لا يرد القضاء إلا الدعاء

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فالدعاء عبادة بذاته ، ويتضمن أصل العبادة بعمومها ، إذ أصل العبادة الخضوع والتذلل والمسكنة مع الحب لله تعالى ؛ وهذا مما يتضمنه الدعاء .
وقد صح عن النبي e أحاديث تدل على أن للدعاء أثر عظيم في رد القضاء ، وهذا يدل على فضل هذه العبادة العظيمة ، ويحدو بالنفوس المؤمنة بالقدر أن تكثر من الدعاء في أمورها كلها ، فإن الدعاء من القدر الذي يُدفع به القدر .
ولما كانت هذه المسألة مشكلة على فهم البعض ، أردت أن أوضح ما يتعلق بها في هذه الرسالة ، وقد سميتها ( لا يرد القضاء إلا الدعاء ) كما جاء بحديث رسول الله محمد e ؛ وسأتناول فيها ما يتعلق بالدعاء والقدر في المباحث الآتية :
تعريف الدعاء
تعريف القضاء والقدر
حقائق تتعلق بالقدر
العلاقة بين الدعاء والقدر
هذا ؛ والله الكريم أسأل أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، وأن ينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها والدال عليها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ولا أرجو إلا خيره عليه توكلت وإليه أنيب ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
 
تعريف الدعاء
لغة : الدعاء : مصدر من دعا يدعو دعاءً ودعوةً ، أقاموا المصدر مقام الاسم ، تقول : سمعت دعاءً ، كما تقول سمعت صوتًا ، وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم : رجلٌ عدلٌ ، وهذا درهمُ ضرب الأمير ، وهذا ثوبٌ نسج اليمن . أفاده الخطابي - رحمه الله - في ( شأن الدعاء ) ( [1] ) .
والدعوة : المسألة الواحدة ، ويطلق الدعاء ويراد به معانٍ كثيرة ( [2] ) : فيأتي بمعنى الاستغاثة ، والنداء ، والثناء ، والسؤال والطلب ، والرغبة إلى الله تعالى ؛ ويأتي بمعنى التسمية ، وبمعنى العبادة .
فبمعنى الاستغاثة كما في قوله تعالى : ] وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ [ [ البقرة : 23 ] ، وبمعنى النداء كما في قوله تعالى : ] يَوْمَ يَدْعُوكُمْ [ [ الإسراء : 52 ] ، وبمعنى الثناء كما في قوله تعالى : ] قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ [ [ الإسراء : 110 ] ، وبمعنى السؤال كما في قوله تعالى : ] ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ [ غافر : 60 ] ، وبمعنى التسمية كما في قوله تعالى : ] لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [ [ النور : 63 ] ، وبمعنى العبادة كما في قوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [ [ الأعراف : 194 ] ، وقوله U : ] وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ [ [ يونس : 106 ] .
فتلك المعاني تشترك في لفظ الدعاء لغة ، ولكن إذا أطلق لفظ الدعاء فيراد به الثناء على الله سبحانه ، أو الطلب منه U ، لاشتهاره بهذا المعنى ، وهو الحقيقة الشرعية ، أما إذا اقترن به ما يدل على غير ذلك فيحمل معناه عليه ، كأن تقول : ألا تدعو فلانًا بكنيته ، فالمراد النداء أو التسمية .. وهكذا .
ومعنى الدعاء شرعًا : استدعاء العبد ربه U العناية ، واستمداده إياه المعونة ؛ قاله الخطابي رحمه الله ( [3] ) ، فهو ثناء العبد على ربه وتعظيمه ، وطلب حوائجه منه سبحانه ؛ وقيل : هو الطلب على سبيل التضرع .

حقيقة الدعاء :
استشعار الافتقار إلى الغني ، والحاجة إلى المغني ، والذل بين يدي العزيز ، والضعف بين يدي القوي جل في علاه ، مما يعطي العبد القوة الحقيقية ؛ لأنه موصول بالقوي المتين سبحانه وتعالى ؛ وقال الخطابي : إظهار الافتقار إليه والتبرؤ من الحول والقوة ، وهو سمة العبودية ، واستشعار الذلة البشرية ، وفيه معنى الثناء على الله U ، وإضافة الجود والكرم إليه ، ولذلك قال رسول الله e : " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " . ا. هـ ( [4] ) .

[1]- شأن الدعاء : ص3 .

[2] - انظر لسان العرب باب الواو فصل الدال ، وفتح الباري : 11/94 .

[3] - شأن الدعاء : ص 4 .

[4]- شأن الدعاء : ص4 ؛ والحديث رواه أحمد : 4 / 267 ، وأبو داود ( 1479 ) ، والترمذي (3372 ) ، والنسائي في الكبرى ( 11464 ) ، وابن ماجة ( 3828 ) ، وغيرهم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما .
 
تعريف القدر والقضاء
قال الخطابي - رحمه الله : قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه ، معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره ، وليس الأمر كما يتوهمونه ، وإنما معناه : الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم ، وصدورها عن تقدير منه ، وخلقٍ لها خيرها وشرها .
والقدر : اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر ، يقال : قدَرت الشيء ، وقدَّرت ، خفيفة وثقيلة ، بمعنى واحد . والقضاء في هذا معناه الخلق ، كقوله تعالى : ] فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [ [ فصلت : 12 ] ، أي خلقهن . وإذا كان الأمر كذلك : فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور ، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار ، فالحجة إنما تلزمهم بها ، واللائمة تلحقهم عليها .
وجماع القول في هذا الباب : أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن أحدهما بمنزلة الأساس ، والآخر بمنزلة البناء ، فمن رام الفصل بينهما ، فقد رام هدم البناء ونقضه .ا.هـ المراد منه ( [1] ) .
فعلى هذا : فالقدر هو علم الله الأزلي بما تكون عليه المخلوقات . وأما القضاء فمعناه : إيجاد الله تعالى الأشياء حسب علمه وإرادته ( [2] ) . وهما متلازمان .
والقضاء له وجهان : أحدهما تعلقه بالرب سبحانه ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه يرضى به كله . والثاني : تعلقه بالعبد ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به ، وإلى ما لا يُرضى به ؛ ومثال ذلك : قتل النفس - مثلاً - له اعتباران : فمن حيث إنه قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه ، وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره ، يرضى به . ومن حيث إنه صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره ، وعصى الله بفعله ، يسخطه ولا يرضى به . أفاده ابن القيم رحمه الله ، وهو كلام نفيس في بابه ، مَنْ تنبه له اتضحت له كثير من معضلات هذه القضية . وبالله تعالى التوفيق .

