ولا يضيقُ ذراعا بالذي صَنَعَتْ وكم ثأًى بيـنَ ما حَيَّيْـن أصلحه

من المُرافِقِ يُوهِي صَبْرَ من صَحِبَهْ أيدي الحوادث تَبتـزُّ الفتى سَلَبَـهْ خَرْزَ الصَّنَـاعِ لمُسْنِي أُجرةٍ قِرَبَه

إلى قوله وطلعةُ الوجـه للعافي تهلُّلُهـا

تَهَلُّلُ الأم تـاتي بنتها الخَطَبَهْ

إلى غير ذلك. وأبوه الشيخ سيد محمد العالم العامل الناسك، المُخبت والشاعر المُفْلق والخليفة الكفؤ. فنشأ بابه في هذا الجو العلمي الديني والشرف الرفيع مهيأ لخلافة الأبوين، فكان كما قال زهير بن أبي سُلْمَى المُزَنِي في هرم ابن سنان المري: يطلب شأو امْرَأيْنِ قَدَّما حَسَناً هو الجوادُ فإن يلحقْ بشأوهما أو يسبقاه على ما كان من مَهَلٍ

نالا الملوك وبَـذَّا هذه السُّوَقا عـلى تكاليفـه فمِثلُه لحِقـا فمِثْلُ ما قدَّما من صالح سبقا

وقوله في أبيه سنان بن أبي حارثة: فما كان من خير أتوْه فإنما وهلْ يُنْبِتُ الخَطِّيَ إلا وشيجُهُ

توارثه آبـاء آبائِهِــمْ قبلُ وتُغْرَسُ إلاَّ في منابتها النخل

لكن بابه لم يكتف بهذا الشرف التالد الموروث، دون الشرف الطارف المكسوب، منشدا حاله قول القائل:

إنا وإن أحسابُنـا كـرُمــت نبني كما كانت أوائلنــــا

لسنا على الأحساب نتكــل تبني ونفعـل مثلَ ما فعـلوا

بل بنى وفعل مثل ما بنت وفعلت آباؤه، كما قيل في رثائه: ولم يرضَ إلا أن يَسودَ بنفسِه قدَ اتْعَبَ نفسا بالغُـدُوِّ لنيلـه ففاتهمُ إذ يركَـنون لراحــة

فليس بمجدِ الغير سادَ عِصام وأسهرَ عينا والرجالُ نيــامُ وقاد جموعَ الشِّيبِ وهو غلام

زيادة على علمه الواسع الغزير، وزعامته للقبائل المحيطة به، واهتمامه بهذا القطر أجمع، وبُعْدِ غَوْرِ عقله وجودةِ رأيه وتبصره في الأمور، وحزمه وشدة شكيمته في الحق وسياسته المعتدلة، لا تَهَوُّرَ ولا تأخُّرَ، إلى أدبٍ لطيفٍ وورعٍ حاجزٍ ونسكٍ عربيٍ وتحكيمٍ للسنة وإتباعٍ لها، وعرضِ المعلومات المأخوذات عن الشيوخ الأجلاء على أدلة الكتاب والسنة والقواعد الشرعية قبولا وردا، وشجاعة على الخروج عن المألوف أو الرأي الموروث، إن ظهر له فيه تَحَرُّفٌ أو تَحيزٌ، مع أدب مع الجميع وإنصاف. كل هذه عوامل تجسدت في بابه وانسجمت في سلوكه وتصرفاته بلا تناقض ولا تنافر، فكأنها خصلة واحدة مركبة من خصال، يخدم بعضها بعضا. فكان دعوةَ أبيه مخاطبا أباهُ من قصيدته المشهورة: وأن يبارك لكم في العقب

منكم فيَحْظى بثباتِ العقب

وحيث إنّ كل جانب من هذه الجوانب المتعددة لو أرسلَ الكاتب فيه عنان قلمه كان مُجلدا، أردت أن أركز هنا أكثر على جانبه العلمي، لأكتب عنه كلماتٍ يسيرةً من باب "لازمِ الفائدة"، لأن الجوانب الأخرى كلُّها صادرةٌ عن علمه ونابعةٌ منه فأقول:

2. حياته العلمية: حفظ القرآن وهو دون عشر سنين، ثم أكب على طلب العلم وأخذه من علماء تلامذة أبويه مع ذكاء خارق وجدٍ، لا يعرف الراحة: وإذا كانت النفـوس كبـــارا

تعبت في مرادها الأجســـام

ثم نظر لنفسه واستجلب الكتب النادرة من قاصي البلدان ودانيها شراءا واستنساخا ونحوهما، زيادة على خزانة جده الضخمة التي أتى بأكثرها من المغرب، وفيها يقول بعض معاصريه: أتيتَ بكُتْبٍ يُعْجِزُ العيسَ حَمْلُها

وعندكَ عِلْم لا تحيط به الكتُب

وأقبل بابه على المطالعة من غير فتور. أخبرني بعض العلماء راويا عنه، أنه قال له من جملة ما حدثه به: أنه أُعْطِيَ سرعة فائقة في مطالعة الكتب، وأن سرعته في تقليب الأوراق تفوق سرعته في أي عمل... إلى أخر ما حدثني. ولما كثرت كتبه بنى لها دارا لصيانتها، والناس إذ ذاك في هذه البلاد بدوٌ لا يضعون لبنة على لبنة. وقيل في رثائه مشيرا لهذه الدار: وحَقَّ لكُتْبِ الطبع فيضُ دموعِها فقد شاد حول البيت صرحا مُمردا

وتبكي طـروسٌ سُطِّرَت وقِـلامُ لها إذ غدت عنهـا تضيق خيـام

ويقول بابه نفسه في ذلك: بوركتِ يا دارَ كُتْبِ العلم من دار ودام مجدُك محفوظا سـرادقُــه ولا تَزَل نِعَـمُ الرحمن مقبلــةً ونلتِ فتحـا مبينـا غـير منقطعٍ وكان أهـلُك دوما كـلَّ متبــعٍ لا يصرفُ العمرَ في لهو ولا لعب طورا إلى أحرفِ القرآن وِجهته وتارة يَنتحي ما جاء من سُنَـنٍ إلى أصول إلى فـقه إلى سَنَـنٍ إلى فنون من الآلات مُظهــرةٍ ألفى بمغناه ما يَبْغيـه من أربٍ فالحمد لله في بـدء ومختتــم

وجاد أرضَك غادي المزن أو ساري طولَ الزمان من المولى بأسـوار إليك غيرَ مَشـوبات بأكــــدار في العلم زِينَ من التقــوى بأثمار نهـجَ الرسـول بإيـراد وإصـدار بـل فـي علوم وآداب وأذكــار وما تضمـن مـن معنـى وأسرار عـن الـثـقات وأخـبار وآثـار من التصـوف لم يوصف بإنكـار من المقاصـد مســتورا بأستـار فَقَرّ عينـا بفضـلِ الخالق البـاري والحمد لله فـي جــهر وإسـرار

وقد كان يفرح بطبع الكتب النادرة فرح الصديق بلقاء صديقه بعد طول الفراق، ويقول في ذلك الأشعار الرقيقة المشعرة بالعاطفة الصادقة والاغتباط التام، غير ناسٍ مع ذلك أن شهوةَ العلم العارمةَ لا ينبغي أن تُنسيَّ صاحبها أن العلم وسيلةٌ وثمرتُه التقوى، فإذا لم تصحبه الخشية فهو على صاحبه لا له. من ذلك قوله عندما طَبَعَ مَلِكُ المغرب الأقصى مولاي عبدُ الحفيظ بن مولاي الحسن العلوي، على نفقته "منتقى" أبي الوليد الباجي على الموطأ، وأتته منه نسخة، ولم يبلغني أنه دخل البلاد قبل ذلك: حبيب وفي منه الزمان بمُلتقى وساقٍ لبيبٌ لا يُمَلُّ حديثــه ومِرقاةُ علمٍ أمكنتنا ولم يكـن بنيل كتاب "المنتقى" غيرَ أنـه

ونِسرينُ روضٍ في البلاد تفتقا "سقانا على لُوح شرابا مُعتَّقـا" يسيرًا إليها في الأماكن مُرتقى نتيجةُ نَيْلِ المُنتقـى لمـن اتقى

ومن ذلك قوله، عندما طبع "إكمال الإكمال" للأبي على صحيح مسلم، وقد طبع بأمر من الملك عبد الحفيظ كذلك، وكان يوجد بعض أجزائه هنا على ندور. فيقول بابه مستجلبا له مستعجلا وصوله في شوق زائد، وظَرْفٍ حِجازي، وأدب راق: كفانا طوافَ الشرق والغرب للكُتْبِ جزاه إله العرش خـيرَ جزائــه خليلـيَّ بـ"الأُبي" عَجِّـل فإنـمـا وودّعْـه محفوظا إلينـا مُكـرمـا عَذرناك في نُجْبِ الـرياح فأعملنْ

سليمانُ ذو الإحسان في الشرق والغرب وبارك فيـه من فتى مـاجـدٍ نــدب نعـالج أدواء المَشـــوق إلـى الأبي وإن كان تـوديعُ الحبيب من الصعب من الفُـلْكِ في تعجيلــه أحدَ الـنُّجْب

حتى إنه يغتبط بالكتب الحديثة التصنيف ممن هو من أقرانه، كـ"ثمان الدرر" في شرح المختصر الخليلي للشيخ الجليل بن الشيخ الجليل عبد القادر بن محمد بن محمد سالم، وينوه به وبمؤلفه. وفيه يقول من قصيدة: به بُـرءُ العلـيل وما نُرجـي عميمٌ نفعُـه في كـل قطــر يُقَرِّبُ مـا تباعـد من مَـرامٍ جليسٌ لا يُمَـلُّ ولا نِـــدامٌ تطيب عـلى مُسامِرِهِ الليالـي قَبول الناس في كـل النواحي

- هَـداكَ الله - من برء العليل لذي الفهـم الحديـد وللكليل بــسهل اللفظ والسبْك الجميل لمالكٍ النديـم ولا عقيـــل وتَعْذُبُ منه ساعاتُ المقـيل له مما يبشــر بالقبول... إلخ

ويقول في تقريظه "نزهة الأفكار شرح قرة الأبصار" للشيخ عبد القادر بن محمد المذكور، من قصيدة: نُزْهَةُ الفِكر والنواظر إن رُمـْــ قُرّةُ الأبصار اقْتَرَتْها فجاءت وغَدت أوْجُهُ المسـائل منها أحكمته صِناعة الحبر عبد الـــ بحرُ علمٍ حوى جواهر منها هِبَةٌ من مواهب الله للجهـــــ لك في عَرْفِهِ الـذكي اكتفاءٌ

ـت سلوًا في نُزْهَةِ الأفكار قُرَّةً للأَبْصَار والإِبصــــار وسطهـا قـد بَـدَوْنَ للنُّظـارِ قادر اللوذعيِّ ذي الأنـــوار عاطـلٌ جُلُّ هـذه الأسفـــار ـل شفاءٌ عــنوانُ فـتحِ الباري عــن نسيمِ الرياض بالأسـحار

هذه نماذج وأمثلة تدل على مدى شغف بابه بالكتب في أي فن ألّفت، وعلى يد من صدرت، وتشجيعه لمؤلفيها وناشريها.

