بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
يضع كل مصنف نصب عينيه هدفا واضحا لتصنيفه؛ فالشاطبي مثلا نظم "حرز الأماني" ليقرأ بمضمنها، وابن الجزري نظم الدرة كذلك ليقرأ بمضمنها؛ فمن السهل على من حفظ القرآن العظيم بإحدى الروايات ثم درس هذين المتنين أن يقرأ بطرقهما، لأن كل واحد منهما ليس فيه إلا طريق واحدة؛ فليس في الشاطبية مثلا من طرق قالون إلا طريق أبي نشيط، وليس فيها من طرق أبي نشيط إلا طريق التيسير، وليس فيها من طرق ورش إلا طريق الأزرق، وليس فيها من طرق الأزرق إلا طريق التيسير، فإذا نسبت الشاطبية وجها إلى قالون فمعنى ذلك أنه من طريق أبي نشيط، ومن طريق التيسير عن أبي نشيط، وإذا نسبت وجها إلى ورش فمعنى ذلك أنه من طريق الأزرق ومن طريق التيسير عن الأزرق، وهكذا لا يجد القارئ صعوبة في تحرير الطرق والقراءة بها من هذين المتنين، باستثناء زيادات وإطلاقات وأوهام قليلة نسبيا، نبه عليها شراح المتنين.
أما الطيبة فليست كذلك؛ فلم ينظمها ابن الجزري ليقرأ بمضمنها؛ والدليل على ذلك أن طرقها غير محررة، فقد تضمنت طرق الشاطبية والتيسير ثم زادت عليها ضعف ضعفها، كما يقول عن الحرز (في البيت: 57):
حوت لما فيه مع التيسير=وضعف ضعفه سوى التحرير
وقد بلغت طرقها نحو ألف طريق، كما يقول (في البيتين: 34 - 35):
وهذه الرواة عنهم طرق=أصحها في نشرنا يحقق
باثنين في اثنين وإن لا أربع=فهي زها ألف طريق تجمع
ففي الطيبة أورد ابن الجزري عن قالون مثلا طريقي أبي نشيط والحلواني، ثم أورد عدة طرق لأبي نشيط (فطريق ابن بويان عن أبي نشيط: من التيسير والشاطبية وهداية المهدوي، وكافي ابن شريح، وغاية ابن مهران، وكامل الهذلي، ومستنير ابن سوار، وتلخيص أبي معشر، ومبهج سبط الخياط، وتجريد ابن الفحام، وروضة المالكي، وكفاية أبي العز، ومصباح أبي الكرم، وغاية أبي العلاء، وكفاية السبط في الست. وطريق القزاز عن أبي نشيط: من الشاطبية وتذكرة أبي الحسن بن غلبون، وهادي ابن سفيان، وتلخيص ابن بليمة، وتبصرة مكي، وإعلان الصفراوي، وقراءة ابن الجزري على ابن اللبان)، (انظر: النشر: 1/99 - 102، والروض النضير: 59 - 60). وأورد عدة طرق للحلواني كذلك، وفي الطيبة أورد ابن الجزري عن ورش طريقي الأزرق والإصبهاني، ثم أورد عدة طرق للأزرق، وعدة طرق للإصبهاني، ولم يحرر ابن الجزري هذه الطرق؛ كما يتضح من هذا المثال: فالشاطبي مثلا أفادنا أن قالون وجميع القراء ليس لهم من طرق الشاطبية في "يمل هو" إلا ضم الهاء؛ كما يقول (في البيت: 450):
وثم هو رفقا بان والضم غيرهم=وكسر وعن كل يمل هو انجلى
فعرفنا من ذلك أن مقصوده من طريق أبي نشيط عن قالون، ومن بقية طرق الشاطبية، أما ابن الجزري في الطيبة فقد أفادنا أن قالونا له طريقان في المسألة؛ فله طريق تضم الهاء وطريق تسكنها، كما قال (في البيتين: 439 - 440):
واو ولام رد ثنا بل حز ورم=ثم هو والخلف يمل هو وثم
ثبت بدا ...
لكن ما هي الطريق التي تضم الهاء لقالون وما هي الطريق التي تسكن الهاء لقالون؟ لم يرد ابن الجزري أن يحرر لنا هذه الطرق في طيبته؛ ومن ثم فلا يمكننا نحن أن نحررها اعتمادا على الطيبة وحدها، بل لا بد أن نلجأ إلى النشر وإلى أصوله لكي نحرر هذه الطرق؛ وهكذا لا تمكن مطلقا القراءة بطرق الطيبة منها إلا بالاستعانة بمصادر خارجية.