[1] - انظر معالم السنن : 7 / 69 ، 70 ( مع مختصر السنن للمنذري ) .

[2] - انظر تبسيط العقائد الإسلامية : ص104 .
 
التكذيب بالقدر نقض للتوحيد
اعلم - رحمني الله وإياك - أن القدر هو الركن السادس من أركان الإيمان التي ذكرها النبي e في حديث جبريل المشهور ، ولا يصح إيمان العبد حتى يؤمن بالقدر ؛ روى مسلم في صحيحه عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ ، فَقُلْنَا : لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ e فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ فَقُلْتُ : أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ ( [1] ) الْعِلْمَ ؛ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ ( [2] ) ، قَالَ : فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ؛ ثُمَّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ e ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ e فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ ، وَقَالَ : " يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ " فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e : " الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ e ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " قَالَ : " صَدَقْتَ " قَالَ : فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ ! قَالَ : " فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ " قَالَ : " أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " قَالَ : " صَدَقْتَ " قَالَ : " فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ " قَالَ : " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " قَالَ : " فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ " قَالَ : " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ! " قَالَ : " فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا " قَالَ : " أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ " قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ؛ ثُمَّ قَالَ لِي : " يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ ؟ " قُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ! قَالَ : " فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ " ( [3] ) .
قال النووي - رحمه الله : واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ، ومعناه : أن الله تبارك وتعالى قدَّر الأشياء في القدم وعلم - سبحانه - أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى ، وعلى صفات مخصوصة ، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى .ا.هـ ( [4] ) ؛ وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : القدر نظام التوحيد ، فمن وحَّد الله U وآمن بالقدر ، فهي العروة الوثقى ( [5] ) التي لا انفصام لها ؛ ومن وحَّد الله تعالى وكذب بالقدر ، نقض التوحيد ( [6] ) ؛ قال ابن أبي العز - رحمه الله - في ( شرح الطحاوية ) : وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم ، وما أظهر من علمه الذي لا يحاط به ، وكتابه مقادير الخلائق ؛ وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ، ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك ، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر . انتهى المراد منه .

[1] - أي : يطلبونه ويتتبعون أثره ، والتقفر : تتبع أثر الشيء .

[2] - أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا مشيئة .

[3] - مسلم ( 8 ) . ورواه أحمد : 1 / 27 ، وأبو داود (4695) ، والترمذي (2615) ، ورواه مختصراً ، النسائي (4990) ، وابن ماجة (63) . ورواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة .

[4] - شرح مسلم : 1 / 154، 155 ، وانظر تفسير القرطبي : 17 / 148 ، وتفسير ابن كثير : 4 / 235.

[5] - العروة : ما يُستمسك به ويُعتصم من الدين ؛ والوثقى : المُحْكَمَة ، وهي من الوثاق ، وهو في الأصل حَبْلٌ أو قَيْدٌ يُشَدّ به الأسير والدَّابَّة .

[6] - رواه عبد الله بن الإمام أحمد في ( السنة ) رقم 925 ، والالكائي في ( اعتقاد أهل السنة ) رقم 1224 ، والفريابي في ( القدر ) رقم 173 ، والآجري في ( الشريعة ) رقم 462 ، 463 ، من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما .
 
حقائق تتعلق بالقدر
هاهنا حقائق أخرى أريد أن أثبتها ، قبل أن أبين علاقة الدعاء بالقدر :
الحقيقة الأولى :
تقدم أن القدر هو علم الله الأزلي بما تكون عليه المخلوقات ؛ وأما الإيمان بالقدر فالتصديق الجازم بأن الله علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد ما سبق في علمه أن يوجد ، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته ، خيرًا كان أو شرًا ؛ ويقتضي الإيمان بالقدر التصديق بأمور أربعة :
الأول : الإيمان بأن الله محيط بكل شيء علمًا ، جملة وتفصيلا أزلا وأبدًا ؛ فقد سبق في علمه U ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم ، ومن هو منهم من أهل الجنة ، ومن هو منهم من أهل النار ، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم .
الثاني : الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة .
الثالث : الإيمان بأن كل ما يحدث في الكون فإنه بمشيئة الله U لا يخرج شيء عن مشيئته .
الرابع : الإيمان بأن الله خلق كل شيء , فكل شيء مخلوق لله U سواء كان من فعله الذي يختص به كإنزال المطر وإخراج النبات ، أو من فعل العبد وفعل المخلوقات , فإن فعل المخلوقات من خلق الله U , لأن فعل المخلوق ناشئ من إرادة وقدرة والإرادة والقدرة من صفات العبد ؛ والعبد وصفاته مخلوقة لله U فكل ما في الكون فهو من خلق الله تعالى ، قال الله Y : ] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ [ الصافات : 96 ] . والعلم عند الله تعالى .
 
الحقيقة الثانية
إن الأمور كلها خيرها وشرها حلوها ومرها بتقدير من الله تبارك وتعالى ؛ وهذا هو مذهب السلف قاطبة ؛ لما قال الله تعالى : ] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [ [ الحجر : 21 ] ، وقال U : ] وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [ [ النساء : 78 ] ، فهذا جواب الله تعالى على من قال : إن الحسنة - وهي الخصب والرزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك - من عند الله ؛ وأما السيئة - وهي القحط والجدب ونقص الثمار والزروع وغير ذلك - من الرسول e ، أي : بسبب اتباعهم له واقتدائهم بدينه ؛ قال ابن كثير - رحمه الله : أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ؛ ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب ، وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : ] فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [ . ا.هـ ( [1] ) .
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ e فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ : ] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [[ القمر : 48 ، 49 ] ( [2] ) ؛ قال النووي : في هذه الآية الكريمة والحديث ، تصريح بإثبات القدر ، وأنه عام في كل شيء ، فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم لله ، مرادٌ له . ا.هـ ( [3] ) .
وعليه : فالإيمان بالقدر فرض لازم وهو : التصديق الجازم بأن الله تعالى فعال لما يريد ، قدَّر كل شيء من خير وشر ، فلا يكون شيء إلا بإرادته ، ولا يخرج عن مشيئته ، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ، ولا يصدر إلا عن تدبيره ، ولا محيد لأحد عن القدر ، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المحفوظ ، وأن الله أمر العباد ونهاهم ، وجعل لهم إرادة واختيارًا ، فأعمالهم - وإن لم تجاوز ما في اللوح المحفوظ - من كسبهم واختيارهم ، يؤاخذهم الله بها ويحاسبهم عليها ، وأنه سبحانه يهدي من يشاء برحمته ، ويضل من يشاء بحكمته ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ؛ والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر .

[1] - تفسير ابن كثير : 1 / 453 .

[2] - مسلم ( 2656 ) ؛ ورواه أحمد : 2 / 444 ، 476 ، والبخاري في خلق أفعال العباد : ص 28 ، والترمذي ( 2157 ، 3290 ) ، وابن ماجة ( 83 ) ، وابن حبان ( 6139 ) .

[3] - المنهاج شرح مسلم : 16 / 205 .
 
شكر الله لك وبارك فيك
واعتقد ان هناك خلط بين معنى القضاء ومعنى القدر ، فالقدر يرده الدعاء والقضاء لا يرد أبداً ولهذا شواهده القرآنية البينة ، وحديث لا يرد القضاء الا الدعاء حوله كلام بالغرابة
لذا فأرجو أن توضح الفرق بين القضاء وبين القدر أولا مدعما قولك بالدليل القرآني والذي في ظني أنه من الخطورة بمكان أن يتم الخوض في مسائل القضاء والقدر مالم يتم تعريفه على وجه الدقة
وفقك الله وأعانك وبارك فيك
 
الحقيقة الثالثة
القدر سر من الأسرار الإلهية التي استأثر الله بها ، فلا يقف عليها أحد مهما بلغ علمه ومقامه ؛ ولذا فمرجع الفصل فيها الأدلة من الكتاب والسنة .
ولهذا السبب قال رسول الله e : " إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا " ( [1] ) ، وقال طاووس اليماني - رحمه الله : اجتنبوا الكلام في القدر ، فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم .ا.هـ . وقال البغوي - رحمه الله : والقدر سر من أسرار الله ، لم يُطْلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا ، ولا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل ، بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ، فجعلهم فريقين : أهل يمين خلقهم للنعيم فضلًا ، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلًا ؛ فنسأل الله التوفيق لطيب المكتسب ، ونعوذ به من سوء المنقلب بفضله . انتهى المراد منه ( [2] ) .
وقال أبو المظفر السمعاني - رحمه الله : سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة ، دون محض القياس ومجرد العقل ، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ، ولم يبلغ شفاء النفس ، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب ، لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت دونه الأستار ، اختص الله به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم ، لما علمه من الحكمة ، وواجبنا أن نقف حيث حُدَّ لنا ولا نتجاوزه ، وقد طوى الله تعالى علم القدر عن العالم ، فلم يعلمه نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، وقيل : إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ، ولا ينكشف قبل دخولها . ا.هـ ( [3] ) . وقد أحسن من قال :

إنما الغـيب كتاب صـانه ... عن عيون الخلق رب العالمين


ليس يبدو للناس منه سوى ... صفحة الحاضر حينًا بعد حين


[1] - رواه الطبراني في الكبير ( 10448 ) ، وأبو نعيم في الحلية : 4 / 108 عن ابن مسعود ، وقال الهيثمي في المجمع 7 / 202 : وفيه مسهر بن عبد الملك ، وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف ، وبقية رجاله رجال الصحيح ا.هـ . ورواه ابن عدي : 7 / 25 ، وله شاهد عن ثوبان عند الطبراني في الكبير ( 1427 ) ، وآخر عن ابن عمر عند ابن عدي : 6 / 162 ، فالحديث بمجموعها حسن أو صحيح ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 559 ) .

[2]- انظر شرح السنة : 1 / 144 ، 145 .

[3] - نقلا من شرح مسلم : 16 / 196 .
 
اخي الحبيب
اصبح عندنا مفردة ثالثة وهي الغيب ، ولم ننتهي من القضاء والقدر!
فلا ارى الا انك زدت الامر غموضا ، انت ماذا ترى وماذا تعتقد
 
الأخ الكريم عدنان الغامدي
أولا : تقبل الله مني ومنك .
ثانيا : مداخلتك الأولى تدل على أنك لم تقرأ لي تعريف القضاء والقدر ، وأن العلماء قالوا أن القدر هو علم الله الأزلي .. وعلم الله لا يرد .. وأما القضاء فهو ما يقع من الأحداث وفق علم الله الأزلي .. وهما متلازمان .. والذي يقع عليه الرد ليس علم الله يقينا ، إنما يقع على الحدث الموافق لعلم الله تعالى .. وسيأتي زيادة بيان خلال هذا البحث إن شاء الله تعالى .
وأما قولك : ( هذه مفردة ثالثة ) ... فلا أدري لما إيراد هذا الاستشكال ، ولا يخفاك أن القدر من الغيب ... وأنا هنا لا أتحدث عن مفردات ... إنما أتحدث عن متعلقات بالموضوع .
بوركت .. أرجو المتابعة ... ولا تتعجل على أخيك ... وفقني الله وإياك .
 