3. صلاته ببعض معاصريه من العلماء: ومثل ذلك صلاته بمعاصريه من كبار العلماء والثناء عليهم في مؤلفاته وأشعاره ومجالسه المأثورة مما لا يتسع الوقت لذكره، وإنما نذكر في كل فصل ما يدل على باقيه. من ذلك قوله في شيخ الجماعة مُلحق الأحفاد بالأجداد: يُحْظِيهِ بن عبد الودود: أَحْظى الذي جلَّ عن شركٍ وتشبيه يرضى به الناس في أيامـه خلفا يا رُبَّ جَوْهَـرِ علـم ظـل يُنْفِقُه يُبْدي عَويصاتِه في الدرس بَيِّنَـةً لولا هُداه بتلك التِّيـهِ ما خـرجتْ في مجلـس نفع اللهُ الأنـامَ بـه دعا إليه أولي الألباب مجتهــدا ما إنْ تَصَدّرَِ بالتمويه صاحبُــه فبارك الله في أيـامـه وحــمى أهـلا بمقدمه الميمون طائــرُه كنا نرجيـه مذْ حيـن ونأمُلُـه

بالعلم والأدب المختار "يُحْظِيـهِ" من سيـبويـه مُصافيـه وشـانيه في الآخذيـن له لم يُغْمَضُـوا فيـه كأن كل عويـصٍ مـن مباديـه منه الهُـداة إلى حيــنٍ من التِّيه سيان عاكفُــه فـيـه وبـاديـه لسانُ صدقٍ فَـلَبَّوْا صَوْتَ دَاعيه وإن تصـدر أقـوام بتمويـــه من المكاره من يحـويه نـاديـه والـرحبُ والبِشرُ والتكريم لاقـيه والحمــد لله مُعطي ما نرجيـه

ومن ذلك قوله، مخاطبا العلامة القاضي العدل محمد مختار ساخو، قاضي (بوكى): قاضي الجنان قضى بلا إنكـار المكتسي حُلَلَ الثناء من الورى يقفو سبيل الصالحين وهديهـم من حيث دار الحق دار ولا ترى أخلاقه بِيضا خُلِقْــن ولم يكـن إن المكارم حيث كـن مواهبٌ زاد الإلـه سموه ومقـامـــه وأثابه نصرا عزيزا دائمــــا مـن كـان مثل محمـدٍ مختارِ والـوِدِّ إِيـذانـا بِحُبِّ الباري أبدا لدى الإيــراد والإصدار حكما له جَوْراً على دَيـَّــار بسوادِ لــونٍ مهـذَّبٍٍ من عـار قُسِمَتْ عـلى الأقوام عن مقـدار وحباه ما يــرجو مـن الأوطار فــي داره هـذي وتلك الدار

وقد خاطب الشيخَ أحمد بنب بن حبيب الله، بعدة قطع وقصائد رائعة، وخاطب الشيخ سعد أبيه مجيبا له، وله أشعار أخرى في تضرعات وابتهالات، ووصف ومدح لبعض الأدباء من جلسائه، وكله جيد يأتي عفوا. لأنه كما قيل لا يعطيه من وقته الثمين إلا لحظات، فيأتي ابْنَ ساعته عفوا سهلا مُمْتنعا لا تَكَلُّف فيه. ولم لا يكون كذلك وأبوه الشيخ سيدي محمد الشاعر المُفلق المشهور، وجده الشيخ سيديا الشاعر الفحل الذي يغرف من بحر وينحت من صخر؟ وكان له مجلس علميٌ يضم جماعة من كبار علماء وقته، يتطارحون فيه المسائل ويبحثون في القضايا النازلة، وربما في أحكام بعض القضاة إذا احتيج للنظر فيها. وكانت أوقاته مقسومة بين إقامة فرائضه التي يبالغ في الاحتياط فيما تبرأ به الذمة ويخرج به من العهدة، ويحصل به الكمال في الصلاة، فرائض وسننا وآدابا، يطيل في المواضع التي يسن فيها التطويل، لأنه يرى أن التخفيف الذي تؤمر به الأئمة نسبي لا يمكن ضبطه إلا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما هو مذهب المحققين لا كما يقول المتأخرون من الفقهاء المُقَلِّدة. هذا مع إدامة النوافل والسعي في مصالح المسلمين والشفاعة الحسنة فيهم عند الحكام، واستقبال الوفود القادمة، وتفقد أحوال المتعلقين به في دنياهم ودينهم، والقيام بحقوقهم كل بنسبة ما يحاول، وإدمانِ المطالعة من غير مللٍ ولا فتورٍ ليلا ونهارا، قليلُ النوم ليلا، وقيل إنه لم ير مضطجعا نهارا. وأُعْطيُ في كل هذا قوة لا تتأتى لغيره. وتُثمرُ هذه المطالعة إفاداتٍ، وزياداتٍ، وتحقيقاتٍ تُتْحَفُ بها جلساؤه فلا يفترقون إلا عن ذَوَاقٍ، ربما تكون أنفع لطالب العلم وأسرع في التحصيل، وأجمع للشوارد النَّادَةِ التي لا تتاح إلا للراسخين في العلم المستنبطين للعلم من منبعه الأصلي: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أقول: ربما تكون أنفع من الاشتغال بالمتون المختصرة حفظا وفهما وأقرب إلى منهجية أخذ العلم زمان النبوءة، وإن كان الاشتغال بالمتون أيضا مهما نافعا لا يستغنى عنه. وقد نظم مسائل من فنون مختلفة من السِّيَرِ والفقه واللغة ....الخ، كنظمه لأهل الصفة من فقراء المهاجرين نظما حسنا، وقد استوفاهم الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء، وعدهم عدا "74"، ونظمٍ في أحكام خِطْبَةِ المسلم على خِطْبَة أخيه، ونظمٍ في حُكمِ السجود باعتبار المحل المسجود عليه من جواز وكراهة وندب، ونظمٍ في أسماء الله الحسنى، ونظمٍ في أقسام "لا" النافية وأحكامها. وله رسالة في سُنيةِ القبض في الصلاة، وأخرى في الطهارة، إلى غير ذلك. وتأليفه في أخبار إدوعيش ومشظوف مملوء فقها وأدبا وظرافة، حتى إنه يأتي ببعض الشعر الحساني وما يناسبه في موضوعه من الشعر العربي، وهو موضوع طريف لم يُسبق له فيما علمتُ، يربط بين الأدب الشعبي والأدب العربي، لو وُجِدَ من يبني عليه ويثريه لكان غاية في الطرافة.

4. رأيه في التصوف: كان يقول في نثره ونظمه، إن التصوف علم وعمل وإخلاص ويحذر مما يخالف ذلك. وقال في ذلك: حقيقـةُ الصوفـي عنـد القوم العالمُ العـاملُ بالإخـــلاص والشيخُ في هذا الزمان الحاضر "يصحب شيخا عارف المسالك

أَهْلِ الصفاءِ مِنْ دواعي اللـوم لا غيـرُ يا مبتـغيَ الخـلاص ليس كما تسمع في ابن عاشـر يقيـه في طـريقـه المهـالك"

وهكذا يشير إلى قلة الصادقين في هذه الأزمنة، وله في ذلك قطع مشهورة محفوظة.ولم يزل المحققون من الصوفية يَحُطّونَ على المنحرفين من المنتسبين إلى طريق القوم من غير التزام مذهبهم، حتى حمل القشيريَّ في رسالته على إنشاد قول القائل: أمـا الخيام فإنــها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها

وقال زروق: "أما الآن فلا خيام ولا نساء". وقد بسط الكلامَ في ذلك في كتبه كـ"النصح الأنفع"، و"عدة المريد الصادق"، وتعرض لطرف منه في "القواعد"، وقبله ابن الجوزي، وابن الحاج في "المدخل"، وأبو إسحاق الشاطبي، وغيرهم ممن لا يحصيهم إلا الله تعالى. وكان بابه يسلك في نصحه وسده ذريعة الفساد، مسلك الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، من غير مداهنة ولا تنفير، شأنُ المصلح الحكيم. يُقرظ حال المستقيم المعتدل، ويُنَفِّر من المائل المنحرف، ويجمل في ذلك ولا يعين. ومنه قوله: الشيخ لــفظٌ وَحْدَهُ لا يُجْدِي وإِنــَما التّقْوى مِـلاكُ المجدِ أمـا سمعت الشيخَ قبل النجدي وقال في قطعته المتقدمة في دار الكتب، وعَدّ ما يُدْرَسُ فيها من العلوم النافعة: إلى أصول إلى فقه إلى سَنَن

من التصوف لم يوصف بإنكار

وقد حرر الشيخ بابه مسائل مهمة جدا مما يتعلق بالعقيدة والقراءة والفروع، كانت مثار جدل في القديم والحديث، ونظم في بعضها أنظاما كتب عليها أنقالا محررة مُتَنَزِّلَةً على محل النزاع، حازّةًً في المفصل، مَعْزُوة لمصادرها من الكتب المعتمدة عند الجميع، فكانت تلك الأنقال كالشروح لها تبيينا وتوثيقا.

5. موقفه من المتشابه: منها مسألة التفويض والتأويل في المتشابه من آيات الصفات وأحاديثها. ولا يخفي أن الكل متفقون أن الله جل وعلا منزه عن سمات الحدوث، وأنه ليس كمثله شيء، وقد وردت آيات وأحاديثُ توهم التشبيه مما عُلِمَ مدلوله لغة وجُهِلَ كيفية اتصافه به جل وعلا. فقد اشتهر فيه مذهبان: مذهب السلف وهو إمْرَارُهُ كما ورد، والتفويض فيه إلى الله أي بأن نؤمن به على مراد الله تعالى مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة المخلوقات. وهذا هو مذهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم من القرون الفاضلة، وعلى ذلك المحققون من الخَلَفِ. إذ لم يكلفنا الله تعالى بمعرفة مراده منه، ولو كان واجبا لبَيَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم كما بَيَّنَ غيرَهُ، ولسأله عنه الصحابة كما سألوه عن غيره. ومذهب الخلف أي بعضِِهِم تأويله بلائق به جل وعلا ويقولون إن السكوت عنه مُوهم للعوام وتُنْبِيهٌ للجهلة مع عدم إنكارهم للتفويض، واعترافهم أنه أسلم. والتأويل هو مذهبُ أبي الحسن الأشعري الوسطُ بعد خروجه عن مذهب الاعتزال. والأول هو مذهبه الأخير الذي رجع إليه في آخر عمره، ورجع إليه الباقلاني وإمام الحرمين. وحكى الإجماعَ على منع التأويل الغزالي والفخر الرازي وغيرهم كثير. وقد نظم بابه في هذا نظما مُبينا أن الراجح من المذهبين هو التفويض بل هو المتعين الذي لا يجوز غيره، لأن المؤول ليس على يقين من مطابقة ما أَوّلَ به لمراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد يكون مُعَطِّلا بنفيِ صفة أثبتها الله تعالى لنفسه، لا سيما والمصيب في العقيدة واحد اتفاقا بين المُخَطّئَةِ والمُصَوِّبَةِ، والمُخطئُ فيها غير معذور، لا يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه. فقال: ما أوْهـَمَ التّشْبِيــهَ مـن آيات فَـهْوَ صِفاتٌ وُصِفَ الرّحمــنُ ثُـم على ظــاهرها نُبقــيها قـال بذا الثلاثــة الــقرونُ وَهْوَ الذي يَنْصُرُه القــرآن وكم رآه من إمـام مـرتضى ومن أجـاز منـــهم التاويـلا والحقُّ أن مـن أصاب واحـدْ ووافقَ النصَ وإجــماعََ السلفْ ومـن تَــأوّل فــقد تَـكلفا وفي الذي هـربَ منه قـد وقعْ حتى حكى في منعه الإجماعــا وقـد نََمَاهُ بعـض أهــل العلم فاشدُدْ يــديك أيها الـمُحِــقُّ

