محمود عبدالله إبراهيم نجا
Member
كُلُ (سماء) و(سماوات) في القُرآن تشمل العُلا الكونية، والدُنا الجوية، إلا بقرينة للتخصيص.
>>>الجزء الأول<<<
ورد المفرد (سماء) في القُرآن ١١٨ مرة في ١١٥ آية، بينما ورد الجمع (سماوات) ١٩٠ مرة في ١٨٨ آية. وتصف اللفظتان لُغوياً كل ما علا فأظل، مثل سقف البيت، والعلو المُطلق، والسحاب، والغلاف الجوي، والسماوات العُلا الكونية. وبرغم هذا الوضوح اللغوي الذي يجعل من الغلاف الجوي للأرض سماوات دُنا أسفل السماوات العُلا، إلا أنه لا توجد قاعدة شاملة تضبط فهمنا للمراد من لفظتي (سماء)، و(سماوات)، فلا نعرف متى تشير للكونية فقط، أو للجوية فقط، أو تشملهما معاً، فحدث قصور في فهمنا للدلالة العلمية لبعض آيات (السماء)، و(السماوات)، مثل تفسير السماء المرفوعة بغير عمد بالعُلا الكونية فقط، مع أن الوصف ينطبق أيضاً على الدُنا الجوية، وتفسير سماوات الرتق بالعُلا الكونية فقط، أو الدُنا الجوية فقط، مع أن كلاهما فعلياً كان في الرتق.
■ الهدف من البحث
1. إثبات أن لفظتي (سماء) و(سماوات) تشمل العُلا الكونية، والدُنا الجوية، إلا بقرينة واضحة في السياق تشير للعُلا الكونية فقط، أو للدُنا الجوية فقط، وبيان هذه القرائن قدر المُستطاع.
2. إثبات أن القُرآن وصف الغلاف الجوي بلفظتي (سماء)، و(سماوات)، وأن الغلاف الجوي يمكن وصفه بالسماوات الدُنا التي تقع أسفل السماوات العُلا.
3. إثبات أن السماوات الموصوفة بالعدد سبعة، سواء (سبع سماوات)، أو (السماوات السبع)، فهي كلها تشير للعُلا الكونية إلا تسوية السماء الدُخانية في سورة فصلت إلى سبع سماوات فهي تحتمل بشدة وصف خلق الغلاف الجوي من دخان الأرض.
■ خطة البحث
لطول البحث، ولتيسير استقراء جميع آيات (سماء)، و(سماوات) في القُرآن، واستنباط قاعدة شاملة لفهم دلالتها، سأقسم هذا البحث إلى ثلاثة أجزاء:
1. في الجزء الأول سأذكر الآيات التي فيها لفظة (سماء)، أو لفظة (سماوات)، وتحتمل السماء الكونية والجوية معاً، ولا أقصد بذلك أبداً أن السماء الجوية جزء من السماء الكونية كما قد يتبادر للذهن، فالسماء الجوية تفصل الأرض عن السماء الدُنيا، كما هو معلوم، ولكن أقصد بذلك أن مفهوم الآية يتحقق في السماء الكونية، كما يتحقق أيضاً في السماء الجوية، كما سنرى لاحقاً.
2. في الجزء الثاني سأذكر الآيات التي التي فيها لفظة (سماء)، أو لفظة (سماوات)، وبها قرائن تخصيص تشير للسماء الكونية فقط، بما في ذلك آيات (سماوات) المرتبطة بالعدد سبعة، وتحتمل العُلا الكونية فقط.
3. في الجزء الثالث سأذكر الآيات التي فيها لفظة (سماء)، أو لفظة (سماوات)، وبها قرائن تخصيص تشير للسماء الجوية فقط، ثم أذكر أدلة تسمية الغلاف الجوي بالسماوات الدُنا، وأخيراً الأدلة التي تثبت أن تسوية السماء الدُخانية في سورة فصلت إلى سبع سماوات، تحتمل بشدة وصف خلق الغلاف الجوي من دخان الأرض، مع بيان الفرق بين سماء فصلت الدُخانية، وسماء النازعات المبنية.
وأرجو ملاحظة أنني أقصد دائماً بالسماء الكونية السماوات السبع العُلا، والتي تبدأ بالسماء الدنيا المزينة بالكواكب، وأقصد بالسماء الجوية، الغلاف الجوي للأرض الذي يمتد من سطح الأرض إلى حدود القمر في السماء الدُنيا.
كما أرجو ملاحظة أن البحث لا يتناول الآيات التي فيها السماء بمعنى سقف البيت أو بمعنى العلو المطلق، أو بمعنى الجنة، فهي خارج إطار هذا البحث.
■ الجزء الأول:
آيات (سماء)، و(سماوات) بدون قرائن تخصيص، فتشمل السماوات العُلا الكونية، والدُنا الجوية
1. آية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، وآية (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وآية (بديع السماوات والأرض)، وآية (خالق السماوات والأرض)، وآية (فاطر السماوات والأرض).