الحقيقة الرابعة
أن ما سبقت به المقادير لا يقتضي ترك الأعمال ، بل يقتضي الاجتهاد والحرص عليها ؛ فعَنْ عَلِيٍّ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ( مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ ) إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً " فَقَالَ رَجَلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ؟ فَقَالَ : " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ " . ثم قرأ :  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى  [ الليل : 5 : 10 ] ( 1 ) .
فدل هذا الحديث ونظائره على أنه لا يُترك العمل اتكالاً على القدر ، وإنما يجب الجد والاجتهاد ؛ كذلك دل على أنه ليس لأحد أن يحتج بالقدر على فعل المعاصي وترك الطاعات ، فمن الذي اطلع على ما كُتب قدرًا ليعلم أنه كُتب عليه هذا أو ذاك ؟! وإذا كان لم يطلع على ما كُتب فهل له أن يحتج بالقدر على فعله ؟! إنما هو مأمور بفعل الطاعات ، ومنهيٌّ عن فعل المعاصي ، فالطائع يفعل الطاعة بإرادته وكسبه واجتهاده ، وكذلك العاصي يفعل المعصية بإرادته واكتسابه ، وكلٌ ميسر لما خلق له ، ولكلا الحالتين أسباب ، ولذلك قرأ النبي  :  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى  .
قال الخطابي - رحمه الله : فهذا الحديث إذا تأملته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك من أمر القدر ، وذلك : أن السائلَ رسولَ الله  والقائل له : أفلا نمكث على كتابنا ، وندع العمل ؟ ، لم يترك شيئًا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب التجويز والتعديل إلا وقد طالب به وسأل عنه ؛ فأعلمه  : أن القياس في هذا الباب متروك ، والمطالبة عليه ساقطة ، وأنه أمرٌ لا يشبه الأمور المعلومة التي عقلت معانيها ، وجرت معاملات الناس عليها ؛ وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة ، لما يصيرون إليه في الحال الآجلة ، فمن تيسر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز ، ومن تيسر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك .ا.هـ ( 2 ) . قال البغوي - رحمه الله - شارحًا هذه الكلمات : قولهم : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ ، مطالبة منهم بأمر يوجب تعطيل العبودية ، وذلك أن إخبار النبي  عن سابق الكتاب ، إخبار عن غيب علم الله سبحانه وتعالى فيهم ، وهو حجة عليهم ، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل ، فأعلمهم النبي  أن هاهنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر : باطن وهو العلة الموجبة في حكم الربوبية ، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية ، وهو أمارة مُخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ، ويشبه أن يكون - والله أعلم - إنما عوملوا بهذه المعاملة ، وتُعبدوا بهذا التعبد ، ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم ، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم ، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ، ليستكملوا بذلك صفة الإيمان ، وبيَّن لهم أن كلًّا ميسر لما خلق له ، وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل ، وتلا قوله تعالى :  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . .. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى  ، وهذه الأمور في حكم الظاهر ، ومن وراء ذلك علم الله  فيهم وهو الحكيم الخبير لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ؛ واطلب نظيره من أمرين : من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ، ومن الأجل المضروب في العمر مع المعالجة بالطب ، فإنك تجد المغيَّبَ فيهما علة موجبة ، والظاهر البادي سببًا مُخيلًا ، وقد اصطلح الناس خواصهم وعوامهم على أن الظاهر فيهما لا يُترك بالباطن . هذا معنى كلام الخطابي رحمه الله . ا.هـ ( 3 ) .
وقال ابن القيم - رحمه الله : اتفقت الأحاديث الواردة في هذا الباب على أن القدر السابق لا يمنع العمل ، ولا يوجب الاتكال عليه ، بل يوجب الجد والاجتهاد ، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال : ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن ؛ وهذا يدل على جلالة فقه الصحابة ، ودقة أفهامهم ، وصحة علومهم ، فإن النبي  أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب ، والعبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ، ومُكن منه ، وهيئ له ، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب ، وكلما زاد اجتهادًا في تحصيل السبب كان المقدور أدنى إليه ؛ وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه ، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعليم وأسبابه ؛ وإذا قدر له أن يُرزق الولد ، لم ينل ذلك إلا بالنكاح ؛ وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المغل كذا وكذا ، لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع ؛ وإذا قدر له الشبع والري فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب .
وذلك شأن أمور المعاش والمعاد ، فمن عطل العمل اتكالًا على القدر السابق ، فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالًا على القدر .
وقد فطر الله عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية ، بل فطر على ذلك سائر الحيوانات .
فهكذا مصالحهم الأخروية في معادهم ، فإنه - سبحانه - رب الدنيا والآخرة ، وهو الحكيم بما ينصبه من الأسباب في المعاش والمعاد ، وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة ، فهو مهيأ له ميسر له ، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادًا في فعلها والقيام بها ، منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه .
وبالجملة : فإن النبي  أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سبب السعادة :
الأول : الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد .
الثاني : الإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجزه عن شره .ا.هـ ( 4 ) .
وبهذا يعلم أنه ليس لأحد حجة في ترك العمل اتكالا على القدر السابق ، كما أنه ليس لأحد حجة في الاحتجاج بالقدر السابق على ما يعمل من المعاصي ، بل على العبد أن يجتهد في تحصيل أسباب الطاعات لينال الدرجات ، وأن يجتهد في الابتعاد عن أسباب المعاصي ، حذرًا من الخسران والعذاب .

( 1 ) - أحمد : 1 / 129 ، والبخاري ( 1362 ، 4948 ) ، ومسلم ( 2647 ) ، وأبو داود ( 4694 ) ، والترمذي ( 2136 ، 3344 ) والنسائي في الكبرى ( 11678 ) ، وابن ماجة ( 78 ) ، وغيرهم .
( 2 ) معالم السنن : 7 / 62 ، 63 ( مع المختصر ) .
( 3 ) شرح السنة : 1 / 133 .
( 4 ) شفاء العليل : 25 ، 26 .
 
الحقيقة الخامسة
إن من القدر ما يكون محتومًا ، وهو الثابت ، ومنه ما يكون مصروفًا بأسبابه ، وهو الممحو ؛ ودليل المحو والإثبات قوله تعالى :  يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ  [ الرعد : 39 ] ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : قال العلماء : إن المحو والإثبات في صحف الملائكة ، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ، ولا يبدو له ما لم يكن عالِمًا به ، فلا محو فيه ولا إثبات ؛ وأما اللوح المحفوظ ؛ فهل فيه محو وإثبات ؟ على قولين . والله تعالى أعلم .ا.هـ ( 1 ) .
والمحو والإثبات في اللوح المحفوظ - عند من قال به - لا يعنيان تغييرًا في علم الله تعالى ، إذ هو عالم بما يمحوه وما يثبته ، وما علم أن سيكون فلابد أن يكون ، كذلك المحو والإثبات ليس عبثًا ، بل لحكمة ، كإجابة دعاء ، وإظهار أثر صلة الرحم ، ونحو ذلك ؛ وقد نقل ابن كثير - رحمه الله - عن ابن عباس  قال :  يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ  إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت ؛ وعن عمر  أنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت عليَّ شِقوة أو ذنباً فامحه واجعله سعادة ومغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ( 2 ) ؛ وعن ابن مسعود ، وأبي وائل شقيق بن سلمة ، بنحو هذا الدعاء ؛ ثم قال : ومعنى هذه الأقوال : أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت ما يشاء ، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه أحمد عَنْ ثَوْبَانَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ " ورواه النسائي وابن ماجة ( 3 ) ؛ وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر ( 4 ) ، وفي حديث آخر : إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض ( 5 ) .ا.هـ .
وقال ابن حجر - رحمه الله : ما سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل ، والذي يجوز عليه التغيير والتبديل ، ما يبدو للناس من عمل العامل ، ولا يبعد ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي ، فيقع فيه المحو والإثبات ، كالزيادة في العمر والنقص ، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات . والعلم عند الله .ا.هـ . وقد سبقه إلى تقرير ذلك المازري وغيره ( 6 ) .
قال الألوسي - رحمه الله - ما ملخصه : إذا كان المحو والإثبات بالنسبة لما في أيدي الملائكة فلا فرق بين السعادة والشقاوة ، والرزق والأجل ، وبين غيرها من المقادير في أن كلا يقبل المحو والإثبات ؛ وإن كانا بالنسبة إلى ما في العلم ، فلا فرق - أيضًا - بين تلك الأمور وبين غيرها ، في أن كلا لا يقبل ذلك ، لأن العلم إنما تعلق بها على ما هي عليه في نفس الأمر ، وإلا لكان جهلًا ، وما في نفس الأمر مما لا يتصور فيه التغير ولا التبدل ، فكأن المعنى : يمحو ما يشاء محوه ، ويثبت ما يشاء إثباته ، مما سطر في الكتب ، وثابت عنده في العلم الأزلي ، الذي لا يكون شيء إلا على وفق ما فيه ؛ ثم إن في دعاء ابن مسعود وأخبار وآثار لا تُحصى كثرة ما هو ظاهر في إمكان التغيير .. ثم قال : ويبدو أن الأمر أكبر من أن نحيط به علمًا ، وأنه لا يسلم من أراد أن يفهم صفات الله من خلال واقع الإنسان وصفاته ، وما على الموفق إلا أن يقطع بتعلق علم الله أزلًا بالأشياء على وجه الإحاطة ، وأنه لا يطرأ أي تغيير على ذلك أبدًا ، وأن المحو والإثبات يدوران مع ما أثبت الله في اللوح ، ولا يخرجان عما علمه أزلا بحال .ا.هـ ( 7 ) . والعلم عند الله تعالى .
هذه أمور مهمة في قضية القدر أردت بيانها قبل الشروع في بيان العلاقة بين الدعاء والقدر ، لحاجة القارئ لها لفهم هذه القضية .