وفي أحاديثَ عـن الثِّقــــاتِ بها وواجبٌ بهـا الإيمــــانُ ونََحْـذَرُ التأويــل والتشبيهــا والخـير بإتباعــهم مقـرونُ والسُّــنََنُ الصّحـاحُ والحسـانُ مـن الخـلائق بنـاظر الرضـا لم يُنكــروا ذا المذهب الأصيلا لاسيمـا إن كان في العقـــائدْ وكيف لا يَتْبَـعُ هذا مـن عرفْ وغـيرَ ماله به عِــلـمٌ قفــا وبعضهم عن قوله بـه رجــعْ وجَعَــلَ اجتــنابه اتِّــباعا مـن الأكابر لحــزب جَــهْمِ على الذي سمعت فــهو حَـقُّ

ونقلَ بابه عليه كلام البغوي في شرح السنة، عازيا لسفيان بن عيينة: كُلُّ ما وَصفَ الله سبحانه وتعالى به نفسَه في كتابه فتفسيرُه قراءتُه والسكوتُ عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا اللهُ عز وجل ورسولهُ، وقَوْلَ مالك في الإستواء، وقولَ الأوزاعي وابن عيينة ومالك في أحاديث الصفات "أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف". وقولَ ابن حجر في فتح الباري: "ومعنى الإمْرَارِ عدمُ العلم بالمراد منه، مع اعتقاد التنزيه"، ثم نَقَلَ كلاما نفيسا للفخر الرازي بواسطة السيوطي في الإتقان، وكلامَ الترمذي في بابِ ما جاء في خلود أهل النار. وعزوه لابن المبارك ووكيع وغيرهما قالوا: "تُرْوى هذه الأحاديثُ ولا يُقال كيفَ". وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروى هذه الأشياءُ كما جاءت ويُؤمن بها ولا تُفَسَّرُ ولا تُتََوَّهَمُ ولا يقال كيف. وهذا أمرُ أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه. ونَقَلَ كلامَ إمام الحرمين ورجوعَهُ عن التأويل في الرسالة النِّظامية، ونقَلَ إجماعَ السلف على منعِهِ، ثم كلامَ ابن الصَّلاحِ في أن التفويض هو الذي مضى عليه صَدْرُ هذه الأمة، وأنه لا أحَدَ من المتكلمين يأباه، وكلامَ الخازنِ في تفسيره عند قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة الآية: "وللعلماء في آيات الصفات وأحاديثها مذهبان: أحدهما مذهبُ سَلِفِ هذه الأمة وأعلامِ السُّنة الإيمانُ والتسليمُ لما جاء فيها، وأنه يجب الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت، ونَكِلُ عِلْمَها إلى الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم مع الإيمان والاعتقاد بأن الله مُنَزّهٌ عن سِماتِ الحدوثِ" إلى آخر أنقالِه الغزيرةِ. وقد تَطَرّقَ فيه إلى فوائدَ وزوائدَ كالخلاف في تكفير أهل الأهواءِ وغيرِ ذلك، فأشْبَعَ المسألة بحثا ونقلا لا يبقى بعده للمُنْصِفِ تَردُّدٌ في أن التفويض هو الصواب. فـاشدُدْ يــديك أيها المُحِقُّ عـلى الذي سمعت فهو حـقُّ

وقوله: ثم على ظاهرها نبقيها... إلى أخر النظم، وما في أنقاله الغزيرة من وجوبِ الإبقاء على الظاهر لا ينافيه قول المَقَّري في الإضاءة: والنصُّ إن أوْهَمَ غـير اللائقِِ فاصْرِفْهُ عنْ ظاهرهِ إجماعــا بِالله كـالتّشبيــهِ بالخلائـق واقْطَعْ عَـنِ المُمْتَنِعِ الأطْمَاعَا

لأنّ مُرادَ المقَّري بالظاهر الذي يصرف عنه إجماعا ظاهرٌ يقتضي التشبيهَ، وهذا مما لا خلافَ فيه بين المُفَوِّضَةِ والمُؤَوِّلَةِ. والظاهرُ الذي نبقيه عليه في البيت وأنقاله إبْقاءُ اللفظ بأن نؤمن به كما ورد، ونَكِلُ علم معناه إلى الله تعالى من غير تشبيه ولا تفسير.

6. موقفه من علم الكلام: ومنها مسألة علم الكلام الذي تباينت فيه الأنظار، فمن قائل بتحريم الاشتغال به وحكى إجماع السلف على تحريمه، لما فيه من تقرير الشُّبَهِ بأقوال الفلاسفة وردِّها بها. وقد شَدَّدَ فيه الشافعي وشنع على المشتغلين به. ومن قائل بوجوبه عينا، أو كفاية، أو ندبه، بناء على الخلاف في إيمان المُقَلِّدِ عندهم، ولأنه تتقرر به العقائد بأدلتها على مذهب أهل السنة....إلى آخر ما قالوا. وكان من قواعده المشهورة عندهم أن كُلَّ ما يتوقف الشّرْعُ عليه كالوجود، والقدم، والبقاء، ومخالفتِه للحوادث، والغنى والوحدانية على الأصح من الخلاف، وكالقدرة والإرادة والعلم والحياة، مُمْتَنِعٌ إثْباتُهُ بدليل السمع أي لابد في إثباتِهِ من الدليل العقلي، لما يَلزم منه من الدور، وهو تَوَقُفُّ كِلاَ الأمرين على الآخَرِ وهو مُحال لاستلزامِهِ تَوَقف الشيء على نفسه. ووجْهُ لزومِ الدّوْرِ فيه عندَهم أن من ادعى الرسالة إذا أقام الخارقَ شاهِدا على صدقه، فلا يَدُلُّ صُدُورُ الخارقِ على يديه على صدقه إلا إذا تُحُقِّقَ أنّ هذا الخارقِ إنّما صَدَرَ من مُرْسِلِهِ ليكون مُطابقا لدعواه نازلا مَنْزِلَةَ قَوْلِ مُرْسِلِه: "صَدقْتَ فيما أخبرْتَ به عني"، فحينئذ يُتَحَقَّقُ تَصْديقُ مُرسِلِه له بهذا الخارقِ، وإذا لم يكن لنا عِلْمٌ باتصافِ مُرْسِلِه بالإرادة المُخَصِّصَةِ بهذا الخارق والقدرةِ التي أوْجَدَهُ بها وغير ذلك من الصفاتِ التي يَتوقف التأثير على ثبوتها لله تعالى لم يتم للرسول الاستدلالُ عليها بهذا الخارق، فإذا لم يكن لنا عِلْمٌ باتّصافِ مُرْسِلِه بهذه الصفات إلا من قََوْلِ الرسول لَزِمَ الدّورُ لأن تَحَقُّقَنا لصدقِه في كل ما أخبرَ به الذي من جُمْلَتِه اتصافُ مُرْسِلِه بهذه الصفات التي لا يتأتى له دون الاتصاف بها إيجادُ هذا الخارق، بل ولا إيجاد مُمْكِنٍ ما، مُتَوَقّفٌ على تحَقُّقَنا كَوْنَ الخارق فِعْلا لَمُرْسِلِه وتََحَقُّقُ كَوْنِ الخارق فعلا لمُرْسِلِه مُتَوَقِّفٌ على تحققنا أن مُرْسِلِه مُتّصِفٌ بهذه الصفات، وتَحَقُّقُنا اتِّصَافَهُ بهذه الصفات على هذا الفرض مُتَوَقِّفٌ على تَحَقُّقِنا لِصِدْقِهِ في كل ما أخبرَ به الذي من جملته اتصافُ مُرسلِه، فدار بعد ثلاث مراتبَ، لأنا إذا أثبتناها بقولِ الرسول فقد توقفَ ثبوتها على معرفتِنا لصدقِه، ومعرفتُنا لصدقِه مُتوقفةٌ على معرفةِ كَوْنِ شاهدِه الذي هو المعجزة فعلا لمُرسِلِه، ومعرفةُ كونِها فعلا لمُرسلِه مُتوقفةٌ على اتصاف مُرسلِه بهذه الصفات، ومعرفةُ اتصافِ مُرسله بهذه الصفات مُتوقفة على معرفةِ صِدقه - على هذا الفرض –فدار. وهو الذي أشار إليه المقّري بقوله: وكل مــــا لم يتوقف شرعُ وعَكسُــه مُمتنعٌ للـــدّوْرِ عليه فالدليل فيــه الســمعُ فاقطِفْ بأيدي العِلم أبهى النَّور

ونَظم الشيخ بابه أبياتا، ونَقل عليها أنقالا كالشرح لها في أن معجزة القرآن فيها كفايةٌ عما ادعوا لاكتفاء من أسْلمَ في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين بها، ولا دوْر فيها لأن الجهة مُنْفَكَّةٌ كما سيأتي بيانه. فقال: معـرفة الإعــجاز للقـرآن وعِلْــمَ ذلك البليغُ يَعْلَــمُ وغيـــرُه يَعـرفُ بالدليلِ هــذا الذي قد رجع الكلامُ تـكفيك مــن معرفة الإيمانِ ضَـرُورةً عَرَبُه والعَـجَــمُ إعجــازَهُ بعَجْزِ كُـلّ جـيلِ إليـه فاحفظَنْــهُ والســلامُ

ونقل على هذا كلامَ الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب التوحيد عازيا للبيهقي في كتاب الاعتقاد قال: "سلكَ بعضُ أئمتنا في إثبات الصانع وحدوثِ العالم طريقَ الاستدلال بالمعجزات، فإنها أصلٌ في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا الوجه وقع إيمانُ الذين استجابوا للرُّسُل". ثم ذكر قصةََ النجاشي، وقولَ جعفر بن أبي طالب: "بعثَ الله لنا رسولا نعرف صدقه، فدعانا إلى الله، وتلا علينا تنزيلا من الله لا يُشبهه شيء فصدقناه، وعرفنا أن الذي جاء به الحقُّ"... الحديثَ بطوله. قال البيهقي: "فاستدلوا بإعجاز القرآن على صدقِ النبي، فآمنوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من إثبات الصانع ووحدانيته وحدوثِ العالَمِ وغير ذلك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واكتفاءُ غالبِ من أسلمَ بمثلِ ذلك مشهورٌ، فوجبَ تصديقه في كل شيء ثَبَتَ عنه بطريق السمع، ولا يكون ذلك تقليدا بل هو اتباعٌ هـ". ثم جلب حديث البراء بن عازب الطويل في سؤال الملكين من مُسندِ أحمد، وقولَ البيضاوي في تفسيره عند قوله تعالى قال أو لو جئتك بشيء مُبين: "يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، والدلالةِ على صِدْقِ مُدّعي نبوته هـ"، وللفخر الرازي نحوٌ منه في مواضعَ من تفسيره، والزمخشري في الكشاف قائلا: "فلما تجاوبَ كُلُّهُ بلاغةً معجزةً فائتةً لقُوَى البلغاءِ، وتَنَاصُرَ صِحَّة معانٍ، وصِدْقَ أخبارٍ، عُلِمَ أنه ليسَ إلا مِن عندِ قادرٍ على ما لا يَقْدِرُ عليه غيرُه عالمٍ بما لا يَعلمُه سِواهُ هـ". ثم قال، بعد أنقالٍ كثيرةٍ، مُجيبا عن الدور المدعى عازيا لشرح جسوس على توحيد ابن عاشر، ناقلا من خطِ شيخه محمد بن زُكري الفاسي: "ليس المُقّلّدُ هُو التارِكَ للنظرِ في الأدلة العقلية خلافا لجمهور المتكلمين، وإنما هو التاركُ للنظر في ثبوتِ رسالة الرسول، كمن وُلِدَ بين ظهراني قوم مؤمنين، وسَمِعَ اسمَ النبي صلى الله عليه وسلم وفضْلَه على الجملة، ولم يخالط أهل العلم ولا من خالطهم، فلم يعرف معجزةً من المعجزات المُثْبِتَةِ للرسالة. وأما من ثَبَتَتْ عنده الرسالة بالمعجزات فاستنادُهُ إلى قول الرسول المتواترِ كافٍ في عقائده، بل هو أقْطَعُ من كل برهان ذكَرَه المتكلمون، فإن قيل هذا ظاهر في غير ما تتوقف عليه دلالة المعجزات على صدقِ الرسول، أما ما هو كالوجود والقدم والبقاء والغنى ومُصححات الفعل فلا للدّوْرِ. قُلتُ هو وإن ذكروه غيرُ ظاهرٍ، إذ المُتوقف على اتصافِ الفاعل للخارق بذلك هو وجودُ الخارق في نفسِ الأمر، لا دلالتُه على صدقِ الآتي به، فإن المشاهدين لانشقاق القمر مثلا يستفيدون من ذلك صِدْقَ المُتحدي به قطعا، وإن فرضنا أنهم غافلون عن اتصافِه تعالى بتلك الصفات غيرُ مستحضرين له. والمُتوقف على السمع العِلْمُ بتلك العقائد، فالجهةُ مُنْفَكّة. فإن قيل كان حاصلا عندهم، ولو سئلوا عن فاعل هذا الخارق هل هو قادر لقالوا نعم، ولا يلزم من عِلمٍ حضوره، قُلنا ذلك العلم مع صِدْقِ الرسول مستفادٌ من الخارق دَفعةً واحدةًًَ هـ". وعزا له ناقلا عن أبي جمرة والقشيري، والغزالي وابن عباد، وابن عطاء الله، وابن رشد، وابن حجر والقرطبي، أن النظرَ الواجبَ المُخْرِجَ من التقليد هو النظرُ في المعجزة التي ثَبتت بها الرسالة، إذ التقليد هو الأخذ بقول غير المعصوم بغير حجةٍ، وأما الأخذ بقول المعصوم فهو أقوى الحجج. ثم عزا انفكاك الجهة في الدوْر المُدعى لابن كيران في شرح توحيد ابن عاشر نحوَ ما نقل عن ابن زكري قال: "والخروج من التقليد على هذا في غاية السهولة، وحاصلٌ لعوام المسلمين، ومِثْلُهُ للأمير في شَرحِ الجوهرة وزاد قائلا: لو صحّ هذا الدور للزم بالأولى في الدليل العقلي، فإنه بنفسه والنظرِ فيه يتوقف على هذه الصفات بلا واسطةِ شيءٍ، إذ لم يخرج عن كونه فعلا من الأفعال".

