د محمد الجبالي
Well-known member
لماذا قال الْمُنْخَنِقَة ولم يقل الْمَخْنُوقَة؟
لماذا قال الله عز وجل: [المنخنقة]، ولم يقل المخنوقة في قول الله تعالى: {[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ]} (المائدة3)؟
مررتُ بهذه الآية من سورة التوبة، فَلَفَتَ نظري قول الله عز وجل: [المنخنقة] ووقع في خاطري تساؤل: لماذا قال المنخنقة ولم يقل المخنوقة، وقد جاء بعدها الموقوذة؟ فلماذا عَدِلَ عن اسم المفعول [المخنوقة] إلى اسم الفاعل؟ ولماذا هذا الوزن خاصة [المنخنقة] من دون غيره؟!
هذه التساؤلات وَقَعَت في خاطري، واقترن بها ميل في قلبي إلى أن المقصود بـ [المنخنقة] الشاة أو البعير أو غيرها مما يَـحِلُّ أكلُه يموت رَغْماً عنه، كأنْ يَلْتَفَ الحبلُ حول عُنُقِها بسبب رُعُونَةِ حَركتها، فَتَخْتَنِقُ فتموت حَتْفًا عنها.
وكان لابد من البحث والنظر في المعاجم، وكتب اللغة، للوقوف على دلالة هذا الوزن الصرفي [المنخنقة (المنفعل)] ومعناه، ثم البحث والنظر في كلام المفسرين في هذه الآية، وفي لفظ المنخنقة خاصة.
أولا: دلالة الوزن الصرفي لصيغة [انفعل]:
إن هذا الوزن [انفعل] له خاصية فريدة تختلف عن غيره من الأوزان، إذ يقوم المفعول به مقام الفاعل، وتأملوا معي:
ثانيا: المعنى في المعاجم:
جاء في اللسان: وقد انْخَنقَ واخْتنقَ وانْخنقت الشاة بنفسها فهي مُنْخَنِقة[1]
وجاء في المعجم الوسيط: ( انخنق ) انعصر حلقه حتى مات والشاة انخنقت بنفسها[2]
ثالثا: تأويل [المنخنقة] لدى المفسرين:
اجتمع جمهور المفسرين على رأي واحد جامع باستثناء عَلَمَيْنِ فَذَّيْنِ وَجَدْتُهما قد رَجَّحَا ما وَقَعَ في قلبي في معنى [المنخنقة]، ورغم أن رأي الجمهور هو الأقرب للأمن والسلامة؛ لأنه يشمل موت الشاة وما شابهها خَنْقاً عَمْداً كان أو حَتْفَ أنفها، إلا أن الراجح عندي أن المقصود هو موت الشاة وغيرها خَنْقاً حَتْفَ أنفها لأن الخطاب في الآية للمسلمين لا لغيرهم، والمسلمون لن يقتلوا الشاة أو الناقة خَنْقاً، بل إنهم سَيَعْمَدُونَ إلى تزكية ذبيحتهم أو صيدهم.
وإليكم ما ذهب إليه ابن جرير الطبري وصاحب المنار رحمهما الله:
أولا الطبري:
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْمُنْخَنِقَةِ أَقْوَالًا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: "فَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهَا الَّتِي تَدْخُلُ رَأْسُهَا بَيْنَ شُعْبَتَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ، فَتَخْتَنِقُ فَتَمُوت، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: الَّتِي تَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَعَنْ قَتَادَةَ : الَّتِي تَمُوتُ فِي خِنَاقِهَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: الشَّاةُ تُوثَقُ فَيَقْتُلُهَا خِنَاقُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، .... ثم قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ الَّتِي تَخْتَنِقُ إِمَّا فِي وِثَاقِهَا ، أَوْ بِإِدْخَالِ رَأْسِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ فَتَخْتَنِقُ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ; لِأَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالِانْخِنَاقِ دُونَ خَنْقِ غَيْرِهَا لَهَا. وَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا لَقِيلَ: وَالْمَخْنُوقَةُ، حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا قَالُوا"[3].
ثانيا: رشيد رضا (صاحب المنار):
واعتمد صاحبُ المنار -رحمه الله- تأويل الطبري هذا، وانتصر له، وأَيَّدَهُ بحجج لغوية ومعنوي، وبل وخَطَّأَ مَنْ يقول بغيره، قال رحمه الله: "وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْمُنْطَبِقُ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ.
وَيَغْلَطُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الِانْخِنَاقِ هُنَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ، كَمَا قَالَ الصَّرْفِيُّونَ فِي مِثْلِ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا ذَوْقَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا لِمَا كَانَ أَثَرًا لِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ; كَكَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ فَلْسَفَةٌ بَاطِلَة، وَأَنَّ الْعَرَبِيَّ الْقِحَّ إِنَّمَا يَقُولُ: انْكَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ انْكَسَرَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَجْهَلُ مَنْ كَسَرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَعْبِيرٍ عَنْ شَيْءٍ تَعَاصَى كَسْرُهُ عَلَى الْكَاسِرِينَ ثُمَّ انْكَسَرَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمْ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ، وَأَرَى ذَوْقِي يُوَافِقُ فِي مَادَّةِ الْخَنْقِ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ مُطَاوِعَ خَنَقَ هُوَ اخْتَنَقَ مِنَ الِافْتِعَالِ، وَأَنِ انْخَنَقَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ بِفِعْلِ الْحَيَوَانِ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ الَّذِي جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ: الْجَمْعُ بِهِ بَيْنَ هَذِهِ الزَّوَائِدِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيْنَ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى مِنْهَا، فَالْمُنْخَنِقَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِتَذْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ لِأَجْلِ أَكْلِه، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ; لِأَنَّ لِمَوْتِهَا سَبَبًا مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي الشَّرْعِ بِالتَّذْكِيَةِ الَّتِي تَكُونُ بِقَصْدِ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَكُونَ وَاثِقًا مِنْ صِحَّةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي يُرِيدُ التَّغَذِّيَ بِهَا ، وَلَوْ أَرَادَ - تَعَالَى - بِالْمُنْخَنِقَةِ: الْمَخْنُوقَةَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ لَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَخْنُوقَةِ أَوِ الْخَنِيقِ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيدُ أَنَّ الْخَنْقَ وَإِنْ كَانَ ضَرْبًا مِنَ التَّذْكِيَةِ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ لَا يَحِلُّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقِ بِالْأَوْلَى، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمَيْتَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْعُدُولُ إِلَى صِيغَةِ الْمُنْخَنِقَةِ لَا تُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ إِلَّا الْإِشْعَارَ بِكَوْنِ الْمُنْخَنِقَةِ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ"[4].
والله أعلم
د. محمد الجبالي
[1] ابن منظور، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، دار صادر، ط1، بيروت، ج10، ص92
[2] المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر، محمد النجار، دار الدعوة، تحقيق: مجمع اللغة العربية، ج1، ص260
[3] الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاك، ط1، 1420هـ - 2000م، مؤسسة الرسالة، ج9، ص(494- 495).
[4] رشيد رضا، محمد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الحكيم، 1990م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج6، ص114.
ل ال
لماذا قال الله عز وجل: [المنخنقة]، ولم يقل المخنوقة في قول الله تعالى: {[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ]} (المائدة3)؟
مررتُ بهذه الآية من سورة التوبة، فَلَفَتَ نظري قول الله عز وجل: [المنخنقة] ووقع في خاطري تساؤل: لماذا قال المنخنقة ولم يقل المخنوقة، وقد جاء بعدها الموقوذة؟ فلماذا عَدِلَ عن اسم المفعول [المخنوقة] إلى اسم الفاعل؟ ولماذا هذا الوزن خاصة [المنخنقة] من دون غيره؟!
هذه التساؤلات وَقَعَت في خاطري، واقترن بها ميل في قلبي إلى أن المقصود بـ [المنخنقة] الشاة أو البعير أو غيرها مما يَـحِلُّ أكلُه يموت رَغْماً عنه، كأنْ يَلْتَفَ الحبلُ حول عُنُقِها بسبب رُعُونَةِ حَركتها، فَتَخْتَنِقُ فتموت حَتْفًا عنها.
وكان لابد من البحث والنظر في المعاجم، وكتب اللغة، للوقوف على دلالة هذا الوزن الصرفي [المنخنقة (المنفعل)] ومعناه، ثم البحث والنظر في كلام المفسرين في هذه الآية، وفي لفظ المنخنقة خاصة.
أولا: دلالة الوزن الصرفي لصيغة [انفعل]:
إن هذا الوزن [انفعل] له خاصية فريدة تختلف عن غيره من الأوزان، إذ يقوم المفعول به مقام الفاعل، وتأملوا معي:
- كَسَرَ الولدُ الزجاجَ ...... اِنْكَسَرَ الزجاجُ.
- قَطَعَ اللِّصُ الحبلَ ....... انقطعَ الحبلُ.
ثانيا: المعنى في المعاجم:
جاء في اللسان: وقد انْخَنقَ واخْتنقَ وانْخنقت الشاة بنفسها فهي مُنْخَنِقة[1]
وجاء في المعجم الوسيط: ( انخنق ) انعصر حلقه حتى مات والشاة انخنقت بنفسها[2]
ثالثا: تأويل [المنخنقة] لدى المفسرين:
اجتمع جمهور المفسرين على رأي واحد جامع باستثناء عَلَمَيْنِ فَذَّيْنِ وَجَدْتُهما قد رَجَّحَا ما وَقَعَ في قلبي في معنى [المنخنقة]، ورغم أن رأي الجمهور هو الأقرب للأمن والسلامة؛ لأنه يشمل موت الشاة وما شابهها خَنْقاً عَمْداً كان أو حَتْفَ أنفها، إلا أن الراجح عندي أن المقصود هو موت الشاة وغيرها خَنْقاً حَتْفَ أنفها لأن الخطاب في الآية للمسلمين لا لغيرهم، والمسلمون لن يقتلوا الشاة أو الناقة خَنْقاً، بل إنهم سَيَعْمَدُونَ إلى تزكية ذبيحتهم أو صيدهم.