( 1 ) مجموع الفتاوى : 14 / 492 .
( 2 ) ولا تعارض بين كلام عمر وكلام ابن عباس  ؛ فكلام ابن عباس يحمل على السعادة والشقاوة التي لا تتغير ، وهي ما يتعلق بالإيمان والكفر وما يترتب عليهما من سعادة لمن يموت على الإيمان ، وشقاء لمن يموت على الكفر ؛ وأما كلام عمر فيحتمل ما يكون من أمر الذنب الذي يسبب شقوة فيمحى هو وأثره بالتوبة ؛ والعلم عند الله تعالى .
( 3 ) انظر تفسير ابن كثير : 2 / 449 . والحديث رواه أحمد : 5 / 277 ،280 ، 282 ، والنسائي في الكبرى مختصرًا كما في التحفة ( 2093 ) ، وابن ماجة ( 90 ، 4022 ) ؛ ورواه الطبراني في الكبير : 2 / 100 ( 1442 ) ، وابن حبان ( 872 ) ، والحاكم : 1 / 493 ، وصححه ووافقه الذهبي ؛ ورواه البغوي في شرح السنة ( 3418 ) ، وحسنه الحافظ العراقي كما نقله عنه البوصيري في ( الزوائد ) .
( 4 ) روى البخاري (2067) ، ومسلم ( 2557 ) ، عن أنس مرفوعا : " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " . ورواه أحمد : 3 / 156 ، وأبو داود ( 1693 ) .
( 5 ) رواه الطبراني في الأوسط ( 2498 ) ، والحاكم : 1 / 492 ، 493 ، وصححه من حديث عائشة ، وقال الهيثمي في المجمع 10 / 146 : وفيه زكريا بن منظور ، وثقه أحمد بن صالح المصري ، وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات . ا.هـ . وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 7616 ) .
( 6 ) فتح الباري : 11 / 488 ، والمنهاج شرح مسلم للنووي : 16 / 213 .
( 7 ) انظر روح المعاني : 13 / 170 .
 
العلاقة بين الدعاء والقدر
اعلم - رحمني الله وإياك - أنه قد تضافرت الأدلة على أن الدعاء يدفع البلاء ، ويرد القضاء ، فهو من القدر الذي لا شيء أنفع منه في دفع الضر أو جلب النفع .
فعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ " ( 1 ) ؛ وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ " ( 2 ) ؛ وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللهِ " رواه أحمد والطبراني ( 3 ) . وقد مر بك حديث ثوبان رضي الله عنه ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لا ينفع الحذر من القدر ، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر . رواه الحاكم وصححه ( 4 ) .
فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أن الدعاء يدفع البلاء ، ويرد القضاء .
قال الشوكاني - رحمه الله - تعليقًا على حديث سلمان المتقدم : فيه دليل على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد .. إلى أن قال : والحاصل أن الدعاء من قدر الله عز وجل ، فقد يقضي بشيء على عبده قضاء مقيدًا بأن لا يدعوه ، فإذا دعاه اندفع عنه .ا.هـ . وقال ابن القيم - رحمه الله : والدعاء من أنفع الأدوية ، وهو عدو البلاء ، يدافعه ويعالجه ، ويمنع نزوله ، أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن ، كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ ، وَعِمَادُ الدِّينِ ، وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ " ( 5 ) . وله مع البلاء ثلاث مقامات :
أحدها : أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه .
الثاني : أن يكون أضعف من البلاء ، فيقوى عليه البلاء ، فيصاب به العبد ، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا .
الثالث : أن يتقاوما ، ويمنع كل منهما صاحبه . ا.هـ ( 6 ) .
وعلى هذا : فينبغي للداعي أن يقوي دعاءه ليدفع به البلاء ، وذلك باستيفاء شروط الدعاء وآدابه .
وقد ذهب قوم إلى أن الدعاء لا معنى له ، لأن الأقدار سابقة والأقضية متقدمة ، والدعاء لا يزيد فيها ، وتركه لا ينقص منها شيئًا ، ولهذا فلا فائدة من الدعاء والمسألة ؛ واحتجت هذه الطائفة بعموم أحاديث القدر ، وهم محجوجون ، لأن الله تعالى أمر بالدعاء في آي ذوات عدد ، وكذلك هم محجوجون بالأحاديث المتقدمة ، والتي تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الدعاء يرد القضاء ، وأنه من قدر الله الذي يدفع به قدره ؛ وقد أورد الإمام الخطابي هذا القول في ( شأن الدعاء ) ورده ، فقال : فأما من ذهب إلى إبطال الدعاء فمذهب فاسد ، وذلك أن الله سبحانه أمر بالدعاء وحض عليه ، فقال :  ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ  ، وقال عز وجل :  ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً  ، وقال تعالى :  قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ  ، في آي ذوات عدد في القرآن ؛ ومن أبطل الدعاء ، فقد أنكر القرآن ورده ، ولا خفاء بفساد قوله ، وسقوط مذهبه . ا.هـ ( 7 ) .
وللحديث صلة .
( 1 ) - رواه الترمذي ( 2139 ) وقال : حسن غريب ، والطحاوي في شرح المشكل ( 3068 ) ، والبزار ( 2540 ) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع : 6 / 23 .
( 2 ) - رواه الحاكم وصححه ، والطبراني في الدعاء ( 32 ) ، والبزار . وحسنه الألباني ، وسبق تخريجه .
( 3 ) - رواه أحمد : 5 / 234 وإسناده ضعيف ، والطبراني في الدعاء ( 33 ) ؛ وله شاهد عند الترمذي ( 3548 ) والحاكم : 1/ 493 عن ابن عمر - رضي الله عنهما – مرفوعا : " الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء " وفيه عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة ؛ وهو ضعيف ، وشاهد آخر عن ابن عباس موقوفا رواه الحاكم وصححه ، فالحديث حسن بشواهده ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع : 6 / 141 .
( 4 ) - رواه الحاكم : 2 / 350 ، وصححه ووافقه الذهبي .
( 5 ) - الحاكم : 1 / 492 وصححه ووافقه الذهبي ؛ ورواه أبو يعلى ( 439 ) ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : 10 / 147 ، وفيه محمد بن الحسن ابن أبي يزيد وهو متروك .ا.هـ . ولجزء الحديث الأول شاهد من حديث جابر رواه أبو يعلى ( 1812 ) ، قال الهيثمي : وفيه محمد بن أبي حميد وهو ضعيف .
( 6 ) - الجواب الكافي : ص 8 .
( 7 ) - شأن الدعاء : ص 8 ، 9 .
 