7. تحريره لمسألة الضاد: ومما حرّرَ بابه مسألة الضاد، وذلك أن من المعلوم عند من له نظرٌ في كتب التجويد ومخارج الحروف وصفاتها، ما فيها من أن الضادَ مما تختص العرب بالنطق به سليقةً، وصاروا يقولون لغةَ الضاد يعنون لغةَ العرب. وقال أبو الطيب المتنبي: وبهم فخرُ كل من نَطَقَ الضـا

د وغوثُ الجاني وغيْثُ الطريد

وأنها أصعبُ الحروف، بحيث يتعذر النطق بها إلا بالرياضة التامة، وأنها تشبهُ الظاء ولا تمتاز عنها إلا بالاستطالة والمخرج، ولهذا عَسُرَ التمييز بينهما، وأن بينهما ما يسمى عند علماء البديع بالجناس اللفظي. قال السيوطي في عقود الجمان: قلتُ وإن تشابـها فـي اللـفظ كـالضاد والظاء فذاك اللفظي

ومثلهما في ذلك النون والتنوين، وهاء التأنيث وتاؤه. وقال الفخر الرازي في تفسيره: "إن التكليف بالفرق بينهما من تكليفِ مالا يطاق". وللحافظ ابن كثير في أوائل تفسيره شيءٌ من هذا. وأن الضاد حرف رِخْوٌ يجري فيه الصوت جَريانَه في بقية الحروف الرِّخْوَةِ، بل قيل إنه مُتفشٍ، والتَّفَشي أخصُّ من الرّخاوَة، وأنه مُستطيلٌ في مخرجه، ولا كذلك غيرُه من الحروف. ولما كان هذا مفقودا في ضاد العامة كَثُر القيل والقال فيها بين المتمسكين بالضاد المألوفة مِنْ أنها هي التي بها الرواية، وقد يبحثون فيما فُقِدَ فيها من صفات ضاد العرب وأنها هي التي ينطق بها الأكثر ممن فيهم أعْلامُ العلماء في الأقطار، ويُجيبهم الآخرون بأن من شروط الرواية موافقتَها لما في كُتُبِ التجويد ، وأنها إنما أُلِفَتْ لحفظِ الرواية. فنظم بابه في هذه المسألة نظما جامعا وألَّفَ فيها رسالة مستقلة أكْثَر فيها النقل عن أئمة القراءة والعربية، وأطال، لأن المقام يقتضي الإطالة، مُبيِّنا أنّ الضاد الرخوة التي يَنْطِقُ بها هو ومن وافقه هي ضاد العرب صِفَةً، ومَخْرَجًا، روايةً ودرايةًً. وقال: ليُمعِنِ القارئُ في الضاد النظرْ هـل ثَمَّ تمييــز عسير جـدا وهـل تُطيق لفظَه الصبيــانُ فالضـاد أصـعب حـروفهم بـلا والـمَيزُ بينـها وبين الظـــاء واخـتصت الـعرب بالتكلـــم بـل ذلك المَخرج بين الضـاد يَـبيـن ذاك للبيب النـاظـرِ وليهده إلى ســواء المنهــجِ ونصَّ ذاك النشرُ والتمهيـدُ وأن ضاد العرب العربــاء ونصَّ ذاك في النهاية انظـر وليس في تحقيقه من بــاس وذاك في ألفية البيــــان وقد قفا الجلالَ من تأخـرا وكم شواهدَ لهذا المطلــب فالفخر في تفسيره قد نبهـا ومن قضاءِ الحاجِ للمحتـاج والحصرُ للظاءات في المُقدمه وانظـر إلى قولهـمُ مُشالـه وانظـر إلى ذكرهمُ من غلطا وفي السماع من جميع العرب

عند احتجاجـه بنص المُختصـرْ أو ثم حـرف يُتعـب العِبِـــدّا والقِـبْطُ والبربـرُ والســـودانُ تنـازع بيـن جميع الفضـــلا صعب لدى جمــاعة القــراء بها عَنَ اصحابِ اللسانِ الـعجمي والظاء في المُخرج عند النــادي عبارةَ المصباحَ والنـــــوادرِ "والضادَ باستطالة ومخــــرج" له والاتقانُ بـه شَهــــــيدُ مُشْبِهَةٌٌ في السمع صوتَ الظــاء والفجرَ فانْظُــرُه له والجعـبري في مبحـث اللفظي في الجنـاس وشـرحِها قـد جـاء والإتقــانِ فيه ولم يجعـله شيــئا نُكُــرا لعلماءِ أهـِلِ كُـــلِّ مذهــب وشرحُ الاقنـاع وشرحُ المنتـهى نظــرُه لشــرحـيِ المنهـاج وغيرها بالعـد يا صــاحِ لِمَـهْ؟ وقولهـــمْ قاصــرةٌ فيـالـه بمـــزج ضـاده بـدالٍ أو بطا في الشرق والغرب تمـامُ الأرب

وقال: الضاد حرفٌ عسيرٌ يشبه الظـاء لحن فشا منذ أزمان قد اتّبعَتْ من غيرِ مُستندٍ أصـلا وغايتُهم والحق أبلـجُ لا يخفى على فطـن هذا هو الحقُّ نصا لا مَردَّ لـه

لا الدال يُشْبِـهُ في لفظ ولا الطاء أبــناؤه فـيه أجـداداً وآبـاءا إلْفُ العوائد فيـه خَبْطَ عشـواء إن استضاء بما في الكتب قد جاء من شاء بالحق فليومن ومن شاء

وقال العلامة حبيب بن الزايد التندغي مخاطبا بابه: أحييت يا شيخُ مَيْتَ الحق إِِحْياءَ لكن ظلامُ الهوى أعمى البصائر ممـ قد عارضوك بأن الضاد لم يـكُ عيـ كأنهم غَفَـلـوا عَمّا افتتحتَ بـه وليس جَعْلُ ذوي الإنكار ضادَكُمُ فالحس يغلط في الأشياء يحسبها وحُبُّك الشيء أحيانا يُصمُّ كمـا ما قُلتَ إلا الذي في الكُتْب جاء ومن يا من بفهم وإنصاف قد اتصفوا

نَعَمْ وأسْمَعْتَ لو ناديـتَ أَحْياء ــن عارضوك بما لم يجدِ إِجْداء ـنَ الظاء واستحسنوا من ذاك ما ساء "الضاد حرف عسير يشبــه الظـاء" ظاءً يُصَيِّرُهُ في نفســه ظـــاء شيئا كما قد يظن الشيء أشـيــاء عن أفصح الخلق خيرِ العُرْبِ قد جاء لم يتصف بالحيا فليات مــا شــاء تأملوا صرَّحَتْ لا ريـــب جـداء

وقال محمد فال بن بابه في ذلك: من أنكر الحق لا تنصبْ تعالجه ومن تأمل ألفى أصل عـلتِّــه

فإن فيه عضـالاً ذلك الـــداءَ كونَ الطباعِ لما لم تألفَ اعـداء

وقد قيلت في الموضوع، والبحر، والروي، مُقَطّعات من الفريقين. وقال في أول رسالته: فهذه نقول يعرف بها اللبيب الدائر مع الحق، أن الصواب في لغة العرب الضادُ الشبيهةُ بالظاء المعجمة، حسبما تلقيناه أيضا بالرواية المعتبرة أواخر النقول، لا الضادُ الشائعةُ الآن الشبيهةُ بالطاء والدال المهملتين. ثم نقلَ على هذا كثيرا من كلام القراء وعلماء العربية. ثم قال والرواية التي وُعِدَ بها قَبْلُ، هي ما شافهنا به أخونا الأديب العالم الثقة المحقق التقي الشيخ محمد فال بن بابه بن أحمد بيبه العلوي حفظه الله وجزاه خيرا، ثم طلبنا منه كتابتها، فكتب ما صورته: «الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم، قرأتُ الفاتحة وبعض السور على المقرئ بالحرم المدني، مُفتتحَ عام سبع وثلاثمائة وألف، وهو الشيخ أحمد بن محمد الصوفي من أهل القسطنطينية، وجدتُه مجاورا بالمدينة، ماهرا في فن القراءات والتجويد، يتصل سنده بابن الجزري، وكنتُ أتردد إليه ما دمت في المدينة. ولما سمعتُ أولا كيفية نطقه بالضاد، ظننته يجعلها ظاء، فقرأت عليه بها فقال لي "ظ" لا، و"ض" لا، يعني ب "ض لا"، النهي عن الذي يقرأ به أهل بلادنا ومن يقرأ كقراءتهم، وأنا كأني لا أسمع منه إلا الظاء، وهو لا يرضى بها مني، فقلت له ما الفرق، فقال لي: والضاد باستطالة ومخرج مَيِّزِ من الظاء....» انتهى ما كتبه محمد فال.