في كل هذه الآيات، لا نجد في السياق قرينة تفيد تخصيص السماء بالجوية أو الكونية، ولذا فلُغوياً الجمع بينهما أولى. وواضح طبعاً أن الله لا يخفى عليه شيء أو خبء في كل ما يُقال له سماء (جوية، أو كونية)، وأن الله أبدع وخلق وفطر كل ما يُقال له سماء (جوية أو كونية)، وهذا يعني ضمنياً أن الغلاف الجوي من منظور قُرآني يُعتبر سماء تحت السماء الدُنيا.
2. آيات خلق السماوات والأرض بدون ذكر (وما بينهما) مثل آية (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام).
السماوات في هذه الآيات لُغوياً تحتمل الكونية والجوية، والسياق لا توجد فيه قرينة تخصيص، فالله خلق الكونية والجوية في نفس الأيام الستة.
وقد يتوهم البعض أن تفسير (سماوات) في هذه الآيات هو نفس تفسير (سماوات) في الآيات التي تضمنت ذكر خلق ما بين السماوات والأرض، مثل آية (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام)، ولكن السياق في هذه الآية لا يسمح بذلك، فقد ذكر بعض المفسرين أن الخلق الذي بين السماوات والأرض يشمل الهواء، وعليه فقرينة (ما بينهما) جعلت السماوات في الآية كونية فقط، ولا تشمل الغلاف الجوي لأنه وُصف بما بينهما. وهذا ما قرره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (١٤ / ٤١٧)، فقال (فَتَارَةً يَذْكُرُ الله وَمَا بَيْنَهُمَا فِيمَا خَلَقَهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَتَارَةً لَا يَذْكُرُهُ، وَهُوَ مُرَادٌ، فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ إيضَاحًا وَبَيَانًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ دَخَلَ فِي لَفْظِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ). فالغلاف الجوي خلقه الله من دُخان الأرض، وأيضاً يُعتبر لُغةً سماء تحت السماء الدُنيا، وقد ثبت حديثاً أن الغلاف الجوي يمتد بين الأرض ولقمر في السماء الدُنيا، ويمكن مراجعة ذلك في بحث (هل يمتد الغلاف الجوي بين الأرض والسماء الدُنيا؟)، على الرابط التالي؛
www.facebook.com
3. آية (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
عندما فسر المفسرون وعلى رأسهم الطبري لفظة (السماوات) في هذه الآية، تحيروا بين فهمين للسماوات، فإما أن تكون العُلا الكونية، فقالوا (فتق الرتق هو الفصل بين السماوات والأرض بالهواء، أو خلق سبع سماوات وسبع أرضين)، وإما أن تكون الدُنا الجوية (الهواء)، فقالوا (فتق الرتق يعني أن السماء رتقً لا تمطر ففتقها الله بالمطر). وقد رجح الطبري وغيره أن الفهم الأخير هو الأصوب لأن الله قال بعد فتق الرتق (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فجعل الماء دليلاً على المطر من جو السماء.
ولكن لأن (الغلاف الجوي)، كان في الرتق مثله مثل السماوات الكونية، ولأن لفظة السماوات تحتمل لُغوياً الكونية والجوية، ولأن الماء يخرج من الأرض كما ينزل من السحاب، فإن الجمع بين الفهمين أولى، وهو ما فعله ابن عاشور في التحرير والتنوير، فقال: (والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ ما يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعانِي الرَّتْقِ والفَتْقِ؛ إذْ لا مانِعَ مِنِ اعْتِبارِ مَعْنًى عامٍّ يَجْمَعُها جَمِيعًا، فَتَكُونُ الآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كُلَّ النّاسِ وعَلى عِبْرَةٍ خاصَّةٍ بِأهْلِ النَّظَرِ والعِلْمِ، فَتَكُونُ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ العِلْمِيَّةِ).
وهذا الفهم العام يجعلنا نُحسن فهم فتق الرتق بشكل أوسع، فهو ليس مجرد فصل سريع بين شيئين ملتصقين، ولكنه آلية ضخمة ربما استمرت طوال أيام الخلق الستة، ففتقت السماوات السبع عن بعضها البعض، وفتقت أرضنا من السماء الدنيا، وفتقت الغلاف الجوي من مكونات أرضنا، وبذلك يثبت أن سماوات الرتق تشمل العُلا الكونية، والدُنا الجوية.
4. آية (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ)، وآية (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ)، وآية (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)، وآية (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)، وآية (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه)، وآية (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)، وآية (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ).
