أولا مرحبا بك أخي خالد بين إخوانك.
القول فيما سألت عنه هو ما ذكره أخي محمد من أن موقف ابن مسعود رضي الله عنه لا يؤثر في الإجماع الذي انعقد بكبار الصحابة رضي الله عنهم.
عن مصعب بن سعد قال : ( أَدْرَكْت الْنَّاس مُتَوَافِرِين حِيْن حَرَّق عُثْمَان الْمَصَاحِف ، فَأَعْجَبَهُم ذَلِك ، وَقَال : لَم يُنْكِر ذَلِك مِنْهُم أَحَد ).
وقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: ( لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا ، فَوَاَللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِك، وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا. قُلْنَا : فَمَا تَرَى ؟ قَالَ : نَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ ، فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اِخْتِلَافٌ . قُلْنَا : فَنِعْمَ مَا رَأَيْت ).
وقال رضي الله عنه: ( لَو لَم يَصْنَعْه عُثْمَان لَصَنْعَتُه) (1).
بقي أن ننظر في حقيقة موقف ابن مسعود رضي الله عنه والدافع له.
عن خمير بن مالك عن عبد الله قال : ( لَمَّا أُمِر بِالْمَصَاحِف -أي بحرقها- سَاء ذَلِك عَبْدَ الْلَّه بْن مَسْعُوْد، قَال: مِن اسْتَطَاع مِنْكُم أَن يَغُلّ مُصْحَفاً فَليَغْلُل ، فَإِنَّه مَن غَلَّ شَيْئا جَاء بِمَا غَل يَوْم الْقِيَامَة ، ثُم قَال عَبْدُ الْلَّه : وَلَقَد أَخَذتُ مِن فِيِّ رَسُوْل الْلَّه صل1 سَبْعِيْن سُوْرَة ، وَإِن زَيْدَ بْن ثَابِت لَصَبِي مِن الْصِّبْيَان ، أَفَأنَا أَدَع مَا أَخَذْت مِن فَيِّ رَسُوْل الْلَّه صل1 ؟)
قَالَ النَّوَوِيُّ : " معناه أن ابن مسعود كان مصحفه يخالف مصحف الجمهور وكانت مصاحف أصحابه كمصحفه فأنكر عليه الناس وأمروه بترك مصحفه وبموافقة مصحف الجمهور، وطلبوا مصحفه أن يحرقوه كما فعلوا بغيره فامتنع وقال لأصحابه: غلوا مصاحفكم أي: اكتموها (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) يعني فإذا غللتموها جئتم بها يوم القيامة وكفى لكم بذلك شرفا. ثم قال على سبيل الانكار: ومن هو الذي تأمرونني أن آخذ بقراءته وأترك مصحفي الذي أخذته من فيّ رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ " (2) .
وفي رواية: ( فَكَيْف تَأْمُرُونِي أَن أَقْرَأ قِرَاءَة زَيْد ، وَلَقَد قَرَأَت مِن فِيّ رَسُوْل الْلَّه صل1 بِضْعا وَسَبْعِيْن سُوْرَة، وَلِزَيْد ذُؤَابَتَان يَلْعَب بَيْن الْصِّبْيَان )
وفي رواية: ( يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِيْن، أُعْزَل عَن نَسْخ الْمَصَاحِف وَيُوْلَّاهَا رَجُل وَالْلَّه لَقَد أَسْلَمْت وَإِنَّه لَفِي صُلْب أَبِيْه كَافِرا -يُرِيْد زَيْد بْن ثَابِت-)(3).
بمجموع هذه الروايات يمكن أن نتبين موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فلقد كان سبب إنكاره هو الاقتصار على قراءة واحدة وترك قراءته.
قال ابن حجر: " وكأن ابن مسعود رأى خلاف ما رأى عثمان ومن وافقه في الاقتصار على قراءة واحدة وإلغاء ما عدا ذلك، أو كان لا ينكر الاقتصار لما في عدمه من الاختلاف، بل كان يريد أن تكون قراءته هي التي يعول عليها دون غيرها لما له من المزية في ذلك مما ليس لغيره كما يؤخذ ذلك من ظاهر كلامه، فلما فاته ذلك ورأى أن الاقتصار على قراءة زيد ترجيح بغير مرجح عنده اختار استمرار القراءة على ما كانت عليه " (4) .
وقد تبين لنا أن كبار الصحابة رضي الله عنهم قد اتفقوا على جمع الناس على قراءة واحدة وترك ما سواها.
قال ابن كثير: " أما أمره بغَلّ المصاحف وكتمانها، فقد أنكره عليه غير واحد" (5) .
وقال الزهري: " فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجالٌ من أفاضل أصحاب النبيصل1 " (6) .
وأما إنكاره رضي الله عنه على عدم اختياره في نسخ المصاحف فالْعذر لعثمان رضي الله عنه في ذلك أنَه فعله بالمدينة وَعبد الله في الكوفة، ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر . وأيضا فإن عثمان أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر، وأن يجعلها مصحفا واحدا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت لكونه كاتب الوحي، فَكَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوَّلِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِه (7) .
وتقديم زيد رضي الله عنه إنما كان لأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صل1، فهو إمام في الرسم، وعبد الله إمام في الأداء، كما أن زيد هو أحدث القوم بالعرضة الأخيرة التي عرضها النبيصل1 عام توفي على جبريل (8).
وبهذا يتبين لنا موقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأنه كان اجتهادا له مبرراته، كما يتبين لنا تفنيده والرد عليه، ففي مصحفه رضي الله عنه أشياء كثيرة قد نسخت، ولم يكن اجتماع الصحابة رضي الله عنهم إلا على الحق الذي ارتضاه الله تعالى لكتابه بقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
والله تعالى أعلم.
ـــــــــــ
(1) المصاحف لابن أبي داوود 1/177-178
(2) شرح مسلم 8/317
(3) المصاحف لابن أبي داوود 1/183-191
(4) الفتح 9/49
(5) تفسير ابن كثير 1/31
(6) سنن الترمذي 3104 باب ومن سورة التوبة.
(7) الفتح 9/19-20
(8) الذهبي: السير 1/488