صحيح أن ابن الجزري في الطيبة قد استعمل مستوى من التحرير في رواية ورش؛ فهو قد حرر بين طريقي الأزرق وورش، وميز كل واحدة منهما في الأصول، كما يقول (في البيتين: 39 - 40):
وحيث جا رمز لورش فهوا=لأزرق لدى الأصول يروى
والاصبهاني كقالون وإن=سميت ورشا فالطريقان إذن
لكنه لم يحرر بين طرق الأزرق، ولم يحرر بين طرق الاصبهاني؛ فهو مثلا قد ذكر الخلاف عن الأزرق في ترقيق الكثير من الراءات، ولكنه لم يحرر لنا طرق الأزرق في هذه المسألة؛ فأي طرق الأزرق تقرأ بترقيق هذه الراءات، وأيها تقرأ بتفخيمها؟ وابن الجزري كذلك قد ذكر الخلاف عن الإصبهاني في مد المنفصل، لكنه لم يحرر لنا طرق الإصبهاني في هذه المسألة؛ فأي طرق الإصبهاني تقرأ بقصر المنفصل؟ وأيها تقرأ بالتوسط؟ وأيها تقرأ بالإشباع؟ وقد خالف ابن الجزري قاعدته هذه – وهي التحرير بين طريقي الأزرق والإصبهاني عن ورش – في كلمة واحدة، هي: "أصطفى البنات"؛ فذكر فيها الخلاف لورش مجملا؛ كما يقول ابن الناظم (شرح الطيبة لابن الناظم: 18): " فإن اتفق الأزرق والإصبهاني في حرف سُمي ورش باسمه، وأما إذا وقع رمز ورش في الفرش فالمراد به ورش من الطريقين ولم يخرج عن ذلك إلا في حرف واحد وهو اصطفى في الصافات ذكر فيه الخلاف عن ورش وهو مفرع على الطريقين فالوصل للاصبهاني والقطع للأزرق كالجماعة".
فقد ركب الناظم إذن جميع الطرق، ولم يحررها، إذا استخدمنا مصطلحات المحررين؛ فأصبح من غير الممكن أن يُقرأ بطرق الطيبة منها، وأصبحت كلها مجملة، حسب عبارة الأصوليين، والمجمل عند الأصوليين: "هو الذي المراد منه يجهل" حسب عبارة مراقي السعود، وكذلك الطيبة لا يمكن أن نعرف منها خصوصيات كل طريق على حدة.
وهذا هو سبب حاجة الطيبة إلى التحريرات، بل هو سبب نشوء فن التحريرات؛ فقد أراد المحررون أن يقرؤوا بمضمن الطيبة، فواجهتهم هذه المشكلة، فحاولوا أن يحرروا طرقها، والغرض الوحيد من التحرير هو تخليص الأوجه من التركيب، كما يقول الإمام المتولي (الروض النضير: 39): "وغاية الغرض منه هنا تخليص الأوجه من التركيب"، ويقول د. عبد الغفور محمود مصطفى جعفر (القراءات : دراسات فيها وتحقيقات : 86): "ويمكننا أن نقول إن حالة الطيبة هذه بعد الاعتماد على حفظها والرواية عن طريقها دون طريق النشر استدعت التأليف في التحريرات". ويقول د. إبراهيم الدوسري عن التحريرات (الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات: 337): "ولكنها لم تظهر ظهورا فاشيا وتفرد بالتأليف – والله أعلم – إلا بعد أن عكف القراء على القراءة بمضمن الطيبة التي جمعت زهاء ألف طريق". وما زالت بعض مناطق العالم الإسلامي لم تعرف وجود التحريرات مطلقا، مثل بلاد المغرب العربي، والسبب في ذلك أن المغاربة لم يحتاجوا إلى التحريرات؛ لأن الطيبة لم تكن من مقررات علم القراءات في مدارسهم العلمية.
إن الهدف الأسمى من التحريرات والحلم الذي يراود كل المحررين عبر التاريخ، هو رد الطيبة إلى أصولها، بحيث نستطيع أن نفرد كل طريق على حدتها، ونفرق ما جمعه ابن الجزري في الطيبة، ونعيد أصول النشر سيرتها الأولى قبل نظم الطيبة؛ فنفرد طريق التيسير، ونفرد طريق التذكرة، ونفرد طريق التبصرة ... وهكذا، كما حاول ذلك في عصرنا الشيخ العلامة المقرئ: محمد إبراهيم محمد سالم في موسوعته العظيمة: "فريدة الدهر في تأصيل وجمع القراءات العشر"؛ فقد حاول في هذا الكتاب الذي يمثل قمة ما يطمح إليه المحررون، أن يفرد ما جمعه ابن الجزري ويفرق ما جمعه؛ فذكر كل طريق من طرق الطيبة على حدة.
لكن المفارقة أن منهج المحررين هنا مخالف لمنهج ابن الجزري ومناقض لهدفه من نظم الطيبة أصلا؛ فإذا كان ابن الجزري يهدف إلى إفراد كل رواية وحدها فلماذا جمع هذه الروايات أصلا؟ ولماذا نظم الطيبة أصلا؟ ولماذا لم يحرر الطرق فينظم مضمن التبصرة على حدة، ومضمن التذكرة على حدة، وهكذا كل أصول النشر؟ لو كان ابن الجزري قد فعل ذلك لانتفت الحاجة إلى علم التحريرات من أساسه، ولم يبق للمحررين ما يحررونه. ولو فرضنا أن المحررين قد نجحوا في مسعاهم هذا وفرقوا ما جمع ابن الجزري من الطرق، وميزوا طريق كل كتاب على حدة، لكان عملهم هذا مجرد تحصيل حاصل، لأنهم باختصار سيعيدون الأمور إلى ما كانت عليه قبل تأليف الطيبة؛ فهذه الكتب والطرق كانت متميزة قبل أن ينظمها ابن الجزري في الطيبة، فماذا أضاف ابن الجزري بنظم الطيبة إذن؟
إن الطيبة "لم تخلق لهذا"؛ كما قالت البقرة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: "وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث. قال الناس: سبحان الله! قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب. رضي الله عنهما" متفق عليه. [رواه البخاري برقم: [3463] ومسلم برقم: [2388].