عند تفسير هذه الآيات لم تنتبه التفاسير القديمة أن الغلاف الجوي لُغةً يعتبر سماء وسقف لأرضنا، وهم معذورون لأنهم لم يدرسوه، ولم يعرفوا ثقل وزنه وصعوبة رفعه، أو أنه قد يفلت من جاذبية الأرض فيتركها مُبتعداً عنها، فكان كل تركيزهم في تفسير الآيات السابقة على ما ظهر لهم من آيات السماوات العُلا. وأما التفاسير الحديثة فقل منها من ينتبه لدخول الغلاف الجوي في مُسمى السماء والسقف، فمثلاً يقول السعدي وابن عاشور في تفسير السقف المرفوع، واللفظ للسعدي (السقف المرفوع هو السماء التي جعلها الله سقفا للمخلوقات، وبناء للأرض، تستمد منها أنوارها، وينزل الله منها المطر)، فأدخل كلاهما سماء المطر (الغلاف الجوي) في تفسير السقف المرفوع.
وابن عاشور من أوائل العلماء الذين تحيروا في فهم مُراد الله من السماء، في تفسير آية (ويمسك السماء أن تقع على الأرض)، ففسرها بثلاثة أقوال، فجوز أن تكون السماء العوالم العلوية ومنها الكواكب السيارة، أو أن تكون السماء المطر من جو السماء، أو ان يكون لفظ السماء مُراد به ما في العوالم العلوية، والسماء الجوية. ولأن السماء لُغةً تشمل الكونية والجوية معاً وجميع الآيات السابقة ليس في سياقها قرينة تشير للكونية فقط أو للجوية فقط، فالسياق عام يصلح لوصف الجوية والكونية معاً، فكلتاهما سقف للأرض، وكلتاهما مرفوعتان عن الأرض بغير عمد، وكلتاهما محفوظتان ممسوكتان من الوقوع على الأرض، أو الزوال عنها، ولذا فإنني أرجح القول الثالث لإبن عاشور، والذي قال فيه بجواز أن تكون السماء في الآيات السابقة كونية وجوية معاً، وبالتالي يكون الغلاف الجوي سماء تحت السماء الدُنيا.
5. آية (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان).
إذا أراد جن أو إنس أن يتوجه لاخترق السماوات العُلا الكونية من أي مكان على سطح الأرض، فلابد أن يخترق أولاً طبقات الغلاف الجوي للأرض قبل أن يصل للسماء الدُنيا، ولا شك أن النفاذ بسلطان ينطبق على الغلاف الجوي مثلما ينطبق على السماوات العُلا، فاختراقه يحتاج قوة كبيرة للتغلب على الإحتكاك وجاذبية الأرض، ولعل هذا هو سبب ذكر الأرض بعد السماوات، فلابد من الهروب من جاذبية الأرض وغلافها الجوي. ولذا فالجمع (سماوات) في الآية يشمل الجوية والكونية، وهذا يعني أن الغلاف الجوي هو سماء تحت السماء الدُنيا.
وهنا لابد من توضيح مهم، البعض استدل بهذه الآية على أنه مُحال أن يصل إنس أو جن إلى السماء الدنيا، لأن الله قال (يُرسلُ عليهما شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران)، فأذكر بأن الشياطين قبل الإسلام كانت لهم مقاعد في السماء للسمع (وانا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرسا وشُهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع)، وظاهر الآية أنهم كانوا يصلون للسماء الدُنيا بالسلطان الذي أعطاهم رب العالمين، وهذا ليس هو النفاذ المقصود في الآية، فالنفاذ هو اختراق جسم ما من جهة والخروج من الجهة المقابلة، مثل الطعنة التي نوجهها لجسد ما، فلا تسمى طعنة نافذة، وجرحها نافذ إلا إذا خرج طرف السلاح من الجهة المقابلة. وبالمثل فالنفاذ في الأرض أو في السماوات يقتضي العبور الكامل، وهو ما لا يقدر عليه جن أو إنس، نعم قد ينزلوا عدة كيلوميترات في عمق الأرض، وقد يصعدوا إلى بعض نواحي السماء الدنيا، ولكن محال أن يتحقق لهم النفاذ الكامل، ولذا فإستخدام كلمة نفاذ في هذا التحدي أدق بكثير من كل كلمات الصعود في السماء مثل التصعد، والترقي، والرفع، والعروج، فكلها أنواع من الصعود الممكن للسماء، وأما النفاذ، فصعود مع إختراق وعبور للجهة المقابلة، والله تعالى أعلى واعلم.
6. آيات النزول من السماء والعروج فيها، مثل آية (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)
هناك ما ينزل للأرض من سماء الغلاف الجوي مثل الماء، والبرد، وهناك ما ينزل من السماء العلا الكونية للأرض مثل الشهب، والملائكة، وهناك ما يصعد للغلاف الجوي مثل بخار الماء، والغازات، والدخان، وبعض الأحياء مثل الإنسان والطير، والكائنات الدقيقة، وهناك ما يصعد للسماوات العلا مثل الملائكة والجن، وبعض الرحلات الفضائية التي يسيرها الإنسان، وكل منها يعرج بالمقدار الذي سمح به رب العالمين، مع ملاحظة أن كل صاعد للسماوات العلا من الأرض أو نازل منها للأرض فإنه حتماً يمر بالغلاف الجوي للأرض، وعليه فالسماء في آيات النزول والعروج تشمل الكونية، والجوية.
