كشف العلاقة المعجزة بين مقدمة سورة يوسف وخاتمها، وشرح طريقة ميشيل كويبرس

إنضم
9 يناير 2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
بِسْمِ اللَّـه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

"كشف العلاقة المعجزة بين مقدمة سورة يوسف وخاتمها، وشرح طريقة ميشيل كويبرس (التحليل البلاغي) وبيان ما لها وما عليها"
ملاحظة: فهم هذا الملف حق الفهم موقوفة على الألوان التي لونت بها الآيات، وهذا غير متوفر في هذا الموقع ، هناك نسخة ملونة على فيس : علي هاني العقرباوي

الحمد لله رب العالمين الذي أنزل كتابًا أحكمت آياته، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين الذي أُنزِلَ القرآنُ على قلبه من لدن حكيم خبير، أما بعد فهذا البحث يجلي العلاقةَ بين بدايةِ سورة يوسف وخاتمتها ، والعلاقةُ بين نهايةِ السورةِ وخاتمتِها مطرِدٌة في كل القرآن اعتنى ببيانها العلماء ، لا سيما الإمام البقاعي في "نظم الدرر في تناسب الآي والسور"، ويسميه بعض العلماء رد العجز على الصدر ، وهذا في الحقيقة جزء من الإبداع في تركيب سور القرآن وتكوينها ، وطرف يسير من الإعجاز العجيب في طريقة عرضه للآيات والمشاهد والحلقات ، والتناسق في مفرداتها ، وجملها ، وآياتها ، ومشاهدها، وحلقاتها، ومقاطعها، التي بينها علماؤنا رحمهم الله أوضح البيان ، وجلاها المستشرق (ميشيل كويبرس) ـ على ما في أبحاثه من أفكار استشراقية لا نرضاها ـ لكنه أبدع في بيان نظم القرآن الكريم ، وبين أن غالب سورة القرآن على طريقة النظم المحوري الذي يتمثل في إدخال عنصر مركزي يتوسط طرفي التوازي في التركيب المِرْآتي: (أب ج/×/جَ بَ أَ)، ويسمى التركيب الدائري، وسيأتي شرحه وطريقته في المبحث الثاني، وأكتفي هنا ببيان (أ)،(أَ) أي العلاقة بين بداية السورة ونهايتها ، وأرجو من الله تعالى أن يوفقني لإتمام الصورة كاملة في المستقبل.
المبحث الأول: بيان العلاقة المعجزة بين بداية سورة يوسف وخاتمتها:

قبل الشروع في تفصيل العلاقات بين آخر السورة وبدايتها لا بد أن أقدم مقدمتين مهمتين: الأولى مصطلحات لا بد أن يعرفها القارئ، والثانية: ملخص عام لعلاقة مقدمة السورة بخاتمتها:
  1. المقدمة الأولى: لا بد أن نعرف أنَّ القرآنَ الكريم مبني على إيجاز الحذف والقِصَر[1]، فيَحْذِفُ مِنَ الأَوَّلِ لدلالة الثاني ويحذف من الثاني لدلالة الأول، وأنه في جميع سور القرآن فيه رد العجز على الصدر، أي: آخر السورة على أولها، وأن بداية السورة فيها براعة الاستهلال، وخاتمتها فيه براعة المقطع والختم، والأهم عندنا هنا أن نعرف مصطلحين، وهما:
  • الاحتباك: وهو الحذف من الأول لدلالة الثاني وبالعكس[2]، قال الجرجاني في التعريفات: "الاحتباك: هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، ويحذف من كل واحد منهما مقابله، لدلالة الآخر عليه".[3] مثل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] حُذف من أوله ما أُثبت في آخره وبالعكس، أصله: جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً لتتصرفوا وتعملوا فيه ، فحذف «مظلماً» لدلالة «مبصراً» عليه، وحذف «لتتصرفوا وتعملوا فيه» لدلالة {لِيسْكُنُواْ فِيهِ} ، وهذا ما نجد نظيره أو ما يشبهه بين خاتمة السور وبداياتها.
  • الاكتفاء: " هو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيكتفى بأحدهما عن الآخر لنكتة، وأعظم شواهده قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أي والبرد، وخص الحر بالذكر؛ لأن الخطاب ابتداءً للعرب وبلادهم حارة، والوقاية من الحر عندهم أهم؛ لأنه أشد عندهم من البرد، وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] أي: وما تحرك، وخص السكون بالذكر؛ لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد، ولأن كل متحرك يصير إلى السكون".[4]
  1. المقدمة الثانية: ملخص عام لعلاقة مقدمة السورة بخاتمتها مع جدول مجمل يوضحها:
{ ـ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) }.{ ـ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}






{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) }.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.
  • آيات بداية السورة:
1 ـ بدأت السورة الكريمة بالكلامِ على إعجازِ القرآنِ ، ومدحِ آياتِ سورةِ يوسفَ ، ومدحِ القرآنِ كلِّه بأنه كتاب مبين لكل ما يحتاجه الناس ، وللحق من الباطل ، ولكونه من عند الله تعالى ، وبتأكيد أن القرآن من عند الله تعالى أنزله عربيًا لعلكم تعقلوا معانيه وإعجازه وهداياته ، ثم بين أن الله تعالى هو الذي يقص أحسن القصص بسبب إيحائه هذ القرآن وإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الغافلين عن معرفتها قبل ذلك، لم يتعلمها من أحد وما قرأها في كتاب، ولم يسمع بها: { ـ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) }.
2ـ ثم ثنَّتْ السورةُ بذكرِ رؤيا سيدِنا يوسفَ ـ عليه السلام ـ عندما قصها على أبيه، وتحذيرِ أبيه له من كيدِ أخوتِه ثم تفسيرِ أبيه وتبشيرِه له بما ينتظره من الكرامات من اجتباء الله له بالرسالة، وبتعليم تأويل الأحاديث ، وبإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه إبراهيم وإسحق عليهما السلام: { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}.[5]
3 ـ ثلثتِ السورة بمقدمةٍ ترغب في الاعتبار بالقصة بعد المقدمة الأولى التي بينت حقيةَ القرآنِ والقصصِ الذي فيه، وأنها من عند الله تعالى، وهي قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [الآية:7] حيث قدم سبحانه للقصة بعد ذكر تفسير سيدنا يعقوب ـ عليه السلام للرؤيا، بأن في يوسف ـ عليه السلام ـ وإخوته آيات وعِبَر للسائلين عنها المعتبرين بها الطالبين للقصة المعتنين بها.
ومن عِبَرها صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا يمكن أن يَعْلمها بنفسِه، وهو النبي الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن الفرج والنصر آتيان لا محالة.

  • ما يقابلها في خاتمة السورة من الآيات:
1ـ عندما ختمت السورة لم تبدأ بما بدأتْ به وهو الحديث عن القرآن الكريم وما يتعلق به بل تحدثت عن تحقيق الرؤيا وهذا الشيء المنطقي ؛ لأن الأنسبَ أولًا إنهاءُ القصةِ ببيانِ تحققِ هذه الرؤيا وصدقِ وعدِ الله تعالى له بذلك ، ثم شكرِ سيدنا يوسفَ لله تعالى على اجتبائه وإيتائه الملك وتعليمه تأويل الأحاديث، والتضرعِ له لإتمام النعمةِ عليه بتوفيه على الإسلام، وإلحاقه بالصالحين، ومنهم إبراهيمُ وإسحاقُ ـ عليهم السلام ـ فكانتِ الخاتمةُ عينَ المقدمة لكن المقدمة فيها رؤيا وتعبيرٌ للرؤيا، والخاتمة تحقيقها وتأويلها على أرض الواقع وجعلها صدقًا: { ـ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}[الآيات:99 ـ101]
2ـ ثم ثنَّتْ خاتمةُ السورةِ بأخذِ العبرةِ من القصةِ وبيانِ الأهدافِ التي سيقت لها السورة فرجعت السورة إلى ما بدأت به، وهو أن القرآن الكريم من عند الله تعالى،و لا يمكن أن يكون من افتراء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاشاه ـ: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} بتقرير أن هذه القصة من أنباء الغيب، وأنه بوحي من الله تعالى، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن له علم بها بل كان من الغافلين عنها: فلم يقرأ كتابًا، ولا تعلمها من أحد، ولم يكن موجودًا في ذلك الوقت ، وقد ذكرتِ الآيةُ أولَ مشهدٍ في القصة وهو مكر أخوته به، والمراد أنَّ جميع القصة ما كان يعلمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن ذكر المشهد الأول من القصة بعد الرؤيا، وهو من أخفى المشاهد فلم يطلع عليه مع إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ إلا الله تعالى ، وهذا بعينه ما جاء في أول السورة:
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) }التي ذكرت في ضمن مقدمة السورة التي بينت إعجاز القرآن، وأنه من عند الله تعالى، وأن الله تعالى يقص أحسن القصص من عنده ؛تصديقًا وتثبيتًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} .
3ـ ثم ثلثت الخاتمة بمقابلة ما في المقدمة تمامًا وهو قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} ، فقابلتها هنا بذكر غير المعتبرين الذين لا يسألون عن العبر والآيات ولا يلتفتون لها كقريش وكفارِ العرب، الذين يمرون على آيات كثيرة فيعرضون عنها ويشركون ، ثم قابلتها بذكر المعتبرين بالآيات وهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، وأهم العبر من القصة هو انتظار الفرج وأن النصر لا بد آت وإن تأخر ، { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) }[الآيات:103 ـ 110]7.
ولما كانت الآية السابعة التي هي مقدمةُ تفصيلِ القصة: ـ {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)}، مؤكدة لمقدمة السورة التي هي مقدمة للمشهدِ الأولِ في القصة مشهدِ الرؤيا وتأويلِه من سيدنا يعقوب: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}.
كانت الآيات السابقة التي جاءت في الخاتمة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)..} الآيات (103 ـ 120) مقابلة لها أيضًا كما سيأتي توضيحه.
4ـ ثم جاء برد العَجُز على الصَّدْر، فلما بدأت السورة ببيان إعجاز القرآن الكريم، وكونه من عند الله لعلهم يعقلون ، وأن الله تعالى يقص أحسن القصص ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يمكن أن يأتي بهذه القصص من عنده، وأن في القرآن أعظم الإبانة لإعجازه وكونه من عند الله ولكل ما ينفع الناس من الهداية والرحمة، وأن في قصة يوسف وإخوته آيات للسائلين بقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}. {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)}.
} ختم السورة بما يؤكد هذا المعنى، بأن هذه القصص فيها عبرة لأولي الألباب، وأنه ليس حديثًا مفترى، وأنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، وأنه لنفعهم وهدايتهم ورحمتهم بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.
وهي مؤكدة لبداية ومقدمة الخاتمة {ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}، كل هذا مع زيادات في كل آية تكمل الآية الأخرى وتأتي بجديد، فما أعظم أسرار القرآن الكريم.
هذا إجمال العلاقة بين المقدمة والخاتمة، وإليك تفصيلَها، وسأسير فيها على ترتيب الآيات من بداية السورة، بعد إيراد جدول تفصيلي:


























الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}.{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)


الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) ...نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيل كل شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) [الدعوة مفهومة فحذفت]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (4){وَقَالَ يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (100)
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (4){هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (100)
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} (4){وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}، {ورفع أبويه على العرش} (100)
{قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}(5)لم يذكر كيدَ إخوتِه له وإلقاءَهم له في الجب ثم إحسان الله بإخراجه من الجب للكرم لئلاّ يذكّر إخوته بما يسوؤهم بذكر صنيعهم كرمًا وفتوةً؛ لأن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس؛ لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً، وقد كان عفا عن إخوته بقوله: { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ }، لكنه ألم به إلمًا وأشار له إشارة بقوله {من بعد أن نزغ الشيطان}.
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5){مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} (100)
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} (6)[سيدنا يوسف عليه السلاملم يذكر أنه نبي استخلصه الله تعالى؛ لأنه في مقام مناجاة الخاشعة لله تعالى والشكر له، ولكن دعاءه بالإلحاقه بالصالحين يتضمن ذلك، لأن معنى {وألحقني بالصالحين} الكاملين في الصلاح في الرتبة والكرامةِ من الأنبياء والرسل عامة، وهذا يتضمن أنه من الكاملين في الصلاح وأعلاها النبوة، وإن كان في التعبير بالإلحاق تواضع وهضم للنفس.
{رَبُّكَ}(6){رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } (101).
{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ }(6){وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (101)}
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (6){رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} (101) / {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} (100).
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} (6){وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} (100)، { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}(100).
كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} (6)وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [وأعظمهم إبراهيم وإسحاق]
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (6)إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
تفصيل الجدول:
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
يلاحظ التقابل بين الآيات:
  1. ففي بداية السورة {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)}ذكر الحروف المقطعة التي تتحدى الناس، وأولهم العرب أن يأتوا بمثل القرآن المكون من جنس حروفهم، ثم بين سبحانه أنه أنزل آيات سورة يوسف التي هي من الكتاب المبين، تبين إعجاز القرآن وأنه من عند الله تعالى بالإخبار بالغيب وبالنظم المعجز، وتبين الهدى الذي يحتاجه الناس في كل أمورهم، ومنه صحة القرآن والنبوة والتوحيد والبعث؛ ليكون حالهم حالَ من يرجى أن يعقل ما يراد منهم من المعاني والهدايات، ويحيطوا بما احتوى عليه من البلاغة والإعجاز، وما فيه من البدائع، ويطّلعون على أنه خارجٌ عن طوق البشر منزَّلٌ من الله العليم الحكيم، فيعلمون أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء فيؤمنون .
وفي خاتمة السورة {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) بين سبحانه أنه كان من مقتضى ثبوت الوحي، وإيحاء قصة يوسف ـ عليه السلام ـ التي هي من آيات من الكتاب المبين، بما فيها من إخبار بالغيوب والدليل القائم على نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واللفتات واللمسات التي تحرك القلوب ـ أن يعقلوا أنه من عند الله ويؤمنوا لكن أكثر الناس لا يعقلون ولا يؤمنون بهذا القرآن مهما حرَص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعرضون عن الآيات المتلوة والآيات الكونية، فكثير من الآيات يعاينونها فيمرّون عليها معرضين عنها لا يعتبرون بها، ولا يفكرون فيها وفيما دلت عليه من استحقاق خالقها للعبادة ، وأنه المستحق لأن يعبد وحده دون أوثانهم، وتدل على قدرته على البعث ، ولا ينتفعون بها ، ولا تؤثر فيهم ،كالشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك من آيات السموات ، فلا تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك ؛ لأنّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كلّ مكان ، فليس إعراضهم عن آيةِ قص القصص الضاربة في التاريخ من الأمّي فحسب بل هم معرضون عن آيات كثيرة في السماوات والأرض ،فالإعراض شأن الكفار دائمًا، وأنهم لم يعقلوا ما أنزله الله تعالى عليهم ، من الآيات التي تدل على قدرة الله تعالى، وهم يمرون عليها وهم عنها معرضون لا ينتفعون بها.
  1. {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)[ ×حذف في بداية السورة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حريصًا على إيمانهم وعقلهم، واستعمال الآيات الكثيرة التي منها قصه لقصص الأنبياء التي منها قصة يوسف ـ عليه السلام ـ بما فيها من إعجاز وإخبار عن الغيب ] { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)}.
في بداية السورة محذوفات أشير لها إشارة دون تصريح دلت عليها الخاتمة صراحة، فقد ذكر في الخاتمة
{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} ، فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجو ويحرص أن تؤمن به قريش والعرب واليهود لما قص عليهم من قصة يوسف ـ عليه السلام ـ مصدقة لما عند اليهود على وجه أبرع وأحكم وأدق ، مصححة لأخطائهم فيها ، فبينت الآية أنهم لا يؤمنون وإن كنت أنت حريصاً على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم ؛ لتصميمهم على الكفر بعد هذه الدلائل البينة وعنادهم وتعنتهم وهذا ما حذفه القرآن في بداية السورة بعد الإشارة إليه بقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (3) فقد ذكرت أن الله تعالى أنزل السورة على نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقص هذه القصص لعلهم يعقلون ،لكنها حذفت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حريصًا على إيمانهم وعقلهم، واستعمال الآيات الكثيرة التي منها قصه لقصص الأنبياء التي منها قصة يوسف ـ عليه السلام ـ بما فيها من إعجاز وإخبار عن الغيب ؛وسر حذفها أنه من الواضح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم سيفعل ذلك ؛ولأنه معلوم أن الله تعالى ما قص قصة يوسف على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ليبلغهم لهدايتهم وليكون حالهم حال من يرجى هدايته، فما أعظم إيجاز القرآن وبيانه .
  1. {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ـ { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104}.
الآيتان في بداية السورة وخاتمتها يجمعهما شيء مشترك وهو وجود السبب لإيمانهم، و انتفاء العلل لتركهم الإيمان، فكل الظروف توفرت لإيمانهم ، ففي بداية السورة بين أنه سبحانه أنزل القرآن بلغة الذين خوطبوا به ابتداء باللسان العربي، أشرف الألسنة وأبينها؛ إذ لم يكونوا يتبيّنون شيئاً من الأمم التي حولهم ؛لأنّ كتبهم كانت باللغات غير العربية ، أنزله كذلك ليكون حالهم حالَ من يرجى عقلهم ما يراد منهم من المعاني، ويحيطوا بما احتوى عليه القرآن من البلاغة والإعجاز ، والسورة كافية في إيمانهم إذا فهموها فلا سبب لهم لترك الإيمان مع توفر الأسباب .
وفي خاتمة السورة بين أنَّ شأنهم في الإعراض لعجيب والآيات تصل لهم بلا أجر ولا مقابل، فقال: هم على ذلك من العناد والكفر، والحال أن موجب إيمانهم موجود، وذلك أنك مع دعائهم إلى الطريق الأقوم وإتيانك عليه بأوضح الدلائل ما تسألهم على هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك من أجر كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك ، إن هذا الكتاب إلا تذكير للعالمين عامة ، أي: إنا أزحنا العلة في التكذيب حيث بعثناك مبلغًا بلا أجر، وفيه توبيخ للكفرة وإقامة الحجة عليهم .
  1. {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} ـ {إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)}.
لما ذكر سبحانه أنه أنزل قرآنًا عربيًا لإيمان من خوطبوا به ابتداء الذين سيكونون النواة الأولى لنشره في العالم، فقد يُظَنُّ أن القرآن الكريم خاص بالعرب فقال في خاتمة السورة {إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)} أي: إن هذا الكتاب إلا تذكير للعالمين عامة، لدفع توهم خصوصه بالعرب أو توهم طلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأي شيء من عرض الدنيا على قصه لهم، فالآية كالاحتراس، وهذا باب رائع من أدلة تفسير القرآن.
  1. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} ـ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}.
  2. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}في بداية السورة بيَّنَ سبحانه أن إنزال الكتاب المبين المعجز الموضح للحق من الضلال بلسان عربي؛ ليكون حالُ قريشٍ والعربِ ثم العالمين بعد ذلك حالَ من يرجى عقله ، ومن جملة ما يعقلون أن القرآن معجز من عند الله تعالى خارجٌ عن طوق البشر ، وأن ما فيه من البعث و من توحيد الله تعالى حقٌّ ، ويعقلون بطلان الأصنام، ويعقلون أنهم على خطر عظيم إن لم يؤمنوا، وتفيد أنهم إنْ لم يأخذوا بالقرآن فكأنهم لا عقل لهم ، فقد يقول قائل: كيف ذلك وهم يعبدون الله تعالى، ويقولون عن آلهتهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فبين في خاتمة السورة بقوله تعالى:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}:
أ) أن إشراكهم مُسقطٌ لعبادة الله تعالى، وأنهم ما داموا على ذلك ليسوا على شيء ولا عقل عندهم، فعُلِم أن إذعانهم بهذا الإيمان غير تابع لدليل، وهو محض تقليد لمن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً.[6]
ب) وبَّخَ وهدَّدَ الذين لم يعقلوا ولم يؤمنوا بالقرآن، ولم ينظروا في إعجازه وقَصِّه للقصص الدالِّ على صدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كقصةِ يوسف ـ عليه السلام، ولا بالآيات المعروضة في صفحات الوجود، مع وجود الأسباب الباعثة لهذا الإيمان من عدم سؤالهم الأجر، وكونه معجزًا بلغتهم.
فأنكر عليهم أمنهم أن تأتيهم غاشية عظيمة من عذاب الله تغطيهم وتبرك عليهم وتحيط بهم في الدنيا، أو تأتيهم الساعة بغتة فجأة من غير سابقة علامة، وهم عنها في غاية الغفلة بعدم توقعها أصلاً؛ فأمرهم في إعراضهم عن آيات القرآن وآيات السماء والأرض وعدم إخلاصهم الإيمان لله وتماديهم في الغفلة عجيب أفأمنوا عذابًا من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم وتبهتهم؟ وهذا تناسب وتكميل عجيب بين بداية السورة وخاتمتها.
*******



نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيل (111)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
  1. أولًا: يلاحظ التقابل بين:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
في مقدمة السورة أكدت الآية أن القرآن من عند الله تعالى لا من عند غيره وأنه سبحانه هو الذي يقص على نبيه هذه القصص لا غيره ؛ ردّاً على من يطعن من المشركين في القرآن، بدليل أن الله تعالى قص فيه أحسن القصص، وهذا يشمل جميع قصص القرآن الكريم، ويدخل فيها دخولًا أوليًا قصة يوسف ـ عليه السلام ـ ، وجماعة من العلماء خص أحسن القصص بسورة يوسف ـ عليه السلام ـ لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر فيها حسن مجاورة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لإخوته وصبره على أذاهم ،وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو ، وكان عاقبتها إلى خير وسلامة واجتماع شمل، وعفو من الله وتجاوز عن الكل ، وذكر فيها من دقائق علم الغيب ما لا يعلمه بشر ،وهي في التوراة في نيف وعشرين ورقة لا يضبطها إلاّ حذاق أحبارهم ، من تأمل اقتصاصها فيها أو في غيرها من تواريخهم ذاق معنى قوله تعالى:{ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ]؛ {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}أي: بسبب إيحائنا هذا القرءانَ العظيم الذي قالوا فيه: إنه مفترى، فنحن نتابع فيه القصص قصة بعد قصة ، حتى لا يشك شاكٌّ ولا يمتري ممتر في أنه من عندنا وبإذننا؛ تثبيتاً لفؤادك وتصديقاً لنبوتك ورسالتك على أحسن ترتيب، وأحكم نظام: لكونه جاء به من غير تعليم، وهم يعلمون بأنه كان في جميع فترات ما قبل إيحائه من ميلاده إلى نزول الوحي مباعداً للعلم والعلماء، ما كان له فيه علم قط ولا طرق سمعه طرف منه قطُّ، فلذلك قال سبحانه: { وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } أي في جميع فترة ما قبل إيحاء القرآن، من لدن ميلادك إلى مجيء الوحي لا تعرف شيئًا عن هذه القصص ، فلا طريق له لمعرفته إلا كونه من عند الله سبحانه.
وفي آخر السورة في أول آية في خاتمة السورة أكد هذا المعنى مع زيادة وتكامل :{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} في هذه الآية الكريمة دليل قاطع على صحة نبوة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه كان أمياً لم يقرأ الكتب و ما طالعها ،ولم يتتلمذ لأحد، ولم يلق العلماء ، فقد نشأ بين أمة أمية مثله ، ولم يسافر إلى بلد آخر غير بلده الذي أنشأ فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لطلب العلم ، و أحداث هذه القصة ليست في جزيرة العرب ، بل في أرض غير مقاربة، ولا يمكن أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاضرًا زمن القصة الذي حصل من آلاف السنين كما قال تعالى: { وما كنت لديهم } الذي ذكر على سبيل التهكم ممن كذب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن كل أحد يعلم أنَّ سيدنا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان معهم حتى يقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها ،
{ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} وليس المرادُ مجردَ نفي حضورِه عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط ، بل في سائر المشاهدِ أيضاً ، وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مطْلعَ القصة وأخفى أحوالِها ، وهم يمكرون به وبأبيه ليرسله معهم ، ثم إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن ترتيب لم يقع فيه تحريف ولا غلط، وأبين معان وأفصح عبارة، ثبت أنه لا معلم لك إلا الله كما علم إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فعلم بذلك أن الذي أتى به هو وحي إلهي ونور قدسي سماوي فهو معجزة له قائمة إلى آخر الدهر.
وفي الآية الإشارة إلى بيان عاقبةِ المحسنين ونصرِهم على مَنْ مَكَر بهم وإن طال الأمد، ؛ لأن معنى الآية { ذلك } أي: النبأ العالي الرتبة الذي قصصناه عليك من خبر يوسف ووالده يعقوب وإخوته التي لها شأن عظيم؛ لنثبت به فؤادك ، ونشجع به قلبك ، وتصبر على ما نالك من الأذى من قومك في ذات الله ، وتعلم أن من قبلك من رسل الله إذ صبروا على ما نالهم فيه ، وأخذوا بالعفو ، وأمروا بالعرف ، وأعرضوا عن الجاهلين ، فازوا بالظفر ، وأيدوا بالنصر ، ومكنوا في البلاد ، وغلبوا من قصدوا من أعدائهم وأعداء دين الله ، يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فيهم يا محمد فتأسّ ، وآثارَهم فقُصَّ.
ويلاحظ التقابل التام مع ذكر كل منهما ما تركته الأخرى بين:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ(3)}.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)}.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ
بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَنوحِيهِ إِلَيْكَ
وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَوَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ.
والتكامل واضح بينهما:
  • فبداية السورة قررت أنه أحسن القصص، وآخر السورة قرر أنه من أنباء الغيب.
  • بداية السورة قررت أن هذا القصص بسبب إيحاء القرآن قصة بعد قصة، وعظمت القرآنَ بذكر اسم الإشارة (هذا)، وعبرت بالفعل الماضي (أوحينا)، وآخر السورة حذف ما ذكرته بداية السورة، وعبر بالمضارع (نوحيه) ليبين أن هذا الإيحاء مستمر.
  • بداية السورة قررت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من الراسخين في الغفلة عن القرآن والقصص في جميع فترة ما قبل إيحائها، فلا قرأها في كتاب ولا تعلمها من معلم، ولا أخذها عن أهل الكتاب، وفي آخرها قررت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرًا وقت القصة ووقت مكرهم، فإذا جمعت المقدمة والخاتمة تقرر جميع الاحتمالات لأخذ القصة وتعلمها، فلم يبق إلا أنها من عند الله تعالى.
********
ثانيًا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) [× الدعوة مفهومة فحذفت]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
العلاقة بينهما أنه في أول السورة إنزال البيان والهدى، وفي آخرها حسن تلقي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين له والمضي عليه رغم سوء تلقي الشركين وتوضيح ذلك أنه:
1ـ في بداية السورة بين سبحانه أنه يقص على نبيه هذه القصص لا غيره؛ ردّاً على من يطعن من المشركين في القرآن ويشك، وهدايةً لهم في دعوتهم للتوحيد وتنزيهِ الله تعالى عن الشركاء، وتثبيتًا ومنهجًا وبصيرةً للرسول والمؤمنين، وبرهانًا على الصدق.
وفي نهاية السورة بين أن النبي والمؤمنين أخذوا بهذه البصائر: من توحيد الله تعالى، وتنزيهه، والدعوة إليه، والصبر على ذلك، والاستمرار والمضي رغم أذى الأقارب من المشركين، ووقوفهم في وجه الدعوة، وأن المشركين لم يلتفتوا إليها بل استمروا على شركهم وعلى وصف الله تعالى بما لا يليق.
2ـ قد ذكر إنزال الهدى والبصائر، بإنزال القرآن والقصص الذي فيه ـ على رسول صلى عليه وسلم في أول السورة، وحذف [أنه أمره بتبليغه والاستمرار عليه مهما حصل]؛ لكونه ظاهرًا، ولأن القصة التي فيها الأسوة ـ قصة يوسف ـ لم تُذْكر بعدُ، وفي آخر السورة صرح به بعد ذكر القصة الأسوة وأنه مستمر على التبليغ والتوحيد صابر عليه.
3ـ في أول السورة {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسمع بهذه القصص ولا خطر في ذهنه ولم يتعلمها ، وقبل ذلك ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ومن باب أولى أَتْباعُه ، وفي آخر السورة ما يقابلها تمامًا { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فالرسول ومن معه على حجة واضحة من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة ، والقصص الهادية المثبتة بحسن تلقيهم لما جاءهم بحيث يكون كأنه يبصر المعنى والأمور بالعين، وليس هذا فقط بل هو ومن اتبعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ داعون لذلك مستمرون عليه رغم أذى الكفار، وأما المشركون فهم مستمرون في غيهم وكفرهم وشركهم بل يحاربون المؤمنين في دعوتهم، فلله در شأن التنزيل، ما أعظمه.
********

