حسين بن محمد
فريق إشراف ملتقى الكتب
- إنضم
- 08/09/2008
- المشاركات
- 934
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
- الإقامة
- القاهرة
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.net

الحمد لله وحده ؛ لعل من توفيق الله عز وجل للباحث أن يوقفه على فوائد جليلة في مسائل في غير مظانها ، ومن ذلك مثلا ما كان قد أشار إليه الدكتور مساعد الطيار - وفقه الله - من إيداع الأندرابي صاحبِ (الإيضاح) كتابَه كثيرا من مسائل علوم القرآن ، مع أن كتابه في القراءات أصلا ، ولعل من ذلك أيضا ما كنت قد وقفت عليه قديما من كلام القاضي ابن العربي رحمه الله في القراءات ، ضمن كتابه (العواصم من القواصم) ، غفل عنه كثير من طلاب هذا العلم الشريف ، وفيه فوائد كثيرة ، فرأيت نشره بعدما لم أجده على الشبكة نصّاً ، مع أن بعضه منثور في كتبه الأخرى ، كما في كتابه ( أحكام القرآن ) ، وكتابيه (المسالك) و (القبس) في شرح الموطإ ، وكذا (عارضة الأحوذي) في شرحه على الترمذي ، فدونكم نص كلامه ، نفع الله به :
يقول القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي ( ت 543 ﻫ ) في كتاب ( العواصم من القواصم ) له ؛ في سياق رده على مآخذ بعض المعتدين على عثمان ؛ إذ قالوا فيما أخذوا عليه : ( وابتدع في جمع القرآن وتأليفه ، وفي حرق المصاحف ) ؛ فقال :
" وأما جمع القرآن : فتلك حسنته العظمى وخصلته الكبرى ، وإن كان وجدها كاملة ، ولكنه أظهرها وردّ الناسَ إليها ، وحسم مادة الخلاف فيها ، وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه ، حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها .
روى الأيمة بأجمعهم أن زيد بن ثابت قال : ( أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن ؛ قلتُ لعمر : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر . قال زيد : قال لي أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمروني به من جمع القرآن . قلتُ : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعتُ القرآنَ أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، حتى وجدتُ آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم } حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياتَه ، ثم عند حفصة بنت عمر ، حتى قدم حذيفة بن اليمان على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفةَ اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيدَ بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف . وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ؛ فإنما نزل بلسانهم . ففعلوا حتى نسخوا الصحف في المصاحف ، رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق . قال ابن شهاب : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت : سمع زيدَ زيد بن ثابت قال : فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا الصحف قد كنتُ أسمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدنا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ، فألحقناها في سورتها في المصحف ) .
وأما ما رُوي أنه حرقها أو خرقها - بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة ، وكلاهما جائز - إذا كان في بقائها فساد ، أو كان فيها ما ليس من القرآن ، أو ما نسخ منه ، أو على غير نظمه = فقد سلَّم في ذلك الصحابة كلهم .
إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال : ( أما بعد ، فإن الله قال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }. وإني غال مصحفي ، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل ) ، وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه ، وأن يثبت ما يعلم فيه ، فلما لم يفعل ذلك له قال ما قال ، فأكرهه عثمانُ على دفع مصحفه ، ومحا رسومه ، فلم تثبت له قراءة أبدا ، ونصر الله عثمانَ والحقَّ بمحوها من الأرض " .
[ ( العواصم من القواصم ) / 281 - 284 ] .
ثم قال بعد ذلك في موضع آخر :روى الأيمة بأجمعهم أن زيد بن ثابت قال : ( أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن ؛ قلتُ لعمر : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر . قال زيد : قال لي أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمروني به من جمع القرآن . قلتُ : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعتُ القرآنَ أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، حتى وجدتُ آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم } حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياتَه ، ثم عند حفصة بنت عمر ، حتى قدم حذيفة بن اليمان على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفةَ اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيدَ بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف . وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ؛ فإنما نزل بلسانهم . ففعلوا حتى نسخوا الصحف في المصاحف ، رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق . قال ابن شهاب : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت : سمع زيدَ زيد بن ثابت قال : فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا الصحف قد كنتُ أسمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدنا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ، فألحقناها في سورتها في المصحف ) .
وأما ما رُوي أنه حرقها أو خرقها - بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة ، وكلاهما جائز - إذا كان في بقائها فساد ، أو كان فيها ما ليس من القرآن ، أو ما نسخ منه ، أو على غير نظمه = فقد سلَّم في ذلك الصحابة كلهم .
إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال : ( أما بعد ، فإن الله قال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }. وإني غال مصحفي ، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل ) ، وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه ، وأن يثبت ما يعلم فيه ، فلما لم يفعل ذلك له قال ما قال ، فأكرهه عثمانُ على دفع مصحفه ، ومحا رسومه ، فلم تثبت له قراءة أبدا ، ونصر الله عثمانَ والحقَّ بمحوها من الأرض " .
[ ( العواصم من القواصم ) / 281 - 284 ] .
" قاصمة وعاصمتها :
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه ) :
عظّم الناسُ هذا الحديث ، وتكلموا على معناه ، واختلفوا فيه . وقد بيّنتُ أقوالهم وحررت مقاطع الكلام في جزء مفرد ، ووقع منثوراً حيثما جاء الكلام من الأمالي .
ومعنى الكلام : أن الله وسع على هذه الأمة وأذن للصحابة في أن يقرأ كل واحد بما استطاع من لغته ، ولذلك أذن لعمر بن الخطاب وهشام بن حكيم في قراءتهما ، وكانا قرشيين ، وأذن لأبي بن كعب الأنصاري ومن خالفه في القراءة ، بأن يقرأ كل واحد منهما بما كان قرأ ؛ قال أبيٌّ : ( فدخل قلبي ما لم يدخله قط مذ أسلمتُ . فقال لي النبيُّ : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه ) .
واستمرت الحال هكذا حياةَ النبي رخصةً من الله وتوسعة على الخلق ؛ إذ لو كلفوا أن يقرأوا باللغة التي نزل القرآن بها - وهي لغة قريش - لنفر قومٌ وشق على آخرين ، والشريعة سمحة ، ولم يزل جبريل يتعاهد النبيَّ بالقرآن في رمضان ويدارسه ، حتى كان العام الذي توفي فيه دارسه به مرتين ، فقال النبيُّ : ( أرى أجلي قد حضر ) ، والنبي يضبط كل الذي يدارسه به ، ويمليه على كُتّابه ، ويقيده في الصحف .
ثم استأثر الله برسوله ، واشتعلت الفتنة ، واشتغلت الصحابة بتمهيد الإسلام وتوطيد الدين ، وتأليف القلوب على شعائر الإسلام .
فلما كان يوم اليمامة في عهد أبي بكر ، واستحر القتل بالقراء = قال زيد بن ثابت : ( فأرسل إليّ أبو بكر فجئتُه ، فإذا عمر عنده ، فقال لي أبو بكر : إن عمر جاءني فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بهم في المواطن كلها ، فيذهب قرآن كثير ) وذكر الحديث المتقدم في ذكر عثمان رضي الله عنه إلى قوله ( ووجدت آخر سورة التوبة عند خزيمة بن ثابت ) .
فنفذ وعد الله في ذلك بالحفظ على يدي شريفي الإسلام وكريمي الدنيا والآخرة ، وسيدي كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين . وكان هذا أصلاً في استعمال الرأي في الدين ، والحكم من المصالح والمعاني بما لم يكن ذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما كان زمان تمم الله هذه البقية على يديه ، فجاءه حذيفة ، وكان بمغازي فتح أرمينية وأذربيجان ، فقال له : ( يا أمير المؤمنين أدرك الناس قبل أن يختلفوا في القرآن كما اختلفت اليهود والنصارى . وكانت الصحف الأول قد استقرت عند أبي بكر ، ثم عند عمر ، ثم عند حفصة ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك ، فأرسلت حفصة إلى عثمان بها ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن الزبير ، أن انسخوا الصحف في المصاحف ، فبعث عثمان إلى كل أفق بمصحف . وقال زيد : فقدتُ آية من سورة الأحزاب كنتُ أسمع رسولَ الله يقرأها { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فوجدتها مع خزيمة بن ثابت . قال الزهري : فاختلفوا يومئذ في ( التابوت ) أو ( التابوه ) ، فقال عثمان : اكتبوه بالتاء ، فإن القرآن نزل بلغة قريش . وكتبت المصاحف ووجه بها عثمان إلى الآفاق ) انتهى الحديث الصحيح .
ثم روي بعد ذلك أنه كتب سبعة مصاحف : مصحف لمكة ، وللبصرة ، وللكوفة ، وللشام ، ولليمن ، وللبحرين ، وحبس عنده واحداً . فأما مصحف اليمن والبحرين فلم يسمع لهما خبر .
ويُروى أنه أرسل ثلاثة مصاحف ؛ إلى الشام والعراق واليمن .
ورُوي أنه أرسل أربعة ؛ إلى الشام والحجاز والكوفة والبصرة ، وحبس واحداً عنده . وهو الأصح .