8. مسألة الاجتهاد والتقليد: ومن المسائل التي ألف فيها بابه مسألةُ الاجتهاد والتقليد. ومما دعا إلى ذلك أن المقلد للمذهب المالكي مثلا، قد يجد الدليل مع المُخالف في المذهب أو مع مُقابلِ المشهور في مذهبه، فيُصر على التمسك بما كان عليه، ويَستدلُّ بكلام القرافي في التنقيح: وهو "أن من ليس بمجتهد لا يجوز له العمل بمقتضى حديث، وإن صحّ عنده سندُه، لاحتمال نسخه وتقييده وتخصيصه وغير ذلك من عوارضه التي لا يضبطها إلا المجتهدون. وكذلك لا يجوز للعامي الاعتمادُ على آيات كتاب الله العزيز، لما تقدم. بل الواجبُ على العامي تقليدُ مجتهدٍ معتبرٍ ليس إلا. لا يُخلصه من الله إلا ذلك. كما أنه لا يخلص المجتهدَ التقليدُ، بل ما يُودي إليه اجتهاده بعد بَذلِ جهدِه بشرطه". وقد نظم سيد عبد الله في مراقي السعود هذا بقوله: من لم يكن مجتهدا فالعمل

منه بمعنى النص مما يُحْظَلُ

فقد فهم بابه بأن هذا الكلام لا يخالف ما تقرر من وجوب العمل بما رجح بالدليل، فقال "بل يوافقه لان المُقلِّد في هذه الصورة تابع للمجتهد المُوافق لذلك الدليلِ. على أننا نفرض أن المقلد في هذه المسألة قد اطلع على ما قاله العلماء في دليلها، وعلى ما قالوا في أدلة المخالفين وفهمها وعلم الأقوى منها". وقال في أوله: "فهذه نقولٌ قُصد بها بيان أن الأولى للمقلد لأحد الأئمة الأربعة إذا وجد خلافَ إمامه عن أحد الأئمة الثلاثة في مسألة، وتبين له رجحانه على مذهب إمامِه في تلك المسألة بموافقة القرءان أو السنة الصحيحة المُخرَّجَةِ في الصحيحين، أو أحدهما، أو نصّ الترمذي مثلا على صحتها، ولم يجد ذلك لإمامه، أو وجد ثلاثة من الأئمة الأربعة مُتوافقين على خلافِ إمامِه في مسألة، ولم يجد فيها دليلا من القرءان والسنة الصحيحة موافقا لإمامه، ولاسيما إن اجتمعت هذه المُرجّحات كُلُّها ومعها روايةٌ عن إمامه، أن يعمل بما تبين له رجحانه إن كان متحريا للحق". ونقل كلام القرافي الذي يستدل به الخصوم، وأشبعه نقلا عن أئمة المذاهب الأربعة، مع التعريف بالقائل، نقلا عَمَّنْ عَرَّفَ به من المؤرخين، كما يفعل الرهوني في حاشيته تارة. وبالجملة فهو كتاب غزير العلم مطبوع مُنْتَشِرٌ في المكتبات، مُفهرسُ الفصول سَهْلُ التناول، وقَرَّظَه بأبيات مطبوعة معه، أولها : هذي نُقولٌ صحيحاتٌ صريحاتٌ

في قَفْوِها لإلـه العرش مرضاةُ... إلخ

مع تقاريظ الشيخ أبي مدينَ بن الشيخ أحمدُّ بن سليمان، والشيخ محمد والشيخ عبد الله رحمهم الله تعالى . وقد نصره في هذا الموقف الذي يُعدُّ غريبا جديدا على الطلبة المُقََلِّدَةِ في ذلك الوقت، جماعةٌ منهم صديقه محمد فال بن بابه بن أحمد بيب، كما وافقه في مسألة الضاد، ومسألة المتشابه، ونَظَمَ ونَثَرَ في كلٍ منهما .أما مسألة تقديم الراجح بالدليل فقال فيها قصيدتَه المعروفة :

على الشيخ قد عابَ الغَبِيُّ بجهله وما في كتاب الله بالنص مُحكما وما قال جمهور الأئمة تــابعا ومن يَتَتَبَّعْ ذاك يُلْـــفِ لمالك وإن هُدى الله الكتابَ هو الهُدى وما سنَّه خيرُ الـعباد مــُبَيِّنٌ فما جيء من بـعد النبي بناسخ لأصل حـديث الهاشمي قطعتمُ إذا انحرف الوالي عن الرشد والهدى بدولة حكم الجهل يُذْعِنُ عــــالمٌ وإذْ عـــزَّ تفهيمُ البليد فإِنّما ويَهذي أخو جهل يعارضُ عــالما ومن كان قدرا فوق بــاعك فتْرُهُ إذا قال قولا كان شأوك قاصــرا وقولةُ سفيانَ "الحديثُ مضـــلةٌ مقالةُ حقٍ وهي في حقِ قاصــر ولم يدرِ ما منسوخه وضـعيفـه ولستُ بنافي الفرع أصلا وإنـما كما لابن عبد البر جــاء مُبَيَّـنا وأرشدنا الشيخ ابن رشد لمثل ذا ومن كان لا يرضى من الشيخ سيرة فاني أراه كان حقا مُـجددا وما كان أن يرضى بباطلِ كاملٍ

تَتَبُّعَ أقْوَالِ النّبي وفــــعلِـه وما صَحَّ من تقريرِ خاتمِ رُسـْلِه لما صح من معنى الدليل ونقلـه وأصحابه قولا قــــويا بِحَلِّهِ ولـيس يَضِل المُمْسكون بحبله كما زِيدَ من نَقْطِ الكتاب وشِكلِه سوى سوءِ فهمِ المَذْهَبِي وجهْلِه وقـد أمر اللهُ العظيمُ بوصْلِه فذاك قضى الدين الحنيف بعزله لمن يدعي علما وليس مـنَ اهلِه يـُقال لــه قـولُ الخليل لنجله يَدُلُّكَ لـو تدري على نقصِ عقله ويَغْمُرُ وبــلا منك هاطلُ طَلِّه عــن ادراكه فادْرِ السبيل وخَلِّه لــغير فقيهٍ الاِجتهادُ منَ اهله" يُــحِلُّ صريحَ اللفظ غيرَ مَحَلِّه ويُخطئ في وضعِ الحديث وحمْله أمرتُ بأخذ الفرع وَصْلا بأصله لدى جامعِ العلمِ الشريفِ وفضْلِه كذاك قضى القاضي ابن نصر بمثله فلم يكُ يرضى المـــرء إلا بشكله يــــَدلُّ على رُشْدٍ ويهدي لِسُبْلِهِ ولا حــــقَّ ذي نقصٍ يَرُدُّ لِعَدْلِهِ

وممن كاتب بابه في الموضوع عثمان بن محمد يحي بن سَليمَ اليونسي نسبا الولاتي، فقال يخاطبه بأبيات مطلعها: ألا فاصدع بأمـرك ثـم نـاد بــه مـتشمرا فـي كل ناد

وتولى جوابه الشيخ أبو مدين بأمر من الشيخ بقصيدة يقول فيها : وأمُوا بالمطي جناب بــابٍ تدارك من حُشاشتها ذَِمـاءً فنال "الرفعُ" رفعا بعد خفضٍ وكان "القبض" منقبضا فأمسى يــدل على شريعة خير هاد فــنال الرِّيَّ منها كُلُّ صادِ ونال "الضادُ" تصحيحَ المبادي بسطوته يصول على الأعادي

إلى أن يقول : ولـكن الفـتى عـثمانُ قـِدْما أتَتْنـا مـن رسـائله تـحايا بنهجِ الحقِّ مــشغوفُ الفؤادِ تترجم عن مـقالِ أخـي ودادِ

ويقول عثمان المذكور يخاطب بابه من أبيات: أرَيْتَ النـاسَ ديـنَ الله حـقا فـقد أَلِفُـوا اتِّبـاعَ مُـوَلَّداتٍ ولكنَّ الــبصائر عـنه عُمْيُ وذلك عن سبيلِ الحقِِ نَأْيُ.. إلخ

مما يدل على أن دعوته بلغت أقصى البلاد شرقا كما غَرَّبت وجالت جنوبا وشِمالا داخل البلاد وخارجها. وقرظ محمد فال بن بابه تأليفه في الضاد بقوله: شمس الهدى قد بدت صحوا لمن راما والصّيرفيُّ قدَ ابْـدى خـالصا ذهـبا والــحق لاح عـيانا لا خـفاء بـه وسَـلَّ سيـفا مـن البرهان صار به لله في الخلق من ارث النبوءة مـــا فبعضه كـــان أنقالا مُصحــحّةً وذاك ما قد أفاض الشيخُ سيدُنــــا أبدى به الحق نهجا واضـــحا سُبُلا ذو الفهم مُنصفاً انْ ينظره كــان له ألفاه حـــقا صحيحا لا خــفاء به إن لـــم يـكن فاهما ما في مُضَمَّنِه قد أوضــح السنة الغراء حين غدتْ قواعدُ البيـت منها صــار يـرفعها وقامَ من نَصْرِ ديـــن الله مـجتهدا

سُبْلَ الهدى فَنَفَتْ غَيْمــا وإظـلامـا وبَيَّنَ الـزيفَ والـتدليس قـد قـاما كـالنور يـعلو لـذي العينين أعلاما يعدو الجبان إلـى الـهيجاء مِـقْداما يهدي بـه لـسبيل الـحق أقــواما وبــعضُه واردٌ فيضــا وإلهامــا من العلوم لأنفِ الـجهل إرغـامــا لـو اسـتوى الـناس إنصافا وأفهاما عن فـاضح اللحن في القرءان إلجاما ومـا يعارضه جـهلا وأوهــاما فذي الدلالة إطـباقا وإلـــزاما مطموسةً بين أهــل العلم أعْلامــا يُبٍدي مَناسكها سعـيا وإحـرامـــا مـا عند بــاقي حُـمَاةِ الدينِ قد ناما

9. خاتمة: وبالجملة، فالكلام على الشيخ سيدي بابه طويل عريض، ولعل ما فاتنا منه أكثر ؛ بل هو الواقع. ومع ذلك لم نستوعب ما رويناه عن الثقاة ممن كان من جلسائه أو زُوّارِه، مما يَتَعلقُ بعلمه وعمله وفراسته الصادقة وبعض كراماته، وكلهم شاهدُ عيانٍ يَروي عنه بلا واسطة. فرحم الله الشيخ سيدي بابه وتقبل عمله، وبارك في ذويه وأهل بيته وحفظهم، وأتم عليهم نعمته وأسبغها عليهم ظاهرة وباطنة. وُلِدَ بابه، كما ذَكر حفيده العالم المحدث محمد بن أبي مدين في ترجمته المختصرة المفيدة، في ربيع الأول عام سبع وسبعين ومائتين وألف. وتوفي ثالث جمادى الآخرة عام اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف. وقد أرخ لوفاته العلامة القاضي من الطراز الأول من قضاة العدل سيدي محمد بن الداه بن داداه مشيرا بحساب الجُمَّل أيضا إلى قدر عمره بقوله: قضى بجيم مـن جمادى الثانيه الشيخ سيدي بـوقت الظــهر فــي سنة تـاريخها "بشمس"

إمــامُ كل حضر وبـــاديه يــوم الخميس يا له من أمر والـعمر "دين" كضياء الشمس

كما أرخ له محمد فال بن بابه في مرثيته له، مشيرا إلى قدر عمره بحساب الجُمّل، بقوله: و"صَدَّ" "بشمس" عمرُه ومسيرُه