7. آية (والسماء ذات الرجع)
يرى كثير من المفسرين وعلى رأسهم الطبري أن المراد من هذه الآية المطر، فهو النموذج المُشاهد بالأعين، ولكن المعنى اللغوي لكلمة (السماء) وكلمة (الرجع)، يجعل تفسير الآية يشمل ما هو أكثر من المطر، فالسماء تحتمل لغوياً الجوية والكونية، والرجع هو رجوع شيء لأصل بدأ منه، ولذا نرى بعض التفاسير توسعت في فهم رجع السماء بمقدار هذا الإتساع اللغوي، فقال الطبري وغيره الرجع هو (رجع الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية وتغيب في أخرى)، وقال آخرون الرجع الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد، وقال السعدي (وترجع السماء أيضًا بالأقدار والشئون الإلهية كل وقت)، وأحسن الماوردي حين جمع كل هذه الأقول في تفسيره النكت والعيون، وهو الأصوب أن تكون السماء عامة للكونية والجوية، وأن تتعدد صور الرجع فيهما، ففي الجوية هناك رجع مائي، ورجع الحراري، ورجع موجات لاسلكية، وفي الكونية رجع نجوم وكواكب، ورجع مقادير، ورجع ملائكة، ولا مانع أن نرى قريبا أمثلة علمية للرجع بين السماء الدنيا والأرض، أو داخل السماء الدُنيا، ولله الحمد المعنى اللغوي للسماء في الآية يستوعب كل ذلك.
8. كل آية فيها (ما في السماوات) مثل آية (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وآية (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وآية (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ)، وآية (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وآية (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
تعبير (ما في السماوات) كما يقول أهل اللغة والبلاغة يشمل جميع الأجناس، العاقل منها وغير العاقل، فيدخل فيها كل خلق السماوات الكونية، وكل خلق السماوات الجوية، فالله له ملكها كلها، ويعلم غيبها كلها، وكلها يسجد لله ويسبحه، لا فرق في ذلك بين عاقل او غير عاقل، ولا فرق إن كان في السماوات العُلا الكونية أو في السماوات الدُنا الجوية.
9. كل آية فيها (من في السماوات)، مثل آية (لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)، وآية (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ)، وآية (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وآية (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وآية (يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)، وآية (يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
تعبير (من في السماوات) كما يقول أهل اللغة والبلاغة يشمل الأجناس العاقلة فقط، مثل الإنسان، والملائكة والجن، وغيرهم من عقلاء السماوات الذين لا نعلم عنهم شيء، وإختصاصهم بالذكر بعد تضمينهم في تعبير (ما في السماوات)، لأنهم هم المكلفون بالوحي والأمر، ولأجلهم خلق الله السماوات والأرض، وحقيقة يصعب نفي وجود عقلاء في الغلاف الجوي للأرض، بعد صعود الإنسان بالطائرات، ومركبات الفضاء، كما أنه مجال للملائكة والجن، والله أعلم بما خفي عنا، ولذا فتعبير (من في السماوات) يشمل الكونية والجوية معاً، والله تعالى أعلى وأعلم. وللمزيد عن عقلاء السماوات يمكنكم الإطلاع على بحث (إشارات قُرآنية لعقلاء السماوات)، وهو على الرابط التالي؛
www.facebook.com
10. وبصفة عامة كل (سماء) أو (سماوات) في الآيات التي تخلو سياقاتها من قرائن تدل على الكونية فقط، أو الجوية فقط، فإن مدلولها يكون عام فتشمل الكونية والجوية، مثل السماوات المرتبطة بعلم الله، ومعرفته الغيب، وما خفي في السماء من الخزائن، والسر، والذرة، والخبء، والجنود، وبث الدواب، وكل آية فيها (ما في السماوات)، أو (من في السماوات)، و(ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها)، وكل نظر أو تدبر في آيات السماء، وما فيها، وماذا فيها، ونزول البركات، والأرزاق من السماء، وكل سماوات ارتبطت ببديع، وخلق، وخالق، وفاطر، ومالك، ومُلك، وملكوت ومقاليد، ورتق السماوات، وكل آيات خلق السماوات والأرض بدون ذكر (وما بينهما)، ورفع السماوات، وإمساكها عن الزوال، والنفاذ من السماوات، والسماء ذات الرجع، فكل ذلك يشير للسماوات العُلا الكونية، والدُنا الجوية معاً، والله تعالى أعلى وأعلم.