فإذا كانت البقرة لم تخلق للركوب وحمل المتاع عليها، فإن الطيبة أيضا لم تخلق لتحرير الطرق؛ ولذلك فإن المحررين لم ينجحوا في تحريرها حتى الآن؛ لأنهم أرادوا منها ما لم يرده ناظمها، ولا يزال الخلاف بين المقرئين قائما حول مسوغات وجود علم التحريرات، ولا يزال المحررون يحاولون تحرير طرق الطيبة، ولا يزالون مختلفين حول تحرير طرقها في المناهج والوسائل والمسائل.
ليس من المقبول كذلك أن يقال إن ابن الجزري قد نظم الطيبة لاختصار القراءات أو تيسيرها؛ لأن هذا الاختصار المفترض هو مخل جدا، ويجعل الطيبة عديمة الجدوى، فلو أن طالبا حفظ الطيبة بدون تحريراتها فإنه لا يستطيع أن يقرأ بطريق واحدة من طرق القراءات؛ بل لا بد لحافظ الطيبة لكي يستطيع أن يقرأ بطريق واحدة من طرق القراءات أن يحفظ متون التحريرات، وهي متون طويلة بعضها قريب من طول الطيبة أو أطول منها، وهنا لا يبقى محل لفرضية الاختصار. يقول د. إبراهيم الدوسري (الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات: 366): "لذا لو حفظ الطالب الطيبة كلها عن ظهر قلب لم يمكنه أن يقرأ القراءات بمضمنها؛ نظرا لتشعب الطرق، بخلاف الشاطبية والدرة كما تقدم. فلا سبيل إذن إلى القراءة بمضمن الطيبة إلا عن طريق تخليص القراءات المختلف فيها من التركيب، وذلك بنسبة الطرق إلى أصحابها وهو ما يسمى بـ(التحريرات)، وبمعرفتها يسلم القارئ من الخلط والتلفيق الممتنعين رواية". وحفظ متن الطيبة ومتون تحريراتها وفهم كل ذلك وتطبيقه لا يتأتى إلا لقلة قليلة جدا من الناس؛ لأن معناه باختصار: أن نرجع الطيبة إلى أصولها ونقرأ بطرق ستة وثلاثين كتابا متفرقة، وذلك مناف تماما للاختصار والتيسير، يقول الشيخ محمد تميم الزعبي (في مقدمة طبعته من الطيبة: 11): "فإنه لم يبق في هذه الأيام من يقرأ القراءات بهذا الطريق مع التحقيق والإتقان والبحث والتدقيق إلا القليل، وأكاد أقول: لا يبلغ عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، وإن كثر الأدعياء في هذا الزمان".
فإذا افترضنا أن ابن الجزري لم ينظم الطيبة لكي يقرأ بمضمنها، فلماذا نظمها إذن؟
يبدو من صنيع ابن الجزري أنه نظم الطيبة لهدفين اثنين:
الهدف الأول:
تسهيل الجمع بين القراءات؛ فإذا لم تكن الطيبة قد حررت طرق القراءات، فإنها على الأقل قد جمعت الوجوه المقروء بها، فإذا كانت مثلا لم تحرر أي طرق قالون تسكن هاء "يمل هو" وأي طرقه تضمها، فإنها على الأقل قد جمعت الوجهين اللذين قرأ بهما قالون في هذه الكلمة؛ فكأنما تقول لنا: "لم يقرأ قالون في جميع طرقه بأكثر من هذين الوجهين"، وإن كانت لم تنسب كل واحد من الوجهين إلى طريقه. وهذا ما يحتاج إليه الطلاب المتأهلون في جمعهم للقراءات؛ فهم يريدون أن يقرؤوا على الشيخ أو يعرضوا عليه كل الوجوه، حتى يحصلوا على الإجازة، ولا تهمهم في حالة الجمع نسبة الوجوه إلى طرقها، والشيوخ لا يكلفونهم أن يفردوا كل طريق على حدة، إذا كانوا قد جمعوا على شيخ معتبر، كما يقول ابن الجزري (النشر: 2/196): "نعم كانوا إذا رأوا شخصا قد أفرد وجمع على شيخ معتبر وأجيز وتأهل، فأراد أن يجمع القراءات في ختمة على أحدهم لا يكلفونه بعد ذلك إلى إفراد؛ لعلمهم بأنه قد وصل إلى حد المعرفة والإتقان". فالطالب الذي قرأ على الشيخ بالوجوه التي في الطيبة، يكون قد نجح في مهمته، وهكذا يكون الهدف الأول من أهداف تأليف الطيبة، هو تسهيل الجمع بين القراءات للطلاب المتأهلين. فإذا جمع بها الطلاب وقرؤوا بكل وجوهها مجملة، صار بإمكانهم بعد ذلك - لأنهم متأهلون - أن يرجعوا إلى الطرق فيحرروها؛ فإذا وقفوا على التبصرة مثلا كان بإمكانهم أن يقرؤوا بطريقها محررة، وإذا وقفوا على التذكرة، صار بإمكانهم أن يقرؤوا بطريقها محررة، كذلك.