وكانت هذه المصاحف تذكرة لئلا يضيع القرآن ، وتبصرة لئلا يضل الخلق بالاختلاف ؛ فإنه لو قرأوا آخراً كما كانت قراءتهم أولا لم ينضبط الأمر ، وكان الخرق يتسع والاختلاف يقع ، فنسخ الإجماع الرفق الميسر في أول الإسلام بالمصلحة المتحققة آخراً ، في ضبط الأمر ، ورده إلى القانون الذي نزل القرآن عليه ، فكانت المصاحف أصلا ، وكانت القراءة رواية أقرأت الصحابة التابعين ، وكان نقل المصحف إلى نسخة على النحو الذي كانوا يكتبونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابة عثمان وزيد وأبيّ وسواهم ، من غير نقط ولا ضبط .
واعتمدوا هذا النقل ليبقى بعد جمع الناس على ما في المصحف ، نوع من الرفق في القراءة باختلاف الضبط ، وفي أثناء النقل اختلفت المصاحف في أحرف يسيرة ، أربعة أو خمسة ، ثم زاد الأمر إلى أن اختلفت القراء في زيادة أربعين حرفاً ، منها واو وألف وياء . وأما كلمة فلم تكن إلا في حرفين ؛ أحدهما في (التوبة) ، والآخر في (الحديد) : { فإن الله هو الغني الحميد } بزيادة (هو) قرأت الجماعةُ إلا نافعاًوابنُ عامر ، وهذا أمر يسير ، لا يؤثر في الدين ، ولا يحط من حفظ القرآن . وقد رويت أحرف كثيرة زيدت من غير هذه الروايات المعروفة .
فإن قيل : فهذه الروايات المعروفة ما شأنها ؟ هل عندك بيانها ؟
قلنا : نعم ؛ قد تكلم عليها العلماء ، وتعاطاها من أهلها مَن ليس من أهلها كما جرى في كل علم ؛ فذكر أبو حاتم القراءَ وأقوالَهم وقراءاتِهم ، وأسقط حمزة والكسائيَّ وابنَ عامر ، وزاد عشرين رجلا ، وجمع أبو عبيد قراءاتٍ ، وجمع إسماعيل القاضي ، وجمع ابنُ مجاهد ، وعدّ يعقوبَ من السبعة ، ثم أسقطه بعد أن تكلم فيه ، وذكر الكسائيَّ ، والكسائيُّ من حمزة كيعقوب من أبي عمرو ، وقد قرأ أبو عمرو على ابن كثير ، وقد ذكر الطبريُّ في كتاب القراءات - وذكر نحواً من عشرين قارئاً - ذلك كله ؛ لتعلموا أن ضبط الأمر على سبع قراء ليس له أصل في الشريعة ، وقد جمع قومٌ ثمانيَ قراءات ، وقد جمع آخرون عشر قراءات .
والأصل في ذلك كله عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف ) = انقسم الحال بقومٍ ؛ فظن جاهلون أنها سبع قراءات ، وهذا ما لا يصح في علم عالِمٍ ، وتيمّن آخرون بهذا اللفظ فقالوا : ( تعال فلنجمع سبع قراءات ) ، وكانت الأمصار جمة ، وقد جمع قراؤها وقراءاتها ، حتى خطر هذا الخاطر لمن خطر فجمع السبع ؛ وهو ابن مجاهد ، وذكر يعقوبَ فأسقط بالسلطان ، وذكر الكسائي ، وألزمت المملكة ذلك للناس ، فجرى القولُ فيه كذلك .
وجرت القراءة على حرف أبي عمرو بالعراق إلى اليوم ، ولما ظهرت الأموية على المغرب وأرادت الانفراد عن العباسية وجدت المغرب على مذهب الأوزاعي ، فأقامت - في قولها - رسم السنة ، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم ، وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش ، فحملت روايته ، وألزم الناس بالمغرب حرف نافع ، ومذهب مالك ، فجروا عليه ، وصاروا لا يتعدونه ، وحمل حرف قالون إلى العراق ، فهو فيه أشهر من ورش ، وكذلك هو ، فإن إسماعيل القاضي نوه بذكر قالون ، فأما ورش فلم يحمل عنه من له ظهور في العلم . ودخلت بعد ذلك الكتب وتوطدت الدولة ، فأذن في سائر العلوم ، وترامت الحال إلى أن كثرت الروايات في هذه القراءات ، وعظم الاختلاف ، حتى انتهت في السبع إلى ألف وخمسمائة رواية ، وفي شاذ السبع إلى نحو الخمسمائة . وأكب الخلق على الحروف ليضبطوها فأهمو لها وليحصروها فأرسلوها إلى غير غاية .
وأراد بعضهم أن يردها إلى الأصل فقرأ بكل لغة ، وقال : ( هذه لغة بني فلان ، وهذه لغة بني فلان ) .