فــكان بـه للمكرمات ختام
 
أشكر د/يحي الغوثاني حفظه الله على طرحه هذا البحث الشيق ،ولي "مشاركات" ولا أقول "مداخلات" ،وليسمح لي الأخوة بتابع تسجيلها :
1-من أحب التوسع في معرفة "المحضرة" وما يتعلق بها فليرجع إلى الكتاب الذي ألف فيها وهو مطبوع بعنوان :
"بلاد شنقيط :المنارة 00والرباط
عرض للحياة العلمية والإشعاع الثقافي والجهاد الديني من خلال الجامعات البدوية المتنقلة"المحاضر"
المؤلف: الخليل النحوي
قال مؤلفه: عمدنا إلى تناول الموضوع من خلال المحاور التالية:
1-مدخل يعرض الإطار التاريخي والجغرافي والبشري الذي قامت فيه المحضرة،وتبلورت الدلالة المعرفية لكلمة "شنقيط"0
2-ستة أبواب منقسمة إلى فصول تتناول:
-نشأة المحاضر وتطورها وما لذلك من عوامل وأسباب0
-خصائص المحضرة وطبيعة الحياة فيها ومواردها وآداب الدراسة وتقاليدها ومناهج الدرس المحضري 0
-الحصاد العلمي الشنقيطي في مجالات التأليف والشعر وإشعاع الشناقطة في إفريقيا والبلاد العربية 0
-جهاد الشناقطة في سبيل نشر الإسلام وإقامة الدولة الراشدة ومواجهة الغزو الاستعماري ونماذج من أدبهم المجاهد 0
-واقع "المحضرة" اليوم ،ومزاياها ومميزاتها مقارنة بالنظام التربوي المعاصر وآفاق مستقبلها 0
-ملاحق تتضمن تراجم لجملة من الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب وفهرسا للمؤلفين الشناقطة وقوائم بأسماء شيوخ المحاضر وخريجها 0انتهى
2-هنا بحث في الأصل اللغوي للكلمة هل هو :"محضرة" بالضاد ،أو "محظرة" بالظاء ؟؟
الجواب: جاء في الكتاب المذكور:(ص:61):"لم يسم الشناقطة مؤسستهم التربوية هذه"كتّاباً" لأنها تختلف عنه ،ولم يسموها "خلوة" ولا "زاوية" أو غير ذلك من التسميات المتداولة لمراكز نقل المعرفة ونشرها في ديار العروبة والاسلام ،وإنما اشتقوا لها اسما خاصاً ،كان مظهراً من مظاهر فرادتها وتميزها في بناها ومناهجها ونمط حياتها عن مؤسسات التربية العربية الإسلامية الآخر ،فمن أين أتى هذا الاسم الذي ينطق ويكتب في العامية الشنقيطية"الحسانية" بالظاء المعجمة المشالة (محظرة) ويميل البعض إلى تفصيحه فيكتبه بالضاد المعجمة (محضرة) وربما نطقوه كذلك؟
قال :"كان القوم أهل بادية (يحتظرون) فيحيطون منازلهم ومرابض أغنامهم ومراح أبقارهم ومعاطن إبلهم بأسجية من جذوع الشجر وأغصانه الشائكة ،وكان الطلبة ينسلون من كل حدب وصوب إلى شيوخ العلم فيحضرون دروسهم ومجالسهم أو (محاضراتهم )0
إلى أحد هذين المعنيين تشير الكلمة التي سارت علماً على الجامعة البدوية المتنقلة ،فهي (محظرة) من "الاحتضار" أو (محضرة) من "الحضور والمحاضرة" ،وقد ذهب أهل الشأن في الترجيح بين الاشتقاقين مذهبين :
يقول أحمد بن حميد في (المحظرة) من الناحية اللغوية لا يستبعد أن يكون اسمها مأخوذاً من "الحظيرة" وهو ما يحرز به على المال "
ويرى محمد سالم بن عبد الودود أنها "ضادية" فهي مكان الحضور ،ويشهد لذلك ورود الكلمة بالضاد دالة على المعنى نفسه أو قريب منه في نصوص قديمة قال لبيد:
فالواديان وكل مغنى منهم 000 وعلى المياه "محاضر" وخيام
والمقصود بالمحاضر هنا :المناهل يحضرها الناس ويجتمعون حولها ،لكن الكلمة وردت بمعنى "المدرسة" في مراجع تاريخية وفقهية ففي رحلة ابن جبير (ت 614)يقول عند استعراضه لمعالم مدينة القاهرة ومآثر صلاح الدين فيها:"أنه أمر بعمارة "محاضر "ألزمها معلمين لكتاب الله 000
ثم نقل نصوصاً أخرى عن "المعيار " للونشريسي تركتها للاختصار 0
 
شكرا لكم سعادة الدكتور على هذا الإتحاف
ومن منبعها تسمع المعاني .... وتصاغ جواهرها وما أنا إلا ناقل

ومن باب إثراء الموضوع

هل ذكر بعضهم في معنى المحظرة أنه من الحظر أي المنع
بمعنى : هذا المكان الذي يحظر فيه كل شيء غير العلم والحفظ والعمل
أما القيل والقال والكسل والتكاسل وتضييع الأوقات فمحظور

وشيء آخر حسب فهمي أيضا وهو : أن الطالب ينقطع عن أهله وعن أقربائه ويتفرغ في هذه المدرسة فمن هنا سميت المحظرة لأنها حظرته عن زيارة أهله ورؤيتهم حتى يكون متفرغ القلب للعلم

وقد رأيت عددا من المعاهد الشرعية في بلاد الشام يسيرون على هذا النهج فلا يسمحون للطالب أن يرى أهله إلا في الأسبوع مرة

وقد رأيت في بنغلاديش ما يشبه هذا بل أعجب وهو أن طالبا بيته بجوار المدرسة وهو محظور من رؤية أهله أو زيارتهم إلا بإذن من الشيخ وبوقت محدد

ومثل هذا رأيته في تركيا أيضا
والله أعلم وعلمه أتم وأحكم

ومن أطرف ما رأت عيناي طالب علم من دولة مالي كان زميلا لنا في إحدى هذه المدارس الشرعية وأخذ عهدا على نفسه ألا يتصل بأهله ولا يقرأ رسائلهم إلا آخر العام في الإجازة فكانت الرسائل تأتيه ويجمعها ولا يفتحها إلا في نهاية العام الدراسية
وقد رأيته ذات مرة وهو يفتحها في نهاية العام وتسيل دمعته على وجنتيه فأسأله فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون توفي عمي ....
توفي أخي ..... توفيت خالتي .....
 
أخي د/ يحي: ذكرتني قصة زميلكم هذا بقصة الشيخ المراغي التي ذكرها ابن العربي رحمه الله في "أحكام القرآن:2/647في سورة المائدة" قال رحمه الله :
"نكتة": كان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام فكانت الكتب تأتي إليه من بلده فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحداً مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه أو يقطع به عن طلبه ،فلما كان بعد خمسة أعوام ،وقضى غرضاً من الطلب ،وعزم على الرحيل شدّ رحله وأبرز كتبه ،وأخرج تلك الرسائل وقرأ منها ما لو أن واحدة منها قرأها في وقت وصولها ما تمكن بعدها من تحصيل حرف من العلم ،فحمد الله تعالى ، ورحّل على دابته قماشَه ،وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان ،وتقدمه الكري(المستأجر) بالدابة ،وأقام هو على فامي (الخباز) يبتاع منه سفرته (الطعام الذي يتخذه المسافر ) فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر : أي فل (فلان) أما سمعت العالم يقول- يعنى الواعظ -: إن ابن عباس يجوّز الاستثناء ولو بعد سنة ،لقد اشتغل بالي بذلك منه منذ سمعته يقوله ،وظللت فيه متفكراً ،ولو كان صحيحاً لما قال الله تعالى لأيوب :" وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث" وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذ :قل إن شاء الله ؟
فلما سمعته يقول ذلك قلت: بلد يكون الفاميون به من العلم في هذه الرتبة أخرج عنه إلى المراغة ؟ لا أفعله أبداً ؛واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وصرف رحله ،وأقام بها حتى مات رحمه الله 0انتهت القصة
 
مداخلة رائعة

شكرا لكم

ونعود لأخبار المحاظر

فأتحفونا مما في جعبتكم
 
طريقة التحصيل الدراسي في المحضرة الموريتانية:
يتتبع الطالب في الدراسة تسلسلاً معيناً لا ينبغي أن يخل به إذا كان حريصاً على إتقان درسه: فهو يكتب النص على اللوح أولاً ثم يقرأه على "المرابط"-الشيخ-ليجيزه ،أي ليصحح له ما يرد على لسانه من الخطأ حتى يحفظه بصيغة سليمة ،ثم يقبل على قراءة النص المرة تلو الأخرى حتى يتقن حفظه ثم يقرأه على شيخ المحضرة سرداً من ذاكرته على الأحسن حتى يتأكد من سلامة النص ويضبط حجم الدرس ثم يعود لقراءته مجزءاً ،جملة جملة أو بيتاً بيتاً أو شطراً شطراً ،و"المرابط " يفسر له ، ولا يبقى بعد هذه المراحل إلا التكرار لترسيخ المعلومات في الذهن ،وقد نظم محمذ فال بن متالي خطوات الدراسة في بيتين :
كتب اجازة وحفظ الرسم 000قراءة تدريس :أخذ العلم
ومن يقدم رتبة على المحل00من ذي المراتب المرام لم ينل
كيف يحفظون النص:
من المألوف عندهم لحفظ النص استيفاء "عشرة المختار " وهي :خمس وخمسون نقطة ترسم على الأرض بأصابع اليد الثلاثة (البنصر والوسطى والسبابة) في شكل هرم قاعدته عشر نقاط وقمته نقطة واحدة ،كلما قرأ الطالب مرة يمحو نقطة ،فإذا استوفى حفظ درسه بهذه الطريقة يقولون إنه لن ينساه بعدئذ ،وعليه أن يستوفي العدد كله حتى لو حفظ النص دونه 0
نقلاً من كتاب :بلاد شنقيط :المنارة والرباط :174-175
للحديث بقية إن شاء الله 0
 
الجكني قال:
كيف يحفظون النص:
من المألوف عندهم لحفظ النص استيفاء "عشرة المختار " وهي :خمس وخمسون نقطة ترسم على الأرض بأصابع اليد الثلاثة (البنصر والوسطى والسبابة) في شكل هرم قاعدته عشر نقاط وقمته نقطة واحدة ،كلما قرأ الطالب مرة يمحو نقطة ،فإذا استوفى حفظ درسه بهذه الطريقة يقولون إنه لن ينساه بعدئذ ،وعليه أن يستوفي العدد كله حتى لو حفظ النص دونه 0
نقلاً من كتاب :بلاد شنقيط :المنارة والرباط :174-175
للحديث بقية إن شاء الله 0


فائدة رائعة جدا

حبذا لو شرحتموها بمزيد من الإيضاح
 
لمـــــــــــاذا الشنــــــــــــاقطة يحفظــــــــــــون....؟؟؟؟؟


وجدت في أرشيفي هذا الموضوع الجميل الرائع للشيخ محمود بن محمد المختار الشنقيطي
ومن حبي للشناقطة وشيوخنا الأجلة منهم أحببت أن يتكامل الموضوع
يقول فضيلة الشيخ محمود بن محمد المختار الشنقيطي :

كثيرون أولئك الذين يَبْتدرونني بهذا السـؤال حين يَضُمني وإياهم مجلسٌ، فيدور الحديث حول مسألة الحفظ باعتبارها من أهم قـضــايــا طلب العلم الشرعي، فيسألونني عن أسباب ظاهرة قوة الحفظ عند قومي، ولماذا كانت أهمّ سـمـــةٍ في علماء الشناقطة ـ الذين رحلوا إلى المشرق واتصلوا بالأوساط العلمية ـ القوة الفذة والقدرة الـفـائقة على استحضار النصوص؟ ويسألونني عن أعجب ما بلغني من أخبار عن نوادر الحفاظ في الشناقطة.