وقد كان الجمع بين القراءات منهجا متبعا في عصر ابن الجزري وقبله، وليس من باب العبث أن ابن الجزري قد ذكر في الطيبة فصلا عن جمع القراءات، وابتكر هو نفسه طريقة تسهل هذا الجمع، وفي كل ذلك إشارة إلى أن تسهيل الجمع بين القراءات كان من أهداف نظم الطيبة.
الهدف الثاني:
هو تنظيم الزيادات التي أتى بها الشاطبي؛ فالشاطبي قد نظم التيسير، لكنه زاد عليه زيادات أو "فوائد"، كما يقول (البيتين: 68 - 69):
وفي يسرها التيسير رمت اختصاره=فأجنت بعون الله منه مؤملا
وألفافها زادت بنشر فوائد=فلفت حياء وجهها أن تفضلا
لكن الشاطبي لم يتخذ منهجا موحدا لهذه الزيادات؛ فقد يزيد خلافا في موضع، ولا يزيد نظيره في موضع آخر، وهنا لاحظ ابن الجزري هذا النقص فحاول أن ينظم هذه الزيادات؛ فجعل الشاطبية أساس الطيبة، ولكنه قام بتنظيم هذه الزيادات فجعلها من طرق معينة، واستوعب جميع زيادات هذه الطرق؛ فطريق الشاطبية لدوري الكسائي مثلا هي طريق النصيبي؛ لكن الشاطبي والداني ذكرا زيادات من الطريق الأخرى للدوري وهي طريق الضرير؛ فذكرا إمالة يواري وأواري كما يقول الشاطبي (في البيت: 329):
يواري أواري في العقود بخلفه ...
وقد اعترض ابن الجزري على صنيع الشاطبي والداني، وتعجب لماذا لم يعتمدا منهجا موحدا في الزيادات ولماذا خصا هذه الكلمة بالذكر وحدها دون جميع ما تختلف فيه الطريقان، كما يقول (2/39): "وأما ما ذكره الشاطبي رحمه الله ليوارى وأوراى في المائدة فلا أعلم له وجها سوى أنه تبع صاحب التيسير حيث قال: "وروى أبو الفارس عن أبي طاهر عن أبي عثمان سعيد بن عبد الرحيم الضرير عن أبي عمر عن الكسائي أنه أمال يواري وفأواري في الحرفين في المائدة ولم يروه غيره" قال: "وبذلك أخذه - يعني أبا طاهر - من هذا الطريق وغيره ومن طريق ابن مجاهد بالفتح" انتهى. وهو حكاية أراد بها الفائدة على عادته؛ وإن لا فأي تعلق لطريق أبي عثمان الضرير بطريق التيسير؟! ولو أراد ذكر طريق أبي عثمان عن الدوري لذكرها في أسانيده ولم يذكر طريق النصيبي، ولو ذكرها لاحتاج أن يذكر جميع خلافه نحو إمالته الصاد من النصارى والتاء من اليتامى وغير ذلك من ما يأتي، ولذكر إدغامه النون الساكنة والتنوين في الياء حيث وقع في القرآن". وتعجب أيضا من زيادة الشاطبي على طريق التيسير في مسألة ويبصط وفي الخلق بصطة لابن ذكوان (النشر: 2/229): "ولم يكن وجه السين فيهما عن الأخفش إلا في ما ذكرته، ولم يقع ذلك للداني تلاوة، والعجب كيف عول عليه الشاطبي ولم يكن من طرقه ولا من طرق التيسير، وعدل عن طريق النقاش التي لم يذكر في التيسير سواها، وهذا الموضع من ما خرج فيه عن التيسير وطرقه؛ فليعلم ولينبه عليه".
وهكذا أراد ابن الجزري أن يُنَظِّم هذه الزيادات ويجعلها من طرق محددة؛ فذكر مثلا جميع الخلافات بين طريق النصيبي وطريق الضرير عن دوري الكسائي، ولم يقتصر على كلمتي: "يواري" و"فأواري" كما فعل الشاطبي، فإذا كان الطالب يحفظ متن الشاطبية ثم درس الطيبة، فإنه سيلاحظ ما زادته الطيبة على الشاطبية، وسيعرف إجمالا أن هذه الزيادات هي من الطرق المذكورة في النشر.