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه :
وبعد أن ضبط الله الحروف والسور لا تبالون بهذه التكليفات ؛ فإنها زيادات في التشغيب ، وخالية من الأجر ، بل ربما دخلت في الوزر . ولقد انتهى التكليف بقوم إلى أن رووا في بعض سور القرآن التهليلَ والتكبير .
وما ثبت ذلك قط عن عدل ولا نقل في صحيح . وانتهت الحال ببعضهم إلى أن يرى البسملة عند كل ابتداء ، كان في أول السورة أو لم يكن ، حين رأى بعضهم قد قال ( لا نبسمل إلا في سورة مخصوصة ) ، يتصل أول سورة بآخِر أخرى ، على التضاد ، فيفصل البسملة ، وغفل عن نوع كثير في القرآن من ذلك كان ينبغي أن يبسمل فيه أو يستعيذ ؛ لئلا يتصل الشيء بنقيضه في المعنى .
فلئن قال : إن قوله في آخر (الفجر) : { وادخلي جنتي } لا بد أن يقول { بسم الله الرحمن الرحيم } ، وحينئذ { لا أقسم } ؛ لئلا يتصل قولك { لا } بقولك { ادخلي جنتي } .
يقال له : فكيف يتصل قوله { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا إنهم أصحاب النار ، الذين يحملون العرش ومن حوله } ؟! وهذا لازم .
حتى انتهت الجهالة إلى البدعة بقوم ؛ فكان المقرئ منهم بمكة في عشر الخمسمائة يبسمل في سورة (براءة) ويتلوه ويرويه . وهذه بدعة خرقت إجماع الصحابة والأمة ، وهو كله كذب موضوع ، يلزم رواتها الأدب ، وقائله الاستتابة .
كيفية القراءة اليوم :
قال بعضهم : نقرأ بما اجتمعت فيه ثلاثة شروط : ما صح نقله ، وصح في العربية لفظه ، ووافق خط المصحف . وقال إسماعيل القاضي : ما وافق خط المصحف يقرأ به .
وهذا كله إنما أوجبه أن جمع السبع لم يكن بإجماع ، وإنما كان باختيارٍ مِن واحد أو آحاد . والمختار أن يقرأ المسلمون على خط المصحف بكل ما صح في النقل ولا يخرجوا عنه ، ولا يلتفتوا إلى قول من يقول : ( نقرأ السورة الواحدة أو القرآن بحرف قارئ واحد ) ، بل يقرأ بأي حرف أراد ، ولا يلزمه أن يجعل حرفا واحدا ديدنه ولا أصله ، والكل قرآن صحيح .
وضم حرف إلى حرف ، وقارئ إلى قارئ = ليس له في الشريعة أصل . وما من القراء واحد إلا وقد قرأ بما قرأ به الآخر ، وإنما هذه اختياراتهم ، وليس يلزمهم اختياراتهم أحداً ، فإنهم ليسوا بمعصومين ، ولا دل دليل على لزوم قول واحد من الصحابة ، فكيف بهؤلاء القراء !
ولكن لما صارت هذه القراءة صناعة ، رفرفوا عليها ، وناضلوا عنها ، وأفنوا أعمارهم من غير حاجة إليهم فيها ، فيموت أحدهم وقد أقام القرآن كما يقام القدح لفظا ، وكسر معانيه كسر الإناء فلم يلتئم عليه منها معنى ، ولا فرق بين أن يقرأ كتاب أبي عبيد أو الطبري ، وهما خير من كتاب ابن مجاهد وأصحّ ؛ فعلى أحدهما عولوا إن أردتم النظر في شيء من ضبط الحروف .
فإن قيل : فما صح سنده من القراءات وخالف خط المصحف ، ماذا ترون ؟
قلنا : لا يقرأ بحال ؛ فإن الإجماع قد انعقد على تركه ؛ ألا ترى إلى ابن مسعود كره نسخ زيد بن ثابت للمصاحف ، وقال : ( يا معشر المسلمين أأعزل عن نسخ كتابة المصحف ، ويتولاها رجل - والله - لقد أسملتُ وإنه لفي صلب رجل كافر ؟! ) يريد زيدَ بنَ ثابت ، وقال ابن مسعود : ( يا أهل العراق ، إن الله يقول : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ، وأنا غال مصحفي ، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل . فكره ذلك من مقالة ابن مسعود رجالٌ من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ) ، وفي رواية : ( أتأمروني أن أقرأ على قراءة زيد ، ولقد حفظت من في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا سورة وإنه لفي صلب كافر ! ) .
قلنا : هذا كله صحيح ، وقد بينا أنه كان يقرأ هو وأبي وزيد وعمر وهشام وكل أحد ، والنبي يقرئ الكل ، ثم حدث من الأفراد كما قدمنا ، واستقرت الحال كما بينا ، فكان الواجب على ابن مسعود وسواه أن يرجع إلى المتفق عليه ، ولا حجة لابن مسعود على عثمان في اختياره لزيد ؛ فإن أبا بكر وعمر قد اختاراه وعبدُ الله بن مسعود حيٌّ حاضر وسواه .