ثالثًا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}.[ ×حذف في بداية السورة شبهة منكري نبوته ـ عليه الصلاة والسلام، وهي أن الله تعالى لو أراد إرسال رسول لبعث ملكًا]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
1ـ { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}لما أثبت سبحانه في بداية السورة أنه هو سبحانه الذي أنزل القرآن المعجز على رسوله، وأنه هو الذي قص عليه القصص، ومنها قص قصة يوسف ـ عليه السلام ـ وفي ضمن ذلك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرسل من الله تعالى مؤيد بالمعجزات ، حذف في بداية السورة شبهة منكري نبوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنها يدل عليها المقام الذي نزلت فيه ، وهي أن الله تعالى لو أراد إرسال رسول لبعث ملكًا .
صرح سبحانه بهذه الشبهة من خلال الردِّ عليهم في نهاية السورة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بأنا لم نرسل في جميع مدة القبل لجميع الأمم ملائكةً بل رجالًا من أهل المدن التي هي مواضع الحكمة كمكة، فلأي شيء يستغرب قومك رسالتك، ويزعمون أنه ليس لك عليهم فضل؟، وما أجمل تأخير هذه الشبهة في ختام قصة يوسف ويعقوب ـ عليهما السلام ـ والتي ذكر فيها أيضًا إبراهيم وإسحاق، فالقصة نفسها ترد عليهم وتلجمهم.
2ـ في بداية السورة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) }.
وفي خاتمتها {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

  • هناك توافق لفظي (تعقلون)، (تعقلون)، وفي الأول الترجية: ليكون حالكم حالَ من يرجى عقله {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وفي الخاتمة بيان أنهم لم يفعلوا والإنكار عليهم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
  • في بداية السورة أنه سبحانه أنزل القرآن؛ ليعقلوا ومن جملة ما يعقلونه صحة نبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أتاهم بالكتاب المعجز والقصص التي هي من أخبار الغيب وأن الله تعالى يهلك مكذبيهم، وفي خاتمة السورة تهديد هؤلاء المكذبين، أليس قد ساروا في الأرض؟ فلِمَ لم يعتبروا فيعرفوا بذلك كيف كان عاقبة من كذب هؤلاء الرسل من قبلهم، وما نزل بهم من العذاب لكفرهم، أهلكهم الله بتكذيبهم، فاحذروا أن تقيموا على ما أقاموا عليه، فيصيبكم ما أصابهم، فاعقلوا ذلك.
أجمل النظر في مثل هذه التقابلات، فهي تكثير المعاني وتفتقها ، وتضبطها وتفسرها .
3ـ في بداية السورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}ذكر سبحانه: لعلكم تعقلون، ثم ذكر سبحانه أنه قصَّ أحسنَ القصصِ على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن جملة ما يطلب عقله من خلال قصة يوسف ـ عليه السلام ـ أنَّ الدنيا التي يغتر بها الكفار ويكفرون بسببها بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانية[7]، وأن الآخرة خير للذين اتقوا ، وهو الذي قررته قصة يوسف ـ عليه السلام ـ حين تمم الله تعالى عليه النعمة بإيتاء الملك وتعليم الأحاديث وجمع شمله مع أهله في أعظم لحظات كمال النعمة ، ترك هذا الموقف وألتجأ إلى الله تعالى بالدعاء بالموت على الإسلام حين موته ، وأن يلحقه بالصالحين:{ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }[الآية:101].
وفي خاتمة السورة {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي: لدار الآخرة خير من دار الدنيا للذين اتقوا فحملهم الخوف على الائتمار والانزجار، أفلا تكون لكم أيها المشركون عقول تؤثر الذي هو خير على الأدنى ، فتتبعوا الداعي إلى هذا السبيل الأقوم ويتركوا شركهم وكفرهم.
رابعًا: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) ...نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيل كل شيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
هاتان الآيتان الكريمتان سيأتي الكلام عليهما بتفصيل في نهاية المبحث فلهما موقع عجيب، لكن نقول هنا:
  • لما كان جسم هذه السورة قصة فقد بدأ السورة بذكر قصِّه سبحانه لأحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }، وختم السورة بذكر القصص { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.
  • الآية الثالثة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} جاءت في مقدمة السورة قبل قص القصة تقرر أنَّ قصَّ أحسنِ القصص، ومنها سورة يوسف ـ عليه السلام ـ هو من الله سبحانه،{ نَحْنُ}: عظم هذه القصة بمظهر العظمة وأكد ذلك بقوله تعالى : {أحسن القصص}، وتقديم الضمير على الخبر الفعليّ يفيد الاختصاص ، أي نحن نقصّ لا غيرُنا ، ردّاً على من يطعن من المشركين في القرآن .
نَقُصُّ: نبينه أحسن البيان ؛ لأنه من قص الأثر ؛تثبيتاً لفؤادك وتصديقاً لنبوتك وتأييداً لرسالتك على أحسن ترتيب، وأحكم نظام، وأبدع طريقة مع ما نفصلها به من جواهر الحكم وبدائع المعاني من الأصول والفروع ، فنخبرك فيه عن الأخبار الماضية ، وأنباء الأمم السالفة ، والكتب التي أنزلناها في العصور الخالية أحسن البيان، بسبب إيحاء القرآن الذي قالوا فيه : إنه مفترى ، فنحن نتابع فيه القصص قصة بعد قصة بعد قصة، حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر في أنه من عندنا وبإذننا ،والحال أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من الغافلين عنها لا يعلم بها ، وتؤكد أن القرآن الكريم وقصصه من عند الله سبحانه.
والآية الأخيرة التي ختمت بها السورة، جاءت لتقرر هذا الأمر وتؤكده وتزيد معنى جديدًا:
{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } وهو حقية القرآن الذي قص قصة يوسف ـ عليه السلام ـ وقصص غيره، وبث فيها من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم، ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة والتفاصيل الظاهرة والمناهج المعجزة القاهرة ، { ما كان حديثاً يفترى } أي: ما كان هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيرها أن يفتري ويتقول؛ لأن النبي الذي أتى به لم يقرأ الكتب ولم يتتلمذ لأحد، ولم يخالط العلماء ، فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت، وفيه تعريض بالنضر بن الحارث وأضرابه، ويلاحظ التكامل فالبداية قررت أنه من الله سبحانه لا من غيره ،والخاتمة قررت أنه ليس حديثًا مفترىً من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا من غيره.

  • في أول السورة {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} فبين أن الله تعالى أوحاه من عنده، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعلم عن هذا القصص شيئًا قبل ذلك، وإذا كان الله تعالى موحيًا له فيستحيل خبره أن يخالف الكتب السماوية غير المحرفة التي أنزلت منه وكانت بين يدي القرآن.
وفي آخر السورة أكد كونه غير مفترى بقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: هو حديث صدق، يصدق ما قبله من الكتب المنزلة من السماء، بحيث تطابق ما ورد في التوراة وغيرها من الكتب السماوية من غير تفاوت بل القرآن مهيمن مصحح عليها، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير.
  • في الآية الأولى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: أي: نبينه أحسن البيان؛ تثبيتاً لفؤادك وتصديقاً لنبوتك وتأييداً لرسالتك على أحسن ترتيب، وعبرة للمعتبرين، وقد ضمنها سبحانه من النكت والعبر والحكم أمراً عظيماً، وذكر فيها حسن مجاورة يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته وصبره على أذاهم، وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو، وغير ذلك كثير مما قد بين في البحث.
وفي آخر السورة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: والعبر في قصة سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ كثيرة عظيمة من أهمها مما له تعلق بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة الكرام ثم بقية المؤمنين: أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد كيد كثير من الناس له، لقادر على إعزاز سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإعلاء كلمته، ثم فيها معرفة صحة القرآن لكل أحد، وهذا بعينه ما أريد من ذكر قص الله تعالى القصص له في أول السورة.
ثم قال سبحانه{وَهُدًى}: من الضلال في الدنيا تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلالة إلى السداد {وَرَحْمَةً}: سببًا لحصول الرحمة، ينال بها خير الدارين في الدنيا والآخرة، يورثه جنانه والخلود في النعيم المقيم، وينقذه من سخط الله وأليم عذابه، وهذا عين ما ذكر في أول السورة.
ففي أول السورة ذكر أنه هو سبحانه الذي يقص أحسن القصص، وفي خاتمتها فائدة هذا القص.
د) في أول السورة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} ليبلغه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكل الناس، وفي آخر السورة بين أن المنتفعين بها هم أصحاب العقول الصافية عن الشوائب المؤمنون دون غيرهم ممن كفر وكذب
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ـ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.
ث) لما جاء في أول السورة {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)} ومن معاني (المبين) الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة، وأبان الحق من الباطل، وأبان كلَّ بابٍ عما سواه وجعلها مفصلة ملخصة، موضح لكل ما يُحتَاجُ إليهِ من أمور الدنيا والدين والآخرة.
جاء في خاتمة السورة {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}: وتفصيل كل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدين، من بيان أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.

