وقد أشار ابن الجزري إلى ذلك حين وصف الطيبة بأنها لا تغني عن الشاطبية وإنما هي تكملة لها، كما يقول (في البيت: 56):
ولا أقول إنها قد فضلت=حرز الأماني بل به قد كملت
وأشار إلى ذلك أيضا حين أسس طريقته في الرمز على رموز الشاطبية؛ لأن الطيبة لا تغني عنها وإنما هي تكملة لها، كما يقول (في البيت: 54):
وكل ذا اتبعت فيه الشاطبي=ليسهل استحضار كل طالب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
يضع كل مصنف نصب عينيه هدفا واضحا لتصنيفه؛ فالشاطبي مثلا نظم "حرز الأماني" ليقرأ بمضمنها، وابن الجزري نظم الدرة كذلك ليقرأ بمضمنها؛ فمن السهل على من حفظ القرآن العظيم بإحدى الروايات ثم درس هذين المتنين أن يقرأ بطرقهما، لأن كل واحد منهما ليس فيه إلا طريق واحدة؛ فليس في الشاطبية مثلا من طرق قالون إلا طريق أبي نشيط، وليس فيها من طرق أبي نشيط إلا طريق التيسير، وليس فيها من طرق ورش إلا طريق الأزرق، وليس فيها من طرق الأزرق إلا طريق التيسير، فإذا نسبت الشاطبية وجها إلى قالون فمعنى ذلك أنه من طريق أبي نشيط، ومن طريق التيسير عن أبي نشيط، وإذا نسبت وجها إلى ورش فمعنى ذلك أنه من طريق الأزرق ومن طريق التيسير عن الأزرق، وهكذا لا يجد القارئ صعوبة في تحرير الطرق والقراءة بها من هذين المتنين، باستثناء زيادات وإطلاقات وأوهام قليلة نسبيا، نبه عليها شراح المتنين.
أما الطيبة فليست كذلك؛ فلم ينظمها ابن الجزري ليقرأ بمضمنها؛ والدليل على ذلك أن طرقها غير محررة، فقد تضمنت طرق الشاطبية والتيسير ثم زادت عليها ضعف ضعفها، كما يقول عن الحرز (في البيت: 57):
حوت لما فيه مع التيسير=وضعف ضعفه سوى التحرير
وقد بلغت طرقها نحو ألف طريق، كما يقول (في البيتين: 34 - 35):
وهذه الرواة عنهم طرق=أصحها في نشرنا يحقق
باثنين في اثنين وإن لا أربع=فهي زها ألف طريق تجمع
ففي الطيبة أورد ابن الجزري عن قالون مثلا طريقي أبي نشيط والحلواني، ثم أورد عدة طرق لأبي نشيط (فطريق ابن بويان عن أبي نشيط: من التيسير والشاطبية وهداية المهدوي، وكافي ابن شريح، وغاية ابن مهران، وكامل الهذلي، ومستنير ابن سوار، وتلخيص أبي معشر، ومبهج سبط الخياط، وتجريد ابن الفحام، وروضة المالكي، وكفاية أبي العز، ومصباح أبي الكرم، وغاية أبي العلاء، وكفاية السبط في الست. وطريق القزاز عن أبي نشيط: من الشاطبية وتذكرة أبي الحسن بن غلبون، وهادي ابن سفيان، وتلخيص ابن بليمة، وتبصرة مكي، وإعلان الصفراوي، وقراءة ابن الجزري على ابن اللبان)، (انظر: النشر: 1/99 - 102، والروض النضير: 59 - 60). وأورد عدة طرق للحلواني كذلك، وفي الطيبة أورد ابن الجزري عن ورش طريقي الأزرق والإصبهاني، ثم أورد عدة طرق للأزرق، وعدة طرق للإصبهاني، ولم يحرر ابن الجزري هذه الطرق؛ كما يتضح من هذا المثال: فالشاطبي مثلا أفادنا أن قالون وجميع القراء ليس لهم من طرق الشاطبية في "يمل هو" إلا ضم الهاء؛ كما يقول (في البيت: 450):
وثم هو رفقا بان والضم غيرهم=وكسر وعن كل يمل هو انجلى
فعرفنا من ذلك أن مقصوده من طريق أبي نشيط عن قالون، ومن بقية طرق الشاطبية، أما ابن الجزري في الطيبة فقد أفادنا أن قالونا له طريقان في المسألة؛ فله طريق تضم الهاء وطريق تسكنها، كما قال (في البيتين: 439 - 440):
واو ولام رد ثنا بل حز ورم=ثم هو والخلف يمل هو وثم
ثبت بدا ...
لكن ما هي الطريق التي تضم الهاء لقالون وما هي الطريق التي تسكن الهاء لقالون؟ لم يرد ابن الجزري أن يحرر لنا هذه الطرق في طيبته؛ ومن ثم فلا يمكننا نحن أن نحررها اعتمادا على الطيبة وحدها، بل لا بد أن نلجأ إلى النشر وإلى أصوله لكي نحرر هذه الطرق؛ وهكذا لا تمكن مطلقا القراءة بطرق الطيبة منها إلا بالاستعانة بمصادر خارجية.