■ الخاتمة
مما سبق يتيبن لنا أن هناك الكثير من الآيات التي تشير فيها لفظة (سماء)، ولفظة (سماوات)، الى العُلا الكونية، والدُنا الجوية، حيث أن السياق لا توجد به قرائن للترجيح، والفهم اللغوي والتفسيري للآيات يحتمل الجمع بين الكونية والجوية كما بينت أعلاه، وبذلك يثبت أن الغلاف الجوي لأنه مما علا فوق رؤوسنا فإنه يدخل في مفهوم لفظتي (سماء)، و(سماوات) في القرآن، وأنه يعتر سماوات دُنا أسفل السماوات العُلا.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك وما كان من ظن أو خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر
>>>الجزء الأول<<<
ورد المفرد (سماء) في القُرآن ١١٨ مرة في ١١٥ آية، بينما ورد الجمع (سماوات) ١٩٠ مرة في ١٨٨ آية. وتصف اللفظتان لُغوياً كل ما علا فأظل، مثل سقف البيت، والعلو المُطلق، والسحاب، والغلاف الجوي، والسماوات العُلا الكونية. وبرغم هذا الوضوح اللغوي الذي يجعل من الغلاف الجوي للأرض سماوات دُنا أسفل السماوات العُلا، إلا أنه لا توجد قاعدة شاملة تضبط فهمنا للمراد من لفظتي (سماء)، و(سماوات)، فلا نعرف متى تشير للكونية فقط، أو للجوية فقط، أو تشملهما معاً، فحدث قصور في فهمنا للدلالة العلمية لبعض آيات (السماء)، و(السماوات)، مثل تفسير السماء المرفوعة بغير عمد بالعُلا الكونية فقط، مع أن الوصف ينطبق أيضاً على الدُنا الجوية، وتفسير سماوات الرتق بالعُلا الكونية فقط، أو الدُنا الجوية فقط، مع أن كلاهما فعلياً كان في الرتق.
■ الهدف من البحث
1. إثبات أن لفظتي (سماء) و(سماوات) تشمل العُلا الكونية، والدُنا الجوية، إلا بقرينة واضحة في السياق تشير للعُلا الكونية فقط، أو للدُنا الجوية فقط، وبيان هذه القرائن قدر المُستطاع.
2. إثبات أن القُرآن وصف الغلاف الجوي بلفظتي (سماء)، و(سماوات)، وأن الغلاف الجوي يمكن وصفه بالسماوات الدُنا التي تقع أسفل السماوات العُلا.
3. إثبات أن السماوات الموصوفة بالعدد سبعة، سواء (سبع سماوات)، أو (السماوات السبع)، فهي كلها تشير للعُلا الكونية إلا تسوية السماء الدُخانية في سورة فصلت إلى سبع سماوات فهي تحتمل بشدة وصف خلق الغلاف الجوي من دخان الأرض.
■ خطة البحث
لطول البحث، ولتيسير استقراء جميع آيات (سماء)، و(سماوات) في القُرآن، واستنباط قاعدة شاملة لفهم دلالتها، سأقسم هذا البحث إلى ثلاثة أجزاء:
1. في الجزء الأول سأذكر الآيات التي فيها لفظة (سماء)، أو لفظة (سماوات)، وتحتمل السماء الكونية والجوية معاً، ولا أقصد بذلك أبداً أن السماء الجوية جزء من السماء الكونية كما قد يتبادر للذهن، فالسماء الجوية تفصل الأرض عن السماء الدُنيا، كما هو معلوم، ولكن أقصد بذلك أن مفهوم الآية يتحقق في السماء الكونية، كما يتحقق أيضاً في السماء الجوية، كما سنرى لاحقاً.
2. في الجزء الثاني سأذكر الآيات التي التي فيها لفظة (سماء)، أو لفظة (سماوات)، وبها قرائن تخصيص تشير للسماء الكونية فقط، بما في ذلك آيات (سماوات) المرتبطة بالعدد سبعة، وتحتمل العُلا الكونية فقط.
3. في الجزء الثالث سأذكر الآيات التي فيها لفظة (سماء)، أو لفظة (سماوات)، وبها قرائن تخصيص تشير للسماء الجوية فقط، ثم أذكر أدلة تسمية الغلاف الجوي بالسماوات الدُنا، وأخيراً الأدلة التي تثبت أن تسوية السماء الدُخانية في سورة فصلت إلى سبع سماوات، تحتمل بشدة وصف خلق الغلاف الجوي من دخان الأرض، مع بيان الفرق بين سماء فصلت الدُخانية، وسماء النازعات المبنية.
وأرجو ملاحظة أنني أقصد دائماً بالسماء الكونية السماوات السبع العُلا، والتي تبدأ بالسماء الدنيا المزينة بالكواكب، وأقصد بالسماء الجوية، الغلاف الجوي للأرض الذي يمتد من سطح الأرض إلى حدود القمر في السماء الدُنيا.
كما أرجو ملاحظة أن البحث لا يتناول الآيات التي فيها السماء بمعنى سقف البيت أو بمعنى العلو المطلق، أو بمعنى الجنة، فهي خارج إطار هذا البحث.
■ الجزء الأول:
آيات (سماء)، و(سماوات) بدون قرائن تخصيص، فتشمل السماوات العُلا الكونية، والدُنا الجوية
1. آية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، وآية (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وآية (بديع السماوات والأرض)، وآية (خالق السماوات والأرض)، وآية (فاطر السماوات والأرض).