العلاقة بين الدعاء والقدر
ورد سؤال إلى العز بن عبد السلام - رحمه الله - هذا نصه : هل يعصي من يقول : لا حاجة بنا إلى الدعاء ، لأنه لا يرد ما قدر وقضي ، أم لا ؟
فأجاب : من زعم أنا لا نحتاج إلى الدعاء فقد كذب وعصى ، ويلزم أن يقول : لا حاجة بنا إلى الطاعة والإيمان ؛ لأن ما قضاه الله من الثواب والعقاب لابد منه ، وما يدري الأخرق الأحمق أن الله قد رتب مصالح الدنيا والآخرة على الأسباب . وبناء على ما سبق به القضاء ، لا بغيره ، لزمه أن لا يأكل إذا جاع ، ولا يشرب إذا عطش ، ولا يلبس إذا برد ، ولا يتداوى إذا مرض ، ويقول في ذلك كله : ما قضاه الله فإنه لا يُرد .. وهذا ما لا يقوله مسلم ولا عاقل ؛ ولقد قال بعض مشايخ الضلال منهم : لا يجوز التداوي لأنه يشرك باعتماده على الأسباب ؛ فكان جوابه : لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يركب ، ولا يدفع عن نفسه من أراد قتله ، ولا عن أهله من قصدهم بالزنا والفواحش ، فبهت الذي فجر .ا.هـ ( [1] ) .
وذكر الخطابي قولاً آخر : وهو أن الدعاء واجب ، إلا أنه لا يستجاب منه إلا ما وافق القضاء .
قال مقيده عفا الله عنه : وما المانع أن يكون هذا القضاء قُدِّر بسبب ، وهذا السبب هو الدعاء ، فإذا دعا العبد وقع المقدور ؟! الحق أنه لا مانع ؛ وعليه فإن الراجح : أن الدعاء يرد القضاء حقيقة ، لأنه من القدر الذي قدره الله ليرد به بعض قضائه ؛ وقد روى الترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ ( يعمر ) رضي الله عنه قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا ، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا ، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا ؟ قَالَ : " هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ " ( [2] ) ، ورواه عبد الرزاق عن الزهري قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! أرأيت اتقاء نتقيه ، ودواء نتداوى به ، ورقى نسترقي بها ، أتغني من القدر ؟ قال : " هِيَ مِنْ القَدَرِ " ( [3] ) ؛ وهذا الحديث فصل في المسألة ، والعلم عند الله تعالى .


[1] - انظر فتاوى العز بن عبد السلام : 98 ، 99 . ( دار الباز - مكة المكرمة ) .

[2] - الترمذي ( 2065 ) ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة ( 3437 ) .

[3] - عبد الرزاق ( 19777 ) وإسناده صحيح إلى الزهري ، ويشهد له ما قبله .
 
العلاقة بين الدعاء والقدر​
وقد أورد الحافظ ابن القيم - رحمه الله - شبهات من خالف ذلك ورد عليها ، فقال : وهاهنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدعُ ، وإن لم يكن قد قدر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله ؟!
فظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء ، وقالت : لا فائدة فيه ؛ وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون ، فلو اطرد مذهبهم لوجب تعطيل جميع الأسباب ، فيقال لأحدهم : إن كان الشبع والري قد قدرا لك ، فلابد من وقوعهما ، أكلت أو لم تأكل ، وإن لم يقدرا لك لم يقعا أكلت أو لم تأكل ؛ وإن كان الولد قد قدر لك ، فلابد منه ، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأهما ، وإن لم يقدر لم يكن ، فلا حاجة إلى التزوج والتسري ؛ وهلم جرا .
فهل يقول هذا عاقل أو آدمي ؟! بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته ، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل .
وتكايس بعضهم وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض ، يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ؛ ولا فرق عند هذا المتكايس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب ، وارتباط الدعاء عندهم كارتباط السكوت ولا فرق .
وقالت طائفة أكيس من هؤلاء : بل الدعاء علامة مجردة ، نصبها الله أمارة على قضاء الحاجة ، فمتى وفق العبد للدعاء ، كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قضيت ؛ وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردًا في زمن الشتاء ، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر ؛ قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والعقاب ، لا أنها أسباب له ، وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار ، والحرق مع الإحراق ، والإزهاق مع القتل ، ليس ذلك سببًا البتة ، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه ، إلا مجرد الاقتران العادي ، لا التأثير السببي ، وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء ، بل أضحكوا العقلاء عليهم .
والصواب : أن هاهنا قسمًا ثالثًا غير ما ذكره السائل ، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ، ومن أسبابه الدعاء ، فلم يقدر مجردًا عن سببه ، ولكن قدر بسببه ، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور ؛ وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، وقدر خروج نفس الحيوان بالذبح ، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ، ودخول النار بالأعمال .
وهذا القسم هو الحق ، وهو الذي حُرِمَهُ السائل ولم يوفق له ؛ وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب ، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء ، لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال ، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ، ولا أبلغ في حصول المطلوب .
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله ، وأفقههم في دينه ، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم ، وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه ، وكان أعظم جنده ، وكان يقول للصحابة : لستم تنصرون بكثرة ، وإنما تنصرون من السماء ؛ وكان يقول : إني لا أحمل هم الإجابة ، ولكن أحمل هم الدعاء ، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه ؛ وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه فقال :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلبا
فمن ألهم الدعاء ، فقد أريد به الإجابة ، فإن الله تعالى يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] ، وقال : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ " ، وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه ، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه ، وقد ذكر أحمد في كتاب الزهد أثرا : " أنا الله ، لا إله إلا أنا ، إذا رضيت باركت ، وليس لبركتي منتهى ، وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد " . ا.هـ ( 1 ) .... وللحديث صلة .