صحيح أن ابن الجزري في الطيبة قد استعمل مستوى من التحرير في رواية ورش؛ فهو قد حرر بين طريقي الأزرق وورش، وميز كل واحدة منهما في الأصول، كما يقول (في البيتين: 39 - 40):
وحيث جا رمز لورش فهوا=لأزرق لدى الأصول يروى
والاصبهاني كقالون وإن=سميت ورشا فالطريقان إذن
لكنه لم يحرر بين طرق الأزرق، ولم يحرر بين طرق الاصبهاني؛ فهو مثلا قد ذكر الخلاف عن الأزرق في ترقيق الكثير من الراءات، ولكنه لم يحرر لنا طرق الأزرق في هذه المسألة؛ فأي طرق الأزرق تقرأ بترقيق هذه الراءات، وأيها تقرأ بتفخيمها؟ وابن الجزري كذلك قد ذكر الخلاف عن الإصبهاني في مد المنفصل، لكنه لم يحرر لنا طرق الإصبهاني في هذه المسألة؛ فأي طرق الإصبهاني تقرأ بقصر المنفصل؟ وأيها تقرأ بالتوسط؟ وأيها تقرأ بالإشباع؟ وقد خالف ابن الجزري قاعدته هذه – وهي التحرير بين طريقي الأزرق والإصبهاني عن ورش – في كلمة واحدة، هي: "أصطفى البنات"؛ فذكر فيها الخلاف لورش مجملا؛ كما يقول ابن الناظم (شرح الطيبة لابن الناظم: 18): " فإن اتفق الأزرق والإصبهاني في حرف سُمي ورش باسمه، وأما إذا وقع رمز ورش في الفرش فالمراد به ورش من الطريقين ولم يخرج عن ذلك إلا في حرف واحد وهو اصطفى في الصافات ذكر فيه الخلاف عن ورش وهو مفرع على الطريقين فالوصل للاصبهاني والقطع للأزرق كالجماعة".
فقد ركب الناظم إذن جميع الطرق، ولم يحررها، إذا استخدمنا مصطلحات المحررين؛ فأصبح من غير الممكن أن يُقرأ بطرق الطيبة منها، وأصبحت كلها مجملة، حسب عبارة الأصوليين، والمجمل عند الأصوليين: "هو الذي المراد منه يجهل" حسب عبارة مراقي السعود، وكذلك الطيبة لا يمكن أن نعرف منها خصوصيات كل طريق على حدة.
وهذا هو سبب حاجة الطيبة إلى التحريرات، بل هو سبب نشوء فن التحريرات؛ فقد أراد المحررون أن يقرؤوا بمضمن الطيبة، فواجهتهم هذه المشكلة، فحاولوا أن يحرروا طرقها، والغرض الوحيد من التحرير هو تخليص الأوجه من التركيب، كما يقول الإمام المتولي (الروض النضير: 39): "وغاية الغرض منه هنا تخليص الأوجه من التركيب"، ويقول د. عبد الغفور محمود مصطفى جعفر (القراءات : دراسات فيها وتحقيقات : 86): "ويمكننا أن نقول إن حالة الطيبة هذه بعد الاعتماد على حفظها والرواية عن طريقها دون طريق النشر استدعت التأليف في التحريرات". ويقول د. إبراهيم الدوسري عن التحريرات (الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات: 337): "ولكنها لم تظهر ظهورا فاشيا وتفرد بالتأليف – والله أعلم – إلا بعد أن عكف القراء على القراءة بمضمن الطيبة التي جمعت زهاء ألف طريق". وما زالت بعض مناطق العالم الإسلامي لم تعرف وجود التحريرات مطلقا، مثل بلاد المغرب العربي، والسبب في ذلك أن المغاربة لم يحتاجوا إلى التحريرات؛ لأن الطيبة لم تكن من مقررات علم القراءات في مدارسهم العلمية.
إن الهدف الأسمى من التحريرات والحلم الذي يراود كل المحررين عبر التاريخ، هو رد الطيبة إلى أصولها، بحيث نستطيع أن نفرد كل طريق على حدتها، ونفرق ما جمعه ابن الجزري في الطيبة، ونعيد أصول النشر سيرتها الأولى قبل نظم الطيبة؛ فنفرد طريق التيسير، ونفرد طريق التذكرة، ونفرد طريق التبصرة ... وهكذا، كما حاول ذلك في عصرنا الشيخ العلامة المقرئ: محمد إبراهيم محمد سالم في موسوعته العظيمة: "فريدة الدهر في تأصيل وجمع القراءات العشر"؛ فقد حاول في هذا الكتاب الذي يمثل قمة ما يطمح إليه المحررون، أن يفرد ما جمعه ابن الجزري ويفرق ما جمعه؛ فذكر كل طريق من طرق الطيبة على حدة.
لكن المفارقة أن منهج المحررين هنا مخالف لمنهج ابن الجزري ومناقض لهدفه من نظم الطيبة أصلا؛ فإذا كان ابن الجزري يهدف إلى إفراد كل رواية وحدها فلماذا جمع هذه الروايات أصلا؟ ولماذا نظم الطيبة أصلا؟ ولماذا لم يحرر الطرق فينظم مضمن التبصرة على حدة، ومضمن التذكرة على حدة، وهكذا كل أصول النشر؟ لو كان ابن الجزري قد فعل ذلك لانتفت الحاجة إلى علم التحريرات من أساسه، ولم يبق للمحررين ما يحررونه. ولو فرضنا أن المحررين قد نجحوا في مسعاهم هذا وفرقوا ما جمع ابن الجزري من الطرق، وميزوا طريق كل كتاب على حدة، لكان عملهم هذا مجرد تحصيل حاصل، لأنهم باختصار سيعيدون الأمور إلى ما كانت عليه قبل تأليف الطيبة؛ فهذه الكتب والطرق كانت متميزة قبل أن ينظمها ابن الجزري في الطيبة، فماذا أضاف ابن الجزري بنظم الطيبة إذن؟
إن الطيبة "لم تخلق لهذا"؛ كما قالت البقرة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: "وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث. قال الناس: سبحان الله! قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب. رضي الله عنهما" متفق عليه. [رواه البخاري برقم: [3463] ومسلم برقم: [2388].