في كل هذه الآيات، لا نجد في السياق قرينة تفيد تخصيص السماء بالجوية أو الكونية، ولذا فلُغوياً الجمع بينهما أولى. وواضح طبعاً أن الله لا يخفى عليه شيء أو خبء في كل ما يُقال له سماء (جوية، أو كونية)، وأن الله أبدع وخلق وفطر كل ما يُقال له سماء (جوية أو كونية)، وهذا يعني ضمنياً أن الغلاف الجوي من منظور قُرآني يُعتبر سماء تحت السماء الدُنيا.
2. آيات خلق السماوات والأرض بدون ذكر (وما بينهما) مثل آية (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام).
السماوات في هذه الآيات لُغوياً تحتمل الكونية والجوية، والسياق لا توجد فيه قرينة تخصيص، فالله خلق الكونية والجوية في نفس الأيام الستة.
وقد يتوهم البعض أن تفسير (سماوات) في هذه الآيات هو نفس تفسير (سماوات) في الآيات التي تضمنت ذكر خلق ما بين السماوات والأرض، مثل آية (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام)، ولكن السياق في هذه الآية لا يسمح بذلك، فقد ذكر بعض المفسرين أن الخلق الذي بين السماوات والأرض يشمل الهواء، وعليه فقرينة (ما بينهما) جعلت السماوات في الآية كونية فقط، ولا تشمل الغلاف الجوي لأنه وُصف بما بينهما. وهذا ما قرره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (١٤ / ٤١٧)، فقال (فَتَارَةً يَذْكُرُ الله وَمَا بَيْنَهُمَا فِيمَا خَلَقَهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَتَارَةً لَا يَذْكُرُهُ، وَهُوَ مُرَادٌ، فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ إيضَاحًا وَبَيَانًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ دَخَلَ فِي لَفْظِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ). فالغلاف الجوي خلقه الله من دُخان الأرض، وأيضاً يُعتبر لُغةً سماء تحت السماء الدُنيا، وقد ثبت حديثاً أن الغلاف الجوي يمتد بين الأرض ولقمر في السماء الدُنيا، ويمكن مراجعة ذلك في بحث (هل يمتد الغلاف الجوي بين الأرض والسماء الدُنيا؟)، على الرابط التالي؛
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
3. آية (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
عندما فسر المفسرون وعلى رأسهم الطبري لفظة (السماوات) في هذه الآية، تحيروا بين فهمين للسماوات، فإما أن تكون العُلا الكونية، فقالوا (فتق الرتق هو الفصل بين السماوات والأرض بالهواء، أو خلق سبع سماوات وسبع أرضين)، وإما أن تكون الدُنا الجوية (الهواء)، فقالوا (فتق الرتق يعني أن السماء رتقً لا تمطر ففتقها الله بالمطر). وقد رجح الطبري وغيره أن الفهم الأخير هو الأصوب لأن الله قال بعد فتق الرتق (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فجعل الماء دليلاً على المطر من جو السماء.
ولكن لأن (الغلاف الجوي)، كان في الرتق مثله مثل السماوات الكونية، ولأن لفظة السماوات تحتمل لُغوياً الكونية والجوية، ولأن الماء يخرج من الأرض كما ينزل من السحاب، فإن الجمع بين الفهمين أولى، وهو ما فعله ابن عاشور في التحرير والتنوير، فقال: (والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ ما يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعانِي الرَّتْقِ والفَتْقِ؛ إذْ لا مانِعَ مِنِ اعْتِبارِ مَعْنًى عامٍّ يَجْمَعُها جَمِيعًا، فَتَكُونُ الآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كُلَّ النّاسِ وعَلى عِبْرَةٍ خاصَّةٍ بِأهْلِ النَّظَرِ والعِلْمِ، فَتَكُونُ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ العِلْمِيَّةِ).
وهذا الفهم العام يجعلنا نُحسن فهم فتق الرتق بشكل أوسع، فهو ليس مجرد فصل سريع بين شيئين ملتصقين، ولكنه آلية ضخمة ربما استمرت طوال أيام الخلق الستة، ففتقت السماوات السبع عن بعضها البعض، وفتقت أرضنا من السماء الدنيا، وفتقت الغلاف الجوي من مكونات أرضنا، وبذلك يثبت أن سماوات الرتق تشمل العُلا الكونية، والدُنا الجوية.
4. آية (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ)، وآية (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ)، وآية (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)، وآية (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)، وآية (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه)، وآية (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)، وآية (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ).
عند تفسير هذه الآيات لم تنتبه التفاسير القديمة أن الغلاف الجوي لُغةً يعتبر سماء وسقف لأرضنا، وهم معذورون لأنهم لم يدرسوه، ولم يعرفوا ثقل وزنه وصعوبة رفعه، أو أنه قد يفلت من جاذبية الأرض فيتركها مُبتعداً عنها، فكان كل تركيزهم في تفسير الآيات السابقة على ما ظهر لهم من آيات السماوات العُلا. وأما التفاسير الحديثة فقل منها من ينتبه لدخول الغلاف الجوي في مُسمى السماء والسقف، فمثلاً يقول السعدي وابن عاشور في تفسير السقف المرفوع، واللفظ للسعدي (السقف المرفوع هو السماء التي جعلها الله سقفا للمخلوقات، وبناء للأرض، تستمد منها أنوارها، وينزل الله منها المطر)، فأدخل كلاهما سماء المطر (الغلاف الجوي) في تفسير السقف المرفوع.
