هذه إحدى المسائل التي تعرضت لدراستها في رسالة للتخصص بعنوان
" درء إيهام التعارض بين آيات القرآن الكريم " جامعة الأزهر عام 2004 م وإليكم نص ما ورد فيها ..
مسألة : علم الله بما كان ويكون
قال تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) .
وقال سبحانه :( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) .
الإشكال : صريح الآية الأولى ومثلها في القرآن كثير أن علم الله تعالى محيط بكل ما كان ويكون ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، بينما ظاهر الثانية يوهم الشك والتردد في الإخبار عن عدد من أرسل إليهم نبي الله يونس عليه السلام ، فكيف يتفق ذلك مع ما ثبت من إحاطة علم الله ؟
الجواب من وجوه :
الأول : أن ( أو ) في قوله تعالى : ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) بمعنى بل التي للإضراب ، روي ذلك عن ابن عباس و قاله أبو عبيدة والفراء .
وفي لسان العرب : و " أو " تكون بمعنى " بل " في توسع الكلام ، قال ذو الرُّمة :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أو أنت في العين أملح
يريد: بل أنت .
قال أبو جعفر النحاس : وهذا خطأ عند أكثر النحويين الحذاق ولو كان كما قالا لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائة ألف واستغنى عن أو."
وكذا رد ابن جِنِّىْ استشهاد الفراء ببيت ذي الرمة فقال : (أو) إذا كانت هنا على بابها من الشك كانت أحسن معنى وأعلى مذهبا ، ألا ترى أنه لو أراد بها معنى بل ، فقال بل أنت في العين أملح لم يف بمعنى أو في الشك ، لأنه إذا قطع بيقين أنها في العين أملح كان في ذلك سرف منه ، ودعاء إلى التهمة في الإفراط له ، وإذا خرج الكلام مخرج الشك كان في صورة المقتصد غير المتحامل ولا المتعجرف . فكان أعذب للفظه وأقرب إلى تقبل قوله ، وبعد فهذا مذهب الشعراء أن يظهروا في هذا ونحوه شكا وتخالجا ليُرُوا قوةَ الشَبَه واستحكام الشبهة ، ولا يقطعوا قطع اليقين البتة فينسبوا بذلك إلى الإفراط وغلق الاشتطاط ، وإن كانوا هم ومن بحضرتهم ومن يقرأ من بعد أشعارهم يعلمون ألا حيرة هناك ولا شبهة ، ولكن كذا خرج الكلام على الإحاطة بمحصول الحال "
وقال المبرد في المقتضب : إن قوما من النحويين جعلوا (أو) في هذا الموضع بمنزلة بل ، وهذا فاسد عندنا من وجهين :
أحدهما : أن (أو) لو وقعت في هذا الموضع بمنزلة بل لجاز أن تقع في غير هذا الموضع ، وكنت تقول : ضربت زيدا أو عمرا ، وما ضربت زيدا أو عمرا على غير الشك ، ولكن على معنى (بل) ، فهذا مردود .
والوجه الآخر : أن ( بل ) لا تأتي في الواجب في كلام واحد إلا للإضراب بعد غلط أو نسيان ، وهذا منفي عن الله عزوجل . " .
الثاني : أن (أو) في قوله نعالى ( أو يزيدون ) إنما هي بمعنى الواو ، أي "وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون " ، كما في في قوله تعالى ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) قيل: تقديره وأن نفعل . وإليه ذهب ابن قتيبة فقال: إن بعضهم يذهب إلى أنها بمعنى بل يزيدون ، وليس هذا كما تأولوا وإنما هي بمعنى الواو " .
وذكره ابن جرير وجعل منه قول جرير بن عطية :
نال لخلافة أو كانت له قدرا ** كما أتى ربَّه موسى على قدر
قال : يعني نال الخلافة وكانت له قدرا .
لكنه لم ير أنه أولى الأقوال بل رأى غيره أقرب منه فعقب عليه قائلا : (أو) وإن استعملت في أماكن من أماكن الواو حتى يلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن ، فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين فتوجيهها إلى أصلها ما وجد إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها ومعناها المعروف لها ".
وخطأه أيضا أبو جعفر النحاس فقال : وهذا أيضا خطأ لأن فيه بطلان المعاني.
و قال أبو البقاء العُكْبَرِي : ولا يجوز عند أكثر البصريين أن تحمل أو على الواو ولا على بل ما وجدنا عن ذلك مندوحة "
الثالث : أن المراد بذلك الإبهام على المخاطب كما قال أبو الأسود :
أحب محمدا حبا شديدا **وعباسا وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه **ولست بمخطئ إن كان غيا
قال ابن جرير قالوا ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ، ولكنه أبهم على من خاطبه .
وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل: له شككت ! فقال: كلا والله ! ثم انتزع بقول الله تعالى : (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) فقال أو كان شاكا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال. .
و قال ابن الجوزي :
والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله ، قال لبيد :
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما **وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
أي هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين وقد فنيا فسبيلي أن أفنى كما فنيا " .
الرابع : وقال ابن كثير : إن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله تعالى ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) أي ما هي بألين من الحجارة بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة وكذا قوله (يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) وقوله (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع ههنا" .
الخامس : قال أبو العباس المبرد ( إلى مائة ألف ) فهم فرضه الذي عليه أن يؤديه وقوله (أو يزيدون) يقول فإن زادوا بالأولاد قبل أن يسلموا فادع الأولاد أيضا فيكون دعاؤك للأولاد نافلة لك لا يكون فرضا. .
السادس : أن (أو) على بابها لمعنى الشك ، غير أن الشك ليس من الله تعالى بل من المخاطب أي يشك الرائي لهم فلا يدري أهم مائة ألف أو يزيدون ؟ .
قال ابن جني في الخصائص : فأما قول الله سبحانه :( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) فلا يكون (أو) على مذهب الفراء بمعنى بل ، ولا على مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو ، لكنها عندنا على بابها في كونها شكا . وذلك أن هذا كلام خرج حكاية من الله عز وجل لقول المخلوقين . وتأويله عند أهل النظر : وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموهم لقلتم أنتم فيهم : هؤلاء مائة ألف أو يزيدون . .
وقال الزمخشري : (أو يزيدون) في مرأى الناظر ، أي إذا رآها قال هي مائة ألف أو أكثر ، والغرض الوصف بالزيادة ".
وقال أبو السعود : ( أو يزيدون ) أي في مرأى الناظر فإنه إذا نظر اليهم قال إنهم مائة ألف أو يزيدون والمراد هو الوصف بالكثرة.
وقال ابن منظور : قيل إن معناه (إلى مائة ألف) عند الناس ( أو يزيدون ) عند الناس ، وقيل ( أو يزيدون ) عندكم ، فيجعل معناها للمخاطبين أي هم أصحاب شارة وزي وجمال رائع فإذا رآهم الناس قالوا هؤلاء مائتا ألف ، فحاصل هذا القول أن معناه وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف ( أو يزيدون ) فهذا الشك إنما دخل الكلام على حكاية قول المخلوقين لأن الخالق جل جلاله لا يعترضه الشك في شيء من خبره
وهذا ألطف ما يقدر فيه. . قلت وهو كما قال " ألطف ما يقدر فيه " .