فإذا كانت البقرة لم تخلق للركوب وحمل المتاع عليها، فإن الطيبة أيضا لم تخلق لتحرير الطرق؛ ولذلك فإن المحررين لم ينجحوا في تحريرها حتى الآن؛ لأنهم أرادوا منها ما لم يرده ناظمها، ولا يزال الخلاف بين المقرئين قائما حول مسوغات وجود علم التحريرات، ولا يزال المحررون يحاولون تحرير طرق الطيبة، ولا يزالون مختلفين حول تحرير طرقها في المناهج والوسائل والمسائل.
ليس من المقبول كذلك أن يقال إن ابن الجزري قد نظم الطيبة لاختصار القراءات أو تيسيرها؛ لأن هذا الاختصار المفترض هو مخل جدا، ويجعل الطيبة عديمة الجدوى، فلو أن طالبا حفظ الطيبة بدون تحريراتها فإنه لا يستطيع أن يقرأ بطريق واحدة من طرق القراءات؛ بل لا بد لحافظ الطيبة لكي يستطيع أن يقرأ بطريق واحدة من طرق القراءات أن يحفظ متون التحريرات، وهي متون طويلة بعضها قريب من طول الطيبة أو أطول منها، وهنا لا يبقى محل لفرضية الاختصار. يقول د. إبراهيم الدوسري (الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات: 366): "لذا لو حفظ الطالب الطيبة كلها عن ظهر قلب لم يمكنه أن يقرأ القراءات بمضمنها؛ نظرا لتشعب الطرق، بخلاف الشاطبية والدرة كما تقدم. فلا سبيل إذن إلى القراءة بمضمن الطيبة إلا عن طريق تخليص القراءات المختلف فيها من التركيب، وذلك بنسبة الطرق إلى أصحابها وهو ما يسمى بـ(التحريرات)، وبمعرفتها يسلم القارئ من الخلط والتلفيق الممتنعين رواية". وحفظ متن الطيبة ومتون تحريراتها وفهم كل ذلك وتطبيقه لا يتأتى إلا لقلة قليلة جدا من الناس؛ لأن معناه باختصار: أن نرجع الطيبة إلى أصولها ونقرأ بطرق ستة وثلاثين كتابا متفرقة، وذلك مناف تماما للاختصار والتيسير، يقول الشيخ محمد تميم الزعبي (في مقدمة طبعته من الطيبة: 11): "فإنه لم يبق في هذه الأيام من يقرأ القراءات بهذا الطريق مع التحقيق والإتقان والبحث والتدقيق إلا القليل، وأكاد أقول: لا يبلغ عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، وإن كثر الأدعياء في هذا الزمان".
فإذا افترضنا أن ابن الجزري لم ينظم الطيبة لكي يقرأ بمضمنها، فلماذا نظمها إذن؟
يبدو من صنيع ابن الجزري أنه نظم الطيبة لهدفين اثنين:
الهدف الأول:
تسهيل الجمع بين القراءات؛ فإذا لم تكن الطيبة قد حررت طرق القراءات، فإنها على الأقل قد جمعت الوجوه المقروء بها، فإذا كانت مثلا لم تحرر أي طرق قالون تسكن هاء "يمل هو" وأي طرقه تضمها، فإنها على الأقل قد جمعت الوجهين اللذين قرأ بهما قالون في هذه الكلمة؛ فكأنما تقول لنا: "لم يقرأ قالون في جميع طرقه بأكثر من هذين الوجهين"، وإن كانت لم تنسب كل واحد من الوجهين إلى طريقه. وهذا ما يحتاج إليه الطلاب المتأهلون في جمعهم للقراءات؛ فهم يريدون أن يقرؤوا على الشيخ أو يعرضوا عليه كل الوجوه، حتى يحصلوا على الإجازة، ولا تهمهم في حالة الجمع نسبة الوجوه إلى طرقها، والشيوخ لا يكلفونهم أن يفردوا كل طريق على حدة، إذا كانوا قد جمعوا على شيخ معتبر، كما يقول ابن الجزري (النشر: 2/196): "نعم كانوا إذا رأوا شخصا قد أفرد وجمع على شيخ معتبر وأجيز وتأهل، فأراد أن يجمع القراءات في ختمة على أحدهم لا يكلفونه بعد ذلك إلى إفراد؛ لعلمهم بأنه قد وصل إلى حد المعرفة والإتقان". فالطالب الذي قرأ على الشيخ بالوجوه التي في الطيبة، يكون قد نجح في مهمته، وهكذا يكون الهدف الأول من أهداف تأليف الطيبة، هو تسهيل الجمع بين القراءات للطلاب المتأهلين. فإذا جمع بها الطلاب وقرؤوا بكل وجوهها مجملة، صار بإمكانهم بعد ذلك - لأنهم متأهلون - أن يرجعوا إلى الطرق فيحرروها؛ فإذا وقفوا على التبصرة مثلا كان بإمكانهم أن يقرؤوا بطريقها محررة، وإذا وقفوا على التذكرة، صار بإمكانهم أن يقرؤوا بطريقها محررة، كذلك.
وقد كان الجمع بين القراءات منهجا متبعا في عصر ابن الجزري وقبله، وليس من باب العبث أن ابن الجزري قد ذكر في الطيبة فصلا عن جمع القراءات، وابتكر هو نفسه طريقة تسهل هذا الجمع، وفي كل ذلك إشارة إلى أن تسهيل الجمع بين القراءات كان من أهداف نظم الطيبة.
الهدف الثاني:
هو تنظيم الزيادات التي أتى بها الشاطبي؛ فالشاطبي قد نظم التيسير، لكنه زاد عليه زيادات أو "فوائد"، كما يقول (البيتين: 68 - 69):
وفي يسرها التيسير رمت اختصاره=فأجنت بعون الله منه مؤملا
وألفافها زادت بنشر فوائد=فلفت حياء وجهها أن تفضلا
لكن الشاطبي لم يتخذ منهجا موحدا لهذه الزيادات؛ فقد يزيد خلافا في موضع، ولا يزيد نظيره في موضع آخر، وهنا لاحظ ابن الجزري هذا النقص فحاول أن ينظم هذه الزيادات؛ فجعل الشاطبية أساس الطيبة، ولكنه قام بتنظيم هذه الزيادات فجعلها من طرق معينة، واستوعب جميع زيادات هذه الطرق؛ فطريق الشاطبية لدوري الكسائي مثلا هي طريق النصيبي؛ لكن الشاطبي والداني ذكرا زيادات من الطريق الأخرى للدوري وهي طريق الضرير؛ فذكرا إمالة يواري وأواري كما يقول الشاطبي (في البيت: 329):
يواري أواري في العقود بخلفه ...
وقد اعترض ابن الجزري على صنيع الشاطبي والداني، وتعجب لماذا لم يعتمدا منهجا موحدا في الزيادات ولماذا خصا هذه الكلمة بالذكر وحدها دون جميع ما تختلف فيه الطريقان، كما يقول (2/39): "وأما ما ذكره الشاطبي رحمه الله ليوارى وأوراى في المائدة فلا أعلم له وجها سوى أنه تبع صاحب التيسير حيث قال: "وروى أبو الفارس عن أبي طاهر عن أبي عثمان سعيد بن عبد الرحيم الضرير عن أبي عمر عن الكسائي أنه أمال يواري وفأواري في الحرفين في المائدة ولم يروه غيره" قال: "وبذلك أخذه - يعني أبا طاهر - من هذا الطريق وغيره ومن طريق ابن مجاهد بالفتح" انتهى. وهو حكاية أراد بها الفائدة على عادته؛ وإن لا فأي تعلق لطريق أبي عثمان الضرير بطريق التيسير؟! ولو أراد ذكر طريق أبي عثمان عن الدوري لذكرها في أسانيده ولم يذكر طريق النصيبي، ولو ذكرها لاحتاج أن يذكر جميع خلافه نحو إمالته الصاد من النصارى والتاء من اليتامى وغير ذلك من ما يأتي، ولذكر إدغامه النون الساكنة والتنوين في الياء حيث وقع في القرآن". وتعجب أيضا من زيادة الشاطبي على طريق التيسير في مسألة ويبصط وفي الخلق بصطة لابن ذكوان (النشر: 2/229): "ولم يكن وجه السين فيهما عن الأخفش إلا في ما ذكرته، ولم يقع ذلك للداني تلاوة، والعجب كيف عول عليه الشاطبي ولم يكن من طرقه ولا من طرق التيسير، وعدل عن طريق النقاش التي لم يذكر في التيسير سواها، وهذا الموضع من ما خرج فيه عن التيسير وطرقه؛ فليعلم ولينبه عليه".
وهكذا أراد ابن الجزري أن يُنَظِّم هذه الزيادات ويجعلها من طرق محددة؛ فذكر مثلا جميع الخلافات بين طريق النصيبي وطريق الضرير عن دوري الكسائي، ولم يقتصر على كلمتي: "يواري" و"فأواري" كما فعل الشاطبي، فإذا كان الطالب يحفظ متن الشاطبية ثم درس الطيبة، فإنه سيلاحظ ما زادته الطيبة على الشاطبية، وسيعرف إجمالا أن هذه الزيادات هي من الطرق المذكورة في النشر.
وقد أشار ابن الجزري إلى ذلك حين وصف الطيبة بأنها لا تغني عن الشاطبية وإنما هي تكملة لها، كما يقول (في البيت: 56):
ولا أقول إنها قد فضلت=حرز الأماني بل به قد كملت
وأشار إلى ذلك أيضا حين أسس طريقته في الرمز على رموز الشاطبية؛ لأن الطيبة لا تغني عنها وإنما هي تكملة لها، كما يقول (في البيت: 54):
وكل ذا اتبعت فيه الشاطبي=ليسهل استحضار كل طالب