( 1 ) انظر الجواب الكافي ص 9 ، والأثر رواه - أيضًا - أبو نعيم في الحلية : 4 / 41 عن وهب بن منبه .
 
العلاقة بين الدعاء والقدر
وإلى هذا المعنى سبق الإمام الغزالي - رحمه الله - فقال : فإن من القضاء رد البلاء بالدعاء ، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة ، كما أن الترس سبب لرد السهم ، والماء سبب لخروج النبات من الأرض ؛ فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان ، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان ، وليس من شروط الاعتراف بقضاء الله ألا يحمل السلاح ، وقد قال الله تعالى : { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } [ النساء : 102 ] ؛ وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذور ، فيقال : إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر ، وإن لم يسبق لم ينبت ؛ بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول ، الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب ، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر ، والذي قدر الخير قدره بسبب ، والذي قدر الشر قدر لدفعه سببًا ، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته .ا.هـ ( 1 ) .
ومن هذا الباب : دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " ( 2 ) ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط ، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ، فالأول للصفة ، والثاني لأثرها المترتب عليها ، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه ، فاستعاذ بالموصوف بهذه الصفات والأفعال منه ؛ لأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره ، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك ، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه ، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه ، فإعاذتي مما أكره وأحذر ، ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضًا ، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك ؛ فعياذي بك منك : عياذي بحولك وقوتك وقدرتك ورحمتك وإحسانك ، مما يكون بحولك وقوتك وقدرتك وعدلك وحكمتك ، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ، ولا أستعيذ إلا بك ، من شيء هو صادر من مشيئتك وخلقك ، بل هو منك ، ولا أستعيذ بغيرك من شيء هو صادر عن مشيئتك وقضائك ، بل أنت الذي تعيذني بمشيئتك ، مما هو كائن بمشيئتك ، فأعوذ بك منك .
وهذا يتضمن كمال الإثبات للقدر والتوحيد ، بأوجز لفظ وأخصره ، فإن الذي يستعاذ منه من الشر وأسبابه ، هو واقع بقضاء من الرب تعالى وقدره ، وهو المتفرد بخلقه وتقديره وتكوينه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالمستعاذ منه : إما وصفه ، وإما فعله ، وإما مفعوله الذي هو أثر فعله ؛ والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر ، ولا يضر إلا بإذن خالقه ، كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به وهو السحر : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] ؛ فالذي يستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته ، وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته - أيضًا - وقضائه وقدره ، فهو المعيذ من قدره بقدره ، ومما يصدره عن مشيئته وإرادته ، بما يصدره عن مشيئته وإرادته ؛ وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول : إنه لا يملك الضر والنفع والخلق والأمر والإعاذة غيرك ، وأن المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك ، ومخلوق من خلقك ، فما أستعذت إلا بك ، وما استعذت إلا منك .
وهذا نظير قوله في الحديث الآخر : " لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ " ( 3 ) ، فهو الذي ينجي من نفسه بنفسه ، ويعيذ من نفسه بنفسه ، فاستعذ به منه ، وفر منه إليه ، واجعل لجأك منه إليه ، فالأمر كله له ، لا يملك أحد معه شيئًا ، فلا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يأتي بالسيئات إلا هو ، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه ، ولا يضر سم ، ولا سحر ، ولا شيطان ، ولا حيوان ، ولا غيره ، إلا بإذنه ومشيئته ، يصيب به من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء .
فأعرف الخلق به ، وأقواهم بتوحيده ، من قال في دعائه : " وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ " فليس للخلق معاذ سواه ، ولا مستعاذ منه إلا هو ، ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره وسلطانه . ا.هـ ( 4 ) .
فتأمل ذلك جيدًا ، وأعد قراءته مرات ومرات ، وتدبر ما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من أسرار التوحيد والمعارف والعبودية ، فإن ذلك يوقفك على باب عظيم من الفهم ؛ والله المستعان .

( 1 ) - إحياء علوم الدين : 1 / 298 .
( 2 ) رواه أحمد : 6 / 58 ، 201 ، ومسلم ( 486 ) ، وأبو داود ( 879 ) ، والترمذي ( 3493 ) ، والنسائي (1100 ، 1130 ) ، وابن ماجة ( 3841 ) عن عائشة رضي الله عنها ؛ ورواه احمد : 1 / 96 ، 118، وأبو داود في ( 1427 ) ، والترمذي ( 3566 ) ، والنسائي ( 1747 ) عن علي رضي الله عنه .
( 3 ) جزء من حديث صحيح : رواه البخاري ( 247 ، 6311 ، 6315 ، 7488 ) ، ومسلم ( 2710 ) ، وأبو داود ( 5046 ) ، والترمذي ( 3394 ) ، وابن ماجة ( 3876 ) من حديث البراء بن عازب ، ورواه الترمذي (3404) عن رافع بن خديج ؛ وحسنه .
( 4 ) انظر شفاء العليل : 272 ، 273 ؛ ومدارج السالكين : 1 / 279 ؛ وقد أدخلت كلام الشفاء والمدارج بعضه في بعض ، ونقل شارح ( الطحاوية ) كلام ( المدارج ) ؛ وانظر ( شرح الطحاوية ) : 253 .
 