{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (4){وَقَالَ يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (100)
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (4){هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (100)
{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} (4){وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}، {ورفع أبويه على العرش} (100)
{قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا }(5)لم يذكر كيدَ إخوتِه له وإلقاءَهم له في الجب ثم إحسان الله بإخراجه من الجب للكرم لئلاّ يذكّر إخوته بما يسوؤهم بذكر صنيعهم كرمًا وفتوةً؛ لأن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس؛ لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً، وقد كان عفا عن إخوته بقوله: { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ }، لكنه ألم به إلمًا وأشار له إشارة بقوله {من بعد أن نزغ الشيطان}.
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5){مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} (100)
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} (6)[سيدنا يوسف عليه السلاملم يذكر أنه نبي استخلصه الله تعالى؛ لأنه في مقام المناجاة الخاشعة لله تعالى والشكر له، ولكن دعاءه بالإلحاقه بالصالحين يتضمن ذلك، لأن معنى {وألحقني بالصالحين} الكاملين في الصلاح في الرتبة والكرامةِ من الأنبياء والرسل عامة، وهذا يتضمن أنه من الكاملين في الصلاح وأعلاها النبوة، وإن كان في التعبير بالإلحاق تواضع وهضم للنفس.
{رَبُّكَ}(6){رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (101).
{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} (6){وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (101)}
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (6){رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} (101) / {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} (100).
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} }(6){ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}،{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}(100).
كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} (6)وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [وأعظمهم إبراهيم وإسحاق]
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (6)إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
  1. {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ـ {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (100).
في بداية السورة بُدِئت السورة بالرؤيا؛ لأنّ هذه الرؤيا تعدّ أوّل فصل من فصول حياة يوسف ـ عليه السلام ـ فكانت هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف ـ عليه السلام ـ من الارتفاع في الدنيا والآخرة، وختمت بتحقيق الرؤيا {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} وتأويلها أن الشمس: أبوه، والقمر: أمه، والكواكب : إخوته ، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له ، ويسجدون له سجود إكرام وإعظام .
وفي خاتمة السورة تحققها وتأويلها وتفسيرها ،{ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {يا أبت} متحدثاً بنعمة الله متلذذاً مستمتعًا بنعمة الأبوة إذ يناديه بالخطاب بالأبوة، ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له {يا أبت}، {هذا} أي: الذي وقع من السجود {تأويل رؤياي} تأويل ما رأيته في الرؤيا {مِن قَبْلُ} في زمن الصِّبا ، وأخبرتَني بتفسيره من اجتبائي وتعليمي وإتمام النعمة عليّ التي رأيتها ، قد تحقق ،ومعنى {تَأْوِيلُ رؤياي} إِرجاع رؤياي إِلى ما هي عبارة عنه وتطبيقها وتحقيقها بمطابقة الواقع ، جعلها ربي صحيحة صِدْقًا ، أي ولم يجعلها باطلاً من أضعاث الأحلام.
  1. {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (4) ـ {قَالَ يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (100).
{يَا أَبَتِ} الخطاب كان في المشهدين من يوسف لأبيه، ففي بداية السورة نداء سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ لأبيه وهو صغير، حيث جاء يوسف ـ عليه السلام ـ إلى أبيه عندما رأى الرؤيا، وكان أثيراً عنده حبيباً إليه، فأراد من أبيه الذي أكرمه الله تعالى بالنبوّة أن يفسّر له أسرار هذه الرؤيا؛ ليوضح له معالم المستقبل من خلالها، وإنما أخبر أباه بهذه الرؤيا؛ لأنّه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيراً.
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أبت}.
وفي خاتمتها خطاب يوسف ـ عليه السلام ـ لأبيه {وَقَالَ يا أبت} فبين أدب يوسف ـ عليه السلام ـ بقوله: يا أبت؛ لدلالته على ما بينهما من صفة الرحمة والرأفة والشفقة الياء أبدلت تاء؛ لأنها تدل على المبالغة والتعظيم.
  1. في بداية السورة: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} وفي خاتمتها {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} الضمائر في خروا لإخوة يوسف ولأبويه، الذين هم الكواكب والشمس والقمر في الرؤيا.
  1. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ـ {ورفع أبويه على العرش}.
في بداية السورة تخصيص الشمس والقمر بالذكر {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، وعدم إدراجهما بالذكر في الكواكب مع أنهما داخلان في عمومها؛ لاختصاصهما بالشرف؛ إظهارًا لمزيتهما وشرفهما، ورفعًا لشأنهما، ولكونهما في غاية الشهرة، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98].
وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعباً، فالتأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى [8].
ويقابل هذا التخصيص والرفعة وعلو القدر والمنزلة والشرف في نهاية السورة {ورفع أبويه على العرش}: بعدما استقرت بهم الدار بدخول مصر {على العرش} أي: السرير الرفيع يستعمله الملوك والوزراء للقعود يكون مرتفعاً على سوق، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتكاء، والمراد سرير الوزارة الذي كان يجلس عليه، أكرم أبويه فرفعهما وأجلسهما على السرير معه إعظامًا لهما وتكرِمةً لهما وإعلاء من شأنهما فوق ما فعله لإخوته، قال القشيري:" أوقف كُلاًّ بمحلِّة؛ فَرَفَعَ أبويه على السرير، وتَرَك الإخوةَ نازلين بأماكنهم".[9]
  1. {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ـ {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ـ { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}.
{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} في رؤيا يوسف ـ عليه السلام ـ إحسانٌ من الله تعالى له؛ تنبيهًا له ـ عليه السّلام ـ بعلو شأنه؛ وبشرى له؛ ليتذكرها كلما حلت به ضائقة، فتطمئن بها نفسه أن عاقبته طيبة؛ لأن الذي بشر به في رؤياه لا يزال نُصْبَ عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، ولا ينتقل من شأن إلى شأن، ولا يواجه نائبة، ولا يلقى مصيبة، إلا وهو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها مُوَطِّن نفسَه على الصبر عليها.
وفي خاتمة السورة بيان تمام هذا الإحسان وتحقق ما بشرته الرؤيا ويعقوبُ ـ عليه الصلاة والسلام ـ من إتمام الإحسان واللطف والنعمة، {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}، وأن الله تعالى الذي أراه هذه الرؤيا من سنوات طويلة حققها له بعد تلك السنوات رَغْم الظروف المعاكسة لها من كيد إخوته بإلقائه في الجب، وكيد الذين أسرُّوه بضاعة، ثم كيد العزيز وزوجته ثم السجن.
وكذلك يقابلها في الخاتمة: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أثنى على الله - تعالى - بما هو أهله بذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته {إن ربي} أي المحسن إليّ، {لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}: لطيف التدبير لما يشاء أن يفعله من الأمور، إذا أراد أمرًا قيض له أسبابًا ويسره وقدَّره، ما من صعبٍ إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهلٌ تنفذ فيه مشيئته تعالى، ويتسهل دونها بلطفٍ ودقةٍ خفيةٍ لا يحسها الناس ولا يشعرون بها [10] ، لطف بي حين أخرجني من الجب، ومن السجن، وجاء بأهلي من البدو، وجمع شملي وأقرّ عيني.
يشير به إلى ما خصه الله به من العناية والمنة وأن البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لولا أن الله تعالى لطيف لما يشاء، نفذت فيها قدرته فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء وراحة، وأسباب الذلة وسائل عزة وملك.
  1. في بداية السورة {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وفي خاتمتها {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}.
وبينهما علاقات وثيقة:
  1. في بداية السورة تحذير سيدنا يعقوب ليوسف أن يقص رؤياه لئلا يكيد أخوته له كيدًا عظيمًا متيناً راسخاً لا يقدر على التفصّي عنه[11] ، وهو يعلم أن تحذيره ليوسف ـ عليه السلام ـ لن يدفع من قضاء الله تعالى شيئًا، وقد حصل ما توقع يعقوب عليه السلام.
وفي خاتمة السورة أشار سيدنا يوسف ـ عليه السلام لهذا الكيد إشارةً لطيفة وألمَّ به إجمالاً، بقوله: { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } ، فكلمة { بعد } اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره ،ولم يصرح بكيد إخوتِه له ، وإلقائهم له في الجب ثم بإخراجه ،وإبعاده عن أبيه بل مرّ به مرور الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان، وعبر بالأخوة الرابطة لوجهين:
أ) أحدهما: لأنه يريد أن يمحو العداوة بالمودة؛ وأن يستر على إخوته، وأن يتأدب معهم حذراً من إيحاش إخوته للكرم ؛لئلاّ يذكّر إخوته بما يسوؤهم بذكر صنيعهم كرمًا وفتوةً ؛لأن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك، وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس ، وقد كان عفا عن إخوته بقوله: { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ }[يوسف:92] ، كأنه يقول: الحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة.