وابن عاشور من أوائل العلماء الذين تحيروا في فهم مُراد الله من السماء، في تفسير آية (ويمسك السماء أن تقع على الأرض)، ففسرها بثلاثة أقوال، فجوز أن تكون السماء العوالم العلوية ومنها الكواكب السيارة، أو أن تكون السماء المطر من جو السماء، أو ان يكون لفظ السماء مُراد به ما في العوالم العلوية، والسماء الجوية. ولأن السماء لُغةً تشمل الكونية والجوية معاً وجميع الآيات السابقة ليس في سياقها قرينة تشير للكونية فقط أو للجوية فقط، فالسياق عام يصلح لوصف الجوية والكونية معاً، فكلتاهما سقف للأرض، وكلتاهما مرفوعتان عن الأرض بغير عمد، وكلتاهما محفوظتان ممسوكتان من الوقوع على الأرض، أو الزوال عنها، ولذا فإنني أرجح القول الثالث لإبن عاشور، والذي قال فيه بجواز أن تكون السماء في الآيات السابقة كونية وجوية معاً، وبالتالي يكون الغلاف الجوي سماء تحت السماء الدُنيا.
5. آية (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان).
إذا أراد جن أو إنس أن يتوجه لاخترق السماوات العُلا الكونية من أي مكان على سطح الأرض، فلابد أن يخترق أولاً طبقات الغلاف الجوي للأرض قبل أن يصل للسماء الدُنيا، ولا شك أن النفاذ بسلطان ينطبق على الغلاف الجوي مثلما ينطبق على السماوات العُلا، فاختراقه يحتاج قوة كبيرة للتغلب على الإحتكاك وجاذبية الأرض، ولعل هذا هو سبب ذكر الأرض بعد السماوات، فلابد من الهروب من جاذبية الأرض وغلافها الجوي. ولذا فالجمع (سماوات) في الآية يشمل الجوية والكونية، وهذا يعني أن الغلاف الجوي هو سماء تحت السماء الدُنيا.
وهنا لابد من توضيح مهم، البعض استدل بهذه الآية على أنه مُحال أن يصل إنس أو جن إلى السماء الدنيا، لأن الله قال (يُرسلُ عليهما شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران)، فأذكر بأن الشياطين قبل الإسلام كانت لهم مقاعد في السماء للسمع (وانا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرسا وشُهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع)، وظاهر الآية أنهم كانوا يصلون للسماء الدُنيا بالسلطان الذي أعطاهم رب العالمين، وهذا ليس هو النفاذ المقصود في الآية، فالنفاذ هو اختراق جسم ما من جهة والخروج من الجهة المقابلة، مثل الطعنة التي نوجهها لجسد ما، فلا تسمى طعنة نافذة، وجرحها نافذ إلا إذا خرج طرف السلاح من الجهة المقابلة. وبالمثل فالنفاذ في الأرض أو في السماوات يقتضي العبور الكامل، وهو ما لا يقدر عليه جن أو إنس، نعم قد ينزلوا عدة كيلوميترات في عمق الأرض، وقد يصعدوا إلى بعض نواحي السماء الدنيا، ولكن محال أن يتحقق لهم النفاذ الكامل، ولذا فإستخدام كلمة نفاذ في هذا التحدي أدق بكثير من كل كلمات الصعود في السماء مثل التصعد، والترقي، والرفع، والعروج، فكلها أنواع من الصعود الممكن للسماء، وأما النفاذ، فصعود مع إختراق وعبور للجهة المقابلة، والله تعالى أعلى واعلم.
6. آيات النزول من السماء والعروج فيها، مثل آية (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)
هناك ما ينزل للأرض من سماء الغلاف الجوي مثل الماء، والبرد، وهناك ما ينزل من السماء العلا الكونية للأرض مثل الشهب، والملائكة، وهناك ما يصعد للغلاف الجوي مثل بخار الماء، والغازات، والدخان، وبعض الأحياء مثل الإنسان والطير، والكائنات الدقيقة، وهناك ما يصعد للسماوات العلا مثل الملائكة والجن، وبعض الرحلات الفضائية التي يسيرها الإنسان، وكل منها يعرج بالمقدار الذي سمح به رب العالمين، مع ملاحظة أن كل صاعد للسماوات العلا من الأرض أو نازل منها للأرض فإنه حتماً يمر بالغلاف الجوي للأرض، وعليه فالسماء في آيات النزول والعروج تشمل الكونية، والجوية.