وكنت أجيب بما يناسب مقام كل مجلس ويفيد منه الحاضـرون، دون تقص أو تعمد بحثٍ عن الإجابة على هـذه القضية، وحين كتب الله لي أول زيـارةٍ ـ العام المنصرم ـ لبلاد الآباء والأجداد (شنقيط)، ووقفت على بعض المحاظـر الحيـة الـقــائـمــــة علـى أطـلال ورسوم المحاظر(1) العتيقة، وحظيت بلقاء أجلة فضلاء من علماء الشناقـطـــة(2)، أدركوا أواخر نهضة علمية، كان من أبرز سماتها اعتمادها على حفظ الصدور لما وجــد في السطور، وأن العلم هو ما حصل في الصدر ووعته الذاكرة متناً ومعنى، حتى غدا من أمثالـهـم التي تعبر عن هذا المعنى: (القراية في الرّاسْ ماهُ في فاس ولا مكناس) أي العلم الـمـعـتـبـر هـو ما في حفظك، وليس في كثرة الذهاب إلى المدن الحضارية ومؤسسات التعليم فيها. حين كتب الله لي تلك الزيارة كان مما يدور في خلدي الجواب عن السؤال المتقدم من واقع تجربة طلاب العلم في تلك المحاظر، فتجمعت عندي طرق كانت وراء تيسير الله للشناقطة ملكة حفـظ نادرة، وطــاقـــــــة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار عشرات الكتب،

وجعلت العلامـة سيدي محمـد ابن العلاّمـة سيـدي عبد الله ابن الحـاج إبراهيـم العلـوي ـ رحـمــه اللـه ـ (ت 1250هـ) يقول: (إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي بجميع مراجعها في البحر لـتـمـكـنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح)(3).


وجعلت العلاّمة محمد محمود التّرْكُزي ـ رحـمــه الله ـ ت عام (1322هـ) يزهو بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتـهـــــاد فيها منهم؛ لأنه يحفظ القاموس كحفظه الفاتحة، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهـــــر، فكان كما قال، فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة التركزي ـ رحمه الله ـ المحفــوظة في صدره(4).
وقبل أن أتحفك ـ أخي القارئ ـ بشيء من طرقهم وأساليبهم في الحفظ تتضمن الإجابة عن السؤال المتقدم، أتحفك بأخبار القوم ونوادرهم في الحفظ، مما وجدتـــــه مسطوراً في كتب التراجم، أو محكياً على ألسنة الرواة، وسيتملكك العجب، وتعتريك الدهـشــــة لسماعه، وتجزم معي بأن ما حباهم الله به من ذاكرة فذة، وقدرة على استحضار النصوص ربمـا لا توجد إلا في ذاكرة الحاسب الآلي، حتى صارت حكاياتهم في الحفظ غريبة تشبه الأساطير وما يجري مجرى خوارق العادات.

فـمــن ذلك ما ذُكر في ترجمة العلاّمة عبد الله بن عتيق اليعقوبي ـ رحمه الله ـ، (ت عام 1339هـ)، أنه كان يحفظ لسان العرب لابن منظور(5).

وكان الغلام في قبيلة مُدْلِشْ يحفظ (المدوّنة) في فقه الإمام مالك قبل بلوغه، وكانت توجد في قـبـيـلـــة (جكانت) ثلاثمائة جارية تحفظ الموطأ فضلاً عن غيره من المتون، وفضلاً عن الرجال، ولهذا قيل: العلم جكني(6).
وروي عن الشـيـخ سيد المختار ابن الشيخ سيدي محمـد ابن الشيخ أحمـد بن سليمـان (ت 1397م) حِفظ كـثـيــر من كتب المراجع مثل: فتح الباري، والإتقان للسيوطي، غير المتون والكتب التي تُدرّس في المحظرة(7).
ومن العجيب ما تـجــــــــده مــن محفوظات فقهائهم غير متون الفقه والأصول وما يتعلق بالتخصص، فهذا قاضي (ولاته) وإمــامها سيدي أحمد الولي بن أبي بكر المحجوب كان يحفظ مقامات الحريري، وليست من فنون القضاء ولا الفقه، وسمعتها عن الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء ـ رحمة الله عليه(8).
وأما المتخصص في الأدب والشعـر فلا يحفظ أقلّ من ألف بيت في كل بحر من بحور الشعر العملية؛ حتى تتهيأ له ملكـة أدبيـة لينظم أو ينثر ما يريد.

فهذا العلامة الأديب محمد محمود بن أحمذيه(9) الحسني ـ رحمه الله ـ، كان يحفظ في الأدب وحده مقامات الحريري، والـمـسـتـطرف، وكامل المبرد، والوسيط في أدباء شنقيط، وديوان المتنبي، وديوان أبي تمام، وديوان البحتري؛ هذا في الأدب وحده دون غيره من فنون ومتون المنهاج الدراسي المحظري(10).


ومن نوادر نساء الشناقطة في قوة الحفظ ما حدّث به العلاّمة محمد سالم بن عبد الودود أن أمه مريم بنت اللاّعمة كانت تحفظ القامـــوس، وقد استوعبته بطريقة غريبة، حيث كان والدها يرسلها من حين لآخر إلى خيمة أحد علماء الحي تنظر له معنى كلمة في القاموس ـ وكان هذا العالم ضاناً بنسخته لا يعيرها ـ فكانت البنت تحفظ معنى الكلمة وتعود بها إلى والدها وهكذا حتى حفظت مادة القاموس كلها.


وإن تعجب أخي القارئ من المتقدمين فلعل ممن أدركنا من المعاصرين الأحياء من يماثلهم في الحـفـظ؛ فمن ذلك ما حدثني به والدي ـ حفظه الله ـ قال لي يا بني: لقد كنا أيام طلبنا للفـقـه عند شيخنا الفقيه عبد الرحمن ولد الداهي، نتسابق في ختم المختصر ليالي الجـمـــع فيستفتح من (يقول الفقير المضطر) بداية الكتاب فلا يطلع الفجر إلا وقد ختمناه لا نشكك إلا في مواطن قليلة في أقفاف(11) السفر نكرر ذكر ذلك مرات، وممن أدركناه من الأحياء العلامة الشيخ أحمدّو بن العلامة الشيخ محمد حامد بن آلاّ الحسني نزيل المدينة النبوية ـ متع الله ببقائه.
ولا أبالغ إن قلت: إن ما في صدره من العلم لو جلس يمليه عاماً كاملاً لما كرر ولا أعاد منه شيئاً؛ فمن محفوظاته في النحو والصرف طرة(12)، ابن بونة على الاحمرار(13) يحفظها بنصها، وطرة الحسن بن زين على احمراره للامية الأفـعـــــال لابن مالك أيضاً، والمقصور والممدود لابن مالك مع شواهده وهي تقرب من ألفي بيت، وضــوابط وشواهد على مسائل ألفية ابن مالك بعضها له وبعضها لوالده ولبعض العلماء الشناقـطــة تبلغ نحواً من ثلاثة آلاف بيت، إضافة إلى بعضٍ من ألفية السيوطي في النحو.


وفي غريب اللغة نظم ابن المرَحّلْ، ونظم أبو بكر الشنقيطي كثيراً من مواد القاموس، وجل شـــواهـــــد الغريب من تفسير القرطبي، ومثلث ابن مالك وهو يبلغ ثلاثة آلاف بيت مع شواهده. إلخ من العلوم والفنون...
ومن المعاصـريــن الحفاظ أيضاً صاحب المحضرة العامرة العلامة محمد الحسن بن الخديم وقد حدثني بـعــض تـلامذته أنه يحفظ النص من مرتين فقط، وأنه لا يكاد يوجد فن إلا ويحفظ فيه ألفيةً؛ حتى في الطب والعقيدة والقواعد الفقهية والقضاء، وأنه يحفظ كثيراً من كتاب سيبويه وتمنى لو جاءه في الصغر(14).
ومن النساء المعاصرات: الـعـالمة المفتية الفقيهة مريم بنت حين الجكنية والـدة الشيخ عبد الله بن الإمام، حدثني بعض تـلامـذة ابنها أنها كانت تشرح له في ألفية ابن مالك إذا لم يكن ابنها في البيت، ورويت عن قـريـبـــات لي أنها تحفظ كثيراً من المتون الفقهية وتفتي النساء في الحج والحيض، ولها ألفية في الـسـيـــــرة ولها منظومات فقهية لبعض المسائل والنوازل. وهذه نتف مما وقفت عليه لعل فيها ما يـذكـي الـحـمـــــاس لدى طلاب العلم المعاصرين.

ولهـم في الحفـظ وسائل وطـرق أجملهـا فيما يلي: ـ


أولاً: التعليم الزّمَرِيّ أو ما يسمى بلغة المحاظر (الدولة) وهو دراسة جماعية يـشـتـرك فـيـهـــــا مجموعة من الطلبة متقاربي المستويات يقع اختيارهم على متن واحد يدرسونه معاً، حصةً حصةً، يتعاونون على تكراره واستظهار معانيه(15)، يتحاجون فيه، ويُنَشّط بعضهم بعضاً على المواصلة والاستمرار ومدافعة السآمة والملل. أذكر وأنا في المرحلة (المتوسطة الإعداديــة) أنني أدركت مجموعة من طلاب العلم الشناقطة (دولة) في المسجد النبوي في شعر المعلقات.


ثانياً: تقسيم الـمتن إلى أجزاء وهو ما يعرف بلغة المحاظـر (الأقفاف) مفردها: قُفّ. والمشهور في المحاظــر أن متوسط درس أو قف المتن المنظوم خمسة أبيات لا يزيد عليها إلا المبرزون الأذكياء. وأما المتون المنثورة فيتعارف أهل المحاظر على تقسيم شائع بينهم، فمثلاً مختصر العلامة الـشـيـخ خلـيـل عـنـــدهم ثلاثمائة وستون(16) قفاً، ولا تخفى فائدة هذا التقسيم للمتن المراد حفظه، فيعرف الـطــــالـب مـــواضع الصعوبة من السهولة فيحتاط في المراجعة والتكرار، كما أن تخزين المادة في الذاكرة مـرتـبــــــة منتظمة أيسر في استظهارها واسترجاعها.
ويرى الشناقطة ـ وهم مضرب المثل في قوة الحافظة والذكاء ـ أن (القـف) الكثير لا يستطيع استيعابه مع الاحتفاظ به في الذاكرة إلا قلة من الحفاظ ولذلك عمدوا إلى تجزئة كل متن.
وســـــــارت عندهم هذه العبارات مسار المثل: (قـفْ أف) أي أنه بمثابة الريح (أف اسم صوت) يمر عابراً فلا يستقر منه شيء في الذاكرة.
(نص لا بُدّ الُ يْخصّ) أي أن النصف لا يمكن الاحتفاظ به جملة فلا بد أن ينسى قارئه بعضه أو يعجز عن استيعابه أصلاً.
(الثلث يوترث) أي أن ثلث القـف يعلق بالذاكرة فلا ينساه قارئه حتى يموت كأنه يورث من بعده(17).
ثالثاً: وحدة المتن واستيفاؤه: فينصحون الطالب أن يشتغل بدراسة متن واحد يفرغ قلبه له، ويستجمع قوته لحفظه ولا يجمع إليه غيره، ولا ينتقل عنه حتى يستوفي دراسته كله، بل يرون أن جمع متنين معاً يحد من قدرة الطالب على الاستيعاب فيظل جهده الذهني موزعاً بين عدة متون لا يكاد يتقن أياً منها، كما أن بتر المتن دون حفظه كله يضيع جهد الدارس هباءً، وينم عن كسل وقصور في همة الطالب، ويمثلون لمن يروم حفظ نصين في وقت واحد بالتوأمين؛ فلا سبيل إلى خروجهما معاً في آن واحد، بل لا بد أن يسبق أحدهما الآخر، ونظموا هذا المبدأ بقولهم:
وإن تُـــرد تحـصـيــــلَ فَنّ تَمّـمــهْ وعن سواهُ قبـل الانـتـهــــاءِ مَــــه
وفـي تــــرادف الفـنـون المنـعُ جـا إذ توأمـان اجتمعـا لن يخرجـا(18)
رابعاً: صياغة المتن المنثور نظماً:

لقد وظف الشناقطة ملكَة الشعر كثيراً في تيسير العلوم للحفظ، وضمان حظ أوفر من القبول والبقاء له، ولذا غلبت الصبغة النظمية في نظام الدرس المحظري. وكما هو معلوم فإن النظم أسهل حفظاً واستحضاراً من النثر، قال ابن معط ـ رحمه الله ـ في خطبة ألفيّة في النحو:
لعلمهـم بـأن حفـظ النـظــــــم وفق الذكـي والبعيـد الفـهــــم
لا سيما مشطـور بحـر الرّجــز إذا بُني عـلـى ازدواج مـوجـز


وفي المحضرة قلّ أن تجد متناً يُدرس في فن إلا وجدت من نظمه حتى يسهل حفظه على الطلاب، فمن ذلك(19) أن أبا بكر بن الطفيل التشيتي ـ رحمه الله ـ (ت 1116هـ) نظم كتاب (قطر الندى) لابن هشام ـ رحمه الله ـ.
والعلامة محمد المامي الشمشوي ـ رحمه الله ـ (ت 1282هـ) عقد كتاب الأحكام السلطانية للماوردي بنظم سماه (زهر الرياض الورقية في عقد الأحكام الماوردية).
والعلامة الأديب عبد الله بن أحمد أُبّه الحسني نظم كتاب (مجمع الأمثال) للميداني.