العلاقة بين الدعاء والقدر
وإلى هذا المعنى سبق الإمام الغزالي - رحمه الله - فقال : فإن من القضاء رد البلاء بالدعاء ، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة ، كما أن الترس سبب لرد السهم ، والماء سبب لخروج النبات من الأرض ؛ فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان ، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان ، وليس من شروط الاعتراف بقضاء الله ألا يحمل السلاح ، وقد قال الله تعالى : { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } [ النساء : 102 ] ؛ وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذور ، فيقال : إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر ، وإن لم يسبق لم ينبت ؛ بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول ، الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب ، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر ، والذي قدر الخير قدره بسبب ، والذي قدر الشر قدر لدفعه سببًا ، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته .ا.هـ ( 1 ) .
ومن هذا الباب : دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " ( 2 ) ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط ، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ، فالأول للصفة ، والثاني لأثرها المترتب عليها ، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه ، فاستعاذ بالموصوف بهذه الصفات والأفعال منه ؛ لأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره ، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك ، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه ، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه ، فإعاذتي مما أكره وأحذر ، ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضًا ، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك ؛ فعياذي بك منك : عياذي بحولك وقوتك وقدرتك ورحمتك وإحسانك ، مما يكون بحولك وقوتك وقدرتك وعدلك وحكمتك ، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ، ولا أستعيذ إلا بك ، من شيء هو صادر من مشيئتك وخلقك ، بل هو منك ، ولا أستعيذ بغيرك من شيء هو صادر عن مشيئتك وقضائك ، بل أنت الذي تعيذني بمشيئتك ، مما هو كائن بمشيئتك ، فأعوذ بك منك .
وهذا يتضمن كمال الإثبات للقدر والتوحيد ، بأوجز لفظ وأخصره ، فإن الذي يستعاذ منه من الشر وأسبابه ، هو واقع بقضاء من الرب تعالى وقدره ، وهو المتفرد بخلقه وتقديره وتكوينه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالمستعاذ منه : إما وصفه ، وإما فعله ، وإما مفعوله الذي هو أثر فعله ؛ والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر ، ولا يضر إلا بإذن خالقه ، كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به وهو السحر : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] ؛ فالذي يستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته ، وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته - أيضًا - وقضائه وقدره ، فهو المعيذ من قدره بقدره ، ومما يصدره عن مشيئته وإرادته ، بما يصدره عن مشيئته وإرادته ؛ وكأنه  يقول : إنه لا يملك الضر والنفع والخلق والأمر والإعاذة غيرك ، وأن المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك ، ومخلوق من خلقك ، فما أستعذت إلا بك ، وما استعذت إلا منك .
وهذا نظير قوله في الحديث الآخر : " لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ " ( 3 ) ، فهو الذي ينجي من نفسه بنفسه ، ويعيذ من نفسه بنفسه ، فاستعذ به منه ، وفر منه إليه ، واجعل لجأك منه إليه ، فالأمر كله له ، لا يملك أحد معه شيئًا ، فلا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يأتي بالسيئات إلا هو ، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه ، ولا يضر سم ، ولا سحر ، ولا شيطان ، ولا حيوان ، ولا غيره ، إلا بإذنه ومشيئته ، يصيب به من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء .
فأعرف الخلق به ، وأقواهم بتوحيده ، من قال في دعائه : " وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ " فليس للخلق معاذ سواه ، ولا مستعاذ منه إلا هو ، ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره وسلطانه . ا.هـ ( 4 ) .
فتأمل ذلك جيدًا ، وأعد قراءته مرات ومرات ، وتدبر ما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من أسرار التوحيد والمعارف والعبودية ، فإن ذلك يوقفك على باب عظيم من الفهم ؛ والله المستعان .

( 1 ) - إحياء علوم الدين : 1 / 298 .
( 2 ) رواه أحمد : 6 / 58 ، 201 ، ومسلم ( 486 ) ، وأبو داود ( 879 ) ، والترمذي ( 3493 ) ، والنسائي (1100 ، 1130 ) ، وابن ماجة ( 3841 ) عن عائشة رضي الله عنها ؛ ورواه احمد : 1 / 96 ، 118، وأبو داود في ( 1427 ) ، والترمذي ( 3566 ) ، والنسائي ( 1747 ) عن علي رضي الله عنه .
( 3 ) جزء من حديث صحيح : رواه البخاري ( 247 ، 6311 ، 6315 ، 7488 ) ، ومسلم ( 2710 ) ، وأبو داود ( 5046 ) ، والترمذي ( 3394 ) ، وابن ماجة ( 3876 ) من حديث البراء بن عازب ، ورواه الترمذي (3404) عن رافع بن خديج ؛ وحسنه .
( 4 ) انظر شفاء العليل : 272 ، 273 ؛ ومدارج السالكين : 1 / 279 ؛ وقد أدخلت كلام الشفاء والمدارج بعضه في بعض ، ونقل شارح ( الطحاوية ) كلام ( المدارج ) ؛ وانظر ( شرح الطحاوية ) : 253 .
 
ومما يتعلق بهذه المسالة : الاستخارة
وبسبب ما ذكرنا من علاقة الدعاء بالقضاء علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته صلاة الاستخارة ، فقد روى أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجة عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ : " إِذَا هَمَّ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ( أَوْ قَالَ : فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ) فَاقْدُرْهُ لِي ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ( أَوْ قَالَ : فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ) فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ " وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ( 1 ) .
ذلك لأن العبد لا يعلم أين الخير لنفسه على الحقيقة ، فرب مكروه له فيه خير ، ورب محبوب فيه هلاكه ، كما قال تعالى : { وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] ، وقال سبحانه : { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [ النساء : 19 ] .
ثم إن كل شيء بقدرة الله وإرادته ومشيئته ، فمن أعطاه الله القدرة على فعل الشيء استطاع أن يفعله ، ومن منعه القدرة على فعله عجز عن الفعل .
لهذا علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تستخير الله في الأمور كلها ، لأن المستخير يفوض الأمر لمن يعلمه ويقدر على فعله وتيسيره ، فيطلب فعل الشيء أو صرفه ممن يملكه ويقدر عليه ، ويسأل من بيده تصريف الأمور كلها أن ييسره إن كان خيرًا ، أو يصرفه إن كان شرًا ؛ وهذا من أعظم فوائد الدعاء ، وفيه - بلا ريب - دفع لقدر الله بقدر الله ؛ والعلم عند الله جل وعلا .
والاستخارة هي استفعال من الخير أو من الخِيَرة بكسر أوله وفتح ثانيه ؛ اسم من قولك : خار الله له ، واستخار اللهَ طلب منه الخيرة ، وخار اللهُ له أعطاه ما هو خير له ؛ والمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما ( 2 ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .
لكن قـدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا​
والحمد لله أولا وآخرًا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وعظيم سلطانه ، كما يحب ربنا ويرضى ؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .

( 1 ) - أحمد : 3 / 344 ، والبخاري ( 1166 ، 6382 ، 7390 ) ، والترمـذي في ( 480 ) ، وابن ماجة (1383) .
( 2 ) انظر فتح الباري : 11 / 183 .
 
عودة
أعلى