محمد العبادي
مشارك فعال
- إنضم
- 30/09/2003
- المشاركات
- 2,157
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الخُبر
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.net
وصلتني هذه الرسالة عبر بريدي الالكتروني، فأحببت أن أشارككم فائدتها، مع بعض التعديلات التي يقتضيها المقام.
[align=center]كان السَّلف الصَّالح يكرهون الدُّعاء بـ:
(اللهمَّ أعتِقنا مِن النَّار)[/align]
روى ابنُ أبي الدُّنيا في «الصَّمت» (345)، وأبو نُعَيْم في «حِلية الأولياء» (2/314) -بسندٍ جيِّد- عن الإمام أبي عِمران الجَوْنِي-مِن ثِقات التابعِين-، أنَّهُ قال:
أدركتُ أربعةً-مِن أفضل مَن أدركتُ-؛ فكانوا يكرهون أنْ يقولوا: (اللهم أَعْتِقْنا مِن النار)، ويقولون: (نستجيرُ بالله مِن النار)، و: (نعوذ بالله مِن النار).
قلتُ:
وذلك -أوَّلاً- اتِّباعاً للهَدْيِ المُحَمَّدِيّ:
وفي هذا المعنى نصوصٌ نبويَّةٌ:
الأوّل: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «ما اسْتَجار عبدٌ مِن النار -سبع مرَّاتٍ- إلاّ قالتِ النَّارُ: يا ربِّ؛ إنَّ عبدَك فُلاناً قد استجارَكَ مِنِّي؛ فأَجِرْهُ...» [«السلسلة الصحيحة» (2506) -وقد نبَّه العلامة الألباني -فيه- على عدم وُرودِ أيِّ تقييدٍ لهذا الدُّعاء].
الثاني: قولُه صلى الله عليه وسلم: «لله عُتقاءُ مِن النّار، وذلك كُلَّ ليلةٍ [مِن رمضان]» [«هداية الرواة (1960)»].
وليس مِن شكٍّ أنَّ «خيرَ الهَدْي هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم».
(تنبيه)
هذا الحديثُ الصَّحيحُ يُخالِفُ ما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم مِن قولِه -في شهر رمضان- مِن حديثِ سَلْمانَ الفارسيِّ...«وآخِرُهُ عِتْقٌ مِن النار».
فَذَا حديثٌ مُنْكَرٌ لا يصحُّ بحالٍ!
ووجْهُ نكارتِهِ ومعارضَتِه ظاهرٌ...
ونحمدُ اللهَ -وحدَه- أنَّ هذا الفضلَ الواردَ في السُّنَّةِ الصحيحةِ أشْمَلُ وأوْسَعُ مِن ذاكَ الوارِدِ في هذا الحديثِ المُنْكَر!
{وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا}...
وانظُر «السلسلة الضعيفة» (871).
ولا يشفعُ له (!) كونُهُ مرويًّا مِن طريقٍ آخَرَ عن أبي هُرَيْرَةَ!
فهو مُنْكَرٌ-مِثلُهُ-!
وقد فصَّل في بيانِ ذلك -أيضاً- الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الضعيفة» (1569).
الثالث: قولُهُ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: «ما تقولُ في الصَّلاة؟».
قال: أتشهَّدُ، ثم أسألُ اللهَ الجنَّةَ، وأعوذُ به مِن النَّار.
أَمَا -واللـهِ- ما أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك، ولا دَنْدَنَةَ مُعاذ!
فقال صلى الله عليه وسلم: «حولَها نُدَنْدِن».
(تنبيهٌ ثانٍ)
ذَكَرَ الغزاليُّ في «الإحياء» (3/162) هذا الأثرَ، وقال -في تَوْجِيهِهِ-:
«وقالوا: العِتْقُ يكونُ بعدَ الوُرُودِ!» -أي: استحقاقاً له-.
وهذا -بالنِّسْبَةِ للأَثَرِ-ثانياً-.
وقال المُرْتَضى الزَّبِيديُّ في «شرحِه» -له- المُسَمَّى: «إتحاف السَّادة المُتَّقين» (7/575) -بعد إيرادِه الأثَرَ-:
«وهذا مِن جُملة الدقائق؛ فإنْ أرادَ القائلُ بـ(العِتْق): العِصْمَةَ والحفظَ -أو ما يجري مَجْراه-؛ فلا أرى بأْساً في الإطلاق؛ فقد اشْتَهَرَ الدُّعاءُ بمثلِ ذلك مِن غيرِ نكيرٍ»!
قلتُ:
أمَّا أنَّه: (مِن جُملة الدَّقائق)؛ فنعم...
وأمَّا إرادةُ معنى (العصمة والحِفظ) -في مِثلِ هذا الدُّعاءِ-؛ فبعيدٌ.
وأمَّا (اشتهارُهُ مِن غيرِ نكيرٍ)؛ فمع مُخالفة بعض أفضل التابعين: لا وزن له!
وما أجملَ ما رواهُ الإمامُ أبو داودَ في«سُننه» (4614) -بالسندِ الصحيح-عن الإمام عُمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، أنَّه قال:
«فارْضَ لنفسِك ما رَضِيَ به القومُ لأنفُسِهم؛ فإنَّهُم على علمٍ وَقَفُوا، وببَصرٍ نافِذٍ كُفُوا.
ولَهُم على كَشْفِ الأُمور كانوا أقْوَى، وبفضلِ ما كانوا فيه أوْلَى»
(تنبيهٌ ثالثٌ)
وما وَرَدَ في الحديثِ الصَّحِيحِ: -الآنِفِ الذِّكْرِ: «للـهِ عُتَقاءُ مِن النَّار» إنَّما هُو وَفْقَ علمِ الله -تعالى- فيمن يستحقُّ النَّار -عِياذاً بالله-؛ لا بحسب ظُنونِ خَلْقِهِ!
فمِن اليَقين: أنَّهُ ليس (كُلُّ) عبادِ الله مِن أهلِ استحقاقِ دُخول النَّار؛ ليكونوا -بَعْدُ- عُتقاءَ منها...!
إذِ الأصلُ في العبدِ المُوَفَّقِ لطاعةِ مولاه: تحسينُهُ ظَنَّهُ بربِّهِ العظيم؛ كما صحَّ في الحديثِ القُدُسِيِّ: «أنا عند ظنِّ عبدِي بي: إنْ خيراً؛ فخيرٌ، وإنْ شرًّا؛ فشرٌّ» [«السلسلة الصحيحة» (1663)].
ومِن لطائِفِ التوفيقِ الإلهِيِّ: أنَّ آخِرَ حديثٍ في كتابِ «حُسْنِ الظنّ بالله» (150) -للإمام ابن أبي الدُّنيا- هو حديث: «إن لله عُتقاء من النار... »...
وما استدلَّ به بعضُ أفاضل أهل العِلْم -رحمهُمُ اللهُ- تجويزاً لهذا الدُّعاء!- مِن حديث أبي هُرَيْرَةَ، عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أَعْتَقَ رَقَبَةً مؤمنةً؛ أعْتَقَ اللهُ مِنْهُ بكلِّ عُضْوٍ منهُ عُضواً مِن النَّار» [مُتَّفَقٌ عليه «إرواء الغليل» (1742)]؛ فهو لا يخرُجُ عمَّا ذَكَرْتُهُ –ألْبَتَّة-!
وبيانُهُ مِن وَجْهَيْنِ:
الأوّل: أنَّ هذا الحديثَ -أيضاً- موصولٌ بعِلْمِ الله -تعالى- في هؤلاء المُعتَقِين، وليس ذا صِلَةٍ -بأيِّ وجهٍ مِن الوُجوه- بعلمِ العبدِ نفسَهُ أنَّهُ يُعْتَق -أو سَيُعْتَق- مِنْهُ!
الثاني: أنَّ الحديثَ واردٌ فيمن (استحقَّ دُخولَ النَّار) -وهذا مِن عِلْمِ العظيمِ الجَبَّار -سُبحانَهُ- وَحْدَهُ-.
وقد دلَّ على ذلك روايةٌ عند البخاريِّ -رحمهُ اللهُ- للحديثِ نفسِهِ- فيها قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «...اسْتَنْقَذَ اللهُ بكلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضواً مِن النَّارِ... »:
فقد قال العَلامةُ الصَّنْعانِيُّ في «سُبُل السَّلام» (4/426) -شارحاً هذا الحديثَ-:
«وفي قولِهِ: «استَنْقَذَ» ما يُشْعِرُ بأنَّهُ بعد استحقاقِهِ لها».
وأمَّا الاعتراضُ على أصل الاستدلال بهذا الأثر السلفيِّ -على مقصودِهِ- بما صحَّ عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم مِن وصفِهِ سيِّدَنا أبا بكرٍ الصدِّيقَ رضي الله عنه بأنَّهُ: «عتيق الله مِن النار» [«السلسلة الصحيحة» (1574)]؛ فهو اعتراضٌ ليس قائماً؛ لسبَبَيْن:
الأوَّل: أنَّ هذا الوصفَ قد يَرِدُ بحَسَبِ الاستحقاقِ –حُكماً-، وقد يَرَدُ -أيضاً- باعْتِبارِ حقيقةِ الدُّخُول -واقِعاً-؛ وفي كُلٍّ وَرَدَ النصُّ النبويُّ:
- أمَّا الاستحقاقُ الحُكْمِيُّ؛ فحديثُ أبي بكرٍ -هذا- واضحٌ في مقصودِهِ.
ومِثْلُه -تماماً- الأحاديثُ المذكورةُ –قبلاً-.
- وأمَّا بحَسَبِ حقيقة الدُّخُول -واقعاً- مع اتِّحادِ اللّفظِ النبويِّ-؛ فما وَرَدَ في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ -في وَصْفِ الجهنَّمِيِّين- عند الإمامِ مُسلم في «صحيحِه» (302) عنه صلى الله عليه وسلم: «عُتقاء الله».
وروايةُ الإمام البخاريّ (7001) بلَفْظِ: «عُتقاء الرحمن».
قال ابنُ الجوزي في «صيد الخاطر» (ص307) -في وَصْفِ حالِ هؤلاء (الجهنَّمِيِّين)-:
«أَزْرَى بهم اتِّباعُ الهَوَى، ثُمَّ لَحِقَتْهُمُ العافيةُ؛ فنَجَوْا بعدَ لأْيٍ» -ربِّ سلِّم سلِّم-.
الثاني: أنَّ ما يتميَّزُ به أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه في هذه الخَصِيصَةِ- عن باقي الأُمَّة -جميعاً- أنَّهُ أوَّل مَن أسلمَ . [«مجموع الفتاوى» (4/462)، و«أحكام أهل الذِّمَّة» (2/905)]؛ فكان هذا المَدْحُ النبويُّ له لهذا المعنى؛ وباعتبارِ ما كان عليهِ رضي الله عنه قبل بعثتِهِ -صلوات الله وسلامُه عليه-.
وأمَّا الاستدلالُ بحديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنكُم مِن أحدٍ إلا وله منزِلان: منزلٌ في الجنَّةِ، ومنزلٌ في النار؛ فإنْ ماتَ ودَخَلَ النَّارَ؛ وَرِثَ أهلُ الجنَّةِ منزلَهُ؛ فذلك قولُهُ: {أولئك هم الوارِثُون}» [«السلسلة الصحيحة» (2279)]:
فقد رواهُ البخاريُّ (6200) عنهُ رضي الله عنه بلفظ: «لا أحدَ يدخُلُ الجَنَّةَ إلاّ أُرِيَ مقعدَهُ مِن النَّارِ لو أساءَ؛ ليزدادَ شُكراً، ولا يدخُلُ النَّارَ أحدٌ إلاّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِن الجنَّةِ لو أحسنَ؛ ليكونَ عليه حسرةً».
وعليهِ؛ فما قيلَ في هاتيك الأحاديث -مِن جهةِ الاستحقاقِ الحُكْمِيِّ- يُقال في هذا الحديث -سواءً بسواءٍ-؛ فهو على وَفْقِ عِلْمِ الله -عزَّ وجَلَّ-؛ كما وَرَدَ عن محمد بن النَّضْر الحارِثِيّ -وقد قال فيه عبدُ الرحمن بن مهدي: ما رأيتُ مثلَهُ في الصلاح. «العلل» (1119) -للإمام أحمد- توفي قبل سنة 150هـ-، أنَّهُ كَتَبَ إلى أخٍ له:
«أمَّا بعدُ؛ فإنَّك في دار تمهيد، وأمامَكَ منزلان؛ لا بُدَّ مِن أن تسكُنَ أحدَهُما، ولمْ يأْتِكَ أمانٌ فتطمَئِنَّ، ولا براءةٌ فتُقَصِّر.
والسلام» [«اقتضاء العلم العمل» (رقم:161)].
(تنبيهٌ رابعٌ)
أمَّا التساؤُل عن حُجِّيَّةِ (قولِ) !التابعين؛ فليس وارداً -ها هُنا- بحثُهُ؛ لأنَّ كراهيَّتهم -هذه- رحمهُمُ اللهُ -هُنا- مبنيَّةٌ على (فَهْمٍ) سديدٍ لِنَهْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الدُّعاءِ؛ يلتقي أصلاً شرعيًّا عظيماً هو حُسنُ الظنِّ بالله -تعالى-؛ مع ضميمةِ استحضارِ المعنى الغَيْبِيِّ لاستِحْقاقِ النَّارِ، ودُخولها -كما تقدَّم-...
وما أثرُ عُمَر بن عبد العزيز عنّا ببعيدٍ!
فيُخْشَى -أُكَرِّرُ: يُخْشَى!- على مُخالِف هذا المعنى الإيجابيِّ الدخولُ في (بعضِ!) ما يدلُّ عليه قولُ الله -عزَّ وجَلَّ-: {أتستبدلونَ الذي هُو أدْنَى بالذي هو خيرٌ}؟!
وعليه؛ فلا خَلَلَ -كما قالَ بعضُ الحريصين- في استخراجِ معانٍ صحيحةٍ، أو استنباطِ ألفاظٍ فصيحةٍ ممّا وَرَدَ في الكتابِ الكريمِ، أو في سُنَّةِ النبيِّ العظيمِ صلى الله عليه وسلم؛ بشرطِ أن لا تُخالِفَ -أو على الأقل: تبدُو مُخالِفةً!- لِنَصٍّ شرعيٍّ- كتاباً أو سُنَّةً-.
وأخيراً:
ما قيلَ في «اللهمَّ أعْتِقْنِي مِن النَّار» يُقال -هُو نَفْسُهُ- في: «اللهمَّ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّار» -سواءً بسواءٍ-؛ فكأنَّ العبدَ -بهذا الدُّعاءِ الأخيرِ!- على أبوابِ النِّيران! ويسألُ ربَّهُ أنْ يُزَحْزِحَهُ (!) عنها!!
فأينَ هذا مِن قولِه صلى الله عليه وسلم: »إذا سألتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فإنَّهُ أوْسَطُ الجَنَّةِ، وأعْلَى الجَنَّة»؟!« البخاري» (2637)؛ «فإنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لهُ»، [رواهُ البخاريُّ (5980)، ومسلم (2679)]-، وقولِه صلى الله عليه وسلم: «إذا دَعَا أحدُكُم فلا يَقولُ: إنْ شئتَ؛ ولْيَعْزِم المسألةَ، ولْيُعَظِّم الرَّغْبَةَ؛ فإنَّ اللهَ لا يَعْظُمُ عليه شيءٌ أعطاه» [«صحيح الأدب المفرد» (607)].
وما ذكرتُهُ -ثَمَّةَ- مِن أهميَّة حُسْنِ الظنِّ بالله -تعالى- لا يُعارضُ -ألْبَتَّةَ- لُزومَ الخوفِ مِن الله -عزَّ شأنُهُ-؛ كما رُوِيَ أنَّ أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شابٍّ في الموت، فقال له:
«كيف تجدك؟!».
قال: أرجو اللهَ -يا رسولَ الله-، وأخافُ ذنوبي.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ -في مثل هذا الموطن- إلاّ أعطاهُ الذي يرجُو، وأمَّنَهُ ممّا يخاف».
رواهُ النَّسائيُّ في «الكُبرى» (10901)، والترمذيُّ (983)، وابنُ ماجه (4261)وغيرهم-.
وحسَّنَهُ شيخُنا في «صحيح الترغيب» (1271).
وهذا معنى ما وَرَدَ عن بعضِ الصحابةِ رضي الله عنهم:
فقد رَوَى الطبريُّ في «تفسيرِه» (20478)، والبيهقيّ في «القضاء والقدر» (189)، والدولابي في «الأسماء والكُنى» (1/155)، واللالَكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1206) مِن طُرُقٍ عن عُمَر بن الخطّاب قالَ:
«اللهمّ إنْ كنتَ كتَبْتَنِي شَقِيًّا فامْحُنِي».
فهو -بتحفُّظِه-: يخاف، وبطلبِه: يرجو..
وزاد السُّيوطيُّ في «الدّر المنثور» (8/471-هجر) نسبتَهُ لابنِ المنذر، وعبدِ بنِ حُمَيْد.
وأخرجَهُ البَرْقانِيُّ -كما في «مُسند الفاروق» (2/593)- للإمام ابن كثير-رحمهُ الله-، وقال: «إسنادٌ حسن».
وروى الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (8847)، والطبريُّ في «تفسيره» (20477)، وابنُ أبي شيبةَ في «المصنَّف» (29530)، والبيهقيُّ في «القضاء والقدر» (188) عن ابنِ مسعودٍ -مثلَه- بأطولَ منه-.
وزاد السيوطيُّ نسبتَهُ في «الدر المنثور» (8/471-هجر) لابن أبي الدنيا في «الدعاء» .
وروى الفاكهيُّ في «تاريخ مكة» (1017) مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى السِّلَفِيُّ في «معجم السفر» (1239)والطبريُّ في «تفسيره» (20476) مثلََه عن شقيق -رحمه الله-.
وهذا -كُلُّهُ- يردُّ ما رواهُ الطبريُّ في«تفسيره» (20470) عن منصور، قال: قلت لمجاهدٍ: «إن كنتَ كتبتني سعيداً؛ فأثْبِتْنِي، وإن كنتَ كتبتَني شقيًّا؛ فامحُنِي؟!
قال: «الشقاء والسعادة قد فُرِغَ منهُما!».
وفي روايةٍ عند البيهقيّ في «القضاء والقدر» (رقم190) عن منصور، قال:
قُلتُ لمُجاهد: ما تقولُ في هذا الدُّعاء: اللهمَّ إنْ كان اسمي في السُّعداء فأثْبِتْهُ فيهم، وإن كان في الأشقياء فامْحُهُ منهُم، واجْعَلْهُ في السُّعداء؟ فقال: حَسَنٌ.
ثم مكثتُ حَوْلاً، فسألتُه عن ذلك؟ فقال:{حم.وَالْكِتَابِ الْمُبِين.إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين.فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم}[الدخان:1-4].، قال: يُفْرَقُ في ليلةِ القدر ما يكونُ في السَّنَةِ مِن رِزْقٍ أو مُصيبة؛ فأمَّا كتابُ الشقاء والسعادة فإنَّهُ ثابتٌ لا يغير].
قلتُ:
لعلَّ مَكْمَن الإشكال في قولِ مُجاهد -رحمهُ الله- قائمٌ على مسألة (الرزق [والعمل]: قد يزيد وينقص)؟!
وقد سُئل شيخُ الإسلام -رحمهُ الله- عن ذلك؛ فأجاب -كما في «مجموع الفتاوى» (8/540):
«الرزق [والعمل] نوعان:
أحدُهما: ما علمه اللهُ أنَّه يرزُقُهُ؛ فهذا لا يتغيَّر.
والثاني: ما كتبه، وأعلمَ به الملائكة؛ فهذا يزيدُ وينقصُ بحسب الأسباب، فإنَّ العبدَ يأمُرُ اللهُ الملائكةَ أنْ تكتبَ له رزقاً، وإنْ وَصَلَ رَحِمَهُ: زادهُ اللهُ على ذلك؛ كما ثبتَ في «الصحيح» [البخاريّ (1961)، ومُسلم (2557). عن النبيِّ أنَّهُ قال: «مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسأَ له في أَثَرِهِ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَهُ»...
ومِن هذا الباب قول عُمر...».
فذكره...
وانظُر «شفاء العليل» (90) لابن القيِّم.
(تنبيهٌ أخير)
يُتَلَطَّفُ في بيانِ هذه المسألةِ -جِدًّا-؛ لِغَرابَتِها -أوَّلاً-، ولِفَضْلِ (الرِّفْق) -ثانِياً- مِن غير نكيرٍ ولا تشديد...
واللهُ المُستعان.
[align=center]كان السَّلف الصَّالح يكرهون الدُّعاء بـ:
(اللهمَّ أعتِقنا مِن النَّار)[/align]
روى ابنُ أبي الدُّنيا في «الصَّمت» (345)، وأبو نُعَيْم في «حِلية الأولياء» (2/314) -بسندٍ جيِّد- عن الإمام أبي عِمران الجَوْنِي-مِن ثِقات التابعِين-، أنَّهُ قال:
أدركتُ أربعةً-مِن أفضل مَن أدركتُ-؛ فكانوا يكرهون أنْ يقولوا: (اللهم أَعْتِقْنا مِن النار)، ويقولون: (نستجيرُ بالله مِن النار)، و: (نعوذ بالله مِن النار).
قلتُ:
وذلك -أوَّلاً- اتِّباعاً للهَدْيِ المُحَمَّدِيّ:
وفي هذا المعنى نصوصٌ نبويَّةٌ:
الأوّل: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «ما اسْتَجار عبدٌ مِن النار -سبع مرَّاتٍ- إلاّ قالتِ النَّارُ: يا ربِّ؛ إنَّ عبدَك فُلاناً قد استجارَكَ مِنِّي؛ فأَجِرْهُ...» [«السلسلة الصحيحة» (2506) -وقد نبَّه العلامة الألباني -فيه- على عدم وُرودِ أيِّ تقييدٍ لهذا الدُّعاء].
الثاني: قولُه صلى الله عليه وسلم: «لله عُتقاءُ مِن النّار، وذلك كُلَّ ليلةٍ [مِن رمضان]» [«هداية الرواة (1960)»].
وليس مِن شكٍّ أنَّ «خيرَ الهَدْي هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم».
(تنبيه)
هذا الحديثُ الصَّحيحُ يُخالِفُ ما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم مِن قولِه -في شهر رمضان- مِن حديثِ سَلْمانَ الفارسيِّ...«وآخِرُهُ عِتْقٌ مِن النار».
فَذَا حديثٌ مُنْكَرٌ لا يصحُّ بحالٍ!
ووجْهُ نكارتِهِ ومعارضَتِه ظاهرٌ...
ونحمدُ اللهَ -وحدَه- أنَّ هذا الفضلَ الواردَ في السُّنَّةِ الصحيحةِ أشْمَلُ وأوْسَعُ مِن ذاكَ الوارِدِ في هذا الحديثِ المُنْكَر!
{وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا}...
وانظُر «السلسلة الضعيفة» (871).
ولا يشفعُ له (!) كونُهُ مرويًّا مِن طريقٍ آخَرَ عن أبي هُرَيْرَةَ!
فهو مُنْكَرٌ-مِثلُهُ-!
وقد فصَّل في بيانِ ذلك -أيضاً- الألباني -رحمه الله- في «السلسلة الضعيفة» (1569).
الثالث: قولُهُ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: «ما تقولُ في الصَّلاة؟».
قال: أتشهَّدُ، ثم أسألُ اللهَ الجنَّةَ، وأعوذُ به مِن النَّار.
أَمَا -واللـهِ- ما أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك، ولا دَنْدَنَةَ مُعاذ!
فقال صلى الله عليه وسلم: «حولَها نُدَنْدِن».
(تنبيهٌ ثانٍ)
ذَكَرَ الغزاليُّ في «الإحياء» (3/162) هذا الأثرَ، وقال -في تَوْجِيهِهِ-:
«وقالوا: العِتْقُ يكونُ بعدَ الوُرُودِ!» -أي: استحقاقاً له-.
وهذا -بالنِّسْبَةِ للأَثَرِ-ثانياً-.
وقال المُرْتَضى الزَّبِيديُّ في «شرحِه» -له- المُسَمَّى: «إتحاف السَّادة المُتَّقين» (7/575) -بعد إيرادِه الأثَرَ-:
«وهذا مِن جُملة الدقائق؛ فإنْ أرادَ القائلُ بـ(العِتْق): العِصْمَةَ والحفظَ -أو ما يجري مَجْراه-؛ فلا أرى بأْساً في الإطلاق؛ فقد اشْتَهَرَ الدُّعاءُ بمثلِ ذلك مِن غيرِ نكيرٍ»!
قلتُ:
أمَّا أنَّه: (مِن جُملة الدَّقائق)؛ فنعم...
وأمَّا إرادةُ معنى (العصمة والحِفظ) -في مِثلِ هذا الدُّعاءِ-؛ فبعيدٌ.
وأمَّا (اشتهارُهُ مِن غيرِ نكيرٍ)؛ فمع مُخالفة بعض أفضل التابعين: لا وزن له!
وما أجملَ ما رواهُ الإمامُ أبو داودَ في«سُننه» (4614) -بالسندِ الصحيح-عن الإمام عُمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، أنَّه قال:
«فارْضَ لنفسِك ما رَضِيَ به القومُ لأنفُسِهم؛ فإنَّهُم على علمٍ وَقَفُوا، وببَصرٍ نافِذٍ كُفُوا.
ولَهُم على كَشْفِ الأُمور كانوا أقْوَى، وبفضلِ ما كانوا فيه أوْلَى»
(تنبيهٌ ثالثٌ)
وما وَرَدَ في الحديثِ الصَّحِيحِ: -الآنِفِ الذِّكْرِ: «للـهِ عُتَقاءُ مِن النَّار» إنَّما هُو وَفْقَ علمِ الله -تعالى- فيمن يستحقُّ النَّار -عِياذاً بالله-؛ لا بحسب ظُنونِ خَلْقِهِ!
فمِن اليَقين: أنَّهُ ليس (كُلُّ) عبادِ الله مِن أهلِ استحقاقِ دُخول النَّار؛ ليكونوا -بَعْدُ- عُتقاءَ منها...!
إذِ الأصلُ في العبدِ المُوَفَّقِ لطاعةِ مولاه: تحسينُهُ ظَنَّهُ بربِّهِ العظيم؛ كما صحَّ في الحديثِ القُدُسِيِّ: «أنا عند ظنِّ عبدِي بي: إنْ خيراً؛ فخيرٌ، وإنْ شرًّا؛ فشرٌّ» [«السلسلة الصحيحة» (1663)].
ومِن لطائِفِ التوفيقِ الإلهِيِّ: أنَّ آخِرَ حديثٍ في كتابِ «حُسْنِ الظنّ بالله» (150) -للإمام ابن أبي الدُّنيا- هو حديث: «إن لله عُتقاء من النار... »...
وما استدلَّ به بعضُ أفاضل أهل العِلْم -رحمهُمُ اللهُ- تجويزاً لهذا الدُّعاء!- مِن حديث أبي هُرَيْرَةَ، عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أَعْتَقَ رَقَبَةً مؤمنةً؛ أعْتَقَ اللهُ مِنْهُ بكلِّ عُضْوٍ منهُ عُضواً مِن النَّار» [مُتَّفَقٌ عليه «إرواء الغليل» (1742)]؛ فهو لا يخرُجُ عمَّا ذَكَرْتُهُ –ألْبَتَّة-!
وبيانُهُ مِن وَجْهَيْنِ:
الأوّل: أنَّ هذا الحديثَ -أيضاً- موصولٌ بعِلْمِ الله -تعالى- في هؤلاء المُعتَقِين، وليس ذا صِلَةٍ -بأيِّ وجهٍ مِن الوُجوه- بعلمِ العبدِ نفسَهُ أنَّهُ يُعْتَق -أو سَيُعْتَق- مِنْهُ!
الثاني: أنَّ الحديثَ واردٌ فيمن (استحقَّ دُخولَ النَّار) -وهذا مِن عِلْمِ العظيمِ الجَبَّار -سُبحانَهُ- وَحْدَهُ-.
وقد دلَّ على ذلك روايةٌ عند البخاريِّ -رحمهُ اللهُ- للحديثِ نفسِهِ- فيها قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «...اسْتَنْقَذَ اللهُ بكلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضواً مِن النَّارِ... »:
فقد قال العَلامةُ الصَّنْعانِيُّ في «سُبُل السَّلام» (4/426) -شارحاً هذا الحديثَ-:
«وفي قولِهِ: «استَنْقَذَ» ما يُشْعِرُ بأنَّهُ بعد استحقاقِهِ لها».
وأمَّا الاعتراضُ على أصل الاستدلال بهذا الأثر السلفيِّ -على مقصودِهِ- بما صحَّ عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم مِن وصفِهِ سيِّدَنا أبا بكرٍ الصدِّيقَ رضي الله عنه بأنَّهُ: «عتيق الله مِن النار» [«السلسلة الصحيحة» (1574)]؛ فهو اعتراضٌ ليس قائماً؛ لسبَبَيْن:
الأوَّل: أنَّ هذا الوصفَ قد يَرِدُ بحَسَبِ الاستحقاقِ –حُكماً-، وقد يَرَدُ -أيضاً- باعْتِبارِ حقيقةِ الدُّخُول -واقِعاً-؛ وفي كُلٍّ وَرَدَ النصُّ النبويُّ:
- أمَّا الاستحقاقُ الحُكْمِيُّ؛ فحديثُ أبي بكرٍ -هذا- واضحٌ في مقصودِهِ.
ومِثْلُه -تماماً- الأحاديثُ المذكورةُ –قبلاً-.
- وأمَّا بحَسَبِ حقيقة الدُّخُول -واقعاً- مع اتِّحادِ اللّفظِ النبويِّ-؛ فما وَرَدَ في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ -في وَصْفِ الجهنَّمِيِّين- عند الإمامِ مُسلم في «صحيحِه» (302) عنه صلى الله عليه وسلم: «عُتقاء الله».
وروايةُ الإمام البخاريّ (7001) بلَفْظِ: «عُتقاء الرحمن».
قال ابنُ الجوزي في «صيد الخاطر» (ص307) -في وَصْفِ حالِ هؤلاء (الجهنَّمِيِّين)-:
«أَزْرَى بهم اتِّباعُ الهَوَى، ثُمَّ لَحِقَتْهُمُ العافيةُ؛ فنَجَوْا بعدَ لأْيٍ» -ربِّ سلِّم سلِّم-.
الثاني: أنَّ ما يتميَّزُ به أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه في هذه الخَصِيصَةِ- عن باقي الأُمَّة -جميعاً- أنَّهُ أوَّل مَن أسلمَ . [«مجموع الفتاوى» (4/462)، و«أحكام أهل الذِّمَّة» (2/905)]؛ فكان هذا المَدْحُ النبويُّ له لهذا المعنى؛ وباعتبارِ ما كان عليهِ رضي الله عنه قبل بعثتِهِ -صلوات الله وسلامُه عليه-.
وأمَّا الاستدلالُ بحديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنكُم مِن أحدٍ إلا وله منزِلان: منزلٌ في الجنَّةِ، ومنزلٌ في النار؛ فإنْ ماتَ ودَخَلَ النَّارَ؛ وَرِثَ أهلُ الجنَّةِ منزلَهُ؛ فذلك قولُهُ: {أولئك هم الوارِثُون}» [«السلسلة الصحيحة» (2279)]:
فقد رواهُ البخاريُّ (6200) عنهُ رضي الله عنه بلفظ: «لا أحدَ يدخُلُ الجَنَّةَ إلاّ أُرِيَ مقعدَهُ مِن النَّارِ لو أساءَ؛ ليزدادَ شُكراً، ولا يدخُلُ النَّارَ أحدٌ إلاّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِن الجنَّةِ لو أحسنَ؛ ليكونَ عليه حسرةً».
وعليهِ؛ فما قيلَ في هاتيك الأحاديث -مِن جهةِ الاستحقاقِ الحُكْمِيِّ- يُقال في هذا الحديث -سواءً بسواءٍ-؛ فهو على وَفْقِ عِلْمِ الله -عزَّ وجَلَّ-؛ كما وَرَدَ عن محمد بن النَّضْر الحارِثِيّ -وقد قال فيه عبدُ الرحمن بن مهدي: ما رأيتُ مثلَهُ في الصلاح. «العلل» (1119) -للإمام أحمد- توفي قبل سنة 150هـ-، أنَّهُ كَتَبَ إلى أخٍ له:
«أمَّا بعدُ؛ فإنَّك في دار تمهيد، وأمامَكَ منزلان؛ لا بُدَّ مِن أن تسكُنَ أحدَهُما، ولمْ يأْتِكَ أمانٌ فتطمَئِنَّ، ولا براءةٌ فتُقَصِّر.
والسلام» [«اقتضاء العلم العمل» (رقم:161)].
(تنبيهٌ رابعٌ)
أمَّا التساؤُل عن حُجِّيَّةِ (قولِ) !التابعين؛ فليس وارداً -ها هُنا- بحثُهُ؛ لأنَّ كراهيَّتهم -هذه- رحمهُمُ اللهُ -هُنا- مبنيَّةٌ على (فَهْمٍ) سديدٍ لِنَهْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الدُّعاءِ؛ يلتقي أصلاً شرعيًّا عظيماً هو حُسنُ الظنِّ بالله -تعالى-؛ مع ضميمةِ استحضارِ المعنى الغَيْبِيِّ لاستِحْقاقِ النَّارِ، ودُخولها -كما تقدَّم-...
وما أثرُ عُمَر بن عبد العزيز عنّا ببعيدٍ!
فيُخْشَى -أُكَرِّرُ: يُخْشَى!- على مُخالِف هذا المعنى الإيجابيِّ الدخولُ في (بعضِ!) ما يدلُّ عليه قولُ الله -عزَّ وجَلَّ-: {أتستبدلونَ الذي هُو أدْنَى بالذي هو خيرٌ}؟!
وعليه؛ فلا خَلَلَ -كما قالَ بعضُ الحريصين- في استخراجِ معانٍ صحيحةٍ، أو استنباطِ ألفاظٍ فصيحةٍ ممّا وَرَدَ في الكتابِ الكريمِ، أو في سُنَّةِ النبيِّ العظيمِ صلى الله عليه وسلم؛ بشرطِ أن لا تُخالِفَ -أو على الأقل: تبدُو مُخالِفةً!- لِنَصٍّ شرعيٍّ- كتاباً أو سُنَّةً-.
وأخيراً:
ما قيلَ في «اللهمَّ أعْتِقْنِي مِن النَّار» يُقال -هُو نَفْسُهُ- في: «اللهمَّ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّار» -سواءً بسواءٍ-؛ فكأنَّ العبدَ -بهذا الدُّعاءِ الأخيرِ!- على أبوابِ النِّيران! ويسألُ ربَّهُ أنْ يُزَحْزِحَهُ (!) عنها!!
فأينَ هذا مِن قولِه صلى الله عليه وسلم: »إذا سألتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فإنَّهُ أوْسَطُ الجَنَّةِ، وأعْلَى الجَنَّة»؟!« البخاري» (2637)؛ «فإنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لهُ»، [رواهُ البخاريُّ (5980)، ومسلم (2679)]-، وقولِه صلى الله عليه وسلم: «إذا دَعَا أحدُكُم فلا يَقولُ: إنْ شئتَ؛ ولْيَعْزِم المسألةَ، ولْيُعَظِّم الرَّغْبَةَ؛ فإنَّ اللهَ لا يَعْظُمُ عليه شيءٌ أعطاه» [«صحيح الأدب المفرد» (607)].
وما ذكرتُهُ -ثَمَّةَ- مِن أهميَّة حُسْنِ الظنِّ بالله -تعالى- لا يُعارضُ -ألْبَتَّةَ- لُزومَ الخوفِ مِن الله -عزَّ شأنُهُ-؛ كما رُوِيَ أنَّ أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شابٍّ في الموت، فقال له:
«كيف تجدك؟!».
قال: أرجو اللهَ -يا رسولَ الله-، وأخافُ ذنوبي.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ -في مثل هذا الموطن- إلاّ أعطاهُ الذي يرجُو، وأمَّنَهُ ممّا يخاف».
رواهُ النَّسائيُّ في «الكُبرى» (10901)، والترمذيُّ (983)، وابنُ ماجه (4261)وغيرهم-.
وحسَّنَهُ شيخُنا في «صحيح الترغيب» (1271).
وهذا معنى ما وَرَدَ عن بعضِ الصحابةِ رضي الله عنهم:
فقد رَوَى الطبريُّ في «تفسيرِه» (20478)، والبيهقيّ في «القضاء والقدر» (189)، والدولابي في «الأسماء والكُنى» (1/155)، واللالَكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1206) مِن طُرُقٍ عن عُمَر بن الخطّاب قالَ:
«اللهمّ إنْ كنتَ كتَبْتَنِي شَقِيًّا فامْحُنِي».
فهو -بتحفُّظِه-: يخاف، وبطلبِه: يرجو..
وزاد السُّيوطيُّ في «الدّر المنثور» (8/471-هجر) نسبتَهُ لابنِ المنذر، وعبدِ بنِ حُمَيْد.
وأخرجَهُ البَرْقانِيُّ -كما في «مُسند الفاروق» (2/593)- للإمام ابن كثير-رحمهُ الله-، وقال: «إسنادٌ حسن».
وروى الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (8847)، والطبريُّ في «تفسيره» (20477)، وابنُ أبي شيبةَ في «المصنَّف» (29530)، والبيهقيُّ في «القضاء والقدر» (188) عن ابنِ مسعودٍ -مثلَه- بأطولَ منه-.
وزاد السيوطيُّ نسبتَهُ في «الدر المنثور» (8/471-هجر) لابن أبي الدنيا في «الدعاء» .
وروى الفاكهيُّ في «تاريخ مكة» (1017) مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى السِّلَفِيُّ في «معجم السفر» (1239)والطبريُّ في «تفسيره» (20476) مثلََه عن شقيق -رحمه الله-.
وهذا -كُلُّهُ- يردُّ ما رواهُ الطبريُّ في«تفسيره» (20470) عن منصور، قال: قلت لمجاهدٍ: «إن كنتَ كتبتني سعيداً؛ فأثْبِتْنِي، وإن كنتَ كتبتَني شقيًّا؛ فامحُنِي؟!
قال: «الشقاء والسعادة قد فُرِغَ منهُما!».
وفي روايةٍ عند البيهقيّ في «القضاء والقدر» (رقم190) عن منصور، قال:
قُلتُ لمُجاهد: ما تقولُ في هذا الدُّعاء: اللهمَّ إنْ كان اسمي في السُّعداء فأثْبِتْهُ فيهم، وإن كان في الأشقياء فامْحُهُ منهُم، واجْعَلْهُ في السُّعداء؟ فقال: حَسَنٌ.
ثم مكثتُ حَوْلاً، فسألتُه عن ذلك؟ فقال:{حم.وَالْكِتَابِ الْمُبِين.إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين.فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم}[الدخان:1-4].، قال: يُفْرَقُ في ليلةِ القدر ما يكونُ في السَّنَةِ مِن رِزْقٍ أو مُصيبة؛ فأمَّا كتابُ الشقاء والسعادة فإنَّهُ ثابتٌ لا يغير].
قلتُ:
لعلَّ مَكْمَن الإشكال في قولِ مُجاهد -رحمهُ الله- قائمٌ على مسألة (الرزق [والعمل]: قد يزيد وينقص)؟!
وقد سُئل شيخُ الإسلام -رحمهُ الله- عن ذلك؛ فأجاب -كما في «مجموع الفتاوى» (8/540):
«الرزق [والعمل] نوعان:
أحدُهما: ما علمه اللهُ أنَّه يرزُقُهُ؛ فهذا لا يتغيَّر.
والثاني: ما كتبه، وأعلمَ به الملائكة؛ فهذا يزيدُ وينقصُ بحسب الأسباب، فإنَّ العبدَ يأمُرُ اللهُ الملائكةَ أنْ تكتبَ له رزقاً، وإنْ وَصَلَ رَحِمَهُ: زادهُ اللهُ على ذلك؛ كما ثبتَ في «الصحيح» [البخاريّ (1961)، ومُسلم (2557). عن النبيِّ أنَّهُ قال: «مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسأَ له في أَثَرِهِ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَهُ»...
ومِن هذا الباب قول عُمر...».
فذكره...
وانظُر «شفاء العليل» (90) لابن القيِّم.
(تنبيهٌ أخير)
يُتَلَطَّفُ في بيانِ هذه المسألةِ -جِدًّا-؛ لِغَرابَتِها -أوَّلاً-، ولِفَضْلِ (الرِّفْق) -ثانِياً- مِن غير نكيرٍ ولا تشديد...
واللهُ المُستعان.