خامساً: تركيزهم على بداية الحفظ والمراجعة المستمرة للمحفوظ، فعدد تكرار الطالب المتوسط للقدر المراد حفظه من مائة مرة إلى ألف مرة، ويسمونه بلغة المحاضر (أَقَبّاد) فيجلس طالب العلم يكرر لوحة بصوت مرتفع في الصباح(20) ثم يعود إليه بعد الظهر ثم بعد المغرب ثم من الغد يبدأ بمراجعته وتسميعه قبل أن يبدأ في درس جديد، وهكذا يفعل مع الدرس الجديد وفي نهاية الأسبوع تكون مراجعة لما حفظ من بداية الأسبوع مع ما قبله من المتن حتى ينتهي من المتن بهذه الطريقة، ثم يأخذ متناً آخر وتصبح لهذا المتن الأول ختمة أسبوعية يمر عليه كله، وبعد تثبيته في الذاكرة ومزاحمة غيره له، لا يصل الإهمال والانشغال أن يترك ختمة شهرية للمتن، وأعرف من المشايخ في المدينة النبوية من عنده ختمة أسبوعية للألفية ولمختصر خليل وختمة شهرية للمتون القصيرة كـ (لامية الأفعال) في الصرف لابن مالك والبيقونية والرحبية وبلوغ المرام وغيرها.


سادساً: حفظ النص قبل الحضور إلى الشيخ ليشرحه، وهذه من أهم الطرق التي تعين الطالب على متابعة الحفظ دون انقطاع أو تأخر، وكان شيخنا الشيخ سيد أحمد بن المعلوم البصادي ـ رحمه الله ـ لا يشرح لأي طالب نصاً حتى يسمعه منه غيباً، فيبدأ الشيخ في شرحه وتفكيك ما استغلق على الطالب فهمه.


سابعاً: لا يحفظ الطالب إلا ما يحتاجه ويمارسه في حياته من العلوم والأبواب في الفن. فالطالب إذا كان يقرأ مختصراً فقهياً مثلاً، وبلغ في المتن كتاب الحج، ولم يكن من أهل الوجوب والاستطاعة فإنه يتعداه إلى غيره وهكذا في أبواب الفرائض والقضاء والجهاد وقِس على ذلك بقية الأبواب في الفنون المختلفة.


ثامناً: تأثر البيئة بالحركة العلمية: فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة الناس هناك؛ ففي بلاد الزوايا(21)، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته، ولا من العربية ما يصلح به لسانه، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق ابنه وقصّر في تربيته. وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا يتسرول(22) الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل، فحفظ المختصر عندهم شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج.

وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون السائدة؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون: (لا حِق فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة في مختصر الشيخ خليل.
ومن أمثالهم قولهم: (وحَذْفُ ما يُعلم جائز) وهو جزء من بيت من خلاصة ابن مالك في الألفية.

تاسعاً: عقد مجالس للمذاكرة والإنشاد والألغاز في العطلة المحضرية. وهي عطلة نهاية الأسبوع العمرية (الخميس وجناحاه مساء الأربعاء وصباح الجمعة).

فيعقد طلاب (الدولة) أو المنتهون مجالس السمر وغالباً تكون ليلة الخميس أو الجمعة يتذاكرون فيها ما درس خلال الأسبوع ويتبارون في تجويد حفظه وإتقانه، أو يحددون باباً أو فصلاً من كتاب يتحاجون فيه، وأعرف عدة مجالس في المدينة المنورة عقدت لهذا الغرض منها مجالس لبعض النساء عَقَدْنَهُ لمذاكرة حفظ القرآن والفقه والسيرة النبوية، ومن ذلك ما يُروى أن محمد بن العباس الحسني ـ وهو راوية شعر ـ ادعى ليلة في مجلس سمر أنه لا يسمع بيتاً من الشعر إلاّ روى القطعة التي هو منها، وذكر الكتاب الذي توجد فيه، فتصدى له حبيب ابن أمين أحـد تلامـذة العلامـة حُرْمـة بن عبد الجليل ـ رحمة الله على الجميع ـ فسأله من القائل:

لو كنت أبـكـي علـى شيء لأبكاني عـصـر تـصـرّم لـي فـي ديـر غسّانِ
فقال ابن العباس: نسيت قائل هذا البيت وهو من قطعة أعرفها في حماسة أبي تمام، فدعي بالكتاب، وقلب ورقة ورقة، فلم توجد فيه فقال لهم حبيب: ها هي بقية الأبيات وذكرها:
دير حوى من (ثمار) الشام أودهــا وساكنـوه لعمـري خيـر سـكــــان
دهراً يدير علينا الـراح كـل رشـــا خمصـان غـض بزنـديـه سُـواران
وقال: إن القطعة من إنشائه، نظمها تعجيزاً لزميله، وساق دليلاً على صحة قوله أن دير غسان لا وجود له في أديرة العرب.
كان شيخ المحضرة الفقيه اللغوي الشاعر حرمة بن عبد الجليل (ت 1234هـ) ـ رحمه الله ـ حاضراً فالتفت إلى تلميذه حبيب وأنشأ على البديهة:
لله درك يا غـلـيـّــــــــم مـــن فتــى سن الغليـم فـي ذكــــــاء الأشـيــــب
لستَ الـصـغـيــــــر إذا تَنِـدّ شريــدةٌ وإذا تذاكـر فـتـيــــــةٌ فـي مــــوكـب
إن الكواكب في الـعـيــــــون صغيـــرة والأرض تصغر عن بساط الكوكـب(23)
عاشراً: اغتنام لحظات السحر في تثبيت الحفظ، فلا تكاد تجد طالباً من طلاب المحضرة في وقت السحر نائماً بل يزجرون عن النوم في هذا الوقت.


حدثني الوالد ـ حفظه الله ـ قال: كان إذا صعـب علينـا حفـظ شـيء انتظـرنـا بـه السحر فيسهله اللـه علينـا، ولا ريب أنها لحظـات مباركـة؛ لأنها وقـت النـزول الإلهـي، ووقـت الهبـات والأعطيـات(24). وساعات السحر هي لحظات الإدلاج التي أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسير إلى الله فيها كما في صحيح البخاري ـ رحمه الله ـ (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة) وهي سير آخر الليل(25).
وذكر أهل العلم بالتفسير آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين ـ رضي الله عن الجميع ـ في انتظار يعقوب ـ عليه السلام ـ لزمان الإجابة حين قال له أبناؤه: ((يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)) [يوسف: 97] فقال: ((قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [يوسف: 98] أنه أخّرهم إلى وقت السحر(26).
وضابط وَقت السحر على الصحيح أنه قبل طلوع الفجر بساعة تقريباً على ما حققه الحافظ ـ رحمه الله ـ في الفتح.
وبعدُ.. أخي القارئ الكريم:
بهذه العوامـل والأسباب خطـف علماء الشناقطـة المتـجـولـون الأضــــــواء، وبهـذه الطرق والأساليب في الحفظ بزّوا غيرهم في العلوم التي شاركوهـم فيها، فهـل تجــد فـي هــــــذه الإجـابـــة المقتضبـة ما يشحذ همتـك ويحرك إرادتك ويكون مثالاً لك تحتذيه، ويستحثك لجعل الحـفــــظ أهم طرق العلم الشرعي؟! ذلك ما كنا نبغي، وفضل الله واسع، وكم ترك الأول للآخر ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ)) [المطففين: 26].
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
أصحاب الفضيلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الدكتور يحيى الغوثاني، والدكتور الجكني، أشكركما على إثارتكما للموضوع، وإفادتكما، شحذا للهمم وإيقاظا للعزائم،وهي ليست هذه أول بركاتكما، ولا آخرها، إن شاء الله..
ومن أمتع ما قرأت وأعجبه في نفسي ما جاء في مداخلة الدكتورالجكني عن أم العلامة محمد سالم بن عبد الودود وحفظها للقاموس بتلك الطريقة العجيبة..
أرجو لو تكرم الدكتور أن يعرفنا بالعلامة محمد سالم بن عبد الودود، أو يحيلنا على من يعرفنا به..
نفعنا الله بعلمكم، وأعلا شأنكم، ودمتم في خدمة الإسلام والمسلمين..
فجزاكم الله خيرا..
 
[هناك شريط لفضيلة الشيخ محمد الحسن ول ددو[

وذكر أن نشأتها كانت من دولة المرابطين (الشريط بعنوان المحاظر أوقريبا من هذا العنوان

والشريط موجود في أحد تسجيلات مدينة جدة
 
صناعة الفقيه في المحاضر الموريتانية-حوار مع الشيخ محمد الحسن الددو

صناعة الفقيه في المحاضر الموريتانية-حوار مع الشيخ محمد الحسن الددو

أجرت قناة إقرأ الفضائية حوارا مع الشيخ محمد الحسن الددو، وقد تناول الحوار نشأة المحاضر في موريتانيا ومناهج التدريس فيها، وأسماء أبرز المحاضر العلمية، مع تراجم موجزة لبعض شيوخها قديما وحديثا، فهو حوار ممتع ومفيد، ولمن أراد متابعته، أوتحميله، فهو على هيئة ملف صوتي، على هذا الرابط من موقع الشيخ:
http://dedew.net/downloadsd.php?id=567
 
الأخ محمد البخاري

جزاك الله خيرا على هذه الإضافة

وارجو من الإخوة الشناقطة ذكر المحاظر التي تهتم بالقراءات العشر الصغرى أو الكبرى

,اسماء القراء المجازين بالصغرى أو الكبرى

مشكورين
 
موضوع مهم جداً
وخاصة أنه وجد اليوم من يتهم الشناقطة أنهم مجرد حفظة متون يكررونها فحسب ولم يقدموا للأمة الإسلامية علماً
 
الشناقطة في أول الصف في حفظ المتون واستجضارها , ولكن في التحقيق غيرهم مقدم عليهم وعلوم القراءات لن تجد مثل المصريين .
 
موضوع شيق بارك الله فيكم اتمنى لو يخبرنا أحد الاخوة عن استقبال الوافدين للدراسة وتوفير السكن لهملان بعض الاخوة يتمنى ان يدرس في بلاد الشنقيط في العطلة الصيفية مثلاجزاكم الله خير الجزاء
 
السلام عليكم فعلا موضوع شيق .. ولكن هل بالإمكان الجمع بين طريقة الشناقطة في قوة الحفظ وبين طريقة أهل المشرق في قوة الإستنباط و التحقيق و سعة الاطلاع .. حتى نتمكن من الحصول على مرسة نموذجية ؟... و أيضا نحن في ليبيا لا زالت طريقة القراءة على الألواح في حفظ القرآن فقط .
 
عودة
أعلى