7. آية (والسماء ذات الرجع)
يرى كثير من المفسرين وعلى رأسهم الطبري أن المراد من هذه الآية المطر، فهو النموذج المُشاهد بالأعين، ولكن المعنى اللغوي لكلمة (السماء) وكلمة (الرجع)، يجعل تفسير الآية يشمل ما هو أكثر من المطر، فالسماء تحتمل لغوياً الجوية والكونية، والرجع هو رجوع شيء لأصل بدأ منه، ولذا نرى بعض التفاسير توسعت في فهم رجع السماء بمقدار هذا الإتساع اللغوي، فقال الطبري وغيره الرجع هو (رجع الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية وتغيب في أخرى)، وقال آخرون الرجع الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد، وقال السعدي (وترجع السماء أيضًا بالأقدار والشئون الإلهية كل وقت)، وأحسن الماوردي حين جمع كل هذه الأقول في تفسيره النكت والعيون، وهو الأصوب أن تكون السماء عامة للكونية والجوية، وأن تتعدد صور الرجع فيهما، ففي الجوية هناك رجع مائي، ورجع الحراري، ورجع موجات لاسلكية، وفي الكونية رجع نجوم وكواكب، ورجع مقادير، ورجع ملائكة، ولا مانع أن نرى قريبا أمثلة علمية للرجع بين السماء الدنيا والأرض، أو داخل السماء الدُنيا، ولله الحمد المعنى اللغوي للسماء في الآية يستوعب كل ذلك.
8. كل آية فيها (ما في السماوات) مثل آية (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وآية (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وآية (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ)، وآية (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وآية (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
تعبير (ما في السماوات) كما يقول أهل اللغة والبلاغة يشمل جميع الأجناس، العاقل منها وغير العاقل، فيدخل فيها كل خلق السماوات الكونية، وكل خلق السماوات الجوية، فالله له ملكها كلها، ويعلم غيبها كلها، وكلها يسجد لله ويسبحه، لا فرق في ذلك بين عاقل او غير عاقل، ولا فرق إن كان في السماوات العُلا الكونية أو في السماوات الدُنا الجوية.
9. كل آية فيها (من في السماوات)، مثل آية (لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)، وآية (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ)، وآية (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وآية (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وآية (يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ)، وآية (يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
تعبير (من في السماوات) كما يقول أهل اللغة والبلاغة يشمل الأجناس العاقلة فقط، مثل الإنسان، والملائكة والجن، وغيرهم من عقلاء السماوات الذين لا نعلم عنهم شيء، وإختصاصهم بالذكر بعد تضمينهم في تعبير (ما في السماوات)، لأنهم هم المكلفون بالوحي والأمر، ولأجلهم خلق الله السماوات والأرض، وحقيقة يصعب نفي وجود عقلاء في الغلاف الجوي للأرض، بعد صعود الإنسان بالطائرات، ومركبات الفضاء، كما أنه مجال للملائكة والجن، والله أعلم بما خفي عنا، ولذا فتعبير (من في السماوات) يشمل الكونية والجوية معاً، والله تعالى أعلى وأعلم. وللمزيد عن عقلاء السماوات يمكنكم الإطلاع على بحث (إشارات قُرآنية لعقلاء السماوات)، وهو على الرابط التالي؛
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
10. وبصفة عامة كل (سماء) أو (سماوات) في الآيات التي تخلو سياقاتها من قرائن تدل على الكونية فقط، أو الجوية فقط، فإن مدلولها يكون عام فتشمل الكونية والجوية، مثل السماوات المرتبطة بعلم الله، ومعرفته الغيب، وما خفي في السماء من الخزائن، والسر، والذرة، والخبء، والجنود، وبث الدواب، وكل آية فيها (ما في السماوات)، أو (من في السماوات)، و(ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها)، وكل نظر أو تدبر في آيات السماء، وما فيها، وماذا فيها، ونزول البركات، والأرزاق من السماء، وكل سماوات ارتبطت ببديع، وخلق، وخالق، وفاطر، ومالك، ومُلك، وملكوت ومقاليد، ورتق السماوات، وكل آيات خلق السماوات والأرض بدون ذكر (وما بينهما)، ورفع السماوات، وإمساكها عن الزوال، والنفاذ من السماوات، والسماء ذات الرجع، فكل ذلك يشير للسماوات العُلا الكونية، والدُنا الجوية معاً، والله تعالى أعلى وأعلم.
■ الخاتمة
مما سبق يتيبن لنا أن هناك الكثير من الآيات التي تشير فيها لفظة (سماء)، ولفظة (سماوات)، الى العُلا الكونية، والدُنا الجوية، حيث أن السياق لا توجد به قرائن للترجيح، والفهم اللغوي والتفسيري للآيات يحتمل الجمع بين الكونية والجوية كما بينت أعلاه، وبذلك يثبت أن الغلاف الجوي لأنه مما علا فوق رؤوسنا فإنه يدخل في مفهوم لفظتي (سماء)، و(سماوات) في القرآن، وأنه يعتر سماوات دُنا أسفل السماوات العُلا.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك وما كان من ظن أو خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر