أخي الحبيب عبد الكريم، حفظك الله ورعاك ..
أعجبتني جدًا نظرتك الشمولية لمجموع الآيات، وسبرك الجميل لتلافيف السياق القرآني، زادك الله نورًا وبصيرةً.
ولكن يُعكّر صفاءَ هذا الرأي أن العَرَب لا تُغلِّب المؤنث على المذكر عند الجمع، فلو أتى الضمير مذكّرًا (فيهم قاصرات الطرف) لصحَّ التعلّق بعموم ساكني الجنة من المتكئين على سبيل المصاحبة، وهو ما لا يتحقق في المسألة محل المُدارسة. وتعلُّق (في) بمحذوف - أعني عموم نساء الجنة - لا يدل عليه السياق دلالةً مباشرة = أشدُّ تكلّفًا من سائر الأقوال المأثورة. ولا أحسب هذا القول - إن صحَّ - يعزب عن فهوم عموم محققي المفسرين.
واستعمال كلمة (متكئين) - ككلمة مفتاحية في فهم المعنى - يستند إليه أحد التوجيهات التي مردّها إلى إرادة الجمع ولكن من سبيل أخرى؛ إذ جعل الله جل وعلا جنتين لكل امرئ من أهل الجنة (
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)، ثم عدّد الله جل وعلا مباهج الجنتين وزينتهما، ثم التفت النص القرآني من الكلام عن نعيم الفرد إلى الكلام عن نعيم عموم أهل الجنة (
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ)، فناسب السياق إتيان الضمير بصيغة الجمع (
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ)؛ إذ صار عائدًا على مجموع جنان عموم أهل الجنة المتكئين على الفُرُش، وهذا توجيهٌ حسن.
___
وأما ما ذكره أخي العزيز أبو العزايم - حفظه الله تعالى - من استبعاد إرادة الجمع مع إطلاق التثنية فيحتمل المناقشة من وجهين:
أولهما: أن هذا المسلك من مسالك العرب في كلامهم ليس غريبًا على لغة القرآن ولا نائيًا عنها، ومن ذلك قوله جل وعلا: "
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ"، فالمراد بذلك كل أخوين متقاتلين فأكثر، فآل اللفظ إلى إرادة الجمع، ومن ذلك قول الله جل وعلا: "
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ". وأما ذكر الجمع وإرادة التثنية فكثير، ومنه قوله سبحانه وتعالى: "
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا"، وقوله جل وعلا: "
وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ"، وقوله تبارك وتعالى: "
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا"، وهذا كله يؤكّد ثبوت ذلك المسلك في كتاب رب العالمين جل وعلا عند القائلين بذلك.
الثاني: ثبوت القرائن الصارفة إلى معنى الجمع في خطاب الشرع، ومن ذلك قوله جل وعلا: "
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"، وقوله سبحانه: "
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ"، وعامة الآيات التي ذُكرت فيها الجنان على سبيل الجمع. وقال الله سبحانه وتعالى: "
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"، وهذه الآية جمعت بين ذكر الجنان على سبيل الجمع، وذكر الداخل على سبيل الإفراد، فتأمل.
ومن ذلك أيضًا ما أخرجه البخاري من حديث حُميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ"، وأشباه ذلك كثير.
* ملاحظة: أنا أيضًا لا أميل إلى هذا القول، ولا أرى جمهور المفسرين ينتهضون للانتصار له؛ وإنما كتبتُ ما كتبتُ احترامًا لمن ذكر هذا القول من كبار المفسرين وأهل اللغة رحمهم الله ورضي الله عنهم.