واعلموا بهذا وغيره أن عثمان مظلوم في كل ما يؤخذ عليه فيه ، فإنه اقتدى بمن سبقه من الخلفاء ، وبِمَ يُخَصُّ بالملامة دونهم ؟! وهذا من فساد الناس وقلة إنصافهم .
سبب الاختلاف :
وقد قال بعضُ الناس : إن سبب اختلاف القراء بعد خط المصحف أن الناس كانت لهم قبل إرسال عثمان المصاحف قراءات ، فلما ردوا إلى خط المصحف التزموا ذلك فيما كان محفوظا ، وقرأ كل واحد بما كان عنه ملفوظا مما لم يعارض الخط ، وهذا ممكن ظاهر . والذي قلناه هو الاصل الذي يعول عليه ، والله الموفق للصواب برحتمه .
والذي أختاره لنفسي إذا قرأتُ : أكثرَ الحروف المنسوبة إلى قالون ، إلا الهمز ؛ فإني تركته أصلا ، إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه مع غيره ، أو يسقط المعنى بإسقاطه . ولا أكسر باء (بُيوت) ، ولا عين (عُيون) ؛ فإن الخروج من كسر إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه ، ولا أكسر ميم (مُتّ) ، وما كنت لأمدّ مدّ حمزة ، ولا أقف على الساكن وقفتَه ، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو ، ولو رواه في تسعين ألفا قراءة ، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف ! ، ولا أمد ميم ابن كثير ، ولا أضم هاء (عليهِم) و (إليهِم) ، وذلك أخف .
وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات ، لا قراءات ؛ لأنها لم يثبت منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ، وإذا تأملتها رأيتَها اختيارات مبنية على معان ولغاتٍ .
وأقوى القراءات سنداً : قراءةُ عاصم عن ابن عبد الرحمن عن علي ، وعبد الله بن عامر ؛ فما اجتمع رواة هؤلاء عليه فهو ثابت ، وقراءة أبي جعفر ثابتة صحيحة لا كلام فيها . وطلبت أسانيد الباقين فلم أجد فيها مشهوراً ، ورأيتُ أمرها على اللغات وخط المصحف مبنياً .. والله أعلم " .
[ ( العواصم من القواصم ) للقاضي أبي بكر ابن العربي ، 356 - 364 ، تحقيق د. عمار الطالبي ، مكتبة دار التراث ، 1417 / 1997م ] .قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه ) :
عظّم الناسُ هذا الحديث ، وتكلموا على معناه ، واختلفوا فيه . وقد بيّنتُ أقوالهم وحررت مقاطع الكلام في جزء مفرد ، ووقع منثوراً حيثما جاء الكلام من الأمالي .
ومعنى الكلام : أن الله وسع على هذه الأمة وأذن للصحابة في أن يقرأ كل واحد بما استطاع من لغته ، ولذلك أذن لعمر بن الخطاب وهشام بن حكيم في قراءتهما ، وكانا قرشيين ، وأذن لأبي بن كعب الأنصاري ومن خالفه في القراءة ، بأن يقرأ كل واحد منهما بما كان قرأ ؛ قال أبيٌّ : ( فدخل قلبي ما لم يدخله قط مذ أسلمتُ . فقال لي النبيُّ : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ما تيسر منه ) .
واستمرت الحال هكذا حياةَ النبي رخصةً من الله وتوسعة على الخلق ؛ إذ لو كلفوا أن يقرأوا باللغة التي نزل القرآن بها - وهي لغة قريش - لنفر قومٌ وشق على آخرين ، والشريعة سمحة ، ولم يزل جبريل يتعاهد النبيَّ بالقرآن في رمضان ويدارسه ، حتى كان العام الذي توفي فيه دارسه به مرتين ، فقال النبيُّ : ( أرى أجلي قد حضر ) ، والنبي يضبط كل الذي يدارسه به ، ويمليه على كُتّابه ، ويقيده في الصحف .
ثم استأثر الله برسوله ، واشتعلت الفتنة ، واشتغلت الصحابة بتمهيد الإسلام وتوطيد الدين ، وتأليف القلوب على شعائر الإسلام .
فلما كان يوم اليمامة في عهد أبي بكر ، واستحر القتل بالقراء = قال زيد بن ثابت : ( فأرسل إليّ أبو بكر فجئتُه ، فإذا عمر عنده ، فقال لي أبو بكر : إن عمر جاءني فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بهم في المواطن كلها ، فيذهب قرآن كثير ) وذكر الحديث المتقدم في ذكر عثمان رضي الله عنه إلى قوله ( ووجدت آخر سورة التوبة عند خزيمة بن ثابت ) .