ب) الوجه الآخر: أنه قال ذلك شكراً لله عز وجل على نقله من البلوى إلى النعماء، وهو إنما انتقل إلى الملك من السجن لا من الجب، فصار أخص بالذكر والشكر إذ صار بخروجه من السجن ملكاً، وبخروجه من الجب عاملًا عند العزيز فالنعمة هنا أوضح فلذلك خصه بالذكر والشكر.
ويلاحظ أن هذه الطريقة من المقارنة بين أول السورة وخاتمتها تلفت انتباه المفسرين وتحرك السؤال عندهم أن يبحثوا عن السر في حذف مقابل ما في أول السورة فيصلوا لمثل هذه اللطائف الجميلة.
  1. في بداية السورة نسب سيدنا يعقوب ـ عليه السلام ـ الكيد إلى الشيطان، وبين أنه ظاهرُ العداوة فلا يألو جهداً في إغواء إخوتِك وإضلالِهم وحملهم على ما لا خير فيه، وقال: {للإنسان} أي: عامة ويدخل في ذلك أنت وإخوتك؛ لئلا يثيرَ عداوة بين يوسف ـ عليه السلام ـ وإخوته ويقطعَ أرحامهم، وكذلك فعل سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ في خاتمة السورة، فلم ينسب الشر إلى إخوته بل أسند النزغ إلى الشيطان، وعبر بالماضي {نزغ}؛ ليفهم أنه انقضى، وقسَّمَ النزع بينه وبينهم ولم يفضل أحداً من الفريقين فيه: {بيني وبين إخوتي}.
  2. وهناك تكامل وعلاقة بين التعبير في بداية السورة عما فعل الشيطان بـ(الكيد) في البداية الذي هو: تدبير واجتهاد للإضرار مع أخذ وسائل ذلك، و(النزغ) في نهاية السورة الذي معناه: الإفساد والإغراء والتحريش، وأصله: النخس والدفع، شُبه بنزغ الراكب دابتَه: إذا نخسها ودفعها لتسرع في سيرها وحملها على الجري.
  3. سيدنا يعقوب ذَكَّر يوسفَ أنهم أخوته، وهو في نهاية السورة يَذْكُرُهم بعنوان أخوتهم له.
*******







وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ

[سيدنا يوسف عليه السلام لم يذكر أنه نبي استخلصه الله تعالى؛ لأنه في مقام المناجاة الخاشعة لله تعالى والشكر له، ولكن دعاءه بالإلحاقه بالصالحين يتضمن ذلك، لأن معنى {وألحقني بالصالحين} ألحقني بالكاملين في الصلاح في الرتبة والكرامةِ من الأنبياء والرسل عامة ، وهذا يتضمن أنه من الكاملين في الصلاح وأعلاها النبوة، وإن كان في التعبير بالإلحاق تواضع وهضم للنفس.
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}{أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }.
وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِوَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا }/ {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}.
كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَوَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [وأعظمهم إبراهيم وإسحاق]
إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
  1. هناك تناسق عجيب بين الآيات الكريمة:
  • ففي بداية السورة فسر له سيدنا يعقوب ـ عليه السلام ـ الرؤيا، وبشره بأنه سينال ثلاث كرامات:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ـ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ـ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ
ونجد مقابلها تمامًا في خاتمة السورة:
  1. وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ ربك [حذف أنه نبي لكنه مدلول عليه بدلالة المقام، والدعاء بإلحاقه بالكاملين في الصلاح كإبراهيم وإسحاق عليهما السلام].
  2. رَبُّكَ ـ{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} ، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}{أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }.
  1. وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ـ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ.
  2. وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ـ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا / وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ.
  3. وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ـ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
1ـ {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}[سيدنا يوسف عليه السلام لم يذكر أنه نبي استخلصه الله تعالى؛ لأنه في مقام المناجاة الخاشعة لله تعالى والشكر له، ولكنَّ دعاءه بالإلحاقه بالصالحين يتضمن ذلك، لأن معنى {وألحقني بالصالحين} ألحقني بالكاملين في الصلاح في الرتبة والكرامةِ من الأنبياء والرسل عامة ، وهذا يتضمن أنه من الكاملين في الصلاح وأعلاها النبوة، وإن كان في التعبير بالإلحاق تواضع وهضم للنفس.
1ـ ففي بداية السورة قوله تعالى :{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}: أي: كما أكرمك و اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز شأنك ورفعة منزلتك، وعناية ربانية، وأراك أنَّ الكواكب والشمس والقمر لك سجود التي تفسيرها سجود إخوتك وأبويك لك تكرمة لك ، مثل ذلك يجتبيك ربك، أي: يصطفيك في المستقبل ويختارك للنبوة ويخلصك لنفسه لجنابِ كبريائِه على الخلائقِ وسَراةِ الناس قاطبةً، ويختارك لأمور عظام ويجمع لك معالي الأمور، من الخصال الكريمة والصفات السنية، ويُبرز مصداق وتحقيق تلك الرؤيا في عالم الشهادة حسب ما عاينتَه من غير قصور.
الاجتباء: افتعال من جبيت الشيء: إذا حصلته وأخلصته لنفسك، ومنه جبيت الماء في الحوض: جمعته، وجباية المال للسلطان.
وفي نهاية السورة ما دل على حصول كل هذا المقام من نبوة سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ واستخلاص الله له، وما أوتي من خصال سنية لكن ـ يوسف عليه السلام ـ لم يذكر كل هذا؛ لأنه في مقام المناجاة الخاشعة لله تعالى والشكر له، لكنه يدخل في ضمن دعائه؛ فذِكْرُ الدعاءِ بالموت على الإسلام يقتضي أنه على الدين الحق ، وذكر الدعاء بإلحاقه بالصالحين يتضمن أنه نبي مرسل منهم؛ لأن معنى {وألحقني بالصالحين}: ألحقني بالكاملين في الصلاح في الرتبة والكرامةِ من الأنبياء والرسل عامة لا سيما آبائي وأجدادي كإبراهيم وإسحاق وإسماعيل ، وهذا يتضمن أنه من الكاملين في الصلاح وأعلاها النبوة، وإن كان في التعبير بالإلحاق تواضع وهضم للنفس.

2ـ {يجتبيك ربك}رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
2ـ في بداية السورة في بداية أمر يوسف ـ عليه السلام ـ {يجتبيك ربك} المربي لك بالإحسان، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ لتربية تحققِ وقوعِ ما ذكر من الأفاعيل، فربك الكريم سيتم جميع ما أشارت له الرؤيا من الاجتباء وتعليم الأحاديث وإتمام النعمة، فهو الذي يربي عبده شيئًا فشيئًا حتى يوصله لكماله، ففي ذكر هذا الاسم الكريم ترجية بتحقيق كل هذا، وهذا في بدايات تربيته له سبحانه.
وفي نهاية السورة في آخر آية في القصة عند كمال التربية ووصول سيدنا يوسف لغاية الرفعة نتيجة تربية الله تعالى له وكرمه قابل ما في أول السورة بثلاثة أوصاف:
أـ رب، ب ـ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ج ـ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أ ـ رب: نداء الرب سبحانه بوصف الربوبية مع حذف {يا}إشارة لقربه سبحانه {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } دعاء ومناجاة وتذلل لله تعالى من يوسف النبي الصديق ـ عليه السلام ـ دعا به ربه عز وجل الذي رباه شيئًا فشيئًا حتى أوصله إلى هذا الكمال ، فنادى ربه بهذا النداء الخاشع بعد جمع شمله بأبويه وإخوته وأقرّ له عينه، وأتمّ له رؤياه وما فسرها أبوه ، وتم أمرُه من نهاية الشرف والنعيم في الدنيا بالنبوة والملك والتمكين في الأرض ، وتعليمه العلم العظيم من تأويل الأحاديث الذي كان من أسباب رفعته وإنقاذ أمم، فغلب عليه مقام الشهود وازدادت نفسه عن الدنيا عزوفاً ، فنزع نفسَه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان، وانفصل عن الجوّ الذي يحيط به متجهًا إلى ربه، معددًا نعم الله تعالى العظيمة عليه الدينية والدنيوية ، مستغرقًا في مقام الشهود والحضور مقرًا بنعمة الله شاكرًا له داعيًا أن يثبته الله تعالى على الإسلامِ والاستسلامِ التام لله تعالى ، وأن يميته عليه عند حلول أجله ،وأن يكون له في الآخرة ما هو خير منه ،وهو المُلك الدائم الخالد ، واللحاق بالصالحين الكاملين في الصلاح.
فذكر ثلاث نعم: اثنتين دنيويتين وهما: نعمة الملك والولاية على الأرض، ونعمة العلم، والثالثة: أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام، فجمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء.
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان، ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد شاكر لربه ما أنعم به عليه وأتمه ويبتهل إليه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه، عازفًا عن الدنيا وشهواتها، إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير، وبهذا الدعاء الجامع الذي توجه به يوسف إلى ربه - تعالى - يختتم القرآن الكريم قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته ومع غيرهم ممن عاشرهم والتقى بهم، كما افتتح القصة بالرؤيا.
ب ـ {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}: نادى اللهَ سبحانه بوصف آخر: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: مبدع السماوات والأرض ومبتدعهما من غير مثال، وشاقّهما من العدم إلى الوجود، وفيه إشارة إلى صفة القدرة.[12]