وإليكم ما ذهب إليه ابن جرير الطبري وصاحب المنار رحمهما الله:
أولا الطبري:
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْمُنْخَنِقَةِ أَقْوَالًا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذَا الْمَعْنَى: "فَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهَا الَّتِي تَدْخُلُ رَأْسُهَا بَيْنَ شُعْبَتَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ، فَتَخْتَنِقُ فَتَمُوت، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: الَّتِي تَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَعَنْ قَتَادَةَ : الَّتِي تَمُوتُ فِي خِنَاقِهَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: الشَّاةُ تُوثَقُ فَيَقْتُلُهَا خِنَاقُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، .... ثم قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ الَّتِي تَخْتَنِقُ إِمَّا فِي وِثَاقِهَا ، أَوْ بِإِدْخَالِ رَأْسِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ فَتَخْتَنِقُ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ; لِأَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالِانْخِنَاقِ دُونَ خَنْقِ غَيْرِهَا لَهَا. وَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا لَقِيلَ: وَالْمَخْنُوقَةُ، حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا قَالُوا"[3].
ثانيا: رشيد رضا (صاحب المنار):
واعتمد صاحبُ المنار -رحمه الله- تأويل الطبري هذا، وانتصر له، وأَيَّدَهُ بحجج لغوية ومعنوي، وبل وخَطَّأَ مَنْ يقول بغيره، قال رحمه الله: "وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْمُنْطَبِقُ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ.
وَيَغْلَطُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الِانْخِنَاقِ هُنَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ، كَمَا قَالَ الصَّرْفِيُّونَ فِي مِثْلِ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا ذَوْقَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا لِمَا كَانَ أَثَرًا لِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ; كَكَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ فَلْسَفَةٌ بَاطِلَة، وَأَنَّ الْعَرَبِيَّ الْقِحَّ إِنَّمَا يَقُولُ: انْكَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ انْكَسَرَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَجْهَلُ مَنْ كَسَرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَعْبِيرٍ عَنْ شَيْءٍ تَعَاصَى كَسْرُهُ عَلَى الْكَاسِرِينَ ثُمَّ انْكَسَرَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمْ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ، وَأَرَى ذَوْقِي يُوَافِقُ فِي مَادَّةِ الْخَنْقِ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ مُطَاوِعَ خَنَقَ هُوَ اخْتَنَقَ مِنَ الِافْتِعَالِ، وَأَنِ انْخَنَقَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ بِفِعْلِ الْحَيَوَانِ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ الَّذِي جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ: الْجَمْعُ بِهِ بَيْنَ هَذِهِ الزَّوَائِدِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيْنَ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى مِنْهَا، فَالْمُنْخَنِقَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِتَذْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ لِأَجْلِ أَكْلِه، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ; لِأَنَّ لِمَوْتِهَا سَبَبًا مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي الشَّرْعِ بِالتَّذْكِيَةِ الَّتِي تَكُونُ بِقَصْدِ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَكُونَ وَاثِقًا مِنْ صِحَّةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي يُرِيدُ التَّغَذِّيَ بِهَا ، وَلَوْ أَرَادَ - تَعَالَى - بِالْمُنْخَنِقَةِ: الْمَخْنُوقَةَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ لَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَخْنُوقَةِ أَوِ الْخَنِيقِ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيدُ أَنَّ الْخَنْقَ وَإِنْ كَانَ ضَرْبًا مِنَ التَّذْكِيَةِ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ لَا يَحِلُّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقِ بِالْأَوْلَى، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمَيْتَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْعُدُولُ إِلَى صِيغَةِ الْمُنْخَنِقَةِ لَا تُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ إِلَّا الْإِشْعَارَ بِكَوْنِ الْمُنْخَنِقَةِ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ"[4].
والله أعلم
د. محمد الجبالي
[1] ابن منظور، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، دار صادر، ط1، بيروت، ج10، ص92
[2] المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر، محمد النجار، دار الدعوة، تحقيق: مجمع اللغة العربية، ج1، ص260
[3] الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاك، ط1، 1420هـ - 2000م، مؤسسة الرسالة، ج9، ص(494- 495).
[4] رشيد رضا، محمد رشيد بن علي رضا، تفسير القرآن الحكيم، 1990م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج6، ص114.
ل ال