فنفذ وعد الله في ذلك بالحفظ على يدي شريفي الإسلام وكريمي الدنيا والآخرة ، وسيدي كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين . وكان هذا أصلاً في استعمال الرأي في الدين ، والحكم من المصالح والمعاني بما لم يكن ذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما كان زمان تمم الله هذه البقية على يديه ، فجاءه حذيفة ، وكان بمغازي فتح أرمينية وأذربيجان ، فقال له : ( يا أمير المؤمنين أدرك الناس قبل أن يختلفوا في القرآن كما اختلفت اليهود والنصارى . وكانت الصحف الأول قد استقرت عند أبي بكر ، ثم عند عمر ، ثم عند حفصة ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك ، فأرسلت حفصة إلى عثمان بها ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن الزبير ، أن انسخوا الصحف في المصاحف ، فبعث عثمان إلى كل أفق بمصحف . وقال زيد : فقدتُ آية من سورة الأحزاب كنتُ أسمع رسولَ الله يقرأها { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فوجدتها مع خزيمة بن ثابت . قال الزهري : فاختلفوا يومئذ في ( التابوت ) أو ( التابوه ) ، فقال عثمان : اكتبوه بالتاء ، فإن القرآن نزل بلغة قريش . وكتبت المصاحف ووجه بها عثمان إلى الآفاق ) انتهى الحديث الصحيح .
ثم روي بعد ذلك أنه كتب سبعة مصاحف : مصحف لمكة ، وللبصرة ، وللكوفة ، وللشام ، ولليمن ، وللبحرين ، وحبس عنده واحداً . فأما مصحف اليمن والبحرين فلم يسمع لهما خبر .
ويُروى أنه أرسل ثلاثة مصاحف ؛ إلى الشام والعراق واليمن .
ورُوي أنه أرسل أربعة ؛ إلى الشام والحجاز والكوفة والبصرة ، وحبس واحداً عنده . وهو الأصح .
وكانت هذه المصاحف تذكرة لئلا يضيع القرآن ، وتبصرة لئلا يضل الخلق بالاختلاف ؛ فإنه لو قرأوا آخراً كما كانت قراءتهم أولا لم ينضبط الأمر ، وكان الخرق يتسع والاختلاف يقع ، فنسخ الإجماع الرفق الميسر في أول الإسلام بالمصلحة المتحققة آخراً ، في ضبط الأمر ، ورده إلى القانون الذي نزل القرآن عليه ، فكانت المصاحف أصلا ، وكانت القراءة رواية أقرأت الصحابة التابعين ، وكان نقل المصحف إلى نسخة على النحو الذي كانوا يكتبونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتابة عثمان وزيد وأبيّ وسواهم ، من غير نقط ولا ضبط .
واعتمدوا هذا النقل ليبقى بعد جمع الناس على ما في المصحف ، نوع من الرفق في القراءة باختلاف الضبط ، وفي أثناء النقل اختلفت المصاحف في أحرف يسيرة ، أربعة أو خمسة ، ثم زاد الأمر إلى أن اختلفت القراء في زيادة أربعين حرفاً ، منها واو وألف وياء . وأما كلمة فلم تكن إلا في حرفين ؛ أحدهما في (التوبة) ، والآخر في (الحديد) : { فإن الله هو الغني الحميد } بزيادة (هو) قرأت الجماعةُ إلا نافعاًوابنُ عامر ، وهذا أمر يسير ، لا يؤثر في الدين ، ولا يحط من حفظ القرآن . وقد رويت أحرف كثيرة زيدت من غير هذه الروايات المعروفة .
فإن قيل : فهذه الروايات المعروفة ما شأنها ؟ هل عندك بيانها ؟
قلنا : نعم ؛ قد تكلم عليها العلماء ، وتعاطاها من أهلها مَن ليس من أهلها كما جرى في كل علم ؛ فذكر أبو حاتم القراءَ وأقوالَهم وقراءاتِهم ، وأسقط حمزة والكسائيَّ وابنَ عامر ، وزاد عشرين رجلا ، وجمع أبو عبيد قراءاتٍ ، وجمع إسماعيل القاضي ، وجمع ابنُ مجاهد ، وعدّ يعقوبَ من السبعة ، ثم أسقطه بعد أن تكلم فيه ، وذكر الكسائيَّ ، والكسائيُّ من حمزة كيعقوب من أبي عمرو ، وقد قرأ أبو عمرو على ابن كثير ، وقد ذكر الطبريُّ في كتاب القراءات - وذكر نحواً من عشرين قارئاً - ذلك كله ؛ لتعلموا أن ضبط الأمر على سبع قراء ليس له أصل في الشريعة ، وقد جمع قومٌ ثمانيَ قراءات ، وقد جمع آخرون عشر قراءات .
والأصل في ذلك كله عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف ) = انقسم الحال بقومٍ ؛ فظن جاهلون أنها سبع قراءات ، وهذا ما لا يصح في علم عالِمٍ ، وتيمّن آخرون بهذا اللفظ فقالوا : ( تعال فلنجمع سبع قراءات ) ، وكانت الأمصار جمة ، وقد جمع قراؤها وقراءاتها ، حتى خطر هذا الخاطر لمن خطر فجمع السبع ؛ وهو ابن مجاهد ، وذكر يعقوبَ فأسقط بالسلطان ، وذكر الكسائي ، وألزمت المملكة ذلك للناس ، فجرى القولُ فيه كذلك .
وجرت القراءة على حرف أبي عمرو بالعراق إلى اليوم ، ولما ظهرت الأموية على المغرب وأرادت الانفراد عن العباسية وجدت المغرب على مذهب الأوزاعي ، فأقامت - في قولها - رسم السنة ، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم ، وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش ، فحملت روايته ، وألزم الناس بالمغرب حرف نافع ، ومذهب مالك ، فجروا عليه ، وصاروا لا يتعدونه ، وحمل حرف قالون إلى العراق ، فهو فيه أشهر من ورش ، وكذلك هو ، فإن إسماعيل القاضي نوه بذكر قالون ، فأما ورش فلم يحمل عنه من له ظهور في العلم . ودخلت بعد ذلك الكتب وتوطدت الدولة ، فأذن في سائر العلوم ، وترامت الحال إلى أن كثرت الروايات في هذه القراءات ، وعظم الاختلاف ، حتى انتهت في السبع إلى ألف وخمسمائة رواية ، وفي شاذ السبع إلى نحو الخمسمائة . وأكب الخلق على الحروف ليضبطوها فأهمو لها وليحصروها فأرسلوها إلى غير غاية .
وأراد بعضهم أن يردها إلى الأصل فقرأ بكل لغة ، وقال : ( هذه لغة بني فلان ، وهذه لغة بني فلان ) .
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه :
وبعد أن ضبط الله الحروف والسور لا تبالون بهذه التكليفات ؛ فإنها زيادات في التشغيب ، وخالية من الأجر ، بل ربما دخلت في الوزر . ولقد انتهى التكليف بقوم إلى أن رووا في بعض سور القرآن التهليلَ والتكبير .
وما ثبت ذلك قط عن عدل ولا نقل في صحيح . وانتهت الحال ببعضهم إلى أن يرى البسملة عند كل ابتداء ، كان في أول السورة أو لم يكن ، حين رأى بعضهم قد قال ( لا نبسمل إلا في سورة مخصوصة ) ، يتصل أول سورة بآخِر أخرى ، على التضاد ، فيفصل البسملة ، وغفل عن نوع كثير في القرآن من ذلك كان ينبغي أن يبسمل فيه أو يستعيذ ؛ لئلا يتصل الشيء بنقيضه في المعنى .
فلئن قال : إن قوله في آخر (الفجر) : { وادخلي جنتي } لا بد أن يقول { بسم الله الرحمن الرحيم } ، وحينئذ { لا أقسم } ؛ لئلا يتصل قولك { لا } بقولك { ادخلي جنتي } .
يقال له : فكيف يتصل قوله { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا إنهم أصحاب النار ، الذين يحملون العرش ومن حوله } ؟! وهذا لازم .
حتى انتهت الجهالة إلى البدعة بقوم ؛ فكان المقرئ منهم بمكة في عشر الخمسمائة يبسمل في سورة (براءة) ويتلوه ويرويه . وهذه بدعة خرقت إجماع الصحابة والأمة ، وهو كله كذب موضوع ، يلزم رواتها الأدب ، وقائله الاستتابة .
كيفية القراءة اليوم :
قال بعضهم : نقرأ بما اجتمعت فيه ثلاثة شروط : ما صح نقله ، وصح في العربية لفظه ، ووافق خط المصحف . وقال إسماعيل القاضي : ما وافق خط المصحف يقرأ به .
وهذا كله إنما أوجبه أن جمع السبع لم يكن بإجماع ، وإنما كان باختيارٍ مِن واحد أو آحاد . والمختار أن يقرأ المسلمون على خط المصحف بكل ما صح في النقل ولا يخرجوا عنه ، ولا يلتفتوا إلى قول من يقول : ( نقرأ السورة الواحدة أو القرآن بحرف قارئ واحد ) ، بل يقرأ بأي حرف أراد ، ولا يلزمه أن يجعل حرفا واحدا ديدنه ولا أصله ، والكل قرآن صحيح .
وضم حرف إلى حرف ، وقارئ إلى قارئ = ليس له في الشريعة أصل . وما من القراء واحد إلا وقد قرأ بما قرأ به الآخر ، وإنما هذه اختياراتهم ، وليس يلزمهم اختياراتهم أحداً ، فإنهم ليسوا بمعصومين ، ولا دل دليل على لزوم قول واحد من الصحابة ، فكيف بهؤلاء القراء !
ولكن لما صارت هذه القراءة صناعة ، رفرفوا عليها ، وناضلوا عنها ، وأفنوا أعمارهم من غير حاجة إليهم فيها ، فيموت أحدهم وقد أقام القرآن كما يقام القدح لفظا ، وكسر معانيه كسر الإناء فلم يلتئم عليه منها معنى ، ولا فرق بين أن يقرأ كتاب أبي عبيد أو الطبري ، وهما خير من كتاب ابن مجاهد وأصحّ ؛ فعلى أحدهما عولوا إن أردتم النظر في شيء من ضبط الحروف .
فإن قيل : فما صح سنده من القراءات وخالف خط المصحف ، ماذا ترون ؟
قلنا : لا يقرأ بحال ؛ فإن الإجماع قد انعقد على تركه ؛ ألا ترى إلى ابن مسعود كره نسخ زيد بن ثابت للمصاحف ، وقال : ( يا معشر المسلمين أأعزل عن نسخ كتابة المصحف ، ويتولاها رجل - والله - لقد أسملتُ وإنه لفي صلب رجل كافر ؟! ) يريد زيدَ بنَ ثابت ، وقال ابن مسعود : ( يا أهل العراق ، إن الله يقول : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ، وأنا غال مصحفي ، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل . فكره ذلك من مقالة ابن مسعود رجالٌ من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ) ، وفي رواية : ( أتأمروني أن أقرأ على قراءة زيد ، ولقد حفظت من في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا سورة وإنه لفي صلب كافر ! ) .
قلنا : هذا كله صحيح ، وقد بينا أنه كان يقرأ هو وأبي وزيد وعمر وهشام وكل أحد ، والنبي يقرئ الكل ، ثم حدث من الأفراد كما قدمنا ، واستقرت الحال كما بينا ، فكان الواجب على ابن مسعود وسواه أن يرجع إلى المتفق عليه ، ولا حجة لابن مسعود على عثمان في اختياره لزيد ؛ فإن أبا بكر وعمر قد اختاراه وعبدُ الله بن مسعود حيٌّ حاضر وسواه .
واعلموا بهذا وغيره أن عثمان مظلوم في كل ما يؤخذ عليه فيه ، فإنه اقتدى بمن سبقه من الخلفاء ، وبِمَ يُخَصُّ بالملامة دونهم ؟! وهذا من فساد الناس وقلة إنصافهم .
سبب الاختلاف :
وقد قال بعضُ الناس : إن سبب اختلاف القراء بعد خط المصحف أن الناس كانت لهم قبل إرسال عثمان المصاحف قراءات ، فلما ردوا إلى خط المصحف التزموا ذلك فيما كان محفوظا ، وقرأ كل واحد بما كان عنه ملفوظا مما لم يعارض الخط ، وهذا ممكن ظاهر . والذي قلناه هو الاصل الذي يعول عليه ، والله الموفق للصواب برحتمه .
والذي أختاره لنفسي إذا قرأتُ : أكثرَ الحروف المنسوبة إلى قالون ، إلا الهمز ؛ فإني تركته أصلا ، إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه مع غيره ، أو يسقط المعنى بإسقاطه . ولا أكسر باء (بُيوت) ، ولا عين (عُيون) ؛ فإن الخروج من كسر إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه ، ولا أكسر ميم (مُتّ) ، وما كنت لأمدّ مدّ حمزة ، ولا أقف على الساكن وقفتَه ، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو ، ولو رواه في تسعين ألفا قراءة ، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف ! ، ولا أمد ميم ابن كثير ، ولا أضم هاء (عليهِم) و (إليهِم) ، وذلك أخف .
وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات ، لا قراءات ؛ لأنها لم يثبت منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ، وإذا تأملتها رأيتَها اختيارات مبنية على معان ولغاتٍ .
وأقوى القراءات سنداً : قراءةُ عاصم عن ابن عبد الرحمن عن علي ، وعبد الله بن عامر ؛ فما اجتمع رواة هؤلاء عليه فهو ثابت ، وقراءة أبي جعفر ثابتة صحيحة لا كلام فيها . وطلبت أسانيد الباقين فلم أجد فيها مشهوراً ، ورأيتُ أمرها على اللغات وخط المصحف مبنياً .. والله أعلم " .