ولذا تتوجه إليه تعالى قلوب أوليائه والمخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد إيجاده للسماوات والأرض.
وصف تعالى بأنه فاطر السماوات والأرض بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادئ ما يعقُبه من ولايته في الدنيا والآخرة، وتوفيه على الإسلام، وإتمام نعمه عليه، ففاطر السماوات والأرض وموجدها من العدم هو الذي أنعم بما أنعم والقادر على إتمامه، وهذا مناسب تمامًا لبداية السورة {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف:6].
فهذا الوصف يقابل وصف الربوبية، ويقابل وعده بإيصاله للكمال في أول السورة كما هو ظاهر.
ج ـ {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } مقابلة لما جاء في أول السورة من وصف الربوبية ووعده بإيصاله للكمال ؛لأن معناها أنت الأقرب إليّ باطناً وظاهراً فأنت الناصر والمعين، لا ولي لي غيرك، ولا أعول على غيره في شيء من الأشياء، وأنا تحت ولايتك التامة من غير أن يكون لي صنع في نفسي واستقلال في ذاتي وصفاتي وأفعالي أو أملك لنفسي شيئًا من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور.[13]{ في الدنيا والآخرة} وليي في دنياي الذي أولاني ما أولاني من النعم ، وولي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك ، وأن يوصل الملك الفاني بالملك الباقي ، فأنت تليني في الاَخرة بفضلك ورحمتك، فأحسن بي في الآخرة أعظم ما أحسنت بي في الدنيا والولي، (فعيل) تفيد الثبوت .

والجملة ثناء على الله تعالى في توليه له في جميع ما مضى، وثقته به فيما يأتي، وعبوديةً له، وهذا فيه غاية المناسبة مع الربوبية المذكورة في أول السورة، والآية التي وردت فيها: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف:6].


3ـ {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}.
  1. ـ في بداية السورة {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}: ومعناها في قول الجمهور يعلمك تأويلَ الرؤى فيما يراه الناس في منامهم، وتعبيرَها وتفسيرَها والإخبارَ بما تؤول إليه في الوجود، سمّيت أحاديثَ باعتبار حكايتِها والتحديثِ بها؛ لأنّ المَرائيَ يتحدث بها الراؤون.
والتأويل في الأصل هو: ما تؤول إليه عاقبة أمره، والمنتهى الذي يؤول إليه المعنى، وإرجاع الشيء إلى حقيقته، سُمِّي تفسيرُها تأويلًا؛ لأنه جَعلُ المرئيَّ آيلاً إلى ما يذكره المعبِّرُ بصدد التعبير ورجْعِه إليه، أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف ـ عليه السلام ـ من تعبيرِه لرؤيا صاحبَيْه في السجنِ ورؤيا الملِك، وكونِ ذلك ذريعةً إلى ما يبلّغه الله تعالى إليه من الرئاسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة.
وتوسيط ذكر التعليم بين الاجتباء وإتمام النعمة؛ لكونه من لوازم النبوةِ والاجتباءِ، ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي، ولأن التعليم وسيلةٌ إلى إتمام النعمة؛ فإن تعبيره لرؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا الملك صار ذريعة إلى الخلاص من السجن والاتصال بالرياسة العظمى.
وفي نهاية السورة يصرح سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ بأن الله سبحانه قد فعل ذلك، وعلمه هذا العلم الجليل الذي كان له أثر عظيم في رفعة حياته، وإنقاذ حياةِ أممٍ كاملةٍ وحفظٍها، وما أعظم بركة العلم! {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} كما بشرني به أبي وأخبرتني به سبحانك من خلال الرؤيا: من التمكين والتعليم، والله غالب على أمره.

وأتى بـ{من}التبعيضية تواضعاً، وهو من تواضع الأنبياء ـ عليهم السلام، وتقديم إيتاءِ الملك على تعليم تأويل الأحاديث في الذكر في آخر السورة؛ لأنه في مقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه، والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور، وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه.


4ـ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَرَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ـ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ.
4 ـ في بداية السورة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ}، إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان، والمراد بإتمام النعمة: إتمام سعادات الدنيا وسعادات الآخرة.
ومن إتمام النعم الدينية بعد نعمة النبوة الدوام على الإسلام والاستسلام والخضوع لله تعالى، والموت على الإسلام، والإلحاق بالصالحين.
ومن تمام سعادات الدنيا: الرئاسة العامة، والوزارة، وإيتاء ملك مصر، والإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم، وإجلاله في قلوب الخلق، وحسن الثناء والحمد، وهذه إذا اجتمعت مع الصلاح والنبوة كانت نعمًا، ويدخل في إتمام النعمة الخلاص من المحن والشدائد.[14]
وجاء مقابلها في نهاية السورة مصداق ذلك: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} / {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}.
  1. فصرح بأن الله تعالى أعطاه من ملك مصر والسيطرة التامة والتمكين فيها يتبوأ منها حيث يشاء، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} فابتدأ النداء الضارع بقوله: يا {رب} الذي رباني بالنعم الدينية والدنيوية والنجاة من الشدة، و{قد} للتحقيق، و" من " التي للتبعيض، {من الملك}: آتيتني بعضاً عظيماً من المُلك، بعد بعدي منه جداً، ولم يقل آتيتني الملك:
  • لأنه لم يؤته الله جميع الملك؛ لأن المُلك مجموع تصرفات في أمر الرعية، وكان ليوسف ـ عليه السلام ـ من ذلك الحظُّ الأوفر من ملك مصر، وذلك أنه كان على خزائن الأرض وتدبيرها ووزيرًا كبيرًا للملك.
  • لأن المُلكَ كلَّه لمالك الملك ذي الجلال والإكرام، والطَّول والإنعام، فما يملكه الحاكمون ليس إلا ذرة من ملكه سبحانه، ففيه إشعار بأن ذلك في جانب مُلك الله وفي جانب علمه شيء قليل وهو قليل.
  1. {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}: أشار بقوله: {توفني مسلمًا}: إلى تمام النعمة العظمى، وهي نعمة الدين الحق، فهو يسأل الدوامَ والعيشَ عليه إلى الوفاةِ، وقبضَ روحِه إذا جاء أجله على الدين الحق، وهذا سؤال أن يثبته الله تعالى على الإسلام حتى يموت لا طلب للموت على التحقق، فقد عدَّد نعم الله عليه ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره، وبعد موته على الأصح[15].
وطلَبُ توفّيه وإماتتِه إذا جاء أجله وحان على الدين الحق يقتضي أنه متصف بالدين الحق المعبر عنه بالإسلام من الآن.[16]

وهذا الدعاء مناسب تمامًا لأمور ثلاثة:
أ) إحاطة الكفار به في مصر كما كان حال السجينين الذين دعاهما للإسلام.
ب) مناسب لاستسلامه لقضاء الله تعالى في كل ما حصل معه من الابتلاءات الطويلة الشاقة.
ج) أن هذا من شأن الأنبياء والصالحين في أن نظرهم الأول هو الثبات على دين الإسلام والموت عليه والاستسلام لله تعالى في كل الأمور، وهذا غاية تمام النعمة التي يرجوها الأنبياء والصالحون، وهذا مصداق ما وعد به في أول السورة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}.
  1. وذكر إنجاءه من البلايا والمصائب وأعظمها الخلاص من السجن، وهذا من تمام النعمة عليه فقال: {وقد أَحْسَنُ} أي: أحسن لاطفًا، وباء {بي} للملابسة، أي: جعل إحسانه ملابساً لي ملازمًا وأوقع وناط إحسانه بي {إذ أخرجني من السجن}: في إخراجه إياي من السجن الذي كنت فيه محبوسًا بعد أن مكثت بين جدرانه بضع سنين، فإن ذلك الوقت:
  • كان زمنَ ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة عظيمة.
  • وكان زمنَ خلاصه من عذاب النفس في السجن الذي فيه الانفصال عن الأصدقاء والأحبّة، وفيه خلطة من لا يشاكلونه.
  • وكان زمنَ إقبالِ المُلك عليه.
فذكر إحسان ربه به في إخراجه من السجن، والسجن ضراء وبلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء ونعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة والملك، وهذا من مصاديق قوله تعالى في أول السورة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}.
فظهر بما تقدم المقابلة بين: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ (في بداية السورة ـ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ـ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ـ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ. (في خاتمة السورة).



[1] أ) إيجاز الحذف: ما قصد فيه إلى إكثار المعنى، مع حذف شيء من التركيب، ودلالة القرينة عليه. والمحذوف أنواع شتى، ومن أنواعه الاحتباك، والاكتفاء المشروحان هنا.
ب) إيجاز قِصَر: وهو تقليل الألفاظ وتكثير المعاني، وقيل: هو تضمين العبارات القصيرة معاني كثيرة من غير حذف. وقيل أيضا: هو الذي لا يمكن التعبير عن معانيه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدّتها.
وهذا النوع، كما يقول ابن الأثير، هو أعلى طبقات الإيجاز مكانًا وأعوزها إمكانًا، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذًا نادرًا، لكنه في القرآن كثير جدًا.
ومما ورد من إيجاز القِصَر في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ،{ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[النحل:90]،{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}[الأعراف: 199].

[2] قال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن:" النوع الثالث: ما يسمى بالاحتباك، وهو من ألطف الأنواع وأبدعها ،وقلَّ مَنْ تنبه له أو نبه عليه من أهل فن البلاغة ولم أره في شرح بديعية الأعمى لرفيقه الأندلسي، وذكره الزركشي في البرهان ولم يسمه هذا الاسم بل سماه الحذف المقابلي ، وأفرده بالتصنيف من أهل العصر العلامة برهان الدين البقاعي، قال الأندلسي في شرح البديعية من أنواع البديع الاحتباك وهو نوع عزيز ،وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول كقوله تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }[البقرة:171] التقدير :ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق والذي ينعق به فحذف من الأول الأنبياء لدلالة ( الذي ينعق ) عليه ، ومن الثاني الذي ينعق به لدلالة ( الذين كفروا ) عليه ...قال الزركشي هو: أن يجتمع في الكلام متقابلان فيحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35] التقدير :( إن افتريته فعلي إجرامي وأنتم برآء منه وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون ) .
وقوله {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24] التقدير: (ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم فلا يعذبهم) قلت: ومن لطيفه قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران:13] أي: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت.
ومأخذ هذه التسمية من الحبك الذي معناه الشد والأحكام وتحسين أثر الصنعة في الثوب، فحبك الثوب سد ما بين خيوطه من الفرج وشده وإحكامه بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق، وبيان أخذه منه من أن مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفرج بين الخيوط فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه فوضع المحذوف مواضعه كان حابكًا له مانعًا من خلل يطرقه فسد بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق. (الإتقان/ السيوطي (2/ 164).

[3] التعريفات / الجرجاني (2).

[4] أنوار الربيع في أنواع البديع/ صدر الدين المدني، (183).

[5] قال محمد رشيد رضا: "قدم القرآن بين يدي السورة مقدمتين: "أولاهما: في صفة القرآن وكونه تنزيلًا من الله دالًا على رسالة من أنزل عليه، وكونه عربيًا تقوم به الحجة على العرب الذين يعقلونه وكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من قبله غافلًا عما جاءه فيه لا يدري منه شيئًا، ونتيجة هاتين القضيتين تأتي بعد تمام القصة في قوله تعالى {ذلك من أنباء الغيب} [آل عمران: 44] الخ.
والمقدمة الثانية رؤيا سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ وما فهم منها أبوه فهما إجماليًا كليًا كما بيناه آنفًا، وبنى عليه أن حذره وأنذره ما يستهدف له قبله من كيد إخوته، وبشره بحسن عاقبته، ونتيجة هاتين القضيتين ما قاله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له {
وَقَالَ يا أبت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [ يوسف : 100 ] .
فمثل هذا الترتيب المنطقي العقلي البديع يتوقف نظمه وسرده على سبق العلم بالقصة وتتبع حوادثها والإحاطة بدقائقها ، ثم على وضع ترتيب ينسق عليه الكلام كالقصص الفنية ، ثم توضع له المقدمة والخاتمة في الغاية التي ألفت القصة لأجلها ، فتجعل الأولى براعة مطلع ، والآخرة براعة مقطع ، فقل لمن جهل سيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتاريخه : إنَّ سيدنا محمدًا لم يكن قارئًا ولا كاتبًا ، ولا خطيبًا ولا شاعرًا ، ولا مؤرخًا ، ولا راويًا ، ولا حافظًا للشعر ولا ناثرًا ، بل كان كما قال الله تعالى غافلًا عن هذه القصة وكل ما جاء في القرآن ، وكانت تنزل عليه السورة القصيرة فيعجل بقراءتها لئلا ينسى منها شيئًا ، فنهي عن ذلك عندما عرض له في أثناء نزول سورة القيامة بقوله تعالى { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 16-19 ] وبقوله { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 ] وقوله: { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [ الأعلى : 6 ] وقوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] فلما ضمن ربه له أمن ضيع شيء منه بعدم حفظه عند تلقيه ، أو نسيانه بعده ، زال خوفه ، وترك الاستعجال بقراءته .
وهذه السورة الطويلة نزلت عليه دفعة واحدة كأكثر السور المكية حتى الطوال منها كسورة الأنعام فلم يكن يدري من هذا الترتيب والنسق لها ولا من موضوعها شيئًا قبل وحيها، ولا يحيط به إلا أن يكمل له تلقيها عن الروح الأمين عليهما السلام، ولكن العجب أن يغفل عنه أو يجهله أحد من المفسرين فرسان البلاغة الفنية". تفسير المنار / محمد رشيد رضا (12/ 214). بتصرف يسير
.



[6] ثم انظر كم يتلاءم قوله تعالى :{ { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) }مع ما ورد في القصة من قول سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ والذي يبين أن الشرك أمر يقع فيه كثير من الناس :{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}.


[7] قال الطبري:" هذا فِعْلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا، إن عقوبتنا إذا نزلت بأهل معاصينا والشرك بنا أنجيناهم منها، وما في الدار الاَخرة لهم خير ".

[8] ولم يقع الترقي في الشمس والقمر؛ لما جرت عليه عادة القرآن من أنه إذا اجتمع الشمس قدمت الشمس، وكان ذلك؛ لكونها أعظم جِرْماً، وأسطع نوراً وأكثر نفعاً من القمر، ولأن القمر من توابعها، وهي مفيضة النور عليه. (روح المعاني/ الآلوسي (6/ 371) بتصرف يسير.

[9] لطائف الإشارات /القشيري (2/ 208).

[10] أطلق عليه جل شأنه اللطيف؛ لأن ما يلطف يسهل نفوذه، فاللطيف لغة: الدقيق سهل النفوذ ضد الكثيف، فاللام متعلقة بلطيف.

[11] وقد حذر يعقوب يوسف عليه السلام ـ مؤكدًا بتأكيدات كثيرة، منها: 1 ـ فك الإدغام {لا تقصص} دون لا تقصَّ، 2 ـ {فيكيدوا لك} وهذا الأسلوبُ آكدُ من أن يقال: فيكيدوك كيداً، 3ـ ثم الإتيان بالمفعول المطلق {كيدًا}: متينًا قويًا لا تستطيع التفصي عنه،4 ـ ثم تفريع الكيد على مجرد القصص، 5 ـ ثم تحذيره قبل أن يفسر الرؤيا له.

[12] أصل الفطر في اللغة الشق وفتح الشيء وإبرازه، قال المعجم الاشتقاقي:" المعنى المحوري: خروج الشيء أو نفاذه أول أمره شاقًا ما فوقه بضغط أو بما له معناه: كطلوع الناب، وبدء البئر، يقال: طر ناب البعير (نصر): شق اللحم وطلع. وفطر البئر: ابتدأ حفرها. وقال المصطفوي: والفاطر يدل على من أوجد أحوالًا وأبدع كيفيات حادثة بعد الخلق الأول في مقام الربوبية والتربية، فتستعمل المادة فيما يناسب المعنى المذكور، كما في مقام إعطاء الأجر، والحمد، والربوبية، والولاية، وغيرها. (مادة (ف، ط، ر) /124)

[13] يقول علي هاني: الترقي واضح بين هذا، وبين {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} في قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [الآية: 42].

[14] والقرآن الكريم لا يعد هذه العطايا كالمال، والجاه، والأزواج، والأولاد، وغير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلا إذا وقعت في طريق السعادة ومنصبغة بصبغة الولاية الإلهية تقرب الإنسان إلى الله زلفى، وأما إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فإنما هي في الظاهر نعمة وهي في الحقيقة وما تؤول إليه بسبب سوء فعل الكافر نقمة، والآيات في ذلك كثيرة.



[15] وهذا الذي اختاره: المهدوي، والزمخشري، والقرطبي، وابن عطية، أبو الوفاء ابن عقيل، وحقي البورسوي، والثعالبي، و اطفيش في التيسير، والطباطبائي، وسيد قطب، ومحمد سيد طنطاوي، والسعدي، والدكتور أحمد نوفل، وغيرهم.

[16] والمسلم: الذي اتصف بالإسلام، وهو الدين الكامل، وهو ما تعبّدَ اللّهَ به الأنبياء والرسل عليهم السلام، وأصله عبادة اللّه وحده لا شريك، ومن لوازمه الاستسلام التام الخالص لله تعالى ولحكمه في كل أموره، على وجه يستقر قلبه على ذلك ويرضى بقضاء الله وقدره وأمره ، ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب ،فلا يرى لنفسه شيئًا من الاستقلال ؛فلا يشغله شيء من نفسه، ولا صفاتها، ولا أعمالها عن ربه ؛ فإن كمال العبد المملوك أن يسلم لربه ما يريده منه ولا يظهر منه ما يكرهه ، لا يكون إلى نفسه رجوع بحال .والإسلام هو دين جميع الأنبياء، ولهذا قال عليه السلام: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ " [صحيح البخاري: 3442 ]فإن أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات مختلفة، فالدين واحد وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع من حيث الفروع التي هي بمنزلة الأمهات.
 
